المحور: في ادراك العالم الخارجي
المجال: في الذاكرة و الخيال
المقدمة: (طرح الاشكالية)
يمتاز الانسان عن بقية الكائنات الاخرى بالقدرة على استخدام ماضيه والاستفادة منه للتكيف مع مايواجهه من ظروف في حياته ،فهو لا يقتصر على المعطيات الراهنة المتمثلة في عناصر المشكلة الماثلة أمامه وفي الامكانيات الحاضرة التي تثيرها فينا طبيعة هذه المشكلة الجزئية الخاصة بحيث يكون سلوكه تجاهها مجرد رد فعل حتمي تمليه عليه الغرائز أمام المثيرات الراهنة، بل غالبا ما يعمد الى الاستعانة بتجارب ومكتسات الخبرة الماضية و استرجاعها كلما اقتضت الحاجة للاستفادة منها . هذه الاخير يعرف في الادبيات النفسية بالتذكر، وهو عملية قائمة على الجمع بين الماضي والحاضر في دائرة واحدة، كما يمكن للأنسان وهو يقوم بعملية التذكر التصرف في هذه الذكريات بالاضافة احيانا أو بالحذف احيانا أخرى ، بالاضافة الى أن له القدرة على تجاوز الحاضر والماضي معا، فالانسان كما هو مفطور على ملكة التذكر فهو أيضا مفطور على ملكة التوقع على حد تعبير كولن ولسن، والذي يقوم بهذه العملية المركبة وظيفتان نفسيتان وعقليتان هما التذكر والتخيل اللتان ترتبطان معا وتتدخلان، إذ لا يمكن أن نستغني عن بعض التذكر ونحن بصدد التخيل ، والعكس صحيح ، ولسنا في غنى عنهما ونحن ندرك موضوعات العالم الخارجي.
وانطلاقا من هذا التداخل بين الوظيفتين نتسأل:
ماهي الذاكرة؟ وما طبيعتها؟
وإذا كنا لا نستغني عن العالم الخارجي في نشاطاتنا الذهنية، فإننا في استحضار ذكرياتنا وتحريك خيالاتنا، نبني ونبدعن ولكن لماذا لا يسعنا في بنائنا أو إبداعنا، إعادة معطيات الماضي ولا مدركمات الحاضر كما هي؟
***1030;– كيف يمكن اعتبار التذكر استعادة لما هو ماض من أجل إعادة بناء ما هو راهن؟
ظبط المفاهيم
يعرفها جميا صليبا:" هي القدرة على إحياء حالة شعورية مضت، وانقضت مع العلم والتحقق أنها جزء من حياتنا الماضية.."
يعرفها "جورج ميلر" الذاكرة :" حفظ واستبقاء المهارات والمعلومات السابق اكتسابها" واسترجاعها وقت الحاجة
ومعنى هذا : أن الذاكرة هي مستودع الذ كريات والمعلومات والمعارف التعليمية والمهارات الحركية والاجتماعية المختلفة
أما لالاند في معجمه الفلسفي فيعريفها :" بأنها وظيفة نفسية تتمثل في اعادة بناء حالة شعورية ماضية مع التعرف عليها من حيث هي كذلك "
تعريف عام : هي وظيفة ذهنية تعمل على حفظ الخبرات الماضية، والقدرة على اعادة إحياءها و استرجاعها، قصد التكيف مع الوضع الراهن
وعليه يمكن أن نستنتج:
01- أن الذاكرة عملية نفسية شعورية، تدل على خصوصية انسانية عامة، يتفاوت فيها الافراد بحسب قدراتهم ،
02- من ناحية أخرى نفهم أن الذاكرة ليست مقصورة على وظيفة واحدة بل تشمل مجموعة من و ظائف وهي:
· ثبيت الذكريات: اي عملية تخزين وحفظ المعلومات والنعارف بمختلف أشكالها، بحسب قدرة الذات واهتماماتها و العوامل المحيطة بالموضوع، وهذا يقتضي بالضرورة تعلم الخبرة واكتسابها أولا
· التعرف على الخبرات: التي سبق للذات أن خبرتها وخزنتها، فهي تعرف موضوعات خبرتها، وعناصرها، و ما يصاحب ذلك من شعور بالالفة مع تلك الموضوعات، فنحن نتعرف ونتذكر وجه أصدقائنا القدمى، ونتعرف على ذلك اللحن الموسيقي الذي سمعناه من سنوات مضت،… أي: المعرفة الحاضرة بالخبرة السابقة.
· الاستدعاء: وهو عبارة عن حضور وعودة فكرية، أو شيء أو خبر ما، سبق أن مر بهم الفرد في الماضي، دون مثول هذا الاشياء في الوقت الحاضر، أي استرجاع الذكريات في غياب موضوعاتها الاولية التي أحدثتها، بغرض تكيف الفرد مع ظرف حاظرة.
· أعادة احياء أو بناء المواقف السابقة: أي تذكر شيء وربطه بالموقف الذي أحدثه، وإعادة إحيائه من جديد، برغم المموقف، فهي عملية إحياء لحالة شعورية مضت وانقضت، مع العلم بأنها جزء من حياتنا.
وبناء على هذه الوظائف يمكن القول: أن الذاكرة هي رصيد الانسان، ومجموع ما حصله وأكتسبه من خبرات ومعارف، لا يمكنه أن يبستغني عنها، ولا أن يعيش بدونها، فهي الوسيلة الضرورية لتحقيق التكيف مع الحاضرن ومواجهة مختلف ظروفه، وداففع لتنشيط قدرات الانسان للتعامل مع الاشياء، وادراك الجديد.
والسؤال المطروح:
الى أي حد يمكن اعتبار التذكر بمثابة اعادة بناء ما هو ماض من اجل التكيف مع ماهو راهن؟
– أولا: من الفعالية العضوية الى الفعالية الشعورية:
لم يتفق العلماء على تفسير واحد لعملية التذكر من حيث أنه عملية يتداخل فيها ما هو عضوي و جسمي بما هو نفسي ، فضلا عن أن هناك صعوبة كبيرة في عملية تذكر الاحداث الماضية البعيدة نسبيا، وصعوبة ربط الذكريات بعضها ببعض ربطا يساعد على بناء الماضي، وبهذا فهو جهد فكري تتدخل فيه العضوية والارادة وكل الفاعليات النفسية الاخرى:
هذا ما استدعى اهتمام العلماء والفلاسفة ودفعهم للتساؤل عن طبيعتها. فهل هي ذات طبيعة عضوية مادية أم أنها نفسية شعورية؟
01-الخصائص العضوية للتذكر: ( ريبو ، تين، ديكارت، من الفلاسفة المسلمين نجد إبن سينا،)
ذهبت النظرية المادية ، بوحي من الفكرة الديكارتية القائلة بأن الذاكرة تكمن في :" ثنايا الجسم" ، و بالاستناد الى النتائج التي توصل اليها العلم في القرن التاسع عشرن وخاصة الفيزياء و الكمياء و البيولوجيا، الى تفسير طبيعة التذكر برده الى خصائص عضوية مادية صرفة فعملية تثبيت وحفظ الذكريات، واسترجاعها، مرتبطة بأجهزة بيولوجية، موجودة على مستوى الدماغ و هي المسؤولة على مختلف عمليات الذاكرة، ولهذا اعتبر ريبو :" أن الذاكرة ظاهرة بيولوجية بالماهية، وظاهرة سيكولوجية بالعرض".
وقد كان ريبو 1916 في مقدمة الفلاسفة الذين سيطرت على أرائهم هذه النزعة، فحاول تفسير الذاكرة تفسيرا ماديا، حيث يقول في كتابه امراض الذاكرة :" الذاكرة حالة جديدة يتم غرسها في الجسم الذي يحتفظ بها لإعادتها" وهذا انطلاقا من ملاحظة بعض الحالات المتصلة بضعف الذاكرة أو بفقدانها الجزئي أو الكلي مثل تلك الحالات المتصلة بالدورة الدموية أو بالهضم ، والتي لها تاثير سلبي على التذكر . كما لا حظ ريبو أن بعض المواد المنشطة للجملة العصبية لها تأثير ايجابي على التذكر، عى اعتبار أن الذكريات مخزونة في خلايا الجهاز العصبي وتثبيتها ناتج عن انطباع اثار المدركات الحسية في هذه الخلايا، واسترجاعها يحدث بفعل تأثير منبهات خارجية مماثلة لها، يقول ريبو:" إدراك الحوادث يترك أثار مادية في الدماغ يمكن إثارتها مرة اخرى" ان معنى دروس الفلسفة التي استوعبها الطالب تنطبع في خلايا جهازه العصبي لتمسي جزءا من ذكرياته، وهو يسترجعها في مناسبات معينة تكون بمثابة منبهات لا سترجاعها
اذن استدعاء الذكريات عند ريبو لا يعني شيئا أكثر من احياء الذكريات الماضية التي انطبعت اثارها في الذهنن والدليل الذي يؤكد ذلك لنا هذه النتيجة هو أن إصابة أي جهة في الجهاز العصبي يترتب عليه فقدان الذاكرة
كما اعتمد ريبو في تعضيد تفسيره المادي للذاكرة على بعض الادلة الحسية منها:
· مأثبتته تجارب بروكا،من أن حدوث نزيف دموي في قاعدة التلفيف الثالث من الجهة الشمالية يولد مرض " الحبسة" أي فقدان القدرة على النطق ، وأن اصابة التلفيف من يسار الناحية الجدارية يولد مرض العمى اللفظي أي عدم فهم معاني الكلمات.
· كما أن حدوث نزيف في الفص الجداري الايمن يحدث فقدان للمعرفة الحسية اللمسية في الجهة اليسرى. فالمصاب لا يتعرف الى الاشياء ولو كان يحس بجميع جزئياتها . ويعطي الدكتور دولي مثال بنت في الثالثة والعشرين من عمرها اصابتها رصاصة في المنطقة الجدارية اليمنى. فهي لا تسطيع ان تتعرف الى الاشياء التي توضع في يدها اليسرى بعد تعصيب عينيها، ورغم أنها بقيت تحتفظ بالقدرة على مختلف الاحساسات اللمسية والحرارية والالمية، وعلى مختلف الفروق في الشدة والامتداد ، فإذا وضع مشط مثلا في يدها اليسرى . وصفت جميع اجزائه وعجزت عن التعرف اليه. وبمجرد أن يوضع المشط في يدها اليمنى فانها تتعرف اليه بسرعة كجميع الناس وهكذا تبدو الذكريات كما لو كانت موضوعة في منطقة معينة من الدماغ حتى إذا ما اصيبت هذه المنطقة بأي أنواع التلف زال معها ما كانت تحتفظ به. فتكون الذاكرة عندئذ مجرد خاصية لدى الانسجة العصبية تسجل بها الانطباعات وتحتفظ بأثارها .
* غير أن هذا الموقف ليس جديدا بل عبر عنه من قبل الفيلسوف الفرنسي تين بقوله:" أنظر الى الدماغ كأنهوعاء يحفظ فيه الذكريات التي تستخرج أثناءالحاجة"
* ويذكرنا هذا بموقف الفيلسوف المسلم ابن سينا في معرض قوله عن الذاكرة:" إنها قوة محلها التجويف الاخير من الدماغ من شأنهاحفظ ما يدركه الوهم من المعاني الجزئية"
* والغريب في الامر أن ديكارت الفيلسوف العقلاني الفرنسي كان يردد:" إن الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم" بيد أن وجه الغرابة ينتفي إذا علمنا أن ديكارت يشترط التعرف كصفة جوهرية لأن غياب التعرف يؤدي الى غياب التذكر.
التعقيب:
لقد أثارت هذه النظرية ردود أفعال كثيرة : فهي كما يرى يوسف مراد مبادئ في علم النفس " نظرية ساذجة ، لا تجهل حقيقة الظواهر السيكولوجية فحسب، بل تجهل أيضا حقيقة الظواهر البيولوجية، لأنها نظرت الى ذلك التسجيل على أنه حقيقة واقعية مع أنه مجرد تشبيه"
ولقد تصدى لنقد هذه النظرية المادية عامة وريبو خاصة الفيلسوف الفرنسي برغسون في جملة من مؤلفاته ك" الطاقة الروحية" و " المادة والذاكرة" يقول: لو صح حقا أن تكون الذى لشيء ما محتفظة في الدماغ لما أمكنني أن أحتفظ لشيء من الاشياء بذكرى واحدة بل بألوف الذكريات أو بملايين الذكريات . ذلك أن الشيء مهما كان بسيطا وثايتا فإن أعراضه تتغير بتغير الزاوية التي أنظر منها اليه، هذا إذا كان الشيء بسيطا ثابتا . فكيف إذا كان شخصا تتبدل هيئته وجسمه وملابسه ؟ ومع ذلك فإن شعوري لا محالة ، يقدم الي صورة وحيدة أو شبه وحيدة. أفليس هذا برهانا على أن المسألة ليست مسألة تسجيل ألي؟
الذي نفى أن تكون الذاكرة من قبيل العادة ، لأن العادة جسمية، بينما الذاكرة نفسية،
أي أن الفعل التعودي هو أسترجاع الاليات المكتسبة، في حين ان التذكر هو استرجاع المعرفة التي تم اكتسابها قبل، وهذا الاختلاف في الطبيعة لا يمنع اكتسابها معا، فعندما اتم حفظ قطعة شعرية تكون أعضاء النطق قد اكتسبت عادة حركية أثناء حفظ الابيات، وهذه عادة لفظية أساسها الجسم،وتكتسب بالتكرار، اذ يكفي لستظهارها أن ننطق بالكلمة الاولى لتتوالى سلسلة الكلمات المترابطة بصفة الية، ولكننا قد نكتسب في نفس الوقت ذكريات عن القطعة المحفوظة، تتعلق بطريقة الحفظ والظروف التي اكتنفتنا ابان الحفظن والمعاني الاساسية وما تثيره من صور وخواطر….الخ. فهذه ذكريات نفسية خاصة تبدو في صور تأمل لماضي نحياه من جديد .
وليس صحيحيا فيما يرى برغسون أن الذكريات تسجل على الجهاز العصبي كما تسجل الذبذبات الصوتية على الاسطوانة مثلما تدعي النظرية المادية، ولا تنهض الحبسة دليلا على أن الدماغ مستودع الذكريات .
اذ قد يحدث أن يستعيد المصاب ذكرياته بسبب مؤثر ما. كما حذث أن مثال نظم شخص كان قد اصيب بالحبسة نفس الاشعار المنسية تقريبا عندما عاود قرض الشعر ،ولو كانت النظرية المادية صحيحة لزالت الذكريات بسب العطب الذي أصاب خلايا الدماغ، ومعنى هذا أن الاصابات الدماغية لا تؤثر على الذكريات النفسية، بل تؤثر على الاليات الحركية، وعندئذ تعاق الذكريات عن الظهور في ساحة الشعور ، ويكون مثلها مثل الثوب المعلق على المشجب، فإذا سقط المشجب لم يعد الثوب معلقا ، ولكنه باق لم يزل، ويخلص برغسون الى القول:" بأننا لا نجد … ذكريات محددة المكان في خلايا معينة من المادة الدماغية، من شأنها أن يزيلها إتلاف هذه الخلايا"
كما أن بعض الصدمات النفسية تؤدي الى فقدان كلي أو جزئي للذاكرة رغم سلامة الجهاز العصبي
2- الخصائص الشعورية للتذكر : (النظرية النفسية : هنري برغسون)
إن تفسير طبيعة التذكر ووظائفه المختلفة من تثبيت لذكريات واسترجاعها عند اصحاب الاتجاه الروحي الشعورى وعلى راسهم برغسون يرد الى الخصائص الشعورية النفسية، فالذاكرة عملية نفسية واعية قوامها الشعور، فهي جوهر روحي محض، وديمومة شعورية تسجل كل ماعشناه وما مر بنا ويبقى محفوظ وحيا كصور في أعماق النفس ( اللاوعي) ولا يعود الى ساحة الشعور الا عند الحاجة يقول هنري برغسون:" الذاكرة نفسية بالماهية، ومادية بالعرض". فالدماغ ليس مستودع للذكريات كما يرى الماديون بل هو مجرد جهاز استعادة .
ولتوضيح هذا الاساس والرد في نفس الوقت على الماديين يعمد هنري برغسون الى اقامة نوع من الفصل المنهجي بين نوعين من الذاكرة:
الأولى تعرف بالذاكرة الحركية " أو ذاكرة العادة": وتكون في شكل عادات آلية مرتبطة بالجسم وهي تشمل جل الانشطة الحركية المكتسبة عن طريق التكرار ، وهي في نظر هنري برغسون مجرد عادة لا تمت باي صلة الى حقيقة التذكر
الثانيةأما الثانية فقد عبر عنها بتسميات عدة منها" ذاكرة الصور" "الذاكرة النفسية الشعورية" وحتى أنه أطلق تسمية ذاكرة الذاكرة اعلاء من قيمتها : وهي المعبرة عن حقيقة الذاكرة لانها تتشمل الماضي وتستحضره، وتعيد إحياءه في ان واحدفهي ذاكرة الصور النفسية المرتبطة بديمومة الشعور والمستقلة عن الدماغ وعن ذاكرة العادة التي ينسبها الى الماديين
ويعطي لنا مثال توضيحيا بحفظ قصيدة شعرية حيث أن الخفظ انما يتم عن بعد قراءات عديدة كافية لربط الكلمات ربطا اليا حركيا، يكفي عند استظهارها أن تنطلق الكلمة الاولى حتى تتبعها سلسلة الكلمات المترابطة المتداعية بصفة الية كما تتداعى الحركات التي نكتسبها عن طريق العادة التي ترسخ بالتكرار. فهذا النوع من التذكر هو في الواقع عادة حركية. لكننا اذا اردنا ان نستعيد صورة القراءة الاولى . فهذا التذكر ليس ناتجا عن العادة التي. لأن القراءة الاولى قراءة واحدة وفريدة لا تكون الامرة واحدة. ومع ذلك فاننا نتذكرها . فهذه هي الذاكرة بمعناها الحقيقي، لأنها تستعيد الماضي، في حين أن العادة تستفيد منه فقط.
*الدليل الثاني كما أن احوالنا الذهنية والنفسية تؤثر بعمق في عملية التذكر فالذاكرة عند برغسون ديمومة خصبة حية إذ أن " التذكر في جوهره يحمل تاريخ" وهكذا تكون الذاكرة الحقة موجودة في الشعور بالماضي والحاضر يقول برغسون:" ليس من شك أن ماضينا بأكمله يغقبنا في كل لحظة من لحظات حياتنا"
* كما أن فاقد الذاكرة يستطيع استرجاعها تحت تأثير صدمة نفسية وهذا ما يثبته الواقع لذا قال في كتابه الذاكرة والمادة:" الانفعالات القوية من شأنها أن تعيد الينا الذكريات التي اعتقدنا أنها ضاعت الى البد" وقد فسرت هذه النظرية استرجاعها بقانون تداعي الافكار حيث فال جميل صليبا"في كل عنصر نفسي ميل الى استرجاع ذكريات المجموعة النفسية التي هو أحد أجزائها"ومن الامثلة التوضيحية ،الام الثكلى التي ترى لباس أبنها البعيد عنها تسترجع مجموعة من الذكريات الجزئية وهذا ما يثبت الطابع النفسي للذاكرة
* هذا بالاضافة الى أن مدرسة التحليل النفسي نظرت الى الذاكرة نظرة لاشعورية لأن: "أغلب مداركنا تنزل الى عمق الذاكرة حيث تستقر وتبقى تمارس نشاطها اللاشعوري" ونظرية الكبت خير شاهد على ذلك، حيث جعل سيجموند فرويد من :" النسيان دليلا على تجليات اللاشعور"
تعقيب:
لا شك أن في أن هذا التمييز بين الذاكرة بين الذاكرة الحركية والذاكرة النفسية أمر يساعد الدارس على تصنيف الذكريات، وتحديد خصائصها.
ولكن برغسون بالغ فيه وذهب الى حد الفصل التام بين ماهو حركي وما هو نفسي، مع أن التجربة حسب بعض العلماء تؤكد أن الحركات البدنية ضرورية للذكريات، وأن استرجاعها" أي الذكريات" في حاجة الى سند حركي والى وضعية نفسية مندرجة في وضعية بدنية،أضف الى ذلك أن برغسون لم يبين كيفية حفظ الذكريات أو استرجاعها، خاصة وأن فرضية اللاشعور لا توضح ذلك، فهل اللا شعور مجرد اطار نفسي غير مقيد بالزمان والمكان. كما أنه من الصعب أن نفهم الذاكرة كشعور نفسي خالص، وتستخدم الدماغ كاليات مادية من أجل استحضار الذكريات، الا يدل هذا على تداخل ما هو عضوي بما هو نفسي، وأن الفصل بينهما شائك.
ثانبا: التذكر بين المعرفة والتوازن النفسي
كما مر بنا فإن فعل الإدراك لا يتم إلا من خلال علاقة الموضوع بالذات المدركة حيث تتداخل كل الفعاليات العقلية من تخيل وانتباه وذكاء وتذكر لأجل تحقيق فعل الإدراك وتتداخل تلك الفاعليات العقلية لتشكل عنصر معرفة وادراك العالم الخارجبي ، مع مايهدف اليه التوازن النفسي الذي يظهر على شكل انفعالات تلقائية تحقق تكيفا ذاتيا للفرد، وبهذا نحن نلجأ الى خبرات ماضية لفهم وضع حاضر ومعرفته عن طريق الذاكرة التي تقوم بعملية استرجاع للمعارف والمعلومات التي مرت بنا كخبرات ماضية. ويلعب فعل التذكر دورا هاما في حياة الانسان سواء من الناحية المعرفية أو الانفعالية ، والافراد يختلفون في معارفهم وتوازنهم النفسي باختلاف القدرة على استدعاء ذكرياتهم . الا أن السؤال المطروح
فيما تكمن القيمة النفسية للتذكر، هل في دور العقل ام في الانفعالات التلقائية؟
1- الذاكرة العقلية والتذكر الارادي:
*يعرفها جميل صليبا: " الذاكرة التي تحفظ المعاني والاحكام والتصورات والتصديقات " والافكار
*وظيفتها
لها أثر بالغ الاهمية في اكتساب العلوم والمعارف وتنمية القدرات العقلية وتنشيطها نستعين بها خاصة في : مطالعة الكتب وهي هامة جدا عند الفلاسفة والعلماء لانهم يتذكرون مثلما يتخيلون، والشائع أن أقل الناس تفكيرا يستعين بالفهم على الحفظ لذا قيل :" إن فهم المعاني خير وسيلة للحفظ" ومن صور الذاكرة العقلية التذكر الارادي
– التذكر الارادي:
أرقى صور الذاكرة لأنه تذكر منظم، وهو يقتضي تدخل مجموعات من الملكات العقلية والوضائف كاالاستدلال واصطفاء مانبحث عنه وما هو مطلوب و الربط بين الصور ومعرفة العلاقة بين السبب والنتيجة، وهذا ما يعرف بالاستدعاء الارادي.
الا أن السؤال المطروح
فهل مانسترجعه هو صورة مطابقة أو نسخة من الواقع؟ ومن ثم يمكن اعتبار هذه الاستعادة احياء للماضي كما عشناه في حينه، أم ان العقل يعيد بناء الماضي كما يريد ؟
إن الانسان يعيد في احيان كثيرة بعض الحوادث التي تتفق ومايريده ويسقط البعض الاخر الذي يرتبط بحوادث مؤلمة وقد يدفعه ذلك الى تغير المكان الذي يرتبط بتلبك الحوادث ، أو اشغال نفسه باعمال كهروب من تلك الحلقة من الماضي وكل هذا تصرف في الماضي، إننا نكون أحيانا تحت ضعط معرفة معلومة هامة لكننا لا نستطيع تذكرها في تلك اللحظة فتحضرنا مجموعة من المعلومات الى ساحة الشعور وندرك انها ليست مانطلبه ، وكأن العقل بهذا يملك اسئلة يطرحها فتقوم الذاكرة بإحياء مجموعة من الصور والمعاني وتعيدها الى ساحة الشعور ليختار منها العقل مايحتاج اليه ويريده .
ومنه يمكن القول ان التذكر الاراي، تذكر أساسه الانتقاء والاختيار والقصد( ومن نافلة القول ان التذكر الارادي ضروري للانسان مهما تكن صعوبة الاستعادة التي يقتضيها ، كما يلاحظ خاصة عند اداء الامتحان ، او الادلاء بشهادة امام المحاكم ،)
2- الذاكرة الانفعالية والتذكر العفوي:
الذاكرة الانفعالية هي الذاكرة المرتبطة بالقدرة على تذكر الاحوال الانفعالية، ومايصاحبها من شعور وانطباعات نفسية، كقدرة الانسان على تذكر خوف قديم اعتراه في بعض ظروف حياته، أو نشوة سعادة ومايصاحب ذلك من أحوال انفعالية مختلفة، وهذه الذاكرة هي التي تحي العواطف، وتوقظ الميول وتجدد الانفعالات، ورغم اختلاف الباحثون في أمر الداكرة الانفعالية، فمنهم من قال أنها حقيقة مثل ريبو بناء على أن خواص الاحوال النفسية عامة، سواء كانت عقلية أو انفعالية ، أن تبعث من زوايا النسيان، ومنهم من أنكر وجود الذاكرة الانفعالية كوليم جيمس لان الشيوخ عنده لا يسترجعون انفعالات الشباب. ولكنهم اتفقوا على أن هذه الذاكرة الانفعالية تختلف باختلاف الاشخاص وأثر ذكرى الموضوعات فيها فقد تكون قوية واضحة ، وقد تكون ضعيفة ، كما اتفقوا بلمقابل ، على دور الذاكرة في حياتنا الانفعالية".. فلولا الذاكرة لجفت العوطف، ولولا الماضي لغاب عن الانسان وجه التاسي ، فالذكرة تحيي العواطف، وتوقظ الميول وتجدد الانفعالات" ( وهذا أمر مؤيج بالتجربة ، إذ كثير ما نتذكر الحوادث الماضية مصحوبة بخوف شبيه بالخوف القديم)
وتظهر أهمية الذكريات وتصور الماضي أيضا في تكوين الشخصية ، فهو الفرد إنما بدأت في الماضي ، ومن فقد القدرة على استرجاع هذا الماضي والوعي به فقد وحدة شخصيته وفقد توازنه النفسي.
ولما كانت حياتنا الانفعالية حقيقة فطرية تعبر عن حيوية حياتنا ونشاطاتها بطريقة تلقائية عفوية، فإن الذاكرة الانفعالية هي أيضا فعل تلقائي، واسترسال شعوري لا إرادي، ومن هنا يبرز شكل أخر للتذكر هو:
– التذكر العفوي:
وهو تذكر تلقائي، سهل ، لا عناء فيه أساسه استدعاء الذكريات كاستجابة تكيفية آلية لظروف حاضرة، وتكون هذه الاستجابة التلقائية التكيفيفة تبعا لمبهات معينة " عوامل نفسية، ظروف عمل، علاقات اجتماعية…" مثلا :الام الثكلى ترى ملابس ابنها الفقيد فتسترجع ذكراه ولو لم تشأ ذلك وبغير إرادة منها ، ذلك أن الملابس لارتباطها بالابن، تظل منبه استدعاء لصورة الولد بصورة تلقائية عفوية ، وهذا النوع من التذكر محكوم بمبدأ تداعي المعاني، والذي يعني أن الظواهر والاحوال النفسية ترتبط ببعضها وتدعو بعضها بعضا للحضور وفق شروط معينة، كالاقتران ، والتشابه، الجدة، الحداثة.. فالصور في النفس إذا اقترن بعضها ببعض، أو تجاورت في الزمان و المكان ، أو وجدت علاقة سببية بينها ، أو تشابهت ، أو كانت متواترة على اللسان ، أو شديدة الوقع على النفس كحادث فريد ( تسمى هذه بقوانين التداعي التي حدد بعضها ارسطو والباقي هيوم ومل )
الاقتران: ومفاده أن اجتماع حالتين نفسيتين في الشعور يولد بينهما ارتباطا اقترانيا فإذا خطرت إحداهما على بالنا ذكلاتنا بالثانية، فرؤينا للغيوم تذكرنا بالمطر ورؤيتنا للدخان تذكرنا بالنار
قانون التشابه: الاحوال النفسية المتشابهة يدعو بعضها بعض فالهر يذكرنا بالنمر والثعلب يذكرنا بالذئب، كما أن رؤيتنا لشخص يشبه شخص نعرفه يذكرنا به: فنقول انه يشبه فلان
قانون التضاد: الاشياء المتضادة قد ترتبط صورها في اذهاننا بمعنى أن الاحوال المتضادة يدعو بعضها بعض، فاللون الابيض يذكرنا باللون الاسود ، وقد تعودنا في اللغة على الجمع في أذهاننا بين الصور المتضادة ، لأن المعاني كما يقال تعرف بأضدادها.
هذه قوانيين التداعي كما ضبطها أرسطو، غير أن بعض الفلاسفة في العصر الحديث من بينهم هيوم و جون ستيوارت ميل أرجعوا هذه القوانيين الثلاثة الى قانون الاقتران، ورأو أن وظائف العقل المختلفة ترجع الى تداعي الافكار- ونتيجة لذلك ظهرت قوانيين فرعية نذكر منها:
قانون التواتر: وهو يعني أن الذكريات إذا ترددت على ساحة الشعور كان استحضارها أيسر، فالمعاني التي يتردد إدراكها تكون أسهل استحضارها من غيرها مثل الشعارات التي ترددها الصحافة، وكذلك الاقوال المشهورة
قانون الشدة: كلما كان تأثير الحادث في نفوسنا أقوى وأشد كان حضوره في ذهننا أسرع فمن جلس على كرسي طبيب الانسنان، ثم شاهد في التلفزة طبيب الاسنان فسيتذكر لا محالة ذلك الكرسي
قانون الجدة: الاشياء التي ندركها لأو مرة تترك فينا أثر أقوى وأشد من الاشياء التي سبق لنا إدراكها، فالطفل الذي يدخل المدرسة لأول مرة يكون تأثره أعمق من تأثر الطفل الذي ذخل اليها من قبل. والزائر لبلد أجنبي يتأثر بمظاهر الحياة فيه اكثر بكثير من السائح الذي يتردد عليه كل سنة. ولهذا قيل :" كل جديد مثير"
03- الذاكرة الحسية:
وهي ذاكرة الصور الحسية، أي ما نتصوره بأي أداة حسية كالصور البصرية، والنغمات الموسيقية وتصور رائحة الورد، وغيرها، فإذا تذكرت مثلا: الفاظ من حديثه " أي شخص ما"، ولهجة كلامه فإن هذا تعبير عن ذاكرة حسية، أما إن لم أتذكر الا معاني حديثه، فإن هذا تعبير عن عن ذاكرة عقلية، والذاكرة الحسية تكاد تكون مشتركة بين الانسان والحيوان:
إذن الذاكرة ثلاثة أنواع أساسية وهي:
*الحسية
والعقلية
والانفعالية
و بالرغم من انه ليس بينها مماثلة، لان لكل من هذه الانواع صفات خاصة تختلف من نوع الى آخر ، ولكنها في حقيقتها الجوهرية واحدة ، لأن لاحوال الذاكرة صورة واحدة تجمع بينها وتحيط بها ، كما يحيط نور الشمس بالرسوم او بالاشياء ، وينبغي للنظرة التي تريد الاحاطة بحقيقة الذاكرة أن تجعل تعليلها متعلقا بجميع أنواعها التي ذكرناها، وكل إهمال لتأثير هذه الانواع جميعا في تحصيل المعرفة والتكيف والتوازن النفسي لا ينسجم وحقيقتها تلك.
السلام عليكم …………
الدرس قيم ومهم …………..
شكرا جزيلا ………….
اهديه للصديقة سمية .ع. الغالية …………..