والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركته
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملَك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلَّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته) [مسلم].
عندما تقرأ هذه السورة العظيمة سبع مرات بشيء من التدبّر إنما تقوم بإيصال رسالة إيجابية إلى عقلك الباطن كل يوم سبع مرات مفادها أن الحمد لا يكون إلا لله تعالى لأنه رب هذا الكون ورب العالم ورب العالمين، فهو أكبر من همومك ومشاكلك، وهو الرحمن الرحيم الذي تحتاج لرحمته. يقول علماء البرمجة اللغوية العصبية إن أهم شيء لتحقيق النجاح أن تحس بأنك فعلاً إنسان ناجح وقوي وتنمّي هذا الإحساس في داخلك حتى يصبح جزءاً منك عزيزي القارئ أليست قراءة القرآن تقوم بهذا الغرض؟ أليس تدبر آيات القرآن يقوي لديك الإحساس بالنجاح في الدنيا والآخرة ويقوي إحساسك بأن الله تعالى معك في ثانية ولن يتخلى عنك؟
للتواصل مع الله!!!
ولذلك كنتُ حريصاً دائماً على أن تكون علاقتي مع الله قوية أولاً ثم ألتفت إلى الناس، ولكن للأسف أصبحت هذه القاعدة معكوسة اليوم، فتجد كثيراً من النّاس يسارعون إلى تقوية علاقتهم مع أناس ضعفاء مثلهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وينسون خالق السموات السبع تبارك وتعالى!
سبحان الله العضيم ما اعضمك يا سورة الفاتحة
شكرا لك يا حمزة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
الصـداقة في الإسـلام:
لقد اهتمّ الإسلام اهتماماً كبيراً بتركيز العلاقات الإنسانية على أساس ثابت يخدم عقل الإنسان وقلبه وحياته، لأنّ علاقة الإنسان بالإنسان تترك تأثيرها على الكثير من جوانب حياته الداخلية والخارجية، باعتبار أن طبيعة العلاقة تخلق جواً من الإلفة والمحبّة والحميمية، بما يجعل الإنسان ينجذب إلى الآخر انجذاباً عقلياً وشعورياً. ولهذا فقد تحدّث الإسلام في الكتاب والسنّة عن مسألة الصداقة فيما يحتاجه الإنسان إلى هذه العلاقة، باعتبار أن الصداقة تمثّل حالة من التعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان، بحيث يكون موضع سرّه وأمانته وأنسه، لأنّ الإنسان لا يطيق الوحدة، بل يحبّ أن يعيش مع الآخر لأنّه اجتماعيّ الطبع.
وربما كانت علاقة القرابة لا تملأ كلّ ذات الإنسان، فقد يحتاج إلى من يكون قريباً له في العقل وفي الروح ممّن يمكن أن تكون قرابته أكثر من قرابة النسب، لأنّ قرابة النسب تمثّل هذا التواصل في الآباء والأجداد، وربّما لا يحمل التواصل بين هؤلاء في داخله تواصل العقل بالعقل والقلب بالقلب والروح بالروح، ففي الحديث عن الإمام علي(ع): "ربّ أخٍ لم تلده أمك".
الصداقـة في القـرآن:
وعلى ضوء ذلك، ولخطورة تأثير الصديق على الصديق، أراد الله من الإنسان أن يعرف كيف يختار صديقه، وقد تحدّث الله سبحانه وتعالى عن الصداقة بشكلها الإيجابي، كما تحدّث عنها بشكلها السلبي في كتابه المجيد. أما الصداقة في شكلها الإيجابي فهي الصداقة المبنيّة على التقوى، وهي أن تصادق الإنسان الذي يعيش تقوى الفكر فلا يفكّر إلا حقاً، وتقوى القلب فلا ينبض قلبه إلا بالخير، وتقوى الحياة، فلا تتحرّك حياته إلا في الخط المستقيم. وإذا كان الإنسان تقيّاً فلا بد أن يكون ناصحاً لصديقه، لأن الدين النصيحة. ولا بدّ أن يكون الوفيّ لصديقه، لأنّ الوفاء يمثّل عنصراً من عناصر الإيمان، وإذا كان الإنسان تقياً، فلا بدّ أن يعين صديقه وأن يساعده وينصره وأن يؤثره على نفسه، لأن ذلك من عناصر أخوّة الإيمان، ولهذا حدّثنا الله سبحانه وتعالى أنّ صداقة التقوى تتحرّك في الحياة، لأن علاقة مبنيّة على التقوى هي علاقة تبدأ بالله وبرسوله وبأوليائه، وترتكز على قاعدة الإسلام في عقائده كلّها وشرائعه ومناهجه وأهدافها، فما دمت مسلماً تقياً، فإنّ هذه هي العروة الوثقى التي لا تنفصم، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان الذي يسلم وجهه لله وهو محسن المستمسك بالعروة الوثقى.
ثم يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن أنّ هذه الصداقة سوف تستمر إلى الآخرة، لأنّ صداقة الدنيا التي ترتكز على قاعدة الإيمان بالله وتقواه تجد مكانها الرحب في الآخرة، لأن الآخرة هي مواقع رضوان الله ونعيمه. وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {الأخلاّء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف:67]. فالمتقون هم الذين تبقى صداقتهم وخلّتهم خالدة لأنها انطلقت من الموقع الثابت، فلا زوال لها بالموت، بل تمتدّ لتكون حياة المحبة في الدار الآخرة كما كانت حياة المحبة في دار الدنيا.
الأصدقـاء في الآخـرة:
ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه الصداقة في الآخرة، وذلك عندما يلتقي أصدقاء التقوى وأصدقاء الإيمان في الجنة {ونزَعْنا ما في صدورهم من غلّ} فقد جاءوا إلى الآخرة وليس في قلوبهم أيّ حقد، بل كانت المحبّة تغمر قلوبهم، لأنّ محبة الإنسان لله تجعله يحبّ الناس الذين يلتقي بهم ليتعاون معهم، ويحبّ الناس الذين يختلف معهم ليهديهم، ولذلك فأن تكون مؤمناً يعني أن تغمر المحبّة قلبك، فلا مكان للحقد فيه. وهذا ما تعلّمناه من رسول الله(ص) عندما كان يواجه قومه وهم يؤذونه وهو يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون". فالذين لا يحملون الغلّ في قلوبهم هم الأتقياء حقاً، الذين يحبّون الله سبحانه وتعالى، فيحبّون خلقه: "الخلقُ عيال الله وأحب الخلق إلى الله مَن نفع عيال الله وأدخل على بيت سروراً".
{إخواناً على سررٍ متقابلين} [الحجر:47]. متحابّين، متحادثين، يعيشون سعادة الإيمان ورضوان الله أكبر {ورضوانٌ من الله} [آل عمران:15].
مـن نصـادق:
ونرى أنّ القرآن أيضاً يؤكد على المجتمع الذي تصادقه وتعيش معه، فمن هم هؤلاء الذين تعيش معهم وتصادقهم؟ {واصبر نفسك} والحديث هنا مع رسول الله(ص) والله سبحانه وتعالى يخاطب الناس بأسلوب خطابه للرسول(ص) ليعرف الناس أهمية هذا الخطاب، لأنّ الله إذا كان يطلب أمراً من رسوله(ص) وهو حبيبه وأقرب الخلق إليه، فكيف لا يطلبه من الناس؟ فمعنى ذلك أنّ لهذا الأمر أهمية بالغة عند الله سبحانه وتعالى: {واصبِر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك تريد زينة الحياة الدنيا ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرُطاً} [الكهف:28]. أي صادق الذين يخلصون لله ويعبدونه ويبتهلون إليه، لأنّ هؤلاء هم الذين يزيدون إيمانك وهم الذين يحفظون لك ودّك ويفون لك الوعد والعهد.
قيمـة الصـديـق:
ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن قيمة الصديق من خلال نداء أهل النار عندما يدخلونها..ما هي استغاثتهم هناك؟ {فما لنا من شافعين* ولا صديق حميم} [الشعراء:100ـ101]. ويتحدث الإمام الصادق(ع) عن هذه الآية فيقول: "لقد عظمت منـزلة الصديق حتى أنّ اهل النار يستغيثون به ويدعون به في النار قبل القريب الحميم، قال الله مخبراً عنهم: {فما لنا من شافعين* ولا صديق حميم}" ومعنى ذلك أنّ الصديق الحميم هو الذي يفي لك، وهو الذي يعينك، حتى أن أهل النار يتلفّتون يميناً ويساراً ويتطلّعون إلى من كانوا يصادقون من أمثالهم فلا يرون أحداً فيتساءلون: أين هو الصديق الحميم؟ فهم يعرفون أنّ صداقة غير المؤمنين صداقة لا ترتكز على أساس، فهي لا تمتدّ بأصحابها إلى الآخرة {الأخلاّء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوّ إلا المتقين}.
أصدقـاء السـوء:
ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الأصدقاء في الجانب السلبي، هؤلاء الذين يعيش الإنسان في الآخرة في حسرة من صداقته لهم، فسبحانه وتعالى يقول: {ويوم يعضّ الظالم ـ والمراد بالظالم الذي ظلم نفسه بالكفر أو بالضلال والمعصية ـ على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسول سبيلاً ـ يا ليتني عشت في خط الرسول(ص) وكان لي طريق إليه وإلى رسالته فيما تمثّله من الهداية إلى الله ـ يا ويلتي ـ فينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور ـ ليتني لم أتّخذ فلاناً خليلاً ـ أي ليتني لم أتّخذ فلاناً صديقاً. وتسأله: ماذا فعل بك فلان؟ فيجيبك ـ لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني ـ فلقد جاء ذكر الله على لسان رسول الله(ص)، وكان عقلي وقلبي منفتحين عليه، وكان قلبي منفتحاً عليه، وجاء هذا الرجل فكان حاجزاً بين عقلي وقلبي وذكر الله، فانحرف بعقلي وقلبي عن مسارهما. ثم عندما واجهت الموقف المصيري خذلني ـ وكان الشيطان ـ شيطان الجنّ أو شيطان الإنس لا فرق ـ للإنسان خذولاً} [الفرقان:27 ـ 29].
ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن طريقة الشيطان في التسويل للإنسان وخذلانه فيقول: {كمثلِ الشيطان إذ قال للإنسان اكفُر فلمّا كفر قال إني بريءٌ منك إني أخاف الله ربّ العالمين} [الحشر:16]. وفي يوم القيامة يقف الشيطان يتحدّث بطريقة أخرى ليدافع عن نفسه وليحمّلهم المسؤولية كاملة {وقال الشيطان لما قُضِي الأمر إن الله وعدكم وعد الحقّ ـ فقد قال لهم: {وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتّقين} [آل عمران:133]. وها أنتم ترون المتقين كيف يسيرون إلى الجنّة ـ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ـ لأنّ مهمتي هي أن أعد فأخلف، وأن أوسوس، وأزيّن القبيح وأقبّح الحسن، لأنّ العداوة قد نشأت بيني وبينكم منذ أبيكم آدم وأمّكم حواء، وقد قال الله لكم: {إنّ الشيطان لكم عدو ـ فماذا يصنع العدو مع عدوّه؟ ينصحه أو يغشّه؟ ـ فاتّخذوه عدوّاً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر:6] ـ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ـ {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتّبعك من الغاوين} [الحجر:42] ـ فلا تلوموني ـ فمنذ البداية قلت لله {قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف:16ـ17]. فوظيفتي وهدفي كانا منذ البدء واضحين، فلقد أردت بغوايتكم التنفيس عن حقدي وثأري من أبيكم آدم ـ ولوموا أنفسكم ـ فلقد أعطاكم الله عقلاً وأرسل لكم رسلاً وزوّدكم بإرادة وهداكم النجدين، فلماذا لم تنطلقوا في طريق الجنّة، بل انطلقتم في طريق النار وأنتم تعرفون أنّ حزبي هو حزب أهل النار ـ ما أنا بمصرخكم ـ فلو أنّكم صرختم لما أغثتكم ـ وما أنتم بمصرخي ـ ولو صرخت فلن تغيثوني، فلكل يومئذٍ شأن يغنيه ـ إني كفرت بما أشركتموني} [إبراهيم:22]. فأنا أكفر بشرككم بأن تجعلوني شريكاً لله تعالى.
الصداقة في أحاديث المعصومين(ع):
ومن خلال ذلك كلّه، نجد أنّ هذه الآية تعطي وحياً لأحاديث كثيرة، فهناك حديث للرسول(ص) يقول فيه: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"، باعتبار أنه يأخذ من دينه من جهة المؤثرات التي تؤثرها الخلّة والصداقة في نفس الشخص الآخر، فإذا أردت أن تصادق فعليك أن تدرس دين من تصادقه، حتى تعرف أنّ من تصادقه لن يضلّك عن دينك، بل قد يقوّي لك دينك. والصداقة أيضاً وسيلة من وسائل الحكم على الأشخاص، فإذا أردت أن تحكم على شخص، سواء كان هذا الحكم إيجابياً أو سلبياً، فما هي القاعدة التي ترتكز عليها في الحكم عليه؟ فعن سليمان بن داود: "لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب". أي قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وألوانه لأنّ كل شكل لشكله ألِفُ.
وجاء في الحديث عن الرسول(ص) أيضاً: "اختبروا الناس بأخدانهم"، أي بأصدقائهم، فالخدين هو الصديق، فإنما يخادن الرجل من يعجبه، بحيث إنّك عندما تنجذب إلى شخص إنما تنجذب إلى خصائصه لأنها تلتقي مع خصائصك، ولأنّ عناصره تلتقي مع عناصرك.
فعن الإمام علي(ع): "النفوس أشكال فما تشاكل منها اتفق، والناس إلى أشكالهم أميل"، ويقول الإمام علي(ع) أيضاً فيما روي عنه:"فساد الأخلاق معاشرة السفهاء، وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء، والخلق أشكال، فكلّ يعمل على شاكلته، والناس إخوان، فمن كانت أخوّته في غير ذات الله فإنّها تحوز عداوة، وذلك قوله تعالى: {الأخلاّء يومئذٍ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين}.
ويحدّثنا القرآن الكريم عن قريب السوء عندما تحين ساعة الحساب أو العذاب {قال قائل منهم إني كان لي قرين* يقول أئنّك لمن المصدقين} أي أنّ هذا الرجل عندما كان في ساعة الحساب أو عندما أدخل النار أراد أن يجد لنفسه عذراً فقدّم تقريراً عن خلفيّات كفره باليوم الآخر. فهذا القرين كان يقول له هل تصدّق هذه الخرافة؟ وأية خرافة؟ {أئِذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنّا لمدينون} أي هل أنّنا إذا متنا سوف ندان ونحاكم ونجازى؟ {قال هل أنتم مطّلعون} أي هل ترون القرين؟ {فاطّلع فرآه في سواء الجحيم} [الصافات:51ـ53]. فاختر أصدقاءك من أهل النعيم لا من أهل الجحيم، فإنما يعرف الناس بالإيمان وبالعمل الصالح.
ويحدّثنا القرآن عن مشاعر الإنسان يوم القيامة عندما يرى قرين السوء {قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} [الزخرف:38]. فيا ليتني لم أرك بحيث تكون المسافة بيني وبينك بعيدة جداً، إلى حد لا أراك فيها، فأذكر كيف كنت توسوس لي وتضلّني حتى وصلت إلى هذا المصير المحتوم في نار جهنم. ويحدثنا الله سبحانه وتعالى عن موقف قرين السوء عندما يبدأ الحساب، وقد قدّم الإنسان إلى المحكمة بين يدي الله، فيحاول هذا الشخص أن يقدّم عذره ليحمّل قرينه الذي كان إلى جانبه مسؤولية ضلاله {قال قرينه ربنا ما أطغيته ـ فأنا لا أتحمّل المسؤولية ـ ولكن كان في ضلال بعيد ـ فهو يسيء ولا دخل لي في اجتذابه، فما ضغطت عليه ولا أكرهته على ذلك، فهو صاحب عقل يفكّر ـ قال لا تختصموا لديّ ـ فقد صدر الحكم ـ وقد قدّمت إليكم بالوعيد* ما يبدّل القول لديّ ـ فالله سبحانه وتعالى يقول أن لا خصام في اليوم الآخر ـ وما أنا بظلاّم للعبيد* يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} [ق:27ـ30]. والله سبحانه وتعالى يحدثنا عن الأشخاص الذين يحيطون به وهم قرناء السوء {وقيّضنا لهم قرناء فزيّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} [فصلت:25]. صحيح أن الله سبحانه وتعالى ينسب الأمر إلى نفسه في هذه الآية، ولكن ليس معنى ذلك أنه أرسل إليهم قرناء السوء، ولكنهم عندما يتحرّكون من خلال ما أعطاهم الله من إرادة واختيار، فإنهم يتحملون مسؤوليتهم في اختيار قرنائهم. وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى أراد لنا من خلال ذلك أن نختار القرين الذي يمكن له أن يعيننا على الطريق الصحيح بدلاً من القرين الذي يدفع بنا إلى الطريق المنحرف.
اختبـار الصديـق:
ويحدّثنا الإمام الصادق(ع) عن بعض العلامات التي يختبر فيها الإنسان صديقه: "من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك شراً فاتخذه لنفسك صديقاً". فقد تحدث بين الأصدقاء مشاكل وخلافات تجعل أحدهما يغضب من الآخر، لكنّه يبقى على خطّ المودّة، فلا يحاول أن يتكلّم عنك بالشرّ، فإذا حصل ذلك لمرات ثلاث فاعتبره متوازناً وأنه يملك قاعدة أخلاقية فلا يدفعه غضبه إلى أن يقول ما ليس له بحقّ.
وقد ورد في الحديث عنه(ع): "لا تسمّ رجلاً صديقاً سمة معروفة حتى تختبره بثلاث، فتنظر غضبه يخرجه من الحقّ إلى الباطل، وعند الدينار والدرهم ـ أي هل يخونك أو يكون أميناً على الدينار والدرهم؟ فقد لا تكون عنده قيمة للدينار والدرهم، بل القيمة عنده في الصداقة ـ وحتى تسافر معه"، لأنّ السفر يمثل التعب الذي ربما يخرج الإنسان عن توازنه، فإذا بقي في خطّ التوازن فإنّ معنى ذلك أنه ينطلق من قاعدة أخلاقية رصينة.
أصـدقـاء إيجابيـون:
وقد ورد بعض الأحاديث عن الذين نتخذهم أصدقاء، فعن الصادق(ع): "إصحب من تتزيّن به ولا تصحب من يتزيّن بك"، أي صاحب من تستفيد منه ومن يكون في صحبتك له زينة لك من خلال علمه وأخلاقه، لا الشخص الذي يعتبر نفسه صديقاً لك ولكنه ليس في مستوى الصداقة.
ومن مواعظ الحسن بن علي(ع) في آخر لحظات حياته، قال لجنادة في مرضه الذي توفي فيه: "إصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك ـ في الدفاع عن نفسك ـ وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدّها، وإن رأى منه حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك، وإن نزلت إحدى الملمّات بك ساواك".
وعن علي(ع): "أكثر الصواب والصلاح في صحبة أولي النهى والألباب". وعنه(ع): "صاحب الحكماء ـ بحيث يعطيك من حكمته حكمة ـ وجالس الحلماء ـ وهم الذين يملكون سعة الصدر ـ وأعرض عن الدنيا تسكن جنّة المأوى"، وعنه(ع): "عجبت لمن يرغب في التكثّر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألبّاء الأتقياء الذين يغنم فضائلهم، وتهذّبه علومهم، وتزيّنه صحبتهم". وقال(ع): "من دعاك إلى الدار الباقية ـ أي انفتح بك على الآخرة ـ وأعانك على العمل ـ الذي يرضي الله سبحانه وتعالى ـ فهو الصديق الشقيق". لأنه هو الذي يؤدّي إلى نجاتك وحسن سلامة مصيرك.. وعنه(ع): "قارن أهل الخير تكن منهم ـ أي اقترن بهم وصاحبهم ـ وباين أهل الشر ـ أي ابتعد وافترق عنهم ـ تبن عنهم".
ويبقى للحديث بقية في الكثير من شؤون الصداقة، لأن ذلك يدخل في الصميم من حياتنا..
والحمد لله رب العالمين