معركة أباد فيها الجزائريون نخبة الجيش الصهيوني
"إسرائيل" تعترف بهزيمتها أمام الجيش الجزائري
من بين ثنايا السطور ترفرف الراية الجزائرية فوق أعناق ثلة من المجاهدين الأشداء، الذين نفذت رصاصاتهم وقذائفهم وصواريخهم في صدور الصهاينة والأمريكان معا، فصنعوا تاريخا كانوا أول ضحاياه، وحفروا بطولات أدرك العدو أن الكشف عنها بمثابة نهاية حتمية لكيانه، فقدر للمعارك التي خاضتها القوات الجزائرية على جبهة قناة السويس أن تكون من أخطر أسرار تلك الحرب.
موشي ديان وشارون سقطا في فخ القوات الجزائرية
ولم ينجح العدو فقط في إخفاء كل ما يتعلق بالدور الجزائري على هذه الجبهة، بل ونجح أيضا في تحويل مخاوفه من كشف حقيقة هذا الدور إلى خنجر مشهر منذ ذلك الوقت وحتى الآن في وجه الجزائريين والعرب.
العرب مهزومون حتى عام 2023
حتى الآن يتذكر الجزائريون حرب أكتوبر بمرارة وحسرة وأحيانا بالدموع، وكل يبكي على ليلاه… الذين شاركوا فيها يعتصرون ألما لإجحاف حقهم وبالأخص المعنوي، والمؤرخون يلقون أقلامهم كلما اصطدموا بحواجز السرية والتعتيم، أما العامة فلا يفتحون أعينهم ولا يغمضونها إلا على صورة الخيانة التي رسخها العدو والصديق في أذهانهم، ويبقى الساسة والمسؤولون الذين باتوا مقتنعين بأن أعباء الحاضر ومشاكل العصر أهم من الالتفات لماض »لا يسمن ولا يغني من جوع«، لكن فتنة هذا الماضي القريب تنخر عظامنا اليوم أكثر من فتنة الـ14 قرنا، ولنسأل أنفسنا ونجيب بصدق: ماذا سيكون موقفنا لو شنّ الكيان الصهيوني حربا شاملة جديدة ضد قطر من أقطارنا؟.
عفوا تريّثوا قليلا، فها هي »غولدا مائير« تجيب عليكم في الصفحة 194من كتابها »حياتي«: »…أستطيع أن أؤكد لكم أن العرب لن يخوضوا حربا جماعية ضدنا لمدة نصف قرن على الأقل…«، مائير طرحت هذا الكتاب بعد حرب أكتوبر مباشرة، وقد وصلت لتلك النتيجة بعد تخصيصها لفصل كامل اختارت له عنوان »التحالف العربي وكارثة إسرائيل يوم الغفران« والذي تحدثت فيه عما أسمته »دروس ومكاسب الحرب«، فعجوز بني صهيون بررت لشعبها سبب الهزيمة في التفاف الجيوش العربية تحت راية واحدة، لكنها أكدت أيضا أنها حققت الأمن لـ»إسرائيل« حتى عام 2023، وأشارت إلى أنها قدمت للشعب الإسرائيلي أكبر »هدية«، وهي عدم إقدام العرب على محاربة إسرائيل مجتمعين، وفي فصل آخر من هذا الكتاب أشارت مائير ضمنيا أنها نجحت في إبعاد شبح وحدة الجيوش العربية مرة أخرى، لكن المرأة »الحديدية«، كما يطلقون عليها، كانت أذكى من الإفصاح عن الخطة التي وضعتها لتحول دون وحدة الجيوش العربية حتى عام 2023.
الهزيمة والغضب يكشفان المستور
لكن »دافيد اليعازر«، رئيس الأركان الصهيوني، الذي شاهد أول هزيمة لكيانه، والذي كان كبش فداء للمؤسسة العسكرية والذي اتهم بالقصور والتردد، غضب وانهار ففاحت رائحة المؤامرة من فمه، وهنا قررت مائير إقالته ومحاصرته… كلمات اليعازر التي قالها للمرة الأولى والأخيرة نشرتها صحيفة »معاريف« العبرية بتاريخ 29 أكتوبر 1973 ، وجاء فيها حرفيا: لست مسؤولا عن هزيمة صنعها قادة إسرائيل الأغبياء… استهانوا بالقوات العربية المحتشدة على الجبهتين الشمالية والجنوبية… ما حدث لقواتنا في ميناء الأديبة كان نتيجة للاستهانة والاستهتار بعدد وعتاد الوحدات الجزائرية…
لقد توقع شارون المغرور أن الجزائريين بأسلحتهم البدائية سيفرون بمجرد رؤية دباباته… لكنهم نصبوا له الفخ، فخسرنا في يوم واحد 900 قتيل من أفضل رجالنا وفقدنا 172 دبابة… ألم أصرخ في وجه ديان الذي قال إن هذه النقطة ـ يقصد موقع القوات الجزائرية ـ هي الأضعف على القناة؟، ألم أخبره أمام القادة بأن نظريته المرتكزة على جهل الجزائريين بطبيعة المكان وأسلوب القتال معنا نظرية هشة، وأن هؤلاء لديهم خبرة أكبر من المصريين أنفسهم في حرب العصابات التي انهارت بفعلها فرنسا؟، لقد أخطأ ديان هو وتلميذه المعتوه شارون حينما خططوا بتفاؤل لإبادة هذه القوات أثناء انكشاف خطوط الدعم المصرية عنها وانشغال المصريين بالقتال على رؤوس الجسور؟، أما مائير فقد كللت أخطاءها من قبل بمخالفة تعاليم التوراة وترك وصايا بن غوريون، حينما سمحت للعرب طوال ست سنوات كاملة للاحتشاد تحت قيادة موحدة، إنها ـ يقصد مائير ـ تتحدث اليوم عن خطة تشتيت العرب وتفريق كلمتهم لمدة 50 سنة مقبلة، قائدة »إسرائيل« ملت من تحميل الآخرين نتيجة أخطائها، لتضع خططا لا تعدو أن تكون أحلاما موهمة الشعب الإسرائيلي أنها انتصرت، أو على الأقل لن تتكرر الهزيمة.
الجزائريون يسقطون جنرالات بني صهيون في الفخ
التصريحات التي خرجت من قمة الهرم العسكري الصهيوني دفعتني دفعا للبحث عن كل ما قيل داخل كيان العدو في تلك الفترة، فقد كانت صدمة الهزيمة قوية على العدو، حتى أنها أفقدته قدرته المعروفة على تزييف الواقع أو طبخ التبريرات، فقادني البحث إلى محاضر استماع لجنة التحقيق التي أطلق عليها اسم »أجرانات«، والتي شكلت في تل أبيب للوقوف على أسباب الهزيمة، تلك المحاكمة ظلت معظم وقائعها سرية حتى عام 2022، حينما خرجت لأول مرة مذكرات أحد القضاة الذين أشرفوا عليها، وبالتوقف عند الجلسات التي تعلقت بشهادة وزير الحرب الصهيوني الجنرال »موشي ديان«، تتكشف أجزاء من الحقيقة.
فحينما سئل ديان عن قراره وخطة الهجوم على الأديبة أجاب قائلا: مثلما حدث في بقية مجريات الحرب… المصريون خدعونا وجعلونا نعتقد أن ميناء الأديبة غير محصن… كلفوا القوات الجزائرية بمهمة حمايته… فبنينا خططنا على أساس معلومات تؤكد لنا أن تلك النقطة الاستراتيجية في متناولنا، فحاولنا الاستيلاء عليه في الأيام الأولى للحرب، من أجل فتح منفذ على الجبهة تمر منه مدرعاتنا والمدرعات الأمريكية لتطبيق خطة التطويق، فوجهنا قصف صاروخي ومدفعي شديد ومركز على المنطقة كلها، لكن معظم صواريخنا أسقطتها الصواريخ المصرية المنتشرة على مسافة 15 كيلومترا من الميناء، في حين لم نلقَ مقاومة ولم تطلق قذيفة واحدة من المكان المستهدف، فتأكدنا أن الوضع آمن، وأننا دمرنا أسلحة الرد الثقيلة لدى القوات الجزائرية، أو أن هذه الأسلحة سحبها المصريون لاستخدامها في الهجوم، كانت كل المعطيات والتحليلات تدل على أن الجزائريين لا يملكون أسلحة قادرة على عرقلة العملية، وكنا قد جمعنا معلومات أخرى تشير لوجود حالة تذمر وانشقاق داخل تلك القوات بسبب عدم سماح المصريين لهم المشاركة في الهجوم على سيناء، وهنا أعطينا الضوء الأخضر لحلفائنا الأمريكيين، وفي الوقت ذاته أمرت اللواء 190 مدرع بالهجوم بكامل قوته على القوات المصرية في منطقة القنطرة شرق لشغل المصريين وإبعاد أنظارهم عن السويس وبالتحديد الأديبة، ثم أمرت اللواء مدرع 178 بقيادة الجنرال شارون بمهاجمة الميناء والاستيلاء عليه بسرعة، وقبيل وصول اللواء 178 للميناء فوجئنا بخبر إسقاط طائرة أمريكية عملاقة من طراز سي 5 غلاكسي بواسطة صاروخ أطلق من مواقع القوات الجزائرية، ووصلتني إشارة عاجلة تفيد بانقلاب الموقف رأسا على عقب، حيث تصدت مضادات جزائرية متطورة للطائرات الأمريكية وأمطرتها بعشرات الصواريخ فأسقطت واحدة وأصابت اثنتين أخريين نجحتا فيما بعد في الهبوط في أحد مطارات النقب، ولم تمر خمس دقائق أخرى حتى وصلتني رسالة ثانية تفيد بإطلاق بطاريات الصواريخ والمدفعية الثقيلة للقوات الجزائرية النيران بكثافة على المواقع التي انطلق منها القصف الإسرائيلي على الأديبة، هنا شعرت أننا وقعنا في فخ خطير، وأن العدو نجح في استدراجنا بخبث لم نعهده في حروبنا السابقة معه، وأن كارثة على وشك الحدوث، فحاولت الاتصال بالجنرال شارون ليوقف الهجوم ولكنه كان مجنونا.
صاروخ جزائري يهز أمريكا
وقبل سماع بقية شهادات ديان، أذهب للأدميرال »توماس مورير«، عضو هيئة الأركان الأمريكية المشتركة أثناء حرب أكتوبر، والذي يقول في مذكراته: إصابة السي 5 غلاكسي أصاب هيئة الأركان الأمريكية بالفزع، فقد كانت المرة الأولى التي يفقد فيها الأسطول الجوي الأمريكي واحدة من طائراته العملاقة الست، ولولا العناية الإلهية لفقدنا اثنتين أخريين، وبلغ الإحباط مداه حينما أعلن الرئيس نيكسون حالة الطوارئ داخل مقر قيادة الهيئة، طالبا تقديم تفسير مناسب لتلك الخسارة الفادحة، فلم نكن نملك أية تفصيلات أخرى باستثناء عبارات عاطفية وصلتنا من تل أبيب تتحدث عن خدعة وسوء تقدير، وبعد 18 ساعة كاملة جمعنا المعلومات التي صيغ منها التقرير الذي استلمه الرئيس في صباح اليوم التالي التاسع من أكتوبر 1973، والذي ذكرنا فيه أن السوفييت زودوا العرب بصواريخ حديثة كانت سببا مباشرا في فشل عملية الإنزال في منطقة السويس، وأجلت خطة الالتفاف على القوات المصرية لأكثر من أسبوع، لكننا اكتشفنا بعد تحليل حطام الطائرة أنها أصيبت بصاروخ سام عادي استوردته الجزائر من موسكو عام 1972.
شارون يبكي ويهرب كالفأر من الجزائريين
فقرات من شهادات ديان، والتي يقول فيها للمحققين :
اتهامي بالمغامرة بحياة جنودنا بناء على توقعات خاطئة ليس صحيحا، فبمجرد أن أشعل العدو النار في الأديبة حاولت إيقاف الهجوم البري، وأمرت الجنرال شارون بالانسحاب الفوري، لكنه كسر الأمر العسكري، واندفع باتجاه القوات الجزائرية، فوقعت الكارثة«، تلك الكارثة تحدث عنها موشي ديان بالأرقام »900 قتيل و172 مركبة«. لكن المؤرخ والكاتب الصهيوني »شفتاي تيبت« يتحدث عام 2000 عن سبب حجب كتابه المتعلق بخبايا حرب يوم الغفران، فيقول: لأكثر من ربع قرن وكتابي ممنوع من النشر لأني أكشف فيه عن حقيقة جبن شارون الذي قدمته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية للشعب الإسرائيلي على أنه بطل حرب كيبور، فقد كنت ضابطا في اللواء 178 مدرع الذي تعرض لمجزرة لم يشهد مثلها جيش الدفاع من قبل، مات أغلب رفاقي، وبقيت رفقة قائد اللواء أرئيل شارون وثلاثة جنود… نعم لم ينجُ من لواء مدرع بأكمله مدعوم بكتيبة مظلات سوى خمسة أشخاص، بقيت حيّا لأشهد على »شجاعة« و»بسالة« شارون »العظيم«… الذي يتحمل وحده ما وقع لإسرائيل في هذا اليوم الأسود… شارون كان يسير باتجاه الأديبة منتشيا ولم يستطع إخفاء أحلامه الشاذة في المجد والخلود، فقال لي: »سنبيد هذه الحشرات في لحظات«، وأمرني والجنود بتدمير كل شئ حي على الأرض وقتل أي أسير والتنكيل بالجثث، لقد قال بالحرف الواحد: »أريد أن ترتج السماء والأرض بانتصاركم الوشيك…«، لقد كان يتصرف وكأنه ذاهب لإبادة قرية لا يوجد بها سوى نساء وأطفال عزل…
لم يتصرف مطلقا كقائد مسؤول عن أرواح رجاله… كان يقول بغباء لم أشهد مثيله في حياتي: »المهمة سهلة جدا… بضعة مئات من الجزائريين الضعفاء غير مدربين ولا مسلحين وغير مدعومين بالمرة.. نريد أن نفرمهم بجنازير دباباتنا لنلقن المصريين درسا مؤلما… ولنؤدّب كل من تسوّل له نفسه التصدي لنا«، كان فاشيا وقاسيا ولا يقبل الرأي الآخر، حتى أنني لم أستطع مناقشة خطة الهجوم معه بوضوح، وعندما جاءتنا الأوامر من القيادة العليا تطالبنا بالانسحاب الفوري، جنّ جنونه ورفض الأمر، في تلك الأثناء كنّا على بعد 10 كيلومترات من الهدف، فصرخ في الجميع عبر مكبر الصوت يخطب وكأنه داوود، قائلا: »على بعد أمتار ينتظركم المجد… قلوب أمهاتكم وقلوب العالم كلها معكم… بعد ساعة واحدة من الآن ستنظر لكم إسرائيل من تحت… أبيدوا هذه الفئران الجبانة التي ترتعد من بأسكم… لا ترحموهم… علموا العالم كيف يتعامل مع هذه الحثالة… لا تتركوا بيتا واحدا في الجزائر إلا متوشحا السواد… ومن بعد التفتوا إلى المصريين الجبناء… من الآن استعدوا لبناء أمجاد إسرائيل«.
ويواصل تيبت كشف أسرار هذه المعركة قائلا: اندفعنا بقوة صوب الأديبة تسبقنا قذائف دباباتنا… وما أن توغلنا في عمق المنطقة حتى وجدنا أنفسنا محاصرين من كل الجهات… كانت دباباتنا تنفجر بمعدل ثلاث إلى أربع دبابات في الثانية، فظننت أننا سقطنا في حقل ألغام… لكن أصوات الأعداء كانت تأتي من كل الاتجاهات، يقولون قولتهم الشهيرة »الله أكبر« وهم يمطروننا بالصواريخ المحمولة كتفا »آر.بي.جي«، المفاجأة شلت أيدينا وعقولنا… لم نتمكن من إطلاق قذيفة واحدة عليهم… لقد كانوا قريبين جدا… ولم تمر دقائق حتى دمر اللواء المدرع بأكمله، في حين لم تصمد قوات المظليين لأكثر من 30 دقيقة… وأبيدت عن آخرها… وتخيلوا… ماذا كان موقف شارون الشجاع وسط هذا الجحيم؟، ـ يتساءل تيبت ويجيب ـ: كان يصرخ ويبكي كالطفل الذي تركته أمّه تائها في الصحراء، كان يقول لسائق الدبابة تراجع… تراجع، لكن الصواريخ كانت أقرب من أوامره، فقفزنا من دبابتنا المحترقة تسترنا النيران المشتعلة في كل مكان، حتى قفزنا في مستنقع عشبي، أخذنا نسبح والنيران تلاحقنا… وشاءت الأقدار أن ننجو من المذبحة التي أوقعنا فيها بطل إسرائيل العظيم شارون، الذي أضاع على إسرائيل فرصة الإلتفاف الأولى والهامة على الجيش المصري…
نصر رج "إسرائيل".. زلزل أمريكا… ووضع العالم على شفا حرب نووية، صمود لم تفلح كل الخطط العسكرية في اختراقه، شجاعة فشلت معها كل مؤامرات العدو، هذه نتائج معركة الأديبة التي صنعت درعا واقيا لانتصار العاشر من رمضان، وشكلت منها القوات الجزائرية حائطا فولاذيا تحطمت تحته الجحافل الصهيونية والأمريكية.
المؤرخ والكاتب الصهيوني »شفتاي تيبت« كان أول من تحدث داخل الكيان الغاصب عن تفاصيل معركة »الأديبة«، أو كما يسميها القادة العسكريون »الثغرة الأولى«، وكان أول من كشف حقيقة »أرئيل شارون« أمام الشعب الإسرائيلي، في الوقت ذاته لم يكن »تيبت« الوحيد من بين الصهاينة الذين قدموا أدلة على الهزائم التي مُني بها الجيش الصهيوني على يد القوات الجزائرية، فمعركة الأديبة وبالرغم من كونها واحدة من أشرس معارك حرب أكتوبر، إلا أنها لم تكن آخر المواجهات المباشرة بين الجزائريين والصهاينة، بل كانت سببا مباشرا في توجيه دفة الحرب تجاه مواقع القوات الجزائرية…
وقبيل التحدث عن بقية معارك القوات الجزائرية مع العدو، أردت التوقف عند جوانب أزمة خطيرة هددت العالم كله آنذاك؛ ذلك أن نتيجة معركة الأديبة وتوقيت حدوثها فتح الباب أمام واحدة من أخطر الأزمات النووية العالمية… فبات استخدام السلاح النووي في المعركة مطروحا على الطاولة.
الذري في مواجهة الكيماوي والبيولوجي
وفي هذا السياق يقول الأدميرال الأمريكي »توماس مورير«: تسببت الهزيمة الثقيلة التي منيت بها أمريكا و»إسرائيل« في ميناء الأديبة بمدينة السويس إلى تصاعد وتيرة الحرب بشكل أوحى لكافة الأطراف المتحاربة بأن الحرب النووية على الأبواب، وفي اللحظات الأخيرة تراجع الجميع عن قرارات الهجوم بأسلحة الدمار الشامل بعد فشل الجبهتين المتقاتلتين في تحديد هوية ونتيجة الحسم.
ويضيف مورير: بعد يوم واحد من وقوع معركة ميناء الأديبة، وتحديدا في صباح يوم التاسع من أكتوبر 1973 ـ رابع أيام الحرب ـ كانت الولايات المتحدة قد حسمت أمرها وقررت شنّ حرب شاملة على العمق المصري، وانطلقت وقتها مقولة »نريد مليوني قتيل«، فقد كانت واشنطن تريد الضغط على الجيش المصري من خلال إيقاع خسائر فادحة في صفوف المدنيين، لإجبار القيادة السياسية والعسكرية على وقف الحرب، وتكرار سيناريو اليابان في الحرب العالمية الثانية التي أجبرت على الاستسلام بعد إبادة سكان هيروشيما ونغازاكي، ولكن هذه المرة بدون استخدام السلاح الذري تجنبا لاندلاع حرب نووية عالمية، والاستعاضة عن ذلك بقنابل ذات قدرة تدميرية واسعة تصب على التجمعات السكنية المكتظة بواسطة مئات الطائرات، وكان واضحا أن الأمريكيين متألمون جدا من الهزيمة التي لحقت بهم قبل يوم واحد من هذا القرار، حتى أنهم لم يكونوا في حاجة لاستغاثة رئيسة الوزراء »غولدا مائير« التي أطلقت نداءها الشهير »أنقذوا إسرائيل…
لم يبق سوى السلاح الذري«، لكنهم في الوقت ذاته ـ يقصد الأمريكيين ـ منعوا تل أبيب من الإقدام على ضرب القاهرة بالقنابل الذرية، بعد تواردت معلومات تؤكد أن المصريين والسوريين تسربت لهم خطة مائير النووية، فحملوا كل ما يملكون من صواريخ متوسطة المدى برؤوس كيميائية وبيولوجية وجعلوها في حالة جهوزية قصوى للإطلاق صوب تل أبيب والنقب وحيفا، وعلى حسب تقدير القيادات الأمريكية آنذاك فإن السادات اتصل بشريكه في الحرب »حافظ الأسد« وطلب منه الاستعداد لتنفيذ ما أسماه »الخطة الثانية للحرب«، التي أعدها العرب قبيل الحرب للرد بأسلحة الدمار الشامل على أي هجوم ذري إسرائيلي، وأن عدد هذه الصواريخ إما قارب أو جاوز المائتي صاروخ بقليل، 130 منها على الجبهة الجنوبية (مصر)، و70 على الجبهة الشمالية (سوريا)، وجاءت هذه التقديرات بناءً على نجاح الـ»سي.آي.إيه« في فك شفرة هذا الاتصال، لكن حتى الآن لا يعلم أحد إذا كان اتصال السادات ما هو إلا مناورة لإخافة خصومه، خاصة وأنه الاتصال الوحيد الذي لم يكن مؤمَّنا، وكأنّ صاحبه يريد وصوله للخصم، إضافة إلى أن عملية التجهيز الصاروخية على الجبهتين المصرية والسورية والتي نفذت بالفعل كانت أيضا مكشوفة ومرصودة بوضوح من قبل الأقمار الاصطناعية، وهو ما لم يكن متوفرا بنفس الدرجة مع التحركات الصاروخية العادية أو التقليدية التي استخدمت بالفعل تحت غطاء تمويهي حال دون كشف القواعد التي تنطلق منها، لكن أيّا كان الأمر… فإن العرب كانوا يمتلكون بالفعل عددا كبيرا من الصواريخ القادرة على الوصول للعمق الإسرائيلي، وكذلك عددا معتبرا من الرؤوس غير التقليدية، فكان إقدام أحد الطرفين على استخدام أسلحة الدمار الشامل بمثابة كارثة للعالم كله، فحيد هذا الخيار، وبحثت »إسرائيل« والولايات المتحدة عن بدائل أخرى… لكن تلك البدائل لم تمكنهما من إبعاد شبح الهزيمة.
خطة تدمير القاهرة
عندما بحثت عن هذه البدائل، وقعت في يدي وثيقة هامة محشورة في مذكرات »بي جروميكو«، وزير الخارجية السوفييتي وقت الحرب، والذي تحدث عن خطة الاختراق الجوي للعمق المصري، فيقول: بعد أن وقف العالم على شفير حرب نووية، تراجعت أمريكا و»إسرائيل« فتراجع الاتحاد السوفييتي هو الآخر بعدما أعلن حالة التأهب النووية القصوى، لكن هذا اليوم تلبّد بغيوم خطة خطيرة كاد أن يحدث نجاحها كارثة للعرب، حيث تقدم جنرال الجو الإسرائيلي »بيليد« بخطة عرضها على رئاسة أركان القوات الإسرائيلية، وكانت تلك الخطة موجهة ضد العمق المصري، ففي تمام الثالثة من مساء يوم 09 أكتوبر 1973 اجتمع كل قادة »إسرائيل« في مكتب رئيسة الوزراء آنذاك غولدا مائير ليوافقوا بالإجماع على تنفيذ خطة الهجوم على العمق المصري بما تبقى من طائرات سلاح الجو الإسرائيلي مدعومة بـ530 طائرة أمريكية هبطت بطياريها في مطارات »إسرائيل« خلال الأيام الثلاثة الأولى للحرب، وذلك عبر هجمة واحدة فقط، تستهدف ضرب الكيان الاقتصادي والصناعي وتنقضّ على تجمعات مدنية ومراكز صناعية إضافة للمناطق العسكرية… وكان من المقرر أن تبدأ الخطة بهجوم جوى مركز في الساعات الأولى من صباح العاشر من أكتوبر، وذلك على بطاريات الصواريخ والقواعد الجوية التي عرفت وقتها بحائط الصواريخ، وبدأ العد التنازلي لتنفيذ الخطة، ولكن العملية ألغيت قبيل دقائق من ساعة الصفر المقررة لها »الخامسة من صباح العاشر من أكتوبر«، وكان الإلغاء بقرار من مكتب رئيسة الوزراء أثناء اجتماعها مع موشى ديان ودافيد إليعازر رئيس الأركان و»كينيث كيتنغ« سفير واشنطن في »إسرائيل« آنذاك، وكان سبب الإلغاء معلومات سرية مزودة بصور التقطتها أقمار التجسس الأمريكية تؤكد قيام المصريين بنشر عشرات البطاريات من الصواريخ المتحركة حول القاهرة والإسكندرية، الأمر الذي أدى لإجهاض الخطة من أساساتها، فقد كان مقدرا، بناءً على دراسة لقدرات حائط الصواريخ المنتشر على القناة، أن الدفاعات المصرية استنفدت الكثير من قدراتها خلال الأيام الأولى للحرب، وأن عددها يكفي بالكاد لإسقاط 200 طائرة، في حين ستتمكن بقية الطائرات المهاجمة من الوصول لأهدافها، لكن وبعد عملية النشر الصاروخي الداخلي، والتي شكلت حائط صواريخ ثانياً، بات أمل الوصول للهدف منعدما. حقا قبلت القيادات الإسرائيلية والأمريكية في سبيل تنفيذ هذه العملية بخسران 200 طائرة، لكنها لم تكن على استعداد لفقدان جميع طائراتها في عملية محكوم عليها بالفشل، وهو ما كان سيعني تأكيد السيطرة المصرية على سماء المنطقة برمتها، فعاد التفكير من جديد في الهجوم البري على مواقع الصواريخ والدفاعات المصرية.
(إسرائيل) تعاود الهجوم على القوات الجزائرية
العقيد »عساف ياجوري«، قائد اللواء 190 مدرع، والذي وقع في أسر القوات المصرية في واحدة من أعنف معارك الدبابات التي شهدها التاريخ، والذي اتهمته القيادات الصهيونية بإفشائه أسرارا للمصريين تسببت في إحباط عملية الثغرة الثانية، رد على الاتهامات الموجهة ضده أمام لجنة الدفاع بالكنيست قائلا: »تلقيت الأوامر من الجنرال شارون بالهجوم على ميمنة الجيش الثاني الميداني في منطقة القنطرة شرق، لشغل أنظار المصريين عن الهجوم الجنوبي على الأديبة، لكن المصريين كانوا يعرفون ميعاد وصولي واستعدوا لاستقبالي، وعلى غرار الفخ الذي نصب في الأديبة وجدت فخا في القنطرة، لكنني لم أهرب مثل قائدي… قاتلت واستمرت المعارك أربع ساعات متواصلة… كانت دبابات الأعداء أكثر من دباباتنا… وكانوا يجيدون الرماية على مختلف المسافات… كانوا يتقدمون بسرعة نحونا… وما زاد الطين بلة تطويق عدد من أفراد قواتهم الخاصة لنا، واتباعهم أسلوب التدمير والشل الحركي لمركباتنا ـ يقصد إعطاب مقدمة ومؤخرة طابور الدبابات، فتعجز بقية دبابات المنتصف عن الحركة ـ، وكان الاستسلام هو السبيل الوحيد للنجاة، لكن المصريين استجوبوني بدهاء حتى استدرجوني لكشف هدف الهجوم، ومكانه الحقيقي«.
شهادة »عساف ياجوري« وجدتها تتوافق كثيرا مع ما ورد في مذكرات المشير الجمسي، الذي تحدث عن هذه العملية قائلا: كانت اعترافات العقيد الإسرائيلي الأسير »عساف ياجوري« مهمة للغاية، وكشفت للقيادات المصرية نوايا العدو الرامية للوصول لحائط الصواريخ، وتدميره لفتح ثغرة للطائرات الإسرائيلية، وكان واضحا لدينا جميعا في غرفة القيادة أن العدو تأكد تماما من عجزه عن صد قواتنا المهاجمة في سيناء، لأنها كانت تتحرك تحت مظلة قوية من الدفاعات الأرضية والمقاتلات المصرية، لذا لم تكن توجد حلول أمامه لوقف تقدم قواتنا في عمق سيناء إلا بانكشاف الغطاء الجوي المصري، لكننا كنا متأكدين ـ بعد فشل محاولة اختراق اللواء 190 مدرع لقواتنا عند محور القنطرة شرق، وفشل عملية الأديبة ـ أن العدو بات عاجز كليا عن تكرار مثل هذا النوع من العمليات في مناطق العبور التي أحكمت القوات المصرية قبضتها عليها تماما، وفي نفس الوقت كانت التحليلات العسكرية تشير إلى أن العدو سينفذ عملية التفاف ولكن من مكان آخر وبأسلوب آخر، وبدراسة دقيقة لنقاط الجبهة وجدنا أن ميناء الزيتية المتاخم للأديبة هو النقطة الأمثل لتنفيذ هذه العملية، وهنا تركنا العواطف جانبا، ورفضنا الاقتناع بأن العدو لن يفكر في الهجوم على المكان الذي خسر في ساعة واحدة لواءً مدرعا كاملا وكتيبة مظليين، وعلى الفور قررنا تدعيم القوات الجزائرية المسؤولة عن تأمين الزيتية بكتيبة صاعقة، وكانت المهام الموكلة لتلك الكتيبة جديدة ولم تطبق في الحروب من قبل، فصعقت العدو وأفشلت عملية الثغرة الثانية.
أسرى جزائريون لإنقاذ غولدا مائير
لأن القادة المصريين يتحفظون دائما خلال مذكراتهم على سرد تفاصيل العمليات العسكرية وهذا حال المنتصر، فإن المشير الجمسي لم يقدم أكثر مما أورده عن عملية الزيتية، لكن القادة الصهاينة المنهزمين كانوا مجبرين على قص كل كبيرة وصغيرة أمام لجان التحقيق.
الجنرال »شمويل جونين«، قائد الجبهة الجنوبية مع مصر، والقائد المباشر لشارون، يحمّل في اعترافاته أمام لجنة التحقيق شارون المسؤولية الكاملة عن الهزيمة في عملية الزيتية »الثغرة الثانية« فيقول: ‘في صباح يوم 10 أكتوبر تلقيت أوامر من الجنرال »حاييم بارليف« بالتحرك بكل قوات المنطقة الجنوبية باتجاه ميناء الزيتية، أما طبيعة المهمة فتلخصت في الاستيلاء على الميناء والاتجاه صوب الأديبة، وتطهيرها من القوات الجزائرية، وإيقاع أكبر عدد ممكن من الجنود والقادة الجزائريين أحياء بناء على أوامر سياسية«. وقبيل استكمال شهادات »جونين«، أتوقف قليلا مع كتاب غولدا مائير »حياتي« التي أشارت فيه هي الأخرى لتلك العملية بالقول: »لقد هزت هزيمة الأديبة القيادات الإسرائيلية، وكنت أكثر ما أخشى أن تتسرب الحقيقة للمجتمع الإسرائيلي، فأمرت الجنرال موشي ديان الذي وضع خطة الهجوم على الزيتية بأن يصور عملية القضاء على القوات الجزائرية والتي قدرت بحوالي ثلاثة آلاف، على أن يوقع منهم من 10 إلى 50 أسيرا، لأواجه بهم الإعلام الذي بدأ يشتم رائحة الفضيحة«.
وأعود مرة أخرى لجونين الذي يقول: كان شارون يخضع لإسعافات في النقطة الطبية التابعة لقيادة المنطقة الجنوبية،
حيث أصيب رأسه في المعركة، أجريت له جراحة فخيط بثماني غرزات على ما أذكر، إلا أنه كان يحاصرني بجواسيسه الذين أخبروه باستعداد القوات للتحرك صوب الزيتية والأديبة، فدفع باب مكتبي بوقاحة وظل يضرب على المكتب بكفيه، قائلا: »أنا من سيتولى قيادة الهجوم’، فحاولت إفهامه برفق أنه مصاب ولايزال تحت وقع الصدمة، وأنني سأتولى قيادة الهجوم شخصيا، فتوجه نحو الهاتف واتصل بالجنرال ديان، قائلا له: هذا ثأري يا جنرال… هذه معركتي… لن يتولى سواي قيادة هذه العملية«، ثم ابتسم بشماتة وهو يعطيني سماعة الهاتف، ليأمرني الجنرال ديان بالامتثال لأوامر شارون، وهنا أدركت أنني أهنت لأبعد مدى، فقررت تقديم استقالتي على الفور، ويضيف جونين: لم أقدم على الاستقالة في أوج المعركة خوفا من العرب، ولكني أردت أن أتنحى جانبا عن العار الذي سيجلبه شارون لـ»إسرائيل«، فقد كانت هذه العملية في حاجة إلى قائد متزن ومحنك وشجاع أيضا، لكن شارون المغرور والجبان في نفس الوقت وضعته القيادة العسكرية فوق أعناق الجميع، وفوق »إسرائيل« نفسها.
الجزائريون يذلّون بطل المذابح
أترك جونين الذي انتهى دوره في المؤسسة العسكرية الصهيونية منذ تلك الواقعة، لأعود إلى »شفتاي تيبت« الذي يقول: بمجرد أن سمعت بأن شارون هو من سيتولى الهجوم على الزيتية خلعت شاراتي العسكرية، وطلبت من قادة المنطقة الجنوبية تقديمي للمحاكمة، فنصحني الجنرال جونين بالتراجع عن هذا القرار لأن توابعه خطيرة على مستقبلي، وأن المحكمة العسكرية لن ترحمني لأنه جاء وقت الحرب، وسيفسر على أنه هروب من الميدان أثناء القتال، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الإسرائيلي بالتجريد من كل الرتب العسكرية والحبس لمدة عشر سنوات، لكنني أخبرت الجنرال أنني أعلم ذلك، وتمسكت بقراري، وبالفعل قدمت للمحاكمة وجردت من رتبتي العسكرية، إلا أن ذلك كان بالنسبة لي أشرف من القتال تحت إمرة معتوه، رأيته بعيني يبكي كالأطفال في ساحات المعارك الحقيقية، ورآه العالم من بعد يضحك كالمجنون في معاركه ضد النساء والشيوخ.
الصاعقة الجزائرية تأسر 80 صهيونيا
الجزائريون والصهاينة وجها لوجه بالسلاح الأبيض
وحوش.. شياطين.. سحرة وقردة.. هذه بعض الأوصاف التي أطلقها الصهاينة على الجزائريين في ثاني مواجهة عسكرية معهم، إنها معركة الزيتية التي تخلى فيها المقاتلون العرب عن أسلحتهم الثقيلة، ليواجهوا بأجسادهم دبابات العدو ونخبة قواته.
الجيش الجزائري يحاصر القوات الإسرائيلية
قبل التعمق في البحث عما جرى في معركة »الزيتية« أو الثغرة الثانية، أتوقف للمرة الأخيرة مع المؤرخ »شفتاي تيبت« الذي يروي تفاصيل فرار شارون من القوات الجزائرية بعد هزيمته في »الأديبة«، تيبت أدلى بشهادته تلك أمام لجنة التحقيق »أجرنات«، فقال: أعترف أنني انسحبت من ميدان القتال في أشد اللحظات حرجا في تاريخ دولة »إسرائيل«.. لم تكن مبررات انسحابي بالهينة.. بل كنت أحاول أن أوصل صوتي من ميدان المعركة لقادتي في تل أبيب.. إنهم لا يرون ما أرى ولم يعايشوا ما عايشت.. لقد خدمت مع الجنرال شارون خمس سنوات فلم أر سوى شخص مجنون مصاب بعدة أمراض نفسية خطيرة.. ولم أره أكثر وضوحا إلا أثناء القتال.. إنه لا يفقه شيئا عن القيادة العسكرية.. في معركة الأديبة دفع زملائي حياتهم بسببه وسجل التاريخ هزيمة نكراء لـ»إسرائيل« كنا في غنى عنها.. كدت بل كاد هو أيضا أن يفقد حياته بسبب سوء تصرفه وعجزه عن القيام بواجبه العسكري.. وحينما علمت أن القيادة كلفته من جديد بقيادة هجوم الزيتية أدركت أن ثمة خطأ ما حاصل في غرفة القيادة، وأنه لا سبيل لتصحيح الخطأ إلا بإعلان التذمر ليفتح ملف التحقيق قبل فوات الأوان.. في الواقع لم أكن أريد أن أسجل اسمي في قائمة صانعي هزائم »إسرائيل«، لكنني أيضا لم أكن أريد أن تسير »إسرائيل« إلى حتفها على يد شارون.
ويضيف تيبت: في طريق انسحابنا من الأديبة كان شارون ينزف بشدة من رأسه.. كان قد أصيب بجرح بالغ وعميق، وخلال رحلة العودة الشاقة عرفته على حقيقته.. لقد تحول القائد الشجاع الشرس المقدام إلى طفل وديع.. أخبرني أنه سيطلق الحياة العسكرية ولن يعود مطلقا للقتال، وأنه تعلم أشياء كثيرة في الأديبة، حتى أنه أثنى على العدو.. وطلب مني ومن الجنود الثلاثة الذين نجوا من المذبحة أن نزيف حقيقة ما جرى لنا في المعركة، أمرنا بلطف أن نتحدث عن آلاف من العرب ومئات الدبابات والصواريخ المتطورة، وأننا قاتلنا بشجاعة وشراسة لكن العدو كان أكثر عددا وعتادا، وأخبرنا أن ما جرى لنا نستحق عليه التكريم وليس العقاب، ظننت أنه على حق وامتثلنا لأوامره، لكنني اكتشفت من بعد أنه كان يهذي وأن إصابته أثرت على مخه.. فبمجرد وصولنا لمقر قيادة المنطقة الجنوبية حاول التغلب على إعيائه وهزيمته وأخذ يرفع رأسه بشموخ لا يجرؤ المنتصر الحقيقي عليه، ولم تمر ساعات حتى عرفت أنه كلف من جديد لمعاودة الهجوم على نفس الموقع الذي هزمنا فيه، وعندما واجهته بما قاله لي أثناء عودتنا من الأديبة هددني بالقضاء على مستقبلي العسكري أو قتلي إذا أخبرت أحدا بما جرى.. لكنني كنت أشجع من تهديداته.. اعترفت بالحقيقة للجنرال »جونين« لكنه هو الآخر كان قد استقال، ليحل محله الجنرال »حاييم بارليف« الذي كان متعاطفا مع شارون في جنونه وغبائه ونفاقه.
القتل والذبح على يد "شياطين الظلام"
المؤلفان الصهيونيان »رونين برغمان« و»جيل مالتسر«، يكشفان في كتاب يحمل اسم »حرب يوم الغفران، اللحظة الحقيقية« عن وثائق سرية من أرشيف هيئة الأركان العامة والحكومة الصهيونية تفضح جزءاً مما حدث في معركة »الزيتية«، وفي الفصل الثالث من هذا الكتاب وتحت عنوان »الزيتية.. بئر الموت« يستهل الكاتبان بالقول: اعترافات الجنود والضباط الناجين من معركة الزيتية أمام لجنة الاستماع تكشف عن ارتكاب القادة العسكريين الإسرائيليين وكذلك القيادة السياسية لجملة من الأخطاء القاتلة، أدت في النهاية للهزيمة.. لقد اختصر القادة أهدافهم وخططهم العسكرية على إحداث فجوة في الجيش المصري، لم يكن هدفها الالتفاف على القوات المهاجمة بقدر إحداث ضجة إعلامية، تقلل من وقع الهزيمة عند الرأي العام الإسرائيلي، فمن الجانب العملي كانت هذه الخطة غير قابلة للتطبيق نظرا لتفوق العدو العسكري بدءا من اليوم الرابع للحرب، وتماسك خطوطه القتالية وتحكمه في زمام الأمور.. وقراءته الصائبة لرد الفعل الإسرائيلي.
ويضيف الكاتبان: نتيجة معركة الزيتية تمثل أكبر فشل تعرض له الجيش الإسرائيلي، لكن المؤسف أن صانعي القرار في »إسرائيل« لم يكتفوا بإخفاء ما حدث فيها، بل قدموها للشعب على أنها واحدة من إنجازات حرب الغفران، وربما استندوا في رأيهم هذا إلى عودة قرابة الخمسين في المئة من قواتنا سالمة، وهو ما لم يحدث في معركة الأديبة التي سبقتها بيوم واحد بنسبة خسائر مئة في المئة، هكذا إذن بلغ الطموح العسكري الإسرائيلي في القتال مع العرب.. التغني بالنجاة والتهليل للتقهقر والفرح لوقف إطلاق النار، وبالاطلاع على شهادات المشاركين في معركة الزيتية أمام لجنة الاستماع يتضح أن »إسرائيل« لم تنهزم فقط عسكريا، بل انكسرت انكسارا لا تكفي السنون لإصلاحه.
ويواصل الكاتبان قائلين: أحد الجنود المشاركين في هجوم الزيتية الفاشل يقول: لم نكن نحارب بشرا بل شياطين تظهر وتختفي.. قذائفنا لا تصل إليهم ونيرانهم تحرق كل شيء.
جندي آخر يقول: لم تكن هناك جبال ولا أحراش ولا حتى أحجار يختفون وراءها.. لم تكن هناك سوى الصحراء
والرمال.. حتى السماء كانت صافية ومبشرة بالنصر.. لم نر عدونا لكنه كان يرانا بوضوح.. يراقب تحركاتنا في صمت حتى أطبق علينا.. ظننت أن النيران تطلق علينا من السماء، أو من المدفعية بعيدة المدى.. تخبطنا وارتبكت صفوفنا.. ولم يكن لدينا الوقت الكافي لإعادة تنظيمها.. وفجأة وجدناهم في كل مكان.. يقفزون كالقردة لا تسترهم سوى سحب الدخان المتصاعد من آلياتنا، فوجدناهم فوق أسطح دباباتنا.. وفوق أعناقنا.. يطعنون ويذبحون بلا رحمة.. لقد كانوا متوحشين فوق الوصف.. وملامحهم مخيفة تزرع الرعب في القلب.. وحتى الآن لا أعرف من أين هبطوا لنا.. لا تفسير لديّ حتى الآن.
ويعلق الكاتبان: هذا جزء من شهادات عشرات الجنود الذين شاركوا في معركة الزيتية، وهذه الشهادات ليست أحسن حالاً من شهادات قادتهم في المعركة، فقد اخترقت الهزيمة قلوب الإسرائيليين وتركت جرحا غائرا في العقيدة القتالية للجيش الذي لا يقهر.
الصاعقة الجزائرية تحرق دبابات العدو
ويواصل الكاتبان في مؤلفهما الهام سرد اعترافات القادة الصهاينة في معركة الزيتية فيقولان: يقول الملازم أول »حنان تسائيف«: في مساء يوم التاسع من أكتوبر وبعد فقدان جيش المنطقة الجنوبية لعدد كبير من آلياته وجنوده في معركة الأديبة، بدأت عملية الدعم العسكري للقوات الجنوبية، وشمل الدعم لواء جولاني بكامل تجهيزاته، وكتيبتي مشاه ميكانيكا، ولواءين مدرعين أحدهما أمريكي، والآخر تم تجميعه من فلول قوات المنطقة الوسطى بسيناء، وكانت الدلائل تشير إلى أننا مقبلين على عملية كبيرة، فصدرت الأوامر في فجر العاشر من أكتوبر للاستعداد لتلقي الأوامر، وفي الثامنة صباحا تحركت كل القوات بقيادة الجنرال شارون باتجاه ميناء الزيتية، استغرق المسير قرابة الساعتين، وقبيل الزيتية بحوالي 12 كيلومترا اندلعت المعركة بشكل مفاجئ، حيث باغتتنا القوات الخاصة للعدو بطريقة لم نتوقعها أبدا، فالطريق كان سالكا والمنطقة مكشوفة من كل الجهات، ولم تكن هناك أية إشارة توحي بالخطر، لكن هذه القوات قامت بالاختفاء في حفر برميلية على شكل مربع ناقص ضلع، وما أن ولجت قواتنا فيه، حتى خرجوا من جحورهم ليقذفوا آلياتنا بمئات القذائف المضادة للدروع وصواريخ »ماليتيكا«، استمر القصف الصاروخي قرابة الساعة وكنا نرد على مواقع إطلاق الصواريخ لكن الغلبة كانت لهم، فتراجعت الدبابات بعدما تمكن جنود العدو من اختراق صفوفنا ومهاجمتنا عن قرب، لقد كانوا يتسلقون الدبابات ويفتحون أغطيتها العلوية ليفجروا أطقمها بالقنابل اليدوية، حتى أن بعض الدبابات وسط هذه الفوضى أطلقت النيران على بعضها البعض، فوقعت خسائر كبيرة، إضافة إلى أن قوات المشاة وجولاني كانت عاجزة عن التعامل مع العدو في ظل هذا الارتباك، فصدرت الأوامر بالانسحاب لإفساح المجال للقتال الفردي بين قواتنا وقوات العدو، في الوقت الذي اتصلنا بالقيادة نطلب الدعم الجوي.
ويضيف الكاتبان على لسان »تسائيف«: »لم تستجب القيادة لطلبنا وتركتنا نواجه مصيرنا بدم بارد«.
اشتباك بالأيدي والسلاح الأبيض
ويورد الكاتبان شهادة أخرى لأحد ضباط قوات »جولاني« ـ نخبة الجيش الصهيوني ـ، وللإشارة فإنه يهودي من أصل مغاربي، وهو المقدم »فايز كوكبي«، الذي يقول: للأسف تأهلنا في معاهدنا العسكرية على نظريات خاطئة دفعنا ثمنها في الزيتية، لقد أوهمنا قادتنا وأساتذتنا أن عدونا ضعيف وجبان ولا يجرؤ على مواجهتنا بشكل مباشر، لكنني اكتشفت في الزيتية مدى همجية ووحشية هذا العدو.. لقد كانوا دمويين لأبعد مدى.. كانوا يجتزون رؤوس الجنود ويتسابقون للالتحام بنا، لكنهم كانوا على درجة عالية من الكفاءة والتدريب، وكانوا يمتلكون مهارات عالية في مجال القتال الفردي، يجيدون استخدام السلاح الأبيض والاشتباك، وأيضا كانت لياقتهم البدنية عالية، وكان واضحا أن قادتهم لقنوهم أساليب كسر العنق والعمود الفقري، مما يدل على أنهم نالوا قسطا من التدريب على الرياضات القتالية، وكل تلك الأشياء لم تتوافر في معاهدنا ولم نتدرب عليها، وهنا برزت أخطاء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وظهر التفوق الحقيقي للعرب.. إن معركة الزيتية وبكل ما تحمله من ذكريات مؤلمة يجب أن تكون درسا لتصحيح أخطائنا، فالعدو يحسب لكل شيء حسابه، ويبتكر في أساليب القتال، في حين أننا لازلنا نهندس خططنا على الهجمات الخاطفة والتفوق التكنولوجي العسكري، وقد أثبتت حرب يوم كيبور أننا لم نكن نمتلك سوى السلاح، أما العدو فقد نجح في توظيف عقله وجسده ثم سلاحه.
السحر الأسود و"خبث" العرب
لاشك أن كتاب »حرب يوم الغفران، اللحظة الحقيقية«، يكشف بعض جوانب معركة الزيتية، لكن مذكرات »أهارون ياريف«، مدير جهاز الاستخبارات العسكرية الصهيونية الأسبق، تكشف تفاصيل أكثر دقة حول هذه المعركة.
»ياريف« يقول: حرب الغفران تكشف بجلاء عن خبث وخداع العرب، إنهم كالحرباء المتلونة، لم نتمكن من قراءة نواياهم قبيل الحرب وأثناءها، وفشلنا في ترجمة خططهم القتالية ـ وبعد سرده لعدة مواقع يدلل فيها على »خبث« العرب ـ على حد وصفه ـ يصل ياريف لمعركة الزيتية، فيقول ـ: لقد نجحت مخابرات العدو في كشف خطتنا، وبسرعة فائقة استعدوا لإفشالها، كانت أعداد دباباتنا وجنودنا تفوق عددهم وعتادهم، فشرعوا في تحصين الميناء وحركوا الكتائب المدرعة الجزائرية من الأديبة للزيتية، ووصلتني إشارة عاجلة تفيد بأن العدو يعلن حالة التأهب العسكري في الميناء، وفي تلك اللحظات أدركت أن العدو يعرف وجهتنا وأن الأديبة غير محصنة بالمرة، فأرسلت للقيادة إشارة أبلغهم فيها بحقيقة الموقف مرفقة باقتراح معاودة مهاجمة الأديبة، فعدلت القيادة على وجه السرعة الخطة، وقررت مهاجمة الزيتية والأديبة معا، على أن ينشطر جزء من القوات عند »مفرق عتاقة« ـ على بعد 12 كيلومترا من الميناءين ـ ويتجه للسيطرة على الأديبة ثم يلتف من الخلف على الزيتية لدعم القوات الرئيسية وتطهيرها والاستيلاء عليها، وهنا أتذكر ـ يقول ـ ياريف ـ الجنرال »حاييم بارليف« الذي خلف الجنرال »جونين« في قيادة المنطقة الجنوبية، أتذكر ضحكته العالية التي لاتزال تتردد في أذني ومقولته »لقد ابتلع العرب الأغبياء الطعم«، هكذا وتحت مظلة هذه المعلومات تحركت قواتنا، وانتظرنا بفارغ الصبر والثقة أول الأنباء عن سقوط الميناءين، لكن طال الانتظار ولم يصل هذا الخبر، بل وصلتنا أنباء السوء التي لم نكن نسمع سواها في تلك الأيام العجاف.
إسرائيل تركع للجزائريين لإطلاق سراح الأسرى
ويواصل ياريف قائلا: اكتشفنا أن العدو وضع خطة مغايرة، فقد أدرك مسبقا أن تحصين ميناء الزيتية وإمداده لن تحول دون سقوطه في يدنا، لقد اخترقوا عقولنا بطريقة لا تفسير لها سوى انهم استخدموا نوعا من السحر الأسود فسخروا شياطينهم لتخبرهم بكل كبيرة وصغيرة، وحتى لو كان هذا الاحتمال صحيحا، فكيف تمكنوا من نقل قواتهم بسرعة وسرية إلى موقع المعركة؟ ـ يتساءل ياريف ـ ثم يقول: لقد نقل العدو قواته الخاصة وكانت مشكلة من الكتيبتين 145 صاعقة مصرية وكتيبة صاعقة جزائرية إلى مفرق عتاقة، وهي نفس النقطة التي قررنا استخدامها لقسم القوات المتجهة للأديبة والزيتية، وعوضا عن تدعيم هذه القوات بالآليات والدبابات، قام بتزويدها بعدد كبير من مضادات الدروع والصواريخ والرشاشات الثقيلة، وأمر هذه القوات بحفر الأرض والاختباء بها، نظرا لأن المنطقة مكشوفة، وهو ما أوحى لقواتنا التحرك باطمئنان، وبهذا أنقذ العدو آلياته من دمار محقق في معركة محسومة لنا سلفا، وأمن الميناءين المستهدفين، لكن ما يثير الدهشة أن قيادة العدو وضعت جميع أوراقها في تلك الحفر، فبالنسبة لي وللقيادات الإسرائيلية عموما لا يمكن أن نعتمد على مثل هكذا خطة لمواجهة عملية بهذا الحجم، لكن ثقة العدو في قواته الخاصة والأسلوب الذي استحدثه في القتال جعلته يقدم على هذه الخطوة دون تردد، فقد نشر الكتيبة الجزائرية في الخطوط الأمامية لتضرب قواتنا من الخلف، ونشر الكتيبتين المصريتين في القلب والميمنة والميسرة، فوقعت عملية التطويق الخطيرة.
وقدر لخطة العدو أن تنجح، لتصبح صفحة سوداء في تاريخ العسكرية الإسرائيلية، فلم يسبق أن خسرنا قرابة اللواءين مدرعين ومئات القتلى و300 أسير في معركة واحدة، كما لم يسبق للعرب النجاح في التنسيق القتالي لهذا الحد، وبلغت الخسائر الحد الذي ركعت فيه »إسرائيل« وامتثلت لأوامر العرب، ففي مفاوضات تبادل الأسرى، كان هناك 80 أسيرا إسرائيليا لدى القوات الجزائرية، ورفضت القيادات الجزائرية تسليمهم، بالنظر إلى أننا ليس لدينا أسرى منهم، وبعد مفاوضات استمرت ليومين أصر الجزائريون على مقايضة الأسير بعشرة أسرى على نفس الرتبة العسكرية، فلم يكن أمامنا خيار آخر.
إسرائيل" تنكسر أمام صمود القوات الجزائرية
والفدائيون المصريون ينضمون لإخوانهم الجزائريين المدافعين عن مدينة السويس بأجسادهم العارية
تشققت الشفاه عطشا… تضورت الأمعاء جوعا… وخوت البنادق من الرصاص… وتحت حصار مطبق رفعت أيادي الأبطال راية الصمود… فغلب شوقهم للشهادة عن مؤامرات العدو، حتى جاءهم الغوث ليعيدوا الكرة… فكان النصر في واحدة من أروع ملاحم المسلمين.
سلاح الغدر والمكر آخر ما تبقّى في جعبة العدو
المؤرخ الإسلامي المصري »أحمد فؤاد« يقول في كتابه »تاريخ اليهود«: بعد سلسلة الهزائم التي مني بها اليهود شرق القناة، وبعد فشل كل المحاولات في إيقاف قوات المسلمين المتوغلة في عمق سيناء، بدأ العدو يستخدم سلاحه القديم المتجدد »الغدر« والذي لم يبق له سواه، فاتخذت المعارك الفاشلة التي خاضها من بعد من أساليب المكر والتحايل سبيلا لإحراز أي تقدم في الميدان… لكن…
ويضيف فؤاد: كان اليهود يعملون ليل نهار من أجل إعادة المسلمين مرة أخرى إلى غرب القناة، أي تدمير رؤوس الجسور واستعادة حصون خط بارليف والوقوف مرة أخرى على الضفة الشرقية للقناة، وتكبيد المسلمين قدرا هائلا من الخسائر المادية والبشرية وتلقينهم درسا قاسيا يحول بينهم وبين التفكير مرة أخرى في العودة إلى ميادين القتال.
وبدأت الهجمات المضادة اليهودية تأخذ شكلا جديدا، أي أصبحت أكثر قوة وأكثر إصرارا واندفاعا، لكن المسلمين صمدوا وتمكنوا من صد الهجمات المضادة، فكانت الخسائر البشرية اليهودية أكثر فداحة بالإضافة إلى الخسائر في الأسلحة والمعدات، وفي الوقت نفسه كانت القيادة اليهودية تناقش خطة الاندفاع شرقا من ثغرة الدفرسوار، أي من نقطة الفصل بين الجيشين الثاني والثالث للوصول إلى غرب القناة، فوضعت خطة العبور إلى الجانب الغربي للقناة وإنشاء رأس جسر، والانتشار على شكل مروحة باتجاه الشمال والاستيلاء على الإسماعيلية، ثم التقدم باتجاه القنطرة لفرض الحصار على الجيش الثاني الميداني، وباتجاه الجنوب والاستيلاء على السويس وبور توفيق والأديبة للقضاء على القوات العربية الموجودة بها والتي كانت تابعة للجزائر وذلك لفرض الحصار على الجيش الثالث الميداني، وبنجاح هذه القوات اليهودية بالتمركز في ظهر الجيشين الثاني والثالث، تسهل مهمة القوات التي ستضغط من اتجاه الشرق من أجل كسر إرادة القوات المدافعة وضرب معنوياتها في مقتل بالهجوم عليها من الشرق وقصفها من الغرب وإغلاق طريق الانسحاب باتجاه الغرب، إذا ما فكرت في ترك مواقعها، وعندما وصلت القوات اليهودية غربا تمكنت من تدمير عدد من مواقع صواريخ الدفاع الجوي، وبذلك فتحت ثغرة في حائط الصواريخ، سمحت للقوات الجوية اليهودية بالعمل ضد قوات المسلمين.
الإنتقام من الجزائريين أهم إستراتيجية صهيونية !!
ويضيف فؤاد: واجهت القوات اليهودية وهي تحاول الوصول إلى الإسماعيلية نيرانا هائلة وصمودا وإصرارا من أجل الحيلولة دون احتلال المدينة، كانت صورة الموقف واضحة، وبالرغم من افتقاد القوات الموجودة بالمنطقة للعناصر المدرعة المؤثرة، وللقوات الكافية، فإن الإصرار والحماس والعزيمة كانت من أهم عوامل إحباط محاولات اليهود المحمومة… وأخيرا، اضطر قادة العدو وقف الهجوم باتجاه الشمال، أمام حجم الخسائر البشع الذي لحق بجنودهم، واستدارت قوات العدو باتجاه الجنوب للاستيلاء على السويس متصورة أن خطة حصار الجيش الثالث قابلة للنجاح بثمن أقل من الثمن الذي دفعته وهي في الطريق إلى الإسماعيلية، وكان اليهود على بينة من أن الفرقتين المدرعتين 4 و21 الاحتياطي الاستراتيجي لقوات المسلمين، قد تحركتا شرقا للاشتراك في تطوير الهجوم، ولم يبق من الفرقة الرابعة المدرعة سوى لواء مدرع يقوده اللواء عبد العزيز قابيل قائد الفرقة، وأن هذا اللواء هو الذي أنيط به الدفاع عن المنطقة الممتدة من وصلة أبو سلطان شمالا حتى طريق السويس ـ القاهرة جنوبا، وأن الفرقة 6 المشاة الميكانيكية قد توزعت منذ بداية المعركة ولم يبق من الفرق المتكاملة سوى الفرقة 23 مشاة ميكانيكية وقوات أخرى محدودة.
وفي ظل هذه الظروف، انتقلت القوات اليهودية وهي تسابق الزمن، خاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار اعتبارا من يوم 22 أكتوبر، انطلقت من أجل احتلال السويس، لكن تلك القوات اندفعت بقوة في طريق مخالف للطريق المؤدي للسويس، وهو الطريق المؤدي إلى مشارف المدينة، فقد كان هدف اليهود محاصرة القوات الجزائرية وعزلها عن بقية قوات جيش المسلمين، فاليهود لم تغلب عليهم الأهداف الاستراتيجية قدر إشباع رغبتهم في الانتقام من رجال الله الذين نصرهم الله في الأديبة والزيتية.
غولدا مائير تشرف على عملية حصار القوات الجزائرية
يقول فؤاد: سرعان ما وصلت القوات اليهودية إلى مشارف السويس ليلة 22 ـ23 أكتوبر، أي بعد موعد وقف إطلاق النار، وأحاطت بها من طريق السويس ـ القاهرة الصحراوي، وطريق المعاهدة الذي يصل إلى الإسماعيلية وطريق الزيتية والطريق المؤدي إلى الجناين.
وتمكنت هذه القوات من فرض الحصار على ميناء الأديبة، واحتلت منطقة مصانع تكرير البترول بالزيتية، وأصبحت القوات المسلمة التابعة للجزائر محاصرة تماما من كل الجهات، وبعد ساعة واحدة وصلت طائرة عمودية تقل »غولدا مائير« رئيسة الوزراء وموشي ديان وزير الدفاع ودافيد أليعازر رئيس الأركان إلى المنطقة المحيطة بقوات الجزائريين، فهبطت على مقربة من الزيتية، وكانت قبل الهبوط قد طافت فوق المنطقة لاستكشاف أوضاع وانتشار قوات الجزائريين ومدى إطباق الحصار عليها، وبعد أن وطأت أقدام المسئولين اليهود أرض المنطقة بعد تأمينها تماما، بدأت كاميرات المصورين تدور وتلتقط الأفلام التلفزيونية وآلاف الصور، ودارت عجلة الإعلام اليهودي للإعلان عن سقوط السويس وإبادة كل قوات المسلمين بها و»تطهير« الزيتية والأديبة تماما من القوات الجزائرية، وطوال هذا اليوم وقنوات العالم تعرض صورا غريبة لقتلى وأشلاء مرفقة بتعليقات يؤكد فيها اليهود أنهم قضوا خلال أقل من ساعة على ثلاثة آلاف جزائري وألفي مصري، وفي الحقيقة لم تكن تلك الصور سوى بعض اللقطات المكدسة في الأرشيف اليهودي لاستخدامها في مثل هذه الظروف، ومنّى اليهود أنفسهم بأن القوات المسلمة المحاصرة لن تصمد كثيرا وسيدفعها الجوع والموت لرفع الراية البيضاء… لكن هيهات… فقد باعد الله بين أمانيهم وركوع المسلمين بُعْدَ المشرق والمغرب.
أترك »أحمد فؤاد« قليلا، لأتوجه لـ»أبا إبيان«، وزير الخارجية الصهيوني خلال حرب أكتوبر، والذي يقول في مذكراته: كانت غولدا مائير تريد الانتقام بأي ثمن من القوات الجزائرية المنتشرة في السويس، لدرجة أنها ذهبت بنفسها لأرض المعركة لتعطي التعليمات لشارون وأدان لـ»تأديب« هذه القوات، وهو ما أثر على نجاح الخطة التي وضعت لاحتلال السويس وتطويق المصريين بالشكل الذي أفشل كل الخطط الإسرائيلية في الحرب.
ويضيف »أبا ابيان«: كانت خطة حصار القوات الجزائرية من أسوإ القرارات التي اتخذتها القيادات الإسرائيلية، فتلك القوات صمدت صمودا عجيبا، ولم تحاول القوات الإسرائيلية كسر حاجز الصمت لتهاجم هذه القوات خوفا من تكرار ما حدث في الأديبة والزيتية، لكن العدو شمّ رائحة الخوف، وانقض على قواتنا من الخلف فباتت محاصرة من قبل القوات المصرية من الشمال والجزائرية من الجنوب، ولولا قرار وقف إطلاق النار لوقعت كارثة جديدة تضاف لسجل كوارث كيبور.
المواطنون المصريون ينضمّون للقوات الجزائرية المحاصرة
أعود مرة أخرى للكاتب »أحمد فؤاد« الذي يقول: عزيمة الرجال تغلبت على تفوق العدو وغروره، لكن الكذب في العقيدة اليهودية واجب ديني مقدس، فقد تواصلت الدعاية الكاذبة وتواصل الحديث عن سقوط السويس وهزيمة المسلمين، لكن غرض هذا الكذب كان في غاية الأهمية بالنسبة للعدو، فميعاد قرار وقف إطلاق النار بدأ سريانه، فأراد اليهود إقناع العالم أنهم استولوا على المدينة التي تمثل هدفا استراتيجيا، كما أنها تعني استكمال حصار وتطويق الجيش الثالث، بالشكل الذي يعمل على إقامة نوع من التوازن الاستراتيجي الذي افتقده اليهود بعد انتصار المسلمين، وبصورة أخرى كان اليهود يسعون لخداع المسلمين لتخور عزائمهم بعد أن يتأكدوا بأن جيشهم مطوق ومقطوعة عنه الإمدادات.
وكان في تصور اليهود وهم يعلنون عن سقوط السويس أن إنجاز هذا الهدف بات قريبا، وانه في متناول يد قواتهم، لكنه لم يكن سوى الثمرة المحرمة، فقد انقض عليهم أهالي مدينة السويس، فلم تكتف بصد محاولات اقتحامها، بل وطاردوا العدو على مشارف المدينة ومن حولها، فدمروا للعدو 103 دبابة وكبدوه 280 قتيلا، في الوقت ذاته تقدمت المجموعة رقم 39 صاعقة بقيادة الشهيد العقيد »إبراهيم الرفاعي« لتكسر الحصار المفروض على القوات الجزائرية، فتصدى 50 رجلا لمدرعات العدو وقاتلوا ببسالة حتى استشهدوا جميعا بعد أن نجحوا في فتح ثغرة كبيرة في صفوف اليهود مكنت المقاومة الشعبية الباسلة من التدفق من خلالها لتنجح في تشتيت قوات العدو، وإيصال المؤن والذخيرة للقوات الجزائرية وتدعيمها بأعداد أكبر للذود عن مواقعهم وللحيلولة دون انسحابهم وترك الباب مفتوحا لليهود من جهة الجنوب.
وخلال أربعة أيام من أعظم الأيام المشرفة في تاريخ المسلمين، باتت الزيتية ساحة إلتأم فيها شمل الأمة لقتال عدوها الأبدي، فشارك الجميع في القتال، قاتل المدنيون وقاتلت المقاومة الشعبية، ورجال منظمة سيناء الذين دربتهم وسلحتهم المخابرات الحربية المصرية، وقاتل رجال الشرطة.
أما العبء الأكبر في القتال فقد وقع على كاهل الجيش دون النظر لجنسية أفراد هذا الجيش، فقد حمى الجزائريون مدخل السويس الجنوبي، في حين قامت قوات الفرقة 19 مشاة المصرية بتأمين رأس جسر الجيش الثالث شرق القناة .
ويضيف فؤاد : أذكر بعد الحرب بعض الشهادات لأبطال المقاومة الشعبية بمدينة السويس حينما أنقذوا أشقاءهم الجزائريين من المؤامرة اليهودية، فقد قال لي »عبد المنعم جمعة«: كانت أسعد لحظة في حياتي حينما نجحت في إيصال عربة »زيل« محملة بالسلاح والذخيرة والطعام والشراب لإخواننا الجزائريين، كانت طائرات العدو تحوم كالغربان في السماء، لكن العناية الإلهية أعمت أبصارهم عني، وصلت لأجد الجزائريين في حالة انتظار وترقب لهجوم العدو، كانوا لا يملكون شيئا للدفاع عن أنفسهم، لا شربة ماء ولا رغيف خبز، نفدت ذخيرتهم وخارت قواهم، ورغم ذلك آثروا الشهادة على الاستسلام، كانوا رجال معارك بحق، وكانوا أولي عزم.
المهندس "صبري الفولي" الذي كان أحد أفراد المقاومة الشعبية بالمدينة أثناء حرب أكتوبر. قال: كُلّفت أنا وسبعة عشر رجلا من المجاهدين بفتح وتأمين طريق لخمسمائة مجاهد مدربين على استخدام الآر.بي.جي والرشاشات الثقيلة بالإنضمام للقوات الجزائرية في الزيتية فوصلنا جميعا بأمان، وقبيل ذلك أمرتنا قيادة المقاومة الشعبية أوامر واضحة… الدفاع حتى الموت عن مواقع القوات الجزائرية وتقليل الخسائر البشرية في صفوفها بأي ثمن… وكانت الأوامر تقتضي أن ننضوي تحت قيادة القوات الجزائرية وتنفيذ ما يأمروننا به، فعشت أياما مجيدة تأبى الذاكرة محوها، كان الجزائريون مخلصين وأوفياء بصورة لم نعهدها عن العرب من قبل، فالانطباع الشائع لدينا أن العرب يكرهون مصر ويحقدون على المصريين، فأكتشفت أنها أكاذيب لم أكلف نفسي عناء البحث عن مروجها، والغريب أن أصدقائي الجزائريين أخبروني بأن لديهم نفس الإنطباع تقريبا، المهم أننا توزعنا على السرايا الجزائرية واتخذنا مواقع دفاعية مترقبين أي هجوم للعدو، لكن العدو ظل مختبئا كالفأر على بعد كيلومترات من مواقعنا، فكانت لدينا الفرصة لتبادل الأحاديث فتعرفت على الجزائريين بشكل أكبر، فوجدتهم سباقين للشهادة ومستعدين للموت من أجل راية الإسلام، كونت عديد الصداقات مع الجزائريين، ولازالت الاتصالات بيننا حتى الآن، بعضهم يحرص على زيارتي على الأقل مرة في العام، وبعضهم الآخر جاءوا بعائلاتهم واستقروا في مصر، وحتى اليوم نجلس في جلسات عائلية نروي لأولادنا قصص الجهاد في ميدان جمعتنا فيه البندقية وظللتنا راية لا تعترف بالحدود ولا الجنسية .