بحثٌ قُدّم في مؤتمر " لسانيات النص وتحليل الخطاب " 22-24 مارس 2022 ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة ابن زهر، أكادير.
الملخص:
تقوم لسانيات النص على فكرة التمييز بين الجملة والنص. وتستند في الاستدلال لصالح هذا التمييز إلى أن بنية النص مغايرة لبنية الجملة، وإلى أن زمرة من الظواهر اللغوية ذات طبيعة نصية يقتضي وصفها وتفسيرها قيام لسانيات النص.
وتقوى نفوذ لسانيات النص بظهور نظرية النحو الوظيفي (ديك 1997أ وديك 1997ب) التي شككت في جدوى التعامل مع جمل مجردة مستقلة عن سياق استعمالها، وتعاملت مع الجمل اللغوية باعتبارها وحدات تواصلية، ونزعت إلى إثبات وجوه من التناظر والتماثل بين الجملة وبين النص، وانتهت إلى الإعلان عن نفسها "نحو خطاب".
وتعد نظرية النحو الوظيفي الخطابي (هنخفلد ومكنزي 2022) تعبيرا قويا عن هذا التوجه؛ حيث أصبح "الفعل الخطابي" هو المعطى الأساس الذي يشمل كل تجليات التعبير اللغوي: كلمة أو مركبا اسميا أو جملة أو نصا أو غير ذلك.
نروم في هذا البحث إعادة النظر في ثنائية لسانيات الجملة ولسانيات النص واقتضاءاتها في ضوء ما استجد بظهور نظرية النحو الوظيفي الخطابي.
1 ـ أسس قيام لسانيات الجملة في النظرية التوليدية
ليست اللغة ـ حسب تشومسكي ـ إلا ظاهرة عارضة، ولكنها مع ذلك ذات أهمية قصوى؛ فهي وسيلتنا إلى معرفة كنه الملكة اللغوية: معرفة بنيتها ومكوناتها وطريقة عملها. واللغة تماثل في الأهمية الأشعة الصادرة عن الشمس بالنسبة إلى علماء الفيزياء النووية؛ فبواسطتها يكتشفون كنه الشمس: بنيتها ومكوناتها وطريقة عملها. ذلك لأن الأشعة التي تصدر عن الشمس تحمل مكونات مصدرها ومعلومات ضافية عنه؛ كما أن اللغة التي تصدر عن الملكة اللغوية تحمل مكونات مصدرها ومعلومات ضافية عنه. إلا أن الأشعة واللغة إذ يصدران عن مصدريهما فإنهما معرضين لأن تعلق بهما آثار خارجية عنهما ليست من صميم مكوناتهما. وعلى الفيزيائي واللساني أن ينتبها إلى تلك الآثار الخارجية ويبعداها عن الأشعة واللغة أثناء تحليلهما ودراستهما. ودون ذلك يُخشى أن يدرس الفيزيائي عناصر علقت بالأشعة ويحسبها منها فينعكس ذلك على فهم الشمس، كما يُخشى أن يدرس اللساني عناصر علقت باللغة ويحسبها منها فينعكس ذلك على فهم الملكة اللغوية.
واحترازا من الوقوع في مثل هذا الزلل، حصر تشومسكي اللغة في جمل مجردة بمعنيين: مجردة عن الاستعمال وملابساته، ومجردة عن كل العوامل الخارجية التي تؤثر فيها، نفسية أو اجتماعية أو غيرهما. وأصبحت دراسة الجمل المجردة هي السبيل إلى معرفة الملكة اللغوية. ولأن تجريد الجمل اللغوية نزع عنها كل ما يتعلق باستعمالها، وحصر مظاهرها في المظاهر التركيبية والدلالية والصواتية، فإن الملكة اللغوية لا يمكن أن تتضمن أكثر مما يدل عليه نِتاجها، ولا أن يتسع مجالها أكثر من مجال الجمل اللغوية المجردة. ولذلك حُصرت الملكة اللغوية في القدرة النحوية على وجه التحديد. وعلى هذا الأساس، أقام تشومسكي لسانيات الجملة، وسلك من أجل تقرير ذلك منهجا نبينه في الآتي:
حدد تشومسكي (:1965 13) موضوع النظرية اللسانية في «متكلم – مستمع مثالي، ينتمي إلى جماعة لغوية متجانسة تمام التجانس، ويعرف لغته معرفة جيدة، ولا يتأثر – حينما يمارس معرفته اللغوية في ظروف الإنجاز الفعلي – بقيود غير واردة نحويا كقصور الذاكرة والشرود وتحويل العناية أو الانتباه، وكالأخطاء (العفوية أو النوعية) ». ويقوم هذا التحديد على قرار منهجي يتمثل في اعتماد التجريد: اعتماده في صياغة فرضية متكلم – مستمع مثالي لا تتأثر معرفته اللغوية بظروف الإنجاز الفعلي، وفرضية جماعة لغوية متجانسة تمام التجانس، وفرضية الفصل بين المعرفة الباطنية وبين الاستعمال الفعلي لهذه المعرفة في ظروف واقعية، أو الفصل بين القدرة والإنجاز. وبما أن كل كلام معرض – في الواقع – لأن يتضمن منطلقات خاطئة وانحرافات عن القواعد وتحويلا للانتباه… فإن وقائع الإنجاز لا تعكس القدرة اللغوية إلا عن طريق التجريد أيضا. أما أن تدل مباشرة على القدرة اللغوية فأمر غير ممكن إطلاقا، كما يقر بذلك تشومسكي ( :196513). ومع ذلك، فإن اللساني مطالب بأن يَنْفُذ من خلال وقائع الإنجاز إلى اكتشاف القواعد النحوية التحتية التي يمتلكها المتكلم – المستمع المثالي بإتقان ويستعملها في ظروف الإنجاز الفعلي.
ولا أحد يجادل في عدم تحقق مضمون الفرضيات السابقة واقعيا، إذ ليس هناك دليل تجريبي يمكن تقديمه لصالح وجود متكلم أو جماعة لغوية أو معرفة باطنية بالصفات المذكورة أعلاه. ولكن الجدال قائم على مشروعية اعتماد هذا الأسلوب في العمل العلمي وسلامته ومردود يته. والداعي – في نظر تشومسكي (1980ب:224) إلى تبني هذا الإفراط في التجريد هو الرغبة في اكتشاف مبادئ تفسيرية عميقة تبين كيفية قيام النحو بتوليد الجمل. وبذلك أصبحت قدرة المتكلم النحوية مدار البحث اللساني التوليدي. ورُهن أي تقدم في دراسة الإنجاز اللغوي بمدى الفهم الذي يمكن إحرازه في موضوع القدرة. واشتُرط في أي نموذج معقول للاستعمال اللغوي أن يتضمن النحو التوليدي باعتباره مكونا من مكوناته الأساس. وحُسم أمر الإنجاز (أو استعمال اللغة) بقرار جعل منه مصدرا غنيا بالمعلومات التي من شأنها أن تكشف عن طبيعة القدرة. ولكنه لا يمكن أن يشكل موضوع اللسانيات الحق « إذا أريد للسانيات أن تكون علما جادا » (تشومسكي 14:1965).
2 ـ اعتراضات على لسانيات الجملة:
لعل ديل هايمز هو أبرز المعترضين على لسانيات الجملة والمشككين في جدواها. وتكمن أطروحة هايمز (:1982 (12 في ضرورة توسيع مجال اللسانيات ليشمل مظاهر تداولية وخطابية ونصية. ولكن ذلك لا يمكن أن يتم – في نظره – بصورة معقولة طالما ظل موضوع التحليل هو اللغة خارج سياقها، وطالما ظل هدف التحليل هو تحديد الممكن نسقيا (نحويا) في لغة من اللغات، وطالما ظل التحليل منصبا على وظيفة واحدة من الوظائف الأساسية المدروج على تعيينها بالوظيفة الإحالية أو المعرفية، وطالما ظل النحو هو الإطار المرجعي الذي تدرس داخله اللغة.
وبعبارة، يقتضي توسيع مجال اللسانيات تجديد النظر على أسس نقدية في موضوع النظرية اللسانية وأسسها وأهدافها. وفيما يلي بيان ذلك(1).
2 – 1 – عن ثنائية القدرة والإنجاز:
من المؤكد أن الكيفية التي استعمل بها تشومسكي مصطلح القدرة جعلت منه مصطلحا مهيمنا. ولأن هذا المصطلح ارتبط – أول ما ارتبط – بالنحو فقط، فإن عناية معظم الباحثين لم تتجه إلى شيء آخر غير القدرة النحوية. وكان ذلك أمرا مُرادا. فقد عمد تشومسكي – في مرحلة أولى – إلى إقصاء التفكير في افتراض قدرة غير نحوية لتحقيق هدفين اثنين:
أ – ترسيخ فكرة إقامة فرق حقيقي بين نسق تحتي هو النحو وبين سلوك فعلي هو الإنجاز.
ب – وتأكيد أن القدرة النحوية هي وحدها الكفيلة بأن تشكل الأساس الضروري لدراسة استعمال اللغة أو إقامة نموذج الإنجاز (هايمز 1994: 80). وقد سلك من أجل ذلك طريقتين اثنتين على الأقل: تتمثل الأولى في استعمال مصطلح الإنجاز استعمالا ملتبسا. وتتمثل الثانية في الإيهام بأن اعتماد التجريد لا ينجم عنه إلا افتراض قدرة نحوية.
أما مفهوم الإنجاز فاستعمله تشومسكي (1965: 13 و14) تارة للدلالة على أنه سلوك يمكن ملاحظته، حيث عُدت وقائع الإنجاز منطلق تحديد نسق القواعد التحتية، وحيث حدد الإنجاز بأنه الاستعمال الفعلي للغة في ظروف واقعية. ومفاد ذلك أن الإنجاز فعلي والقدرة تحتية. واستعمله (تشومسكي :1965 30) تارة أخرى للدلالة على أنه عبارة عن قواعد تحتية تكمن خلف الوقائع، حيث عد بناء نموذج الإنجاز أمرا مرغوبا فيه (على غرار نموذج القدرة) يُتوقع منه تقديم تفسير لتلك الوقائع، وحيث تم الإقرار (تشومسكي 1965: 174 و175) بإمكان وجود "قواعد إنجاز" وُصفت بأنها "قواعد أسلوبية" بإمكانها أن تفسر ما لا تستطيع النظرية النحوية تفسيره.
يتبين من هذه الاستعمالات أن للإنجاز دلالتين على الأقل يمكن اختزالهما في التقابلين الآتيين:
أ – قدرة تحتية/ إنجاز فعلي.
ب – قدرة نحوية تحتية/ قواعد إنجاز تحتية.
ويقود هذا الالتباس إلى التساؤل عن المقصود بالإنجاز حقا. أهو معطيات السلوك الكلامي؟ أم كل ما يثوي خلف الكلام باستثناء النحو؟ أم كلاهما؟
كما يثار التساؤل عن مضمون قواعد الإنجاز الأسلوبية وعن مضمون الإقرار بأن استعمال اللغة تحكمه قواعد.
لقد تجنب تشومسكي -في مرحلة أولى- الحديث عن تخصيص قواعد الإنجاز الأسلوبية أو قواعد استعمال اللغة بمصطلح قدرة تحتية من نوع آخر، وذلك بهدف ترسيخ فكرة مفادها أن استعمال اللغة ليس إلا تحقيقا ناقصا لنسق تحتي. وبعد أن كُسب هذا الرهان، لم يجد تشومسكي بأسا من بحث العلاقة بين قواعد النحو وقواعد الاستعمال، ومن الاعتراف بوجود "قدرة تداولية" إلى جانب القدرة النحوية (هايمز 1973 :78 و79).
وأما اعتماد التجريد فلا يفسر في شيء اعتبار القدرة اللغوية موضوعا أساسيا جديرا بالدراسة، واعتبار كل ما يتعلق باستعمالها شأنا هامشيا. ذلك لأن الاقتصار على دراسة القدرة اللغوية (القدرة النحوية) ليس أمرا ناجما عن التزام التجريد، بل هو اختيار شخصي وحسب. إذ يمكن – ولا مانع من ذلك – اعتماد التجريد في دراسة قدرة أشمل تكون القدرة النحوية مجرد مكون من مكوناتها، وليس مكونا أساسا جديرا -دون غيره- بأن يشكل موضوع النظرية اللسانية. ولكن تشومسكي تدرع بهما لإقصاء كل الأفكار المعارضة بتقديمها على أنها تنكر أهمية التجريد في تقدم المعرفة العلمية ولا تعمل وفق مقتضياته، ولسد الطريق أمام تصورات مغايرة لموضوع النظرية اللسانية ومنهج معالجته (هايمز1982: 132و133).
والخلاصة أن تشومسكي لم يُقَدم نظرية عن حقيقة القدرة والإنجاز، وإنما قدم عنهما فرضيات مصوغة بلغة مجازية: إنه يتحدث عن القدرة ويقصد النحو (بمعناه الضيق)، ويتحدث عن الإنجاز ويقصد تجلياته النفسية، بل حين يتحدث عن الاستعمال الخلاق للغة أو مناسبة القول للمقام يقصر تحليله على مستوى التركيب ويتحاشى تحليل السياق الاجتماعي (هايمز18 : 1973). كل ذلك يصور المتكلم حرا في أن يقول ما تمكنه اللغة من قوله غير مقيد بالمقام التواصلي، ولا معتمد على شيء في اختيار هذا القول دون غيره، حتى إن الظن ليذهب إلى اعتبار أن القدرة النحوية توازي -في منظور تشومسكي- عدم القدرة التواصلية (هايمز (139:1982.
2 -2 – عن اللغة والاستعمال:
لقد تنقلت اللسانيات عبر مراحل تطورها من العناية بالدراسة الصوتية والصرفية إلى العناية بالتركيب ثم بالدلالة. وفي كل مرحلة كانت تنكشف مظاهر جديدة تساهم إلى جانب المظاهر الأخرى في بنينة اللغة. وكان على اللسانيات أن تتابع تطورها في اتجاه بحث العلاقة بين بنية اللغة وبين مختلف استعمالاتها لا سيما أن جهودا سابقة – كجهود أعلام مدرسة براغ وفورث وبايك وغيرهم – كانت مهدت وساهمت في بحث هذا الموضوع (هايمز 1973: 19). ومع أن النظرية التوليدية – التي انحرفت عن هذا الاتجاه في البحث – هيمنت بقوة على ميدان اللسانيات إلا أنه سرعان ما أصبح يتضح لعدد متزايد من اللسانيين أن دراسة الجمل بمعزل عن سياقها الطبيعي وعن متكلميها اختيار منهجي استنفذت الحاجة منه، ولم يعد من اللائق العمل به، ذلك لأن عزل الجمل عن سياقها يثير شكوكا بخصوص واقعيتها من جهة، ويتجاهل دور السياق التواصلي في تحديد بنية هذه الجمل من جهة أخرى (هايمز1973 :13و19). فاللغة التي تصل إلى يد اللساني، وينصرف إليها بالوصف والتفسير ليست لغة بريئة من الاستعمال؛.إذ إن كل جملة موسومة بخصائص أسلوبية واجتماعية.
وعليه، فإن المعطيات المعتمدة – سواء أكانت ملفوظات أم أحكاما على هذه الملفوظات – لا يمكن أن تتخلص من التأثر بسياق ورودها. وإذا أردنا حقا – يقول هايمز (1974: 111و112) – بناء نظرية لغوية عامة، فيجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن اللغة وضعت كي تُستعمل، وهي منظمة بطريقة تيسر تأدية هذا الغرض، ولا يمكن عزلها عن الأهداف التي تُستعمل من أجلها.
وإذا كان من المسلم به أن هناك قواعد تركيبية تراقب بعض المظاهر الصوتية، وأن هناك قواعد دلالية تراقب -إلى حد- بعض المظاهر التركيبية، فإن هناك أيضا قواعد الاستعمال التي تراقب البنية اللغوية في مجملها؛ إذ لا يمكن-على سبيل المثال- أن ندرك العلاقة القائمة بين وسائل التواصل المختلفة إلا انطلاقا من مستوى ليس هو الصِّواتة أو التركيب أو الدلالة، إنه مستوى أفعال الكلام الذي يشمل الوسائل غير اللفظية مثل حركات الجسد .
وبناءا عليه، لم يعد من الوارد أن نعادل بين القدرة وبين النحو (بمعناه الضيق)، أو أن نفهم النظرية اللسانية على أنها نظرية نحوية فقط. وبصفة أدق، لم يعد مقبولا أن يظل مجال النظرية اللسانية محصورا في الجملة وأن يظل ما عاداها على الهامش.
3 ـ التحول إلى لسانيات الخطاب
3 ـ 1ـ النحو الوظيفي نحو خطابي
دافع سيمون ديك في كتابه الأول (ديك 1978) عن أن القدرة التواصلية وليس القدرة النحوية هي الجهاز الذهني الذي يمكن المخلوقات البشرية من التواصل بينها بواسطة العبارات اللغوية. ولأن الملكة التواصلية أشمل من الملكة النحوية بل تحتويها، فإن نِتاجها هو العبارات اللغوية المستعملة في مقامات تواصلية معينة، وليس الجمل المجردة.
ومن أجل فهم بنية هذه الملكة ومكوناتها وطريقة عملها، من الضروري دراسة العبارات اللغوية التي تصدر عن هذه الملكة، ويستعملها المتكلم بصورة واقعية. ولذلك، أعلن ديك (1978: 15) منذ البداية أن النحو الوظيفي لا يمكن أن ينحصر في وصف بنية الجمل اللغوية.
وإذا كان ديك قد ركز في كتابه الأول على العبارات اللغوية البسيطة وخصص الكتاب الثاني للعبارات اللغوية المعقدة (1989 و1997)، فإن ذلك لا يقوم دليلا على اعتبار النحو الوظيفي نحو جملة، وذلك استنادا إلى المعطيات الآتية:
أولاـ تتميز الأمثلة اللغوية التي يوردا ديك بميزتين على الأقل: تتمثل أولاهما في ارتباطها بمقامات تواصلية معينة تُجليها المظاهر التداولية المتعلقة بالقوة الإنجازية وبالوظيفتين التداوليتين المحور والبؤرة؛ حيث تضطلع القوة الإنجازية ببيان توجيه المتكلم لمضمون كلامه على سبيل الإخبار أو الاستفهام أو التعجب أو الإنكار أو الاستنكار أو الاستهزاء…، وحيث تضطلع الوظيفة التداولية المحور ببيان المعلومات التي يتقاسم كل من المتكلم والمخاطب معرفتها والواردة في العبارة اللغوية، وتضطلع الوظيفة التداولية البؤرة عموما ببيان المعلومات الجديدة التي يقدمها المتكلم لمخاطبه في مقام تواصلي معين.
وتتمثل ثانيتهما في إيراد أمثلة لغوية لها أرباض خارجية مثل:
1ـ يا أحمد، هل ما زلت على نية السفر؟
2ـ كتابك، قرأت نصفه.
3ـ قابلت أخاك، الشاعر.
وهي الأمثلة التي تعكس التفاعل القائم بين المتكلم والمخاطب في مقام تواصلي معين، كالعبارة اللغوية (1) التي ينتجها المتكلم بمكون المنادى الذي يلفت انتباه المخاطب إلى المتكلم، وكالعبارة اللغوية (2) التي ينتجها المتكلم بمكون المبتدإ الذي يحدد مجال الخطاب قبل إنتاج ما يتعلق به، وذلك لشد انتباه المخاطب إلى موضوع الخطاب، وكالعبارة اللغوية (3) التي ينتجها المتكلم بمكون الذيل لإحداث تغيير في المعلومات التي قدمها المتكلم إلى مخاطبه، موضحا أو مصححا أو معدلا.
ويدل ذلك على أن المعطيات اللغوية التي ينشغل بها اللساني معطيات مستمدة من مقامات تواصلية تُستعمل فيها، ومرتبطة بالتفاعل الكلامي القائم بين المتكلم والمخاطب لحظة إنتاجها. ولذلك، فالقول إن النحو الوظيفي انتقل من كونه نحو جملة إلى نحو خطاب ليس قولا دقيقا؛ لأنه لم يكن يوما نحو جملة كما بينا.
ومن الدلائل الإضافية أن رصد الأدوار التي تقوم بها الوظائف التداولية المحور والبؤرة بخاصة في سيرورة الخطاب وتماسكه أدى بصورة طبيعية إلى الانشغال بنصوص سردية وحوارية وغيرها، كما دعا إلى ذلك ديك (1989) ومحصه مكنزي وكيزر (1990) وقام به المتوكل (1993). وأصبح واضحا أن مستعملي اللغة لا يتقيدون بإنتاج جمل لغوية في تفاعلهم الكلامي، وإنما ينتجون بنيات لغوية أكبر وأعقد، كما صرح بذلك ديك في الفصل الذي عقده للحديث عن نحو وظيفي للخطاب (ديك 1997ب).
واستمر اللسانيون في تطوير الأساس الخطابي للنحو الوظيفي، وسلكوا من أجل ذلك مسالك متعددة، منها:
ـ اقتراح ديك إسقاط بنية الجملة على النص (ديك 1997ب).
ـ وبحث أوجه التماثل بين الكلمة وبين المركب الاسمي وبين الجملة وبين النص (المتوكل 2022).
ـ واقتراح مكنزي النحو الوظيفي المتنامي (مكنزي 1998).
ـ واقتراح كرون النحو القالبي (كرون 1997).
ـ واقتراح المتوكل نحو الطبقات القالبي (المتوكل 2022).
وبغض النظر عن تفاصيل هذه الأعمال العلمية وقيمتها، فإن ما يعنينا تسجيله منها هنا أمران: يتمثل أولهما في تعريف الخطاب بأنه "كل ملفوظ أو مكتوب يشكل في حد ذاته وحدة تواصلية، كل ملفوظ أو مكتوب يؤدي غرضا تواصليا معينا في موقف تواصلي معين، بقطع النظر عن كونه نصا أو جملة أو مركبا أو كلمة مفردة"، ويتمثل ثانيهما في اعتبار "جميع أقسام الخطاب، من الكلمة إلى النص، تؤول إلى بنية واحدة هي البنية الخطابية النموذج" (المتوكل 2022: 100ـ102).
وبذلك أصبح الخطاب أيا كان تحققه هو المعطى الأساس الذي يشكل مجال عمل اللساني الوظيفي، وانصب الاهتمام على إيجاد الإواليات التي تسمح بالتمثيل لكل أشكال الخطاب من الكلمة إلى النص داخل النحو، وكيفية إدماج هذا النحو بصورة طبيعية في نموذج مستعملي اللغات الطبيعية. وكان ظهور النحو الوظيفي الخطابي استجابة لهذه التطلعات.
3ـ2ـ تجليات النحو الوظيفي الخطابي:
لقد اعتمد تشومسكي الجمل المجردة معطياته الأساس التي تدله على مكونات الملكة النحوية وبنيتها وطريقة عملها. إلا أن النماذج النحوية التي أقامها لتمثيل هذه الملكة لم تحقق مطلب الواقعية النفسية، فاضطر إلى القول إن "مسألة الواقعية النفسية ليست، من حيث المبدإ، أكثر أو أقل حساسية من مسألة الواقعية الفيزيائية للبناءات النظرية التي يقيمها الفيزيائي" (تشومسكي 1980ب:192). ومعنى ذلك أن الواقعية النفسية ليست شيئا آخر غير التفسيرات التي يقيمها اللساني للظواهر اللغوية، وأن النحو الذي يرقى إلى الواقعية النفسية هو النحو الذي يساهم في تفسير هذه الظواهر والأحكام اللغوية.
ومن الجلِيّ أن هذا التأويل لمفهوم الواقعية النفسية سَجَّل تراجع تشومسكي عن أعظم طموحاته العلمية؛ ذلك لأن هذا التأويل لا يسمح على نحو صحيح ودقيق بالمفاضلة بين الأنحاء على أساس الواقعية النفسية ما دامت الأوصاف اللغوية المبررة لسانيا لا يُشترط فيها أن تُماثل الأوصاف اللغوية القائمة في ذهن المتكلم أو في ملكته اللغوية. وهو تأويل يُفرغ افتراض القدرة من مضمونه، ولا يؤكد الدور الذي ينبغي أن يقوم به النحو في أي نموذج معقول لمستعملي اللغات الطبيعية، حسب بريزنن وكابلن (1982).
إن المحافظة على مكتسبات النظرية اللسانية وتبني المقاربة النفسية للظاهرة اللغوية يحتمان التمسك بافتراض القدرة اللغوية ومفهوم الواقعية النفسية المنسجم مع هذا الافتراض؛ إذ إن كل سلوك مغاير سيؤدي حسب بريزنن وكابلن (1982) إلى تبني فرضية ضعيفة مفادها أن ثمة أجساما من المعرفة اللغوية تختلف باختلاف أنماط السلوك الكلامي، ويُفوت فرصة توحيد نظريات التمثيل الذهني وبناء نماذج للمعالجة. فليس ثمة خلاف بين اللسانيين وعلماء النفس وعلماء الحاسوب على أن معرفة المتكلم اللغوية ممثلة ذهنيا في صورة بنيات معرفية مخزنة، وأن على اللسانيين أن يقدموا النماذج النحوية التي تتوافق مع نتائج الأبحاث اللسانية النفسية والأبحاث المعنية بالجهاز العصبي وبالاضطرابات اللغوية وباكتساب اللغة وبنماذج الإدراك ، أو على الأقل لا تتصادم معها.
وقد أخذ ديك (1978 و1989) بهذا التصور، واشترط في النحو الذي يحقق الكفاية النفسية أن لا يتعارض مع الفرضيات النفسية القوية القائمة حول معالجة اللغة، وأن يكون قادرا على الاندماج بصورة طبيعية في أي نموذج معقول لمستعملي اللغات الطبيعية.
ويُعد السعي في تحقيق الكفاية النفسية من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور النحو الوظيفي الخِطابي. ويتمثل ذلك في المظاهر الثلاثة الآتية:
أ ـ مطابقة مراحل إنتاج الكلام وفق نماذج الإدراك.
ب ـ الفصل بين مستويي الدلالة والتداول، وإيلاء الأسبقية لتمثيل للمعلومات التداولية.
ج ـ التزام الواقعية في تحديد المعطيات اللغوية المتمثلة في الأفعال الخطابية.
فقد تمت هندسة النحو بصورة تجعله مطابقا لمراحل إنتاج الكلام كما حددها لفلت (لفلت 1998) :
أ – تحديد القصد التداولي،
ب – تحديد المضمون الدلالي المناسب للقصد التداولي،
ج – صياغة القصد والمضمون في تركيب مناسب،
د – تحقيق التركيب اللغوي بالنطق أو بالكتابة.
كما تمت صياغة هذا النحو بصورة تجعله وفيا لمبدإ الوظيفية القاضي بأسبقية التمثيل للمعلومات التداولية على غيرها من المعلومات، وتجعله نحوا مؤسسا تداوليا حقا. حيث يشرف التداول على الدلالة، ويشرف كل من التداول والدلالة على التركيب، ويشرف كل من التداول والدلالة والتركيب على الصواتة. فالانطلاق في إنتاج الفعل الخطابي يتم من المستوى العلاقي حيث يمثل للمعلومات التداولية، وهو أول مستوى في بنية النحو الوظيفي الخطابي، ثم يُنتقل بعد ذلك إلى المستوى التمثيلي حيث يُمثل للمعلومات الدلالية.
والنحو الوظيفي الخطابي يكون بذلك قد حسم النقاش الدائر بين اللسانيين في نظرية النحو الوظيفي، والمتعلق بمحل التمثيل للمعلومات التداولية : أ في مستوى واحد حيث يمثل للمعلومات الدلالية ويمثل للمعلومات التداولية أيضا، أم في قالب تداولي مستقل؟.
ومن مظاهر قوة هذا النحو أن الفصل بين المستوى التداولي وبين المستوى الدلالي مكن من تميز المعلومات التداولية من المعلومات الدلالية وتفادي الخلط بينهما في التمثيل من جهة، ومكن من جهة أخرى من القدرة على معالجة أفعال خطابية تقوم بوظيفتها التواصلية إلا أنها فارغة دلاليا من قبيل الفعلين الخطابيين:
4- Congrulations !
5- Oh John !
أي لا حاجة تدعو في إنتاجهما إلى المرور عن طريق المستوى التمثيلي، إذ يُنتقل في إنتاجهما مباشرة من المستوى العلاقي إلى المستويين الصرف – تركيبي والمستوى الصوتي.
وإذا كان من السابق لأوانه الحكم ببلوغ هذا النحو درجة عالية في معيار الكفاية النفسية، فإنه من الواضح اقترابه الشديد من واقع المتكلم الفعلي؛ وذلك بأن حدد معطياته اللغوية في الأفعال الخطابية أيا كان تحققها كلمة أو مركبا أو جملة بسيطة ومركبة أو نصبا أو حوارا أو غير ذلك. والأفعال الخطابية هي في الواقع ما ينتجه المتكلم في تواصله مع الآخرين، ولا يتقيد بإنتاج نمط معين من أشكال التعبير كالجملة أو النص أو غيرهما. ومن هذه الزاوية، يكون نحو الوظيفي الخطابي متقدما على غيره من الأنحاء المماثلة.
4 ـ خاتمة:
انصب اهتمامنا في هذا البحث على فحص ثنائية لسانيات الجملة ولسانيات النص في ضوء مستجدات نظرية النحو الوظيفي الخطابي. وقد انشغلنا ببيان الأسس التي قامت عليها لسانيات الجملة في إطار النظرية التوليدية، وبيان الثغرات التي تهدد تلك الأسس انطلاقا من الافتراضات التي انبنت عليها النظرية التوليدية وشكلت تحولا نوعيا في تاريخ اللسانيات الحديث.
ورصدنا الانتقادات العميقة التي وجهها ديل هايمز بصفة خاصة للسانيات الجملة في النظرية التوليدية، وهي الانتقادات التي مهدت لتحول نوعي آخر متمثل في تجاوز الجملة اللغوية إلى الملفوظات التي ينتجها المتكلم بمظاهرها التداولية والخطابية.
وأوردنا الدلائل الكافية التي تثبت أن نظرية النحو الوظيفي لم تكن يوما منخرطة ضمن لسانيات الجملة حتى نقبل الحديث عن الانتقال بهذا النحو من نحو جملة إلى نحو خطاب، وقدمنا المعطيات التي توضح بجلاء الأساس الخطابي لهذا النحو.
ووقفنا باقتضاب عند أهم المحطات التي ساهمت في تطوير الأساس الخطابي للنحو الوظيفي، والدوافع العلمية التي أدت لظهور النحو الوظيفي الخطابي الذي نحسب أنه يُنهي أي حديث معقول عن ثنائية لسانيات الجملة ولسانيات النص.
———————
* – تلافيا للبس الذي قد تحدثه عبارة "نحو الخطاب الوظيفي" بحيث يمكن فهمها أنها دالة على نحو معني بتحليل الخطاب ذي نزعة وظيفية مندرج في إطار لسانيات تحليل النص، فإننا فضلنا استعمال عبارة "النحو الوظيفي الخطابي"، وهي التسمية التي قد لا تسمح بالتأويل السابق غير المرغوب فيه، وتتوافق مع تأكيد هنخفلد ومكنزي (2008 : 29) أن نحوهما ليس نحو خطاب بالمعنى الذي يفهم به هذا التعبير في لسانيات تحليل النص، وإنما هو نحو موجه خطابيا، موضوعه الأفعال الخطابية باعتبارها الوحدات الدنيا للتواصل اللغوي.
(1) مصدرنا الأساس في هذا البيان كتاب هايمز الوحيد عن هذا الموضوع، وهو عبارة عن مقالات مترجمة إلى الفرنسية بإذن منه: مقال نشر سنة (1973) تحت عنوانTowords Linguistic comptence " ومقال آخر نشر سنة (1974) بعنوان "Ways of speaking" ومقال في صورة تعليق (Post Face) كتبه سنة (1984) يتابع فيه مسار تطور أفكاره ويحدد إطار تبلورها. يرجع تاريخ صدور هذا الكتاب إلى سنة (1984) لذلك سنشير إليه في فهرس المراجع ب (هايمز1984).
————————–
المراجع والإحالات باللغة العربية:
ـ البوشيخي، عز الدين (1990): النحو الوظيفي وإشكال الكفاية ( رسالة جامعية لنيل دكتوراه السلك الثالث، مرقونة، كلية الآداب، مكناس).
ـ البوشيخي، عزالدين (1998): قدرة المتكلم التواصلية وإشكال بناء الأنحاء ( رسالة جامعية لنيل دكتوراه الدولة، مرقونة، كلية الآداب، مكناس).
ـ المتوكل، أحمد (1993 أ): آفاق جديدة في نظرية النحو الوظيفي. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط.
ـ المتوكل، أحمد (1993ب): الوظيفة والبنية: مقاربات وظيفية لبعض قضايا التركيب في اللغة العربية. منشورات عكاظ، الرباط.
ـ المتوكل، أحمد (2001): قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية: بنية الخطاب من الجملة إلى النص. دار الأمان، الرباط.
ـ المتوكل، أحمد (2003): الوظيفية بين الكلية والنمطية. دار الأمان، الرباط.
ـ المتوكل، أحمد (2005): التركيبيات الوظيفية: قضايا ومقاربات. مطبعة الكرامة، الرباط.
ـ المتوكل، أحمد (2006): المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد. مطبعة الكرامة ، الرباط.
————
المراجع والإحالات باللغة الأجنبية
– Brersnan, J (1982):
The mental Representation of Grammatical Relation.
Cambridge, Mass MIT Press.
– Bresnan, J and Kaplan, R (1982):
Grammars as mental representation of Language
in : J, Bresnan (ed), (1982)
– Chomsky, N (1965):
Aspects de la théorie syntaxique
Traduit de l’anglais par Claude Milner
Paris : éditions du seuil.1971
– Chomsky. N (1980b):
Rules and Representations
Oxford-Basi Blakwell.
– Dik, S (1978):
Functional Grammar
Amsterdam : North-Holland.
– Dik, S (1989):
The theory of functional Grammar
Part I; the structure of the clause
Dordrecht: Foris.
– Dik, S (1997a):
The Theory of Functional Grammar. Part 1: The structure of the Clause
Second revised edition. Edited by Kees Hengeveld.
Berlin: Mouton de Gruyter.
– Dik, S (1997b):
The Theory of Functional Grammar. Part 2: Complex and Derived Constructions
Edited by Kees Hengeveld.
Berlin: Mouton de Gruyter.
– Hengeveld, Kees & J. Lachlan Mackenzie (2008) :
Functional Discourse Grammar: A typologically-based theory of language structure.
Oxford: Oxford University Press.
– Hymes, D (1971):
On Linguistic Theory, Communicative Competence and education
in: desadvan-Books.
– Hymes, D (1972):
On communicative Competence
In: J Pride et J, Holmes (eds): Sociolinguistics. London: Penguin
– Hymes, D (1973):
Towards Linguistic Competence
Traduit en Français par: F. Mugler
In : D ; Hymes (1984).
– Hymes, D (1974):
Wayes of speaking
Traduit en Français par: F. Mugler
in : D ; Hymes (1984).
– Hymes, D (1982):
Post face
Traduit en Français par: F. Mugler
in : D ; Hymes (1984).
– Hymes, D (1984):
Vers la compétence de communication
Traduit de L’anglais par France Mugler
Paris : Hatier- Credif.
– Hymes, D (1994):
Direction in (ethno) – Linguistic theory
in : A. Romney and R, D’ andrade (eds): Transcultural studies in cognition.
Washington: American anthropological Association.
– Kroon, Caroline (1997) :
Discourse markers, Discourse structure and Functional Grammar
In : Connolly, Butler, Vismans and Gatward (eds) .
– Levelt, Willem J.M (1989) :
Speaking
Cambridge, Ma: MIT Press.
– Mackenzie, J. L and E. Keizer (1990) :
On Assigning Pragmatic Functions in English
WPFG 38.
– Mackenzie, J. L (1998) :
The Basis of Syntax in the Holophsase
In: Hannay and Bolkestein (eds).
————————————
الكاتب :
د. عزالدين البوشيخي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ مكناس