السحر
حكمه ، خطورته ، علاجه في ضوء الكتاب والسنة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله أما بعد
فإنَّ كشف حال السحرة و المشعوذين ، وفضح تضليلهم لعامة الناس ، وبيان حيلهم وأساليبهم الخبيثة في التلبيس ، وتوضيح حكم الشرع بأولئك المفسدين ، بات من الضرورة بمكان ؛ لما في السحر و الشعوذة من أثر سيء على الأمة و المجتمع .
و أولئك الدجاجلة إنما تروج بضاعتهم عند نقص العلم و العلماء ، وفشُوِّ الجهل ، ووقع الفتن ، فيسعى كثير من العامة إلى السحرة ؛ سؤالاً وتصديقاً و عملاً بما يقولون ، وليت الأمر يقف عند زيارة واحدة ؛ بل إنَّ الساحر الخبيث يزيد في تعقيد المشكلة تارة ، ويساعد في تخفيفها تارة أخرى ؛ كي تبقى الضحية ! دائمة التردد عليه ، وفي كل مرة تُستنزف الأموال ، و تُنتهك الحرمات ، ويعصى ربُّ الأرض و السماوات ، و الله المستعان .
و السحر : ( هو عقدٌ ، ورُقىً ، وكلامٌ يتكلَّمُ به ، أو يكتبه ، أو يعمل شيئاً في بدن المسحور ، أو قلبه ، أو عقله ، من غير مباشرة له ، ويكون للتقرب إلى الشيطان ، وبمعونة منه ) [ المغني (10/213) ، ولسان العرب (6/189) بتصرف ]
ومذهب أهل السنة ؛ أهل الحديث و الأثر وعامة العلماء أنّ السحر له حقيقة وتأثير وليس مجرد وهم وتخييل ، ويدلّ على ذلك القرآن وصحيح السنة النبوية . قال الموفق ابن قدامة المقدسي رحمه الله في [ المغني (10/213) ] : ( وله حقيقة – أي السحر – ، فمنه ما يقتل ، وما يُمرض ، ويأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ، ومنه ما يفرِّق بين المرء وزوجه ، وما يُبغِّض أحدهما إلى الآخر ، أو يحبب بين اثنين … وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها ، فلا يقدر على إتيانها ، وحلِّ عقده ، فيقدر عليها بعد عجزه عنها ، حتى صار متواتراً لا يمكن جحده ، و روي من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه ) ا.هـ
الأدلة على أن للسحر حقيقة وتأثيراً
1- قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } [ البقرة : 102 ]
فذكر الله تعالى أنّ الشياطين تعلّم الناس السحر ، وأنَّ الناس يتعلَّمونه ، وأنَّ من السحر ما يفرّق بين المرء و زوجه ، وهذا التفريق ضرر بيّنٌ ، وهذا لا يكون فيما لا حقيقة له .
2- قال تعالى : { قال ألقوا فلمّا ألقوا سَحَرُوا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم } [ الأعرف : 116] .
3- قال تعالى : { قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق (2) ومن شر غاسق إذا وقب (3) ومن شر النفاثات في العقد (4) ومن شر حاسد إذا حسد (5) } [ سورة الفلق ] و النفاثات في العقد : السواحر ؛ نقل ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن السلف ؛ مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحّاك . ونقل القرطبي رحمه الله في تفسيره (2/46) اتفاق المفسرين على أنَّ سبب نزول سورة الفلق ما كان من سحر لبيد بن الأعصم لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم صحيح مخرج في الصحيحين و غيرهما من كتب السنة ، عن عائشة رضي الله عنها .
حكم السحر في الكتاب و السنة و خطورته
دلّت النصوص الشرعية على أنَّ تعاطي السحر ؛ تعلماً ، أو عملاً ، أو تعليماً ، من أعظم المحرمات ، ومن كبائر الذنوب ، بل سماه الشرع كفراً ، فمن تلك النصوص قوله تعالى { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } [ البقرة : 102 ]
فدلّت الآية على أن تعلّم السحر وتعليمه كفر ، وهذا في السحر الذي مردّه إلى عبادة الشياطين أو الكواكب ، أو كان فيه ما هو كفر يقتضي الكفر ، أما ما كان من قبيل الشعوذة ، و الدجل ، وما يسمى بالسحر المجازي ، وخفة اليد فهو حرام بالاتفاق ، وليس كفراً ؛ لما فيه من إفساد لعقائد الناس ، وإضرار بالمجتمع ، ودلّت الآية على أنّه لا نفع فيه ، وأنّ الذي يشتريه لا خلاق له في الآخرة .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم [7/292] : (عمل السحر حرام ، وهو من الكبائر بالإجماع ، وقد عدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات ، وقد يكون كفراًً ، وقد لا يكون كفراً ، بل معصيته كبيرة ، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كَفَرَ ، وإلا فلا ، وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، فإن تضمَّن ما يقتضي الكفر كفر ، وإلا فلا ) ا.هـ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قالوا : يا رسول الله ! وما هنَّ ؟ قال : ( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ) [ رواه البخاري (2776) ومسلم (89) عن أبي هريرة رضي الله عنه ]
قال ابن عثيمين رحمه الله : ( الموبيقات : المهلكات … وظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنّه لا فرق بين أن يكون ذلك بواسطة الشياطين ، أو بواسطة الأدوية و العقاقير ؛ لأنه إن كان بواسطة الشياطين فالذي لا يأتي إلا بالإشراك بهم ؛ فهو داخل في الشرك بالله . و إن كان دون ذلك ؛ فهو – أيضاً – جرم عظيم ؛ لأن السحر من أعظم ما يكون في الجناية على بني آدم ، فهو يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه ، ويقلقه فيصبح كالبهائم ، بل أسوأ من ذلك ؛ لأن البهيمة خلقت هكذا على طبيعتها ، أما الآدمي فإنه صرف عن طبيعته وفطرته لحقه من الضيق والقلق ما لا يعلمه إلا رب العباد ، ولهذا كان السحر يلي الشرك بالله تعالى ) ا.هـ
علاج السحر في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة
ويلخّص ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (4/114-115) هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاج السحر بقوله :
( قد روي عنه فيه نوعان أحدهما – وهو أبلغهما – استخراجه وإبطاله كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك ، فدل عليه ، فاستخرجه من بئر ، فكان في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر ، فلما استخرجه ذهب ما به حتى كأنما أنشط من عقال . فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب ، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ .
والنوع الثاني : الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر ؛ فإنَّ للسحر تأثيراً في الطبيعة ، وهيجان أخلاطها ، وتشويش مزاجها ، فإذا ظهر أثره في عضو، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو نفع جداً )
وقال أيضاً في الزاد (4/116-117) :
( ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية ، بل هي أدويته النافعة بالذات ، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها ، وكلما كانت أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة ، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه ، فأيهما غلب الآخر قهره وكان الحكم له ، فالقلب إذا كان ممتلئاً من الله مغموراً بذكره ، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوُّذات ورد لا يُخِلُّ به ، يطابق فيه قلبه لسانه ، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه . وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة ، والنفوس الشهوانية ، التي هي معلقة بالسفليات ، ولهذا فإنَّ غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجُهَّال وأهل البوادي ، ومن ضعف حظه من الدين ، والتوكل و التوحيد ، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية ، و الدعوات و التعوّذات النبوية … والمسحور هو الذي يعين على نفسه ، فإنا نجد قلبه متعلقاً بشيء كثير الالتفات إليه ، فيُتسلَّط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات ، والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلُّطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة وبفراغها من القوة الإلهية ، وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها ، فتجدها فارغة لا عدة معها ، وفيها ميل إلى ما يناسبها ، فتتسلط عليها ، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره ، والله أعلم ) .
الرُّقْيَةُ الشَّرْعِيَّةُ
إعداد: أبي عبد الرحمن رائد بن عبد الجبار المهداوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين أجمعين، أما بعد؛
فإنَّ الباعث على الكتابة في هذا الموضوع عدة أمور، منها:
– اتصال مباحث الرقية بالتوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، من خلال ما فيها من : دعاء، وتعوُّذ، واستعانة، واستغاثة بالله.
– وحاجة المسلم للرقية؛ لتعويذ نفسه، وأهل بيته، وإخوانه المؤمنين، من شر الشيطان الرجيم، وهمزه ونفثه ونفخه، ومن شرِّ كلِّ ذي شرٍّ.
– واختلاط المشروع من الرقية بالممنوع منها في هذه الأيام، كالرقية البدعية، والرقية الشركية، والرقى التي تصاحبها معاصٍ من الراقي، أو المرقي.
– والاستشراف للرقية ممن ليس أهلاً لها، فكَثُرَتْ موضة(!!) الرقية في هذا الزمن، وتتابع عليها البرُّ والفاجر، والصالح والطالح، وافتتحت لها عيادات خاصة(!!!)، واتخذها الكثيرون ـ إلا من رحم الله ـ سلماً لأغراض دنيوية هابطة، والله المستعان.
فإليك أخي الكريم نبذاً مختصرة، وفوائد معتصرة حول هذا الموضوع، وفقني الله وإياك لصالح القول والعمل.
1) تعريف الرقية، وأقسامها:
معنى الرقية في اللغة:
"قال الازهري: رقى الراقي رقية ورقيا: إذا عوَّذ ونفث. وقال ابن الأثير: الرقية ـ بالضم ـ:العوذة التي يُرقى بها صاحب الآفة، كالحمى، والصرع، وغيرهما" (أحكام الرقى والتمائم للدكتور فهد السحيمي ص:27)
معنى الرقية في الشرع:
"الرقى: أصلها أدعية، وقراءة، ونفث، يكون فيه استعانة أو استعاذة… القصد منها أن يكون ثَم دفع للبلاء، أو رفع للبلاء، باستعاذة أو باستعانة" (الرقى واحكامها للشيخ صالح آل الشيخ ص:8).
والنفث: "شَبيه بالنَّفْخ، وهو أقَلُّ من التَّفْل؛ لأن التَّفْل لا يكون إلاّ ومعه شيءٌ من الرِّيق" (النهاية في غريب الحديث والأثر(5/88 ط:دار الفكر).
وقد ورد التفل مع الرقية في حديث أبي سعيد الخدري الآتي، فيكون مشروعاً مع الرقية كالنفث تماماً. قال الحافظ ابن حجر: "النفث دون التفل، وإذا جاز التفل جاز النفث بطريق الأوْلى" فتح الباري (10/296، كتاب الطب، باب(39)"
كما صحَّ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -الرقية بغير نفث أو تفل، كما سيأتي في بعض الأحاديث.
أقسام الرقية: تقسم الرقية إلى قسمين:
1. رقية شرعية(جائزة)، وهي كلُّ رقية توفَّرت فيها الشروط التالية:
أ. أن تكون بكلام الله ـ تعالى ـ، أو بأسمائه وصفاته، أو بما صحَّ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
ب. أن تكون باللسان العربي، أو بما يُعرف معناه من غيره.
ج. أن لا يعتقد أنَّ الرقية تؤثر بذاتها، بل بإذن الله ـ تعالى ـ، وأنَّ الرقية سبب من الأسباب، ونفع الأسباب بإذن الله، وقد تنفع الرقية وقد لا تنفع بإذن الله ـ تعالى ـ وهذا الاعتقاد لابد وان يكون من الراقي والْمُرْقَى.
تنظر هذه الشروط في "فتح الباري"(10/275) كتاب الطب/ باب(32). و"مجموع الفتاوى"(19/50،53،61)، و"عون المعبود"(10/264)كتاب الطب/باب(18)، و"أحكام الرقى والتمائم" ص: (36)، و" الرقى وأحكامها" ص(13)، و"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (5/581) دار ابن كثير.
2. رقية ممنوعة محرّمة(شركية أو بدعية)، وهي كل رقية لم تجتمع فيها الشروط السابقة.
2) أدلة الرقية الشرعية:
عن عوف بن مالك الأشجعي- رضي الله عنه – قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال – صلى الله عليه وسلم -: " اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" أخرجه مسلم(2200)، وأبو داود(3886)، وابن حبان(6094)، وغيرهم.
وعن جابر قال: كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الرُّقى. قال: فأتاه فقال: يا رسول الله! إنك نهيت عن الرقى، وأنا ارقي من العقرب، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" أخرجه مسلم(2199)، وابن ماجه(3515)، وغيرهما. وفي رواية:" ما أرى بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه".
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "رخَّص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الرقية من كلِّ ذي حُمَةٍ" أخرجه البخاري(5741)، ومسلم(2193).
ومعنى الحديث: " أنه – صلى الله عليه وسلم – أذن في الرقية من كل ذات سم" "شرح مسلم للنووي" (7/298).
وعن أنس – رضي الله عنه – قال: " رخَّص رسول الله – صلى الله عليه وسلم -في الرقية من العين، والحُمَة، والنَّملة" أخرجه مسلم(2196)، واحمد(3/118)، والترمذي(2056)، وابن ماجه(3516).
قال الحافظ أبو العباس القرطبي في "المفهم" (5/580ـ581 دار ابن كثير): " قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: "رخَّص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الرقية من الحُمَةٍ"، وقول أنس: "رخَّص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الرقية من العين، والحُمَة، والنَّملة" دليل على أنَّ الأصل في الرَّقيِ كان ممنوعاً، كما قد صرَّح به حيث قال: "نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
عن الرُّقى". وإنما نهى عنه مطلقاً؛ لأنهم كانوا يرقون في الجاهلية برُقَىً هي شرك، وبما لا يُفهم، وكانوا يعتقدون أنَّ ذلك الرقى يؤثر. ثم إنهم لما أسلموا وزال ذلك عنهم، نهاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك عموماً؛ ليكون أبلغ في المنع، وأسدَّ للذريعة. ثم إنهم لما سألوه وأخبروه أنهم ينتفعون بذلك؛ رخَّص لهم في بعض ذلك، وقال: " اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك"،فجازت الرُّقية من كل الآفات؛ من الأمراض، والجراح، والقروح، والحُمة، والعين، وغير ذلك؛ إذا كان الرُّقى بما يُفهم، ولم يكن فيه شرك، ولا شيء ممنوع، وأفضل ذلك وأنفعه: ما كان بأسماء الله ـ تعالى ـ وكلامه، وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم -" ا.هـ
و النبي – صلى الله عليه وسلم – رقاه جبريل ـ عليه السلام ـ فيما أخرجه مسلم(2185) عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
رقاه جبريل، قال: "باسم الله يُبريك، ومن كل داء يَشْفيك، ومن شرِّ حاسد إذا حسد، وشرِّ كلِّ ذي عين"
وفي رواية أبي سعيد س عند مسلم أيضاً برقم(2186)، أنَّ جبريل أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: "نعم". قال: " باسم الله أرقيك، من كلِّ شيءٍ يؤذيك، من شرِّ كل ذي نفس، أو عينِ حاسدٍ اللهُ يشفيك، باسم الله أرقيك".
والأحاديث في تعويذ النبي – صلى الله عليه وسلم – نفسَه كثيرة، منها حديث أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتعوَّذ من الجانِّ، وعين الإنسان، حتى نزلت المعوِّذتان، فلما نزلتا؛ أخذ بهما وترك ما سواهما" أخرجه الترمذي (2058)، وحسّنه، وابن ماجه (3511) وقال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في التعليق على هداية الرواة(4/282): إسناده صحيح.
وثبت "أنه – صلى الله عليه وسلم – كان ينفث بهما ـ المعوِّذتان ـ على نفسه في المرض الذي مات فيه، فلما ثَقُلَ، كانت عائشة – رضي الله عنها – تنفث عليه بهنَّ، وتمسح بيد نفسه؛ لبركتها"أخرجه البخاري (5735)، ومسلم (2192)، واللفظ للبخاري.
والنبي – صلى الله عليه وسلم – رقى كثيراً من الصحابة، من ذلك رقيته – صلى الله عليه وسلم – لبعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءٍ لا يغادر سقماً" أخرجه البخاري (5743)، ومسلم (2191)
وكان – صلى الله عليه وسلم – إذا أتى مريضاً أو أُتيَ به إليه رقاه بالدعاء السابق. أخرجه البخاري (5675)، ومسلم (2191).
وكان – صلى الله عليه وسلم – يعوِّذ الحسن والحسين ويقول: " إنَّ أباكما كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامّة" أخرجه البخاري (3371).
وأقرَّ الصحابة على فعل الرقية، وأخْذِ الأجرة عليها، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنْ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ، فَبَرَأَ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ فَقَالُوا: لا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلُوه،ُ "فَضَحِكَ وَقَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟! خُذُوهَا، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ" أخرجه البخاري(5736) ، ومسلم (2201) واللفظ للبخاري.
بل ثبت أمره – صلى الله عليه وسلم – بالرقية أحياناً؛ فقد أخرج البخاري (5738)، ومسلم (2195)، واللفظ للبخاري، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ،أو امر أن يُسترقَى من العين"
وأخرج البخاري (5739)، ومسلم ( 2197)، واللفظ للبخاري، عن أم سلمة – رضي الله عنها – أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى في بيتها جارية في وجهها سَفْعَةٌ، فقال: "استرْقوا لها فإنَّ بها النظرة".
والسَّفْعَةُ ـ بفتح السين ويجوزضمها وتسكين الفاء ـ: سواد في الوجه، أو حمرة يعلوها سواد، أو صفرة، وحاصل كلام العلماء أنه موضع في الوجه على خلاف لونه الأصلي… والنَّظْرَةُ ـ بسكون الظاء ـ: قيل: نظر الجن، وقيل نظر الإنس، والأولى القول: بأنها أصيبت بالعين. انتهى ملخصاً من "الفتح" (10/284 ـ285)، تحت حديث(5739).
3.بماذا تكون الرقية الشرعية؟
تبيَّن من الأحاديث السابقة ثبوت الرقية بالقرآن، وخصوصاً فاتحة الكتاب، والمعوِّذات، والدعاء المأثور عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، والرقية بكلام الله، وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – هي أنفع الرقى. وبوّب البخاري : في صحيحه (32) باب: الرُّقى بالقرآن والمعوّذات.
قال الحافظ ابن حجر: " هُوَ مِنْ عَطْف الْخَاصّ عَلَى الْعَامّ ، لأنَّ الْمُرَاد بِالْمُعَوِّذَاتِ سُورَة الْفَلَق وَالنَّاس وَالْإِخْلَاص … وَهَذَا لا يَدُلّ عَلَى الْمَنْع مِنْ التَّعَوُّذ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ ، بَلْ يَدُلّ عَلَى الأوْلَوِيَّة ، وَلاسِيَّمَا مَعَ ثُبُوت التَّعَوُّذ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا اِجْتَزَأَ بِهِمَا لِمَا اِشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِع الاسْتِعَاذَة مِنْ كُلّ مَكْرُوه جُمْلَة وَتَفْصِيلاً" ا.هـ فتح الباري(10/275) تحت حديث(5735).
وقال النووي ::" وَإِنَّمَا رَقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ لِأَنَّهُنَّ جَامِعَات لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلّ الْمَكْرُوهَات جُمْلَة وَتَفْصِيلًا ، فَفِيهَا الِاسْتِعَاذَة مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ ، فَيَدْخُل فِيهِ كُلّ شَيْء ، وَمِنْ شَرّ النَّفَّاثَات فِي الْعُقَد ، وَمِنْ شَرّ السَّوَاحِر ، وَمِنْ شَرّ الْحَاسِدِينَ ، وَمِنْ شَرّ الْوَسْوَاس الْخَنَّاس" ا.هـ "شرح صحيح مسلم " (7/297) تحت حديث(2192).
وقال ابن القيِّم :: " فالقرآنُ هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يُؤَهل ولا يُوفّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وسببه، والحمية منه، لمن رزقه فهماً في كتابه ". زاد المعاد (4/318).
ويقول : أيضاً بعد أن ذكر شيئاً من المعاني مما اشتملت عليه سورة الفاتحة:"… وَحَقِيقٌ بِسُورَةٍ هَذَا بَعْضُ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَشْفَى بِهَا مِنْ الْأَدْوَاءِ، وَيُرْقَى بِهَا اللّدِيغُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَضَمّنَتْهُ الْفَاتِحَةُ مِنْ إخْلَاصِ الْعُبُودِيّةِ وَالثّنَاءِ عَلَى اللّهِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ كُلّهِ إلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ، وَسُؤَالِهِ مَجَامِعَ النّعَمِ كُلّهَا؛ وَهِيَ الْهِدَايَةُ الّتِي تَجْلِبُ النّعَمَ، وَتَدْفَعُ النّقَمَ، مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ الشّافِيَةِ الْكَافِيَةِ " ا. هـ زاد المعاد(4/162).
4. مِمَّ تكون الرقية الشرعية؟
تكون الرقية من جميع الأدواء والأمراض الحسّية والمعنويّة، ويدخل في ذلك ما جاءت الأحاديث مصرّحة بالرقية منه؛ كذوات السموم، والعين، والنّملة ـ وهي: قُروح تَخْرُج في الجَنْب ـ، وكلِّ وجع، وتكون من باب التحصين للنفس والأهل والولد، والوقاية من شرِّ كل ذي شرٍّ، عند النوم، وفي سائر الأوقات. ويُرقى من المسِّ والصرْع الشيطاني (التلبُّس) والسحر ، وقد ثبت إمكان وقوع ذلك كله بالكتاب، والسنة الصحيحة، والواقع، وإخبار العلماء الثقات قديماً وحديثاً، ولا ينكره إلاَّ جاهلٌ، أو عقلانيٌّ مكابرٌ.
5. مخالفات الرقاة الشرعية:
1) التفرُّغ للرقية، والاتجار بها، واتخاذ ما يسمى بـ (العيادات القرآنية!!)، و(الاختصاص بالرقية الشرعية!!)، وذلك من بدع العصر الحاضر، إذ لم يكن في عرف السلف الصالحين، ولا الأئمة المتبوعين مثل هذا التفرّغ، ومتى كانت الرقية الشرعية محصورة في أناس معينين؟؟!
2) الضرب المبرح للمريض، واستخدام أدوات في ذلك كالعصيّ، والكيُّ بالكهرباء.
3) ادّعاء بعضهم أنّه قادر على تحديد مكان الجني من الشخص المتلبّس، أو انّه رآى الجني وهو يخرج من بدن المتلبَّس.
4) اقتصار كثير منهم على إسماع المريض آيات الرقية(!!) من شريط مُسَجّل، دون القراءة المباشرة على المريض. وذلك لا يغني عن الرقية؛ لأنها عمل يحتاج إلى اعتقاد ونية، ومباشرة النَّفْثِ والنفَس.
5) الخلوة بالمرأة الأجنبية، ومسُّ جسدها، أو يدها، أو جبهتها، أو رقبتها، بحجة الضغط على الجني، والتضييق عليه، وتسويغ بعضهم لذلك ـ بتأويل باطل ـ بأنه مثل الطبيب المعالج.
6) ادّعاء بعضهم أنّه يتعامل مع الجن المسلم في فك السحر، أو في علاج المتلبّس، أو معرفة نوع إصابته، ونوع علاجها، وعلى فرْض صحة تلك الدعوى فهو مما لا يجوز، ولا يعتبر وسيلة شرعية في العلاج، بل هو من الشرك؛ لأنَّ الله ***65271; يقول:" وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً" (الجن : 6 ). ويقول: " وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ" (الأنعام : 128 )
7) أمر بعضهم للمريض بتخيّل العائن، أو من سحره، وطلب بعضهم من القرين(الجني) أن يخيّل للمريض من أصابه بالعين.
8) الرقية بمكبر صوت، أو عبر الهاتف، أو الرقية الجماعية؛ بان يقرأ على جمعٍ في آن واحد.
9) الكلام الكثير مع الجني المتلَبِّس، ـ حتى أصبحنا نرى كتباً فيها محاورات ومناقشات مع الجن ـ وتصديقه فيما يدّعي حول السحر والعين، والبناء على دعواه.
10) انتزاع آيات معينة تخص السحر، وأخرى للعين، وثالثة للجان، وجعلها في أوراق أو أختام؛لتغمس بالماء، أو ليلتزم قرائتها المريض، أو ليضعها على جسده، أو يعلقها في رقبته، أو يضعها تحت وساده، أو بين فراشه.
هذه بعض مخالفات الرقاة، ولا أزعم أني استقصيتها جميعاً، ففي كل يوم تُطلُّ علينا بدع ومخالفات جديدة، والله المستعان.
6. صفات الراقي.
أهم ما يجب أن يكون عليه الراقي من شمائل وصفات مايلي:
1) صحة العقيدة، والإخلاص لله ***65271; فإذا رقى أحداً فيخلص الاستعانة، والاستعاذة بالله في الانتفاع بهذه الرقية.
2) أن يكون ذا علم بالرقية المشروعة.
3) أن يكون قصده نفع إخوانه، ونفع المريض والمحتاج إلى الرقية.
4) أن يعلِّق المريض بالله ***65271; وأنَّ الشفاء بيده وحده، وأن الرقية والراقي مجرد أسباب أباح الشرع تعاطيها.
5) أن يكون بعيداً عن العجب بنفسه، والتعاظم بقوله: شفيت كذا، وقرأت على كذا… بل يجب أن يكون ذا خشوع، وخضوع، وإخبات لله ***65271;.
6) أن يكون متنزهاً عن موارد الزلل والفتنة، خاصة في الرقية على النساء؛ لأن الشيطان ربما دخل على الإنسان من جهة الرقية في الخلوة بالمرأة، أو في وضع يده على المرأة، أو نحو ذلك مما نهى عنه الشرع. انتهى ملخصاً بتصرف من كتاب "الرقى وأحكامها " للشيخ صالح آل الشيخ ص(23 ـ 25)
هذا بعض ما تيسَّر ذكره، ولا ادّعي أنني أحطت بالموضوع كله، فهناك أمور كثيرة أُغفلت؛ رغبة في الاختصار، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إعداد: أبي عبد الرحمن رائد بن عبد الجبار المهداوي
و صلى الله على محمد و على آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين لا تنسوا الدعاء zakozirozak
رد: السحر ..حكمه ، خطورته ، علاجه في ضوء الكتاب والسنة
|
رد: السحر ..حكمه ، خطورته ، علاجه في ضوء الكتاب والسنة
|