ستنطلق التسجيلات الجامعية الأولية للناجحين الجدد في شهادة البكالوريا لسنة 2022 من يوم 12 إلى غاية 17 جويلية، حيث سيتم افتتاح موقع الأنترنت الخاص بالتسجيلات الجامعية خلال هذه الفترة، حيث يقوم الطالب بملء بطاقة الرغبات وتصنيفها وترتيبها ترتيبا تنازليا، وتدوين كافة المعلومات المطلوبة منه والتأكد من إرسال بطاقة رغباته ونسخها، وبداية من 18جويلية تنطلق عملية تأكيد التسجيلات الأولية أو تغيير بطاقة الرغبات التي أرسلت له، وتستمر العملية إلى غاية 22 جويلية 2022 .
موقع التسجيلات الجامعية 2022 للناجحين في شهادة البكالوريا دورة 2022
http://orientation.esi.dz
شكككرا لك أخي حيدر على هذه المعلومات
لكن الرابط لا يعمل لا أدري ماهو السبب
و شكرا
فعلا الموقع لم يفعل بعد لأن فترة التسجيلات لم تبدأ لكن الإنطلاق الفعلي لهذا الموقع الفرعي التابع لموقع esi.dz سينطلق يوم 12 جويلية أو ليلتها
بالتوفيق
أليس البوم 12 جويلية ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
فعلا الموقع لم يفعل بعد لأن فترة التسجيلات لم تبدأ لكن الإنطلاق الفعلي لهذا الموقع الفرعي التابع لموقع esi.dz سينطلق يوم 12 جويلية أو ليلتها
بالتوفيق |
شكرا على التوضيح أخي حيدر
guys this site doesn’t work
السلام عليكم ساجاوب عن الموضوع الذي طرحته سابقا .اذا فتاريخ اجراء مسابقة الماجستير للسنة 2022/2011 قي العلوم الاقتصادية و التسيير و العلوم التجارية هو يومي 14 و 15 اكتوبر المقبل اما التسجيلات فلقد بدات يوم 04/09/2011 .لمن يهمه الامر قاعة التسجيلات هي القاعة 6 الخاصة بالماجستير اما عن الملف الواجب تكوينه هو كالتالي :
-طلب خطي عليه احدى التخصصات
– نسخة من شهادة البكالوريا
-نسخة من شهادة الليسانس
-كشف النقاط للسنوات الاربع
-شهادة الميلاد
-ظرفين بريديين عليهما طابع
-صورة شمسية .
مع احر تحياتي
الا يمكن ان اعرف الاختصاصات واقصى حد للتسجيل
ماهو الاستاذ الفعال
السلام عليكم اريد مساعدة ما هو الاستاذ الفعال
الاستاذ الفعال هو الذي يعرف كيف يتحكم في التلاميذ بحيث وجب عليه لعب دور الاب و المعلم في نفس الوقت
أن يكون أبا لتلاميذه ومعلما لهم وان لا يخفي عليهم شيئ وشكرا
عفوا لكن ال"ما" تستعمل لغير العاقل و الاصح ان نكتب من هو الاستاذ الفعّال ؟
برأيي الاستاذ الفعال هو الذي يدفع التلاميذ نحو العمل كالبحث الاستنتاج و الربط بين المعلومات وما الى ذلك
من فضلكم ســـــــــــــاعدوني في مذكرتـــي أرجــــــوكم
أثر المراجعة و التدقيق في تسيير المخزونــــــــــــــــــــات:cla p:
من فضلكم ســـــــــــــاعدوني في مذكرتـــي أرجــــــوكم
أثر المراجعة و التدقيق في تسيير المخزونــــــــــــــــــــات:cla p: |
http://www.4shared.com/rar/jOR_oOD3/_______.html
http://www.4shared.com/rar/gpo_6407/______.html
السلام عليكم عندي بحث حول الاستعمال العدولي في القران الكريم
في مقياس علم الدلالة السنة الثانية جامعي تخصص ادب :c lap:
***64831; قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ***64830; قرآن كريم [الإسراء: 88].
((إنَّ هذا القرآن مأْدبة الله، فاقبلوا مأْدبتَه ما استطعتُم))، حديث شريف.
المقدمة:
إنَّ إثارة الظاهرة الأسلوبيَّة للقارئ أو السَّامع – والعدول أحد مظاهرها – إنَّما تنبثِق عن المفاجأة التي يحسُّها من انحراف تلك الظَّاهرة عن سياقها اللُّغوي في بنْية النَّصّ، و"الأسلوب العدولي" يتَّسع ليشمل كلَّ تحوُّل أو انحراف في نسق التَّعبير لا يتغيَّر به جوهر المعنى، أو "البنية العميقة له"، على حدّ اصطِلاح التَّحويليِّين.
هذا التحوُّل أو الانحِراف عن النَّسَق المثالي للتَّعبير يحْدِث نوعًا من الإثارة لدى المتلقِّي؛ نتيجة التضادّ النَّاجم عن الاختلاف الحادث من اختراق النظام، وهو اختلاف غير متوقع لدى القارئ؛ لذلك يحدث لديه لونًا من المفاجأة والاستِثارة.
والذي يجب أن ننبِّه إليه أنَّ "العدول" عن الأصل تولُّد ذاتي في اللغة، يرتبط بتولُّد الأفكار وتشعُّبها وتحاورها وتجادلها، وأنَّه لا يُحكم بشرعيَّة "العدول" إلا إذا أضاف فضلاً ومزيَّة.
وقد أشار أهل العلم – لغويون ونحاة ومفسِّرون وبلاغيون – إلى بعض ومضاته الكاشفة، كابن جنِّي والزمخشري وابن الأثير والعلوي وغيرهم، ممَّا يدلّ على أصل الفكرة في التراث، ومن هنا كان منطلقنا في البحث.
وفي الوقت نفسه لَم نُهمل الاستعانة ببعض المقولات والأفكار المحدثة للرَّبط بين التراث والمعاصرة، وإيمانًا منَّا بأنَّ الحاضر ينبغي أن يغير من الماضي بقدر ما يوجِّه الماضي الحاضر.
وهناك – أيضًا – جهود معاصرة لبعض الباحثين الروَّاد في هذا الموضوع، منها:
"العدول" أسلوب تُراثي في نقْد الشعر، للدكتور مصطفى السعدني، وهو عن دراسة العدول في الشعر، لا في النص القرآني.
وبحث آخر بعنوان: فكرة "العدول" في البحوث الأسلوبية المعاصرة لعبدالله صولة، تناول فيه الباحثُ آراء النقاد من أصحاب الأسلوبية المعاصرة في العدول في الشِّعر خاصَّة.
وثمة بحث آخر بعنوان "أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية"؛ للدكتور حسن طبل، أصَّل فيه لظاهرة الالتفات في التُّراث البلاغي، وربط بين الظَّاهرة ومعطيات علم الأسلوب، وذكر بعض المواطن القرآنيَّة التي وقع فيها التفات، وحلَّلها تحليلاً جيِّدًا مستعينًا بكتب التفسير واللغة والبلاغة.
ولا شكَّ أنَّ بحوث هؤلاء الروَّاد كانتْ بمثابة إضاءات استرشدت بها، ولا سيما في التنظير لهذا البحث، كما كانتْ حافزًا على استثمار الجُهد في معايشة النَّص القرآني وتذوُّق ما فيه من أساليب عُدِل فيها عن النَّسق المثالي؛ لأنَّ "الأسلوب العدولي" من الأساليب التي تتَّسع فيها الاحتمالات، وتتنوَّع الأنماط، ولاسيَّما في النَّصِّ القرآني، فهي تندُّ عن الحصر، ولا يحيط بها فَهْم، وليس بوسع باحثٍ واحد أن يوفيَها حقَّها؛ لأنَّ النُّصوص الفذة – وعلى رأسها النَّصّ القرآني – لا يفي جمهورها بحقوقِها عليهم إلاَّ بترافد هِمم القرَّاء على تعاورها بالقراءات المتعددة؛ لكشف ما استتر فيها من جماليات النظْم.
لهذا عقدتُ العزم على الخوْض في هذا الموضوع "الأسلوب العدولي"، وكيفية استثماره في تذوق النص القرآني.
وقد آثرت مصطلح "العدول" لسَعة دلالته عن غيره من المصطلحات المرادفة، ولأنَّنا غالبًا ما نربط بين ظاهرة العدول وعلم الأسلوب في بيان بلاغة النص القرآني، مع الاستعانة بكُتُب اللغة والتفسير والبلاغة.
وقد دعتْ طبيعة البحث أن أقسمه إلى قسمين: قسم للتنظير، وقسم للتطبيق.
تناولتُ في التنظير: مفهوم المصطلح في التراث عند كل من اللغويين والنحاة والبلاغيين والمفسرين، وأتبعت ذلك بمبحثٍ عن أسباب العدول ومقاصده.
وقدَّمت في قسم التطبيق عددًا وافرًا من أنماط العدول وصوره المتعدِّدة، مما وقفنا عليه، وعرضنا لها مع التَّمثيل بالشَّواهد القرآنيَّة المحلَّلة تحليلاًً أسلوبيًّا؛ لإبراز بلاغة العدول وقيمته من خلال تأمُّله في سياقه والاستِعانة بكتب اللُّغة والبلاغة والتَّفسير.
ثمَّ تلا ذلك خاتمة تضمَّنت نتائج البحث وتوصياته.
والله من وراء القصد.
المـؤلِّف
القسم الأول: التنْظير للمصطلح:
توطئة/ مدخل:
درجت العربيَّة في صياغة كلامها على ما يقْتضيه ظاهر الحال من المطابقة والوضوح؛ لتؤدي بذلك معانيَها التي ترد عليها وضعًا واستعمالاً، وقد تعدل عن ذلك الظَّاهر غير عابئة بما تستوجبه سنن المطابقة في التَّعبير وأحكام الصنعة لا اجتراءً ولا عبثًا، بل قصدًا منها إلى إشارة لطيفة أو ملحظ دقيق؛ إذ في هذا العدول يكمن السّرُّ وإليه يكون المصير حين التفْكير فيه للنفاذ إلى كنهه ومرْماه[1].
وإن المتتبِّع لمباحث الأسلوبيَّة يدرك أنَّ من أهمِّ هذه المباحث عمليَّة رصد انحِراف الكلام عن نسقه المثالي المألوف؛ أي: الكلام في المستوى العادي الَّذي يعتمد على النحو التَّقعيدي في تشكيل عناصره.
فنجِد اللسانيِّين يكشفون عن منهجين للأداء اللغوي – وفقًا لأبرز النظريات الدلالية الحديثة – ينهض أحدُهُما على التَّصريح، ويستمدُّ وجوده من المعنى الوضعي للغة، وتتشكَّل ملامح الآخر من الإيحاء المُستشفّ منَ الاستِعمالات الإبْداعيَّة.
ونجد التحويليِّين كتشومسكي – مؤسِّس نظرية النَّحو التحويلي – يُمَيِّز بين مستويين في الجملة هما: "البنية العميقة والبنية السطحيَّة"، فالمستوى الأول هو النمط المثالي التجريدي – المقدر في الذِّهن – للجملة الكاملة الصَّحيحة نحويًّا ودلاليًّا، أمَّا المستوى الثاني فهو الصورة اللغوية المحسوسة – نطقًا أو كتابة – لتلك الجملة، وتلك البنية السطحية هي فرع عن البنية العميقة، وهي في تفرُّعها عنها قد تتَّخذ أشكالاً أو أوضاعًا عديدة، عن طريق إدْخال بعض التحْويلات الاضطراريَّة حينًا، والاختيار حينًا آخَر، على نمطها المثالي في الذهن، ولكن هذه الأشكال أو الأوضاع – وإن تَمايزت من حيثُ القيمةُ الجمالية أو الشحنة التأثيرية – تظلُّ ذات جذر دلالي واحد أو بنية عميقة واحدة[3].
ففي التَّمييز بين هذيْن المستويَين ما يدعم تصوُّر الأسلوب العدولي بوصْفِه اختِيارًا أو استثمارًا وتوظيفًا للطاقات الكامنة في اللغة؛ إذ إنَّه يمكن تحديد هذه الطاقات، وكشف أبعادها عن طريق "أنماط العدول" المتعدِّدة، وبذلك يصبح "الأسلوب العدولي" هو الصورة المنتقاة من بين التحويلات الاختيارية المتعادلة معها دلاليًّا، والتي تعد – من هذه الزاوية – بدائل لها[4].
ويرى رومارشيه: أنَّ الأشكال البلاغية، والأساليب البيانية إنَّما هي طرائق للكلام تبتعد/ تنحرف عن الطريقة الطبيعية/ العادية، فهي تتمثَّل في بعض التحوّلات والأشكال التي تختلف بطريقة ما عن السبل المألوفة والبسيطة للكلام[5].
وكأنَّ الأسلوب العدولي يتحدَّد بانحرافيَّته عن العُرف اللغوي، ويتكشَّف ذلك عند كلّ أديب مُبْدع.
ويُفهم ممَّا سبق أنَّ لديْنا مستويين للغة:
الأوَّل: المستوى المثالي/ المألوف في الأداء العادي/ النمطي، الجاري على السنن المألوف للقاعدة.
الثاني: المستوى المنحرف/ الإبداعي الَّذي يعتمد على انحراف الكلام عن هذه المثاليَّة أو العدول عنها أو تجاوُزها أو انتهاكها[6].
والمستوى العادي/ المثالي هو الَّذي يعتمد على النَّحو التقعيدي في تشكيل عناصره، كما يعتمد اللغة في تنسيق هذه العناصر، وثمرة الترابُط بين ما يقول به النحاة وما يقول به اللغويون ظهور مثالية اللغة في استخدامها المألوف، وهى مثاليَّة افتراضية أكثر منها تطبيقية واقعيَّة.
ولعلَّ هذه النظرة المثاليَّة للأداء هي التي جعلتِ النحاة يُحددون معنى (الكلام) بما يرتبط بالعبارة ظاهرًا أو تقديرًا، فأمَّا القول بظاهر العبارة فهو ما أهمهم رعايةً للسلامة، وأمَّا التقدير فهو جَرْيٌ منهم وراء هذه السلامة، ورعايةٌ لها حفاظًا على مثالية الأداء؛ لذلك تراهم يلجؤون إلى التقدير والحذْف والقول بالزيادة "تصوُّرًا منهم أن التعبير اللغوي – مهما يكن من أمر بلاغته الخاصة، وتفرُّده البياني المطلق – يجب أن يطابق في نهاية الأمر نمطًا معينًا من الأنماط النحوية المحدودة التي يجب أن ينحوَ نحوها القائلون"[7].
وإذا كان النُّحاة واللغويُّون قد أقاموا مباحثهم على رعاية الأداء المثالي، فإن البلاغيين ساروا في اتِّجاه آخر من حيث أقاموا مباحثهم على أساس تجاوز هذه المثالية، أو الخروج عليها والعدول عنها في الأداء الفنّي الَّذي يرتبط بسياقاته المتعدِّدة – اللغوي والموقفي والسببي – وقرائن الأحوال.
إذًا؛ فالعدول عندهم ليس تجاوُزًا للمثاليَّة أو انتهاكًا لها[8] – بتعبير بعض النقَّاد – وإنَّما هو إيثار نسق على آخر، أو صيغة على أخرى، أو تركيب على آخر؛ لما يرون فيه من إيماض يضيء للمتلقِّي دخيلة منشئ الخطاب "مبدع النَّص".
وليس معنى هذا إنكار البلاغيِّين للمستوى المثالي الذي أقامَه النحاة واللغويون، بل نجد منهم – السكَّاكي مثلاً – الَّذي يرى أنَّ النَّحو هو العامل الأساسي في تأدِية أصل المعنى، ومعرفة كيفية التركيب فيما بين الكلِم لتأدية أصل المعنى مطلقًا، بمقاييس مستنبطة من استِقْراء كلام العرب وقوانين مبنيَّة عليها ليحترز بها عن الخطأ في التَّركيب[9].
لذا جعلوه – أي: المستوى المثالي/ القاعدي – الخلفيَّة الوهمية وراء الصياغة الفنيَّة التي يمكن أن يقيسوا إليها عمليَّة العدول في هذه الصياغة.
من هنا كان حِرْص البلاغيين واضحًا على التَّذكير به، والتنبيه إليه، بمقارنة الصورة العدولية بصورة أخرى مقدرة تعادلها دلاليًّا أطلقوا عليها "أصل الكلام" أو "رعاية للأصل" أو "مقتضى الظاهر"، ولكن اعتدادهم بهذا الأصل لا يتجاوز مجرَّد الإشارة إليه؛ لأنَّه يخلو – في نظرهم – من أي قيمة فنيَّة، فإذا كان النحويُّ يهتمُّ بما يفيد أصلَ المعنى، فإنَّ البلاغيَّ يبدأ حركته ونشاطه فيما يلي هذا، مع تركيز النظر والقول على العناصر الجماليَّة[10].
وفكرةُ العدول لها جذورها الوطيدة في تُراثنا العربي في كُتُب القوم، أمثال سيبويه، وابن جني، والزمخشري، وابن الأثير، والسكَّاكي، وغيرهم، وهذا ما سنوضحه فيما يلي في حديثنا عن مفهوم المصطلح في التراث.
[1] "مع القرآن في دراسة مستلهمة" ص 108.
[3] نظرية اللغة في النقد العربي ص 488، وعلم الأسلوب ص 130 – 136، واللغة والإبداع ص 51 – 53، ويُنظر : النحو العربي في ضوء الأبحاث اللغوية الحديثة لولسون بشاي، محاضرات أُلْقيت بكلية آداب القاهرة في 27 /2 /1974 ص 7، 8.
[4] الأسلوبية الحديثة، د/ محمود عياد، مقال في مجلة "فصول"، م1/ ع2، يناير 1981 /1982 م.
[5] علم الأسلوب ص 372.
[6] عقد الدكتور عبدالحكيم راضي فصلاً بعنوان "المثالي والمنحرف"، فصَّل فيه القول عن الانحراف عند اللغويين والنحاة والبلاغيين في كتابة "نظرية اللغة في النقد العربي" ص 191 وما بعدها، وقد قام الدكتور محمد عبدالمطلب بتقديم خلاصة مركَّزة لهذا الفصل في كتابه "بين البلاغة والأسلوبية" تحت عنوان: "العدول" ص 223، وما بعدها.
[7] بلاغة العطف في القرآن الكريم، ص 63.
[8] للعدول اثنا عشر مرادفًا، منها: الانزياح، والانتهاك، والانحراف، وكسر النظام، … إلخ.
يُنظر: الأسلوبية والأسلوب ص (99 – 100)، وبلاغة الخطاب وعلم النَّص، ص (54 – 69).
[9] مفتاح العلوم ص 32.
[10] نظرية اللغة في النقد العربي ص 206، 207.
تلوينات العدول في الجملة القرآنية
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ
أينما وُجِدَ العدول في التعبير اللغوي وُجِدَ التركيب الفني والجمالي ، فما العدول في حقيقته إلا اللغة في بنيتها السطحية ( الفنية ) ، مبتعدة في اتجاه مضاد لمستوى البنية العميقة ( المعيارية ) ، التي هي أصل بنية العدول .
والقرآن الكريم كأثمن نص تعبيري باللغة العربية وظّف هذه البنية العدولية في مبانيه الجملية والتركيبية على أروع نسق ، وأجمل هيئة تعبيرية ، ذلك لأن فنية العدول في القرآن تتسع لتشمل في فضائها ألوان متنوعة تتمثل في :
1- العدول الرتبي ( التقديم والتأخير الرتبي ) .
2- العدول المعنوي ( التقديم والتأخير المعنوي ) .
3- العدول الضمائري ( أسلوب الالتفات ) .
ولذا فالتلوين بالعدول في سياقات التوظيف القرآني للتراكيب يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى إثبات فرادة النص الكريم ، وثانياً إلى تثوير الدلالات الجمالية المتولدة عن مثل هذا العدول . ولنحاول الآن الوقوف مع كل لون من هذه الألوان العدولية من خلال السياقات القرآنية ، محاولين تلمس جماليات التوظيف النصي في هذه السياقات .
أولاً : العدول الرتبي ( التقديم والتأخير الرتبي )
أصبح من المسلم به أن معنى الجملة ليس هو مجموع معاني المفردات التي تتألف منها ، بل هو حصيلة تركيب هذه المفردات في نمط معين حسب قواعد لغوية محددة ، تماما كما أن الساعة مثلاً ، ليست مجموع القطع المعدنية التي تتألف منها ، وإنما هي آلة تتكون من هذه القطع حسب قواعد معدنية ، لتؤدي وظيفة لا تؤديها أي من القطع وحدها ، ولا تؤديها كل القطع مجتمعة إلا إذا ركبت بطريقة محددة ( ) .
كما أن نسق الجملة وكيفية ترتيب الأجزاء فيها مما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في أثناء عملية الاختيار البنائي للجملة . يقول الجرجاني : " وإن أردت أن ترى ذلك عياناً فاعمد إلى أي كلام شئت وأزل أجزاءه عن مواضعها وضعها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها فقل في :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
( من نبك قفا حبيب ذكرى منزل ) ثم انظر هل يتعلق منك فكر بمعنى كلمة منها " ( ) . ذلك لأن المعنى إنما يتولد فقط من ترتيب الألفاظ والعبارات ، والمعاني هي معاني النحو بالتقديم والتأخير ( ). ومعنى هذا أن لكل تركيب نظمه وترتيبه ومواقع ألفاظه ، وقد صرح باسكال بأن الكلمات المختلفة الترتيب يكون لها معنى مختلف ، وأن المعاني المختلفة الترتيب يكون لها تأثيرات مختلفة أيضا ( ) .
إن تقديم ما هو متأخر ، وتأخير ما هو متقدم لمناسبة تقتضي ذلك جائز لا مشاحة فيه . وهذا الجواز ليس مجانياً ، بل ما من مقدَّم أو مؤخَّر يُزَال عن موضعه إلا ويترك ظلالاً معنويةً يخالف الوضع الثاني فيها الوضع الأول ، ومن ثم كان تقسيم التقديم إلى مفيد وغير مفيد ، مما أثار حفيظة عبد القاهر فقال : " واعلم أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين ، فيجعل مفيداً في بعض الكلام وغير مفيد في بعض ، وأن يعلل تارةً بالعناية وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب ، حتى تطرد لهذا قوافيه ولذلك سجعه ، ذاك لأن من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى ، فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلاً على الفعل في كثير من الكلام أنه قد اختص بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير ، فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وفي كل حال ، ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء أن يدعي أنه كذلك في عموم الأحوال ، فأما أن يجعله شريجين فيزعم أنه للفائدة في بعضها ، وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض ، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به " ( ) .
لقد حاول البلاغيون التدليل على اختلاف الدلالات باختلاف التراكيب بالتقديم والتأخير ، واجتهدوا في بيان الفروق الدقيقة بين عبارات أصبحت رائجة في مصادرهم قديمها وحديثها من مثل : ( زيداً ضربتُ ) ، و( ضربتُ زيداً ) ، و( زيدٌ المنطلقُ ) ، و( المنطلقُ زيدٌ ) ، و(جاءَ زيدٌ ضاحكاً) ، و(جاءَ ضاحكاً زيدٌ) . وكان تحليلهم لها مؤذناً بفهم دقيق واعي . فمن ذلك مثلاً تفريقهم بين :
*( زيداً ضربتُ ) ، و( ضربتُ زيداً ) : عبارتان ليستا بمعنى واحد " فإن في قولك : ( زيداً ضربتُ ) تخصيصاً له بالضرب دون غيره ، بخلاف قولك : ( ضربتُ زيداً ) ، وبيانه هو أنك إذا قدمت الفعل فإنك تكون بالخيار في إيقاعه على أي مفعول أردت بأن تقول : ضربتُ زيداً أو عمراً أو بكراً أو خالداً ، وإذا أخرت الفعل وقدمت مفعوله فإنه يلزم الاختصاص للمفعول على أنك لم تضرب أحدا سواه " ( ) .
*( زيدٌ المنطلقُ ) ، و( المنطلقُ زيدٌ ) : وأما قولك ( المنطلقُ زيدٌ ) والفرق بينه وبين أن تقول ( زيدٌ المنطلقُ ) ، فالقول في ذلك أنك وإن كنت ترى في الظاهر أنهما سواء من حيث كان الغرض في الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد ، فليس الأمر كذلك . بل بين الكلامين فصل ظاهر وبيانه : أنك إذا قلت : ( زيدٌ المنطلقُ ) فأنت في حديث انطلاق قد كان وعرف السامع كونه ، إلا أنه لم يعلم أمن زيد كان أم من عمرو ، فإذا قلت : ( زيدٌ المنطلقُ ) أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد بعد أن كان يرى ذلك على سبيل الجواز ، وليس كذلك إذا قدمت ( المنطلق ) ، فقلت : ( المنطلقُ زيدٌ ) ، بل يكون المعنى حينئذ على انك رأيت إنساناً ينطلق بالبعد عنك ، فلم تثبته ولم تعلم أنه أزيد هو أم عمرو ، فقال لك صاحبك : (المنطلقُ زيدٌ) ، أي هذا الشخص الذي تراه من بُعد هو زيد ( ) .
وقد أثارت محاولات البلاغيين التمييز بين هذه العبارات د. إبراهيم أنيس فقال عن الجرجاني : " وقد حاول عبد القاهر الجرجاني أن يفرق بين مثلين من صنعه هما : (زيدٌ المنطلقُ) ، و( المنطلقُ زيدٌ ) فلقي من العنت والمشقة ما أجهده وأجهدنا معه ، ويظهر أن صعوبة تمييز المسند من المسند إليه في مثل هذه الجمل هو الذي ألجأ عبد القاهر وغيره إلى تكلف الشطط في علاجها . وهذه المزاوجات لا تعدو أن تكون أمر أسلوب إذ لا يكاد المعنى يختلف بتأخير أحدهما أو تقديمه " ( ) .
ولعل د. إبراهيم أنيس حين أصدر حكمه هذا كان واقعاً تحت تأثير التصور النحوي الذي لا شأن له بالدلالات الجزئية ، فالمعنى لا يختلف سواء قدّمنا أو أخّرنا ، بينما يحدث التغيير في الدلالة ذاتها ففي قوله تعالى : ***61533; وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ***61531; ( ) وجدنا المعنى العام أنهم جعلوا الجن شركاءَ وعبدوهم مع الله ، أما الدلالة فتأتي من وراء الصياغة الإبداعية في التقديم والتأخير ( ) .
ولهذا لم يستطع برجشتراسر أن يقف عند حدود فارقة بين التعبير بالتركيب الفعلي ( جاءَ زيدٌ ) ، و التركيب الاسمي ( زيدٌ جاءَ ) . يقول : " والأقرب إلى الاحتمال هو أن يكون معنى ( زيد جاء ) عين معنى ( جاء زيد ) ، وإنما الفرق بينهما أنه إذا قلت : ( جاء زيد ) أخبرت عن مجيئه إخباراً محضاً ولا يخالطه شيء غيره ، فتقديم الفعل هو العبارة المألوفة ، وإذا قلت : ( زيد جاء ) كان مرادي أن أنبه به السامع إلى أن الذي جاء هو زيد ، كأني قلت : زيد جاء لا غيره . فتقديم الفاعل عبارة عن أن الأهم كون زيد هو الفاعل لا كونه فَعَلَ الفعل ، وما ينبه به السامع على هذا المعنى شيئان :
الأول : تغيير الترتيب العادي ، فكل شيء يخالف العادة هو أكثر تأثيراً في الفهم من المألوف .
والثاني : أن أول كلمة في الجملة هي على العموم المضغوطة في اللغة العربية إذا صرفنا نظرنا عما تبتدئ به الجملة من الأدوات كإن وأخواتها إلى غير ذلك " ( ) .
فبرجشتراسر لم يجد بداً من الاعتراف بهذه الفروق الدلالية الدقيقة وإرجاعها إلى تغيير الترتيب الذي يجعل بداية الجملة مضغوطة معتنى بشأنها ، وهذا الضغط هو ما سماه تمام حسان (المعنى الشأني) أو (البؤري) ( ) ، وهو ما يفهم من تحديد بؤرة الاهتمام بمضمون اللفظ بواسطة التقديم والتأخير .
يمكن أن نستخلص مما سبق أن أي تغيير في النظام التركيبي للجملة يترتب عليه بالضرورة تغير الدلالة وانتقالها من مستوى إلى مستوى آخر ، ومِلاك ذلك كله وتمامه الجامع له – كما ينص عليه البلاغيون ويلخصه القاضي الجرجاني- صحة الطبع وإدمان الرياضة فإنهما أمران ما اجتمعا في شخص فقصرا في إيصال صاحبهما عن غايته ورضيا له بدون نهايته – وأقل الناس حظاً في هذه الصناعة لا يعبأ باختلاف الترتيب واضطراب النظم وسوء التأليف ، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها ولا يسبر ما بينهما من نسب ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب ( ) .
إن اختيار المتكلم لترتيب دون ترتيب باعتبار الظروف والمقاصد التي يريدها ، أي باعتبار نظام القيم ، ينتج عنه كون التقديم أو التأخير من نتائج الاختيار النحوي ، إذ يعود عدد الاختيارات الممكنة إلى بنية اللغة بالذات ، ففي بعض الأحوال لا يكون هناك سوى بديل واحد كتقديم الفاعل أو تأخيره ، فالمتحدث يختار أبنية لغوية تخضع لقواعد نحوية إجبارية في صياغتها لا مفر من اتباعها . وتظل هناك بعد ذلك مجموعة إمكانيات التعبير الاختيارية المتعادلة دلالياً بشكل أو بآخر يستطيع المتحدث أن يمارس فيها اختياراته الأسلوبية ( ) .
وبهذا يكون التقديم والتأخير نمطاً من الأنماط الدالة ، وهو وجه من أوجه الاختيار التي تُؤَدَّى بها المعاني ، وانتقاء بديل من البدائل الأسلوبية المتاحة تمثل مجالاً لتباري المبدعين باعتبار أن هناك ممكنات يختص قوم دون قوم بإدراكها واكتشافها ، فتكون التراتيب اللغوية المناسبة لها ملكاً لأولئك الذين يدركون كيفية استعمالها . وقد رأينا استحسان الجرجاني للتراكيب والتراتيب المنتقاة والتي عمها الحسن من جهة أن قدّمت فيها كلمة وأخّرت أخرى .
العدول في الأسلوب :
لكل أسلوب بياني دوافعه وأهدافه ، ولكل مبدع أسلوبه وطريقته في التعبير ، وإذا كانت بعض المدارس تجعل الأسلوب انتقاءً واختياراً ، وتلزمنا بمعرفة البدائل المتاحة ، تلك التي يعمل المنشئ فيها فكره بالاختيار والاستبعاد . فإن بعض الاتجاهات تحدد الأسلوب بأنه مفارقة أو انحراف أو عدول عن أنموذج آخر من القول ينظر إليه على أنه معيار ( ) . إن مدرسة الأسلوب باعتباره انحرافاً عن النمط تحاول أن تعزف على وتر المفارقة بين البنية السطحية والبنية العميقة خاصة في الحالات التي توصف فيها البنية السطحية بأنها غير نحوية ، إذ يلاحظ أصحاب هذه المدرسة كثرة ورود الجمل غير النحوية في لغة الشعر تلك الجمل التي لا يعود انعدام النحوية فيها أو انحرافها إلى جانب التركيب فحسب ، وإنما قد يكون له جانبه الدلالي أيضاً ( ) .
ولهذا كان بيروسلي يرى " أن الأسلوب هو التفصيل الدلالي ، أو هو الدلالة على نطاق مصغر . أما كيفية التعرف على التفصيل الدلالي من غيره فيحددها بأنها هي التي تعتمد على معيار الانحراف في اللفظ عن القاعدة العامة لتكوينه ونظمه ، فأي اختلاف في النظم يؤدي إلى اختلاف في الأسلوب " ( ) .
إن هذه العوارض والاختلافات التي تقع في بناء الجملة لا تتم بالنظر إلى البنية الأساسية أو الأصل أو القاعدة ، فلولا اعتبار هذه الأمور بالنسبة للتركيب في التحليل النحوي لما وجدنا ما يسمى بالتقديم أو التأخير أو الحذف . وهذان العارضان من أدل الدلائل على أن النحو العربي في تحليله لبناء الجملة كان يراعي الأصل والبنية الأساسية ( ) .
والبنية الأساسية تمثل النسق المحايد الذي يراد به مجرد الإخبار ، وحينما يريد المتكلم أن يجذب انتباه السامع إلى عنصر معين في الجملة ، أو يريد التركيز على عنصر معين لأنه يمثل في نظره زبدة البحث اللغوي ، فإنه يلجأ حينئذ إلى خرق هذا النسق بالانحراف عنه ، لأن لغة الفن لها بديل سابق عليها ، والمستوى الفني لا يقف عند هذا البديل ، بل ربما يدفعه الموقف المعين إلى أن يعدل عن ذلك الأصل بتغيير مواقع الكلم فيه أو بالزيادة أو الحذف . وهو لا يفعل ذلك عبثاً وإنما لينقل إلى السامع دلالة يرى أن أصل الوضع قد لا يفي بأدائها . إن العدول عن الأصل يمثل نوعاً من الخروج عن اللغة النفعية إلى اللغة الإبداعية ( ) .
ومن هنا وجه البلاغيون اهتماماً خاصاً لهذا المبحث ، ورصدوا عوارض بناء الجملة ، واعتبروا التقديم أحد هذه العوارض ، فوضع الكلمة في غير موضعها انحرافاً بها عن الأصل أو القاعدة لداعٍ من الدواعي التي تتغير به الدلالة تغيراً يوجب لها المزية والفضيلة ( ) . إن درجة الوعي في اختيار المتكلم أو المؤلف للمواد التي يوظفها أسلوبياً أو ينحرف عنها تختلف بين قيم تعبيرية لا شعورية تقريباً ، وتتكون من العناصر الاجتماعية والنفسية اللازمة للتعبير ، وبين قيم صياغة واعية ومقصودة شعورياً . يقول د. صلاح فضل : " بيد أنه إذا كان التمييز بين هذين اللونين من الاختيار صالحاً نظرياً فغالباً ما يصعب تطبيقه من الوجهة العلمية ، وهناك بلا شك حالات تتوفر فيها لدينا قرائن كافية للتدليل على أن الاختيار قد تم بشكل واع مقصود . فاللجوء المنظم للأدوات الأسلوبية مؤشر لا يخطئ على النشاط الواعي المقصود " ( ) .
وقد ألح الجرجاني على الوعي بالترتيب ، وجعله شرطاً في ترتيب الكلام ، ووضع الألفاظ موضعها . يقول : " وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصفة إن لم يقدم فيه ما قدّم ولم يؤخّر ما أخر ، وبدئ بالذي ثُنِّيَ أو ثَنَّي بالذي ثَلَّثَ به لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة ، وإذا كان كذلك فينبغي أن ننظر إلى الذي يقصد واضع الكلام " ( ) . وعملية الترتيب جزء من عملية الاختيار ، وهي عملية واعية مقصودة ، فمؤلِّف القول يفكر في المعنى الذي يريد أن يصوره ، ويرتب هذا المعنى في نفسه ، ثم يختار النظم المناسب لأدائه ، يُقدّم فيه ما تَقَدَّم في نفسه ويؤخِّر ما تأخَّر فيها .
أسلوبية العدول الرتبي :
يقع مبحث التقديم والتأخير في بؤرة مباحث الأسلوب الدائرة حول التركيب ، ويكتسب هذا المبحث أهمية خاصة من حقيقة أنه يخضع في كل لغة للطابع الخاص بها فيما يتعلق بترتيب الأجزاء داخل الجملة . وهو من الظواهر الأسلوبية الشائعة في القرآن الكريم وذلك لما له من تأثير في المعنى واللفظ معاً ( ) .
وهو مظهر من مظاهر أسلوبية كثيرة تمثل قدرات إبانة أو طاقات تعبيرية يديرها المتكلم إدارةً حيةً واعيةً فيسخرها تسخيراً منضبطاً للبوح بأفكاره . ومواقع الكلمات من الجملة عظيمة المرونة كما هي شديدة الحساسية ، وأي تغيير فيها يحدث تغييرات جوهرية في تشكيل المعاني وألوان الحس وظلال النفس ( ) . فالذي تظهر به المزية في الأساليب " ليس إلا الإبدال – الاختيار- الذي يختص الكلمات ، أو التقديم والتأخير الذي يختص الموقع ، أو الحركات التي تختص الإعراب ، فبذلك تقع المباينة " ( ) .
وقد وصف فندريس البحث القائم على تحديد القيمة الفنية أو الأسلوبية للتغيير في مواقع الكلمات بأنه " في غاية الدقة ، ويتطلب حساً لغوياً مدرباً ولطفاً عالياً في الذوق الأدبي ، يضاف إليها معرفة نادرة بالظروف الفيلولوجية للغة المدروسة " ( ) .
كما أن المعاني التي تكون أسبق وجوداً في الذهن من غيرها – والتي يلزم تقديمها اللفظي بحسب تقدمها الرتبي المعنوي- كثيرة متعددة بحسب تعدد أسبابها الموجبة لها النابعة من أبعادها ومواقعها في النفس ، ولا يعدل بها عن مواقعها ومراتبها التي استحقتها ، إلا إذا اقتضت التجربة الشعورية ذلك لأغراض وأبعاد نفسية معينة . وهذا هو الضرب الثاني من ضروب التقديم والتأخير القائم على أساس تقديم ما حقه التأخير وتأخير ما رتبته التقديم ( ) . فقد يعمد المبدع إلى هذا الضرب من الأسلوب في التعبير ، فيرتب الألفاظ على غير ما يقتضيه ترتيبها ووجودها الذهني ، وذلك من أجل تحقيق أبعاد نفسية معينة تنبع من طبيعة التجربة الشعورية والمعنى المراد نقله ، ومن ظروف وأحوال المقام الذي سيق فيه التخاطب ، مما يحتم على المتكلم تقديم ما حقه التأخير أو تأخير ما حقه التقديم . تقول : ( زيدُ جاءني ) إذا أردت أن تفيد فوق الإخبار بالمجيء ضرباً من الاهتمام بزيد والحفاوة بأمره ، وتوكيد تلك الحقيقة لسامعك لأهميتها ، أو لأنه على حال لا يتوقع مجيء زيد . وما شابه ذلك من تلك الألوان النفسية التي يبوح بها تقديم المسند إليه فإذا قلت : ( جاءني زيدٌ ) انقطع هذا الفيض من الهواجس والخواطر ، وكان الكلام كلاماً مرسلاً يجري في سياق خال من تلك النبضات التي جرى فيها السياق الأول ، لأنك لما زحزحت ( زيد ) ورميت به قريباً من الصدر صار قريباً من رأس الفكرة وبؤرة الاهتمام ( ) .
وكذلك الألفاظ التي تأتي حكماً في صدر الكلام وفي مطلع الجمل فإنها تحمل شحنات أسلوبية معينة ، فهي تشبه المفاتيح الموسيقية التي تكون فاتحة القطعة الموسيقية التي تحدد تنغيمها ( ) . كما إن الترتيبات المختلفة تصنف باعتبار درجتها البلاغية ، وكثيراً ما نقرأ في كتب المتقدمين أن هذا أبلغ من هذا ، وأن هذا القول أبلغ من ذاك ، ونعثر على مثل هذا في كتابات الجرجاني . وغاية الأمر فيه أن هذا الرجل يبين بالاعتماد على النظرية النحوية نجاح اختيار المتكلمين لترتيباتهم وما تبعها من مجازات . يقول الجرجاني متحدثاً عن أبيات البحتري التي يقول فيها :
بَلَوْنَا ضَرَائِبَ مَنْ قَدْْ نَرَى فَمَا إِنْ رَأَيْنا لِفَتْحٍ ضَرِيباً
هُوَ المَرْءُ أبْدَتْ لَهُ الحادِثَا تُ عَزْماً وَشِيكاً وَرَأْياً صَلِيباً
تَنَقَّلَ في خُلُقَيْ سُـؤْدَدٍ سَماحاً مُرَجَّى وَبَأساً مهيباً
فكَالسّيْفِ إنْ جِئْتَهُ صَارِخاً وكالبَحْرِ إنْ جِئْتَهُ مُسْتَثِيباً
( الضرائب : الطبيعة والخُلُق . الضريب : النظير والشبيه . مستثيبا : يطلب الثواب ) .
: " فإذا أنت رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ووجدت لها اهتزازات في نفسك ، فعد فانظر في السبب ، واستقص في النظر ، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قَدَّمَ وأخَّرَ وعَرَّفَ ونَكَّرَ وحَذَفَ وأَضْمَرَ ، وتوخَّى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو فأصاب في ذلك كله ، ثم لطف موضع صوابه ، وأتى مأتى يوجب الفضيلة " ( ) .
إذن فأسلوبية التقديم أكيدة في العبارة العربية حاضرة في الذوق الأدبي ، تهب الجمال وتنزعه ، وتقوي الحكم وترفعه أو تضعه . يقول الرازي معلقاً على قول إبراهيم بن العباس :
فلو إذْ نَبَا دهرٌ وَأُنْكِرَ صَاحِبٌ وسَُلَِطَ أعْدَاءٌ وغَابَ نَصِيرُ
تكُونُ عَنِ الأهْوَازِ دَاري بنَجْوَةٍ ولكن مَقَاديرُ جَرَتْ وأُمُورُ
: " لم تجد لما فيه من الرونق والطلاوة والحسن والحلاوة شيئاً إلا من أجل تقديم الظرف الذي هو ( إذ نبا ) على عامله الذي هو ( تكون ) وإن لم يقل : فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر … وكل ذلك من معاني النحو كما ترى " ( ) . فاختيار تقديم الظرف – من جملة البدائل الأسلوبية المتاحة – هو الذي حقق للشاعر هذا المسلك البديع الذي اكسب عبارته وقعاً وجمالاً .
ومما لا شك فيه أن اختلاف العبارتين يترتب عليه اختلاف في المعنى وفي الحسن . يقول د. تمام حسان : " إذا اختلفت عبارتان وقد أفهمتا معنى واحداً ، فالفرق بينهما منوط بالأسلوب لا محالة ، وأول ما يميز أسلوباً عن أسلوب هو تفضيل طريقة تركيبية على طريقة تركيبية أخرى ، أضف إلى ذلك أن الطرق الأسلوبية تكشف عن الكثير من المميزات المزاجية لأصحابها حتى يمكن من خلال الأسلوب أن نحدد الشخصية " ( ) . ولذلك كان القدماء يوصون المتكلم بأن يجتهد في ترتيب ألفاظه وتهذيبها وصيانتها من كل ما يخل بالدلالة ، ويعوق دون الإبانة ، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان (غفلاً عرياناً ) ، مثلما يتراجعه الصبيان ويتكلم به العامة في السوق ( ) .
علل التقديم وإفادته :
كان الدارسون قبل عبد القاهر يكتفي أكثرهم ببيان أصل العبارة في دراسة التقديم دون أن يحاولوا الكشف عن المعاني الإضافية للنصوص المختلفة بإدراك جانب من العلاقات الداخلية ، فالفراء لا يتجاوز تلك النظرة المحدودة التي تحصر التقديم والتأخير في وضع كلمة موضع الأخرى ، وتبادل مكان الكلمتين فتفسح إحداهما مكانها للأخرى كما يقول في قوله تعالى : ***61533;وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى***61531; ( ) : " يريد : ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً ، مُقَدَّم ومُؤَخَّر " ( ) .
وقد سار على هذا النهج كل من أبي عبيدة في مجاز القرآن ، وابن فارس ، والثعالبي ، دون أن يقفوا على الأسرار البلاغية والدلالية لأسلوب التقديم والتأخير ( ) .
وتناوله ابن قتيبة بقوله : " ومن المقدم والمؤخر قوله تعالى : ***61533;الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً***61531; ( ) أراد : أنزل الكتاب قيماً ، ولم يجعل له عوجاً . ومنه : ***61533; فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ***61531; ( ) ، أي بشرناها فضحكت . وقوله : ***61533; فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا***61531; ( ) ، أي فعقروها فكذبوه بالعقر " ( ) .
إلا أن الكتابات البلاغية تجاوزت بيان أصل العبارة بالنظر في أسباب التقديم ودلالاته ، وتوصل أصحابها إلى أن ما قدّم أو أخّر لا يكون إلا لعلة بلاغية ، وجعلوا علم المعاني مجال درسه وخاصة منه ما يتعلق بتقديم المسند والمسند إليه ومتعلقات الفعل ، وجعلوا لكل قسم عللاً وأغراضاً . فالمسند إليه يتقدم ( ) :
1- لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه ، كتقديم الفاعل على المفعول ، والمبتدأ على الخبر .
2- أو ليتمكن في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشويقاً إليه .
3- أن يقصد تعجيل المسرة إن كان في ذكره تفاؤل ، أو المساءة إن كان فيه ما يتطير به .
4- أو إيهام أن المسند إليه لا يزول عن الخاطر.
5- أو إيهام التلذذ بذكره .
6- أو تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي إن ولي حرف النفي .
7- أو تقوية الحكم وتقريره .
8- أو لإفادة العموم .
* كما يتقدم المسند لأغراض منها ( ) :
1- تخصيص المسند بالمسند إليه كقوله تعالى : ***61533;وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ***61531; ( ) .
2- التنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت .
3- التفاؤل بتقديم ما يسر مثل : عليه من الرحمن ما يستحقه .
4 – التشويق إلى ذكر المسند إليه .
* ومن أغراض تقديم متعلقات الفعل ( ) :
1- الاختصاص : كقوله تعالى : ***61533; إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ***61531; ( ) .
2- الاهتمام بالمقدم كقوله تعالى : ***61533; قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ***61531; ( ) .
3- التبرك : مثل قولك : قرآناً قرأت .
4- رعاية الفاصلة كقوله تعالى : ***61533; فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ***61531; ( ) .
وهذه العلل أو الإفادات أو الأغراض يمكن تقسيمها إلى قسمين :
أ – قسم لفظي له صلة بالنظم ، والهدف منه تحسين العبارة من الناحية الشكلية ، وإضفاء طابع الجمالية والانسياب على العبارة كمراعاة الفاصلة والضرورة الشعرية .
ب – قسم دلالي يختص بالمعاني الإضافية المتولدة عن التقديم كالعناية والاهتمام والتخصيص والتقوية .
التقديم والعناية :
لقد صاغ البلاغيون بعض المبادئ التي يجدر بنا الوقوف عندها في أثناء مقاربة التقديم والتأخير منطلقين من مبدأ عام يتعلق بإفادات العلاقات النظمية ، ثم عن مصدر تلك الإفادات . والبلاغيون فسروا ظاهرة التقديم على أنها تركيز العناية والاهتمام بالعنصر المقدَّم ، فالمتكلم يختار ترتيباً دون آخر باعتبار الظروف والمقاصد ، وهو يقدم ما العناية به أشد ، قصداً إلى التأثير في السامع الذي أصبح معتبراً في العملية التواصلية . إن مفهوم العناية يمكّننا من النظر في التحويلات الممكنة للتراكيب ، فرغم أن كل مكونات الجملة تهم المتكلم إلا أن هذا الاهتمام وهذه العناية ليسا على درجة واحدة ، فالمقدم درجة الاهتمام به تفوق غيره . يقول الجرجاني : " وإنما يكون التقديم والتأخير على قدر العناية والاهتمام " ( ) .
إذن فالأهم واجب التقديم ، وهذا أصل في تعليل التقديم -أو كالأصل- وهو من جوامع الكلم ، وله اطراد في تعليل حالات التقديم والتأخير المختلفة . فتقديم المسند إليه ، وتقديم المسند ، وتقديم متعلقات الفعل ، كل ذلك يكون من أجل العناية والاهتمام ولهذا عدَّ د.إلياس ديب بيان الأهمية أهم الدواعي البيانية لتعليل التقديم ، وأصلاً لباقي المتعلقات البلاغية الأخرى ( ) . وتفسير هذا : أن التقديم دليل على أن المقدَّم هو الغرض الأهم . ففي قوله تعالى : ***61533; لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ***61531; ( ) ، فقد قدّم اسم الإشارة الذي يريد به البعث ، فكان دليلاً على أهمية البعث ، وأن الكلام قد سيق لأجله . وفي قوله تعالى : ***61533; لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ***61531; ( ) قدَّم ( نحن وآباؤنا ) على اسم الإشارة (هذا) ، فكان ذلك دليلاً على أهمية المبعوثين ، وهم القصد من الحديث وليس البعث .
إن قضية العناية التي تناولها علماء النحو والبلاغة واللغة وما زلنا نقرأ عنها حتى يومنا هذا في كتب النحو والنقد والبلاغة ، أساسها من صنع سيبويه فهو أول من أشار إليها وطرق بابها ، يقول في ( باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى المفعول ) : " فإذا قدمت المفعول وأخرت الفاعل كقولك : ضربَ زيداً عبدُ الله ، وكان حظ اللفظ فيه أن يكون الفاعل مقدماً ، وهو عربي جيد كثير ، كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم " ( ) .
وفي باب ( كَسَى وما ينصب مفعولين ليسا المبتدأ والخبر ) يرى أن التقديم لبيان العناية والاهتمام كما كان في تقديم المفعول على الفاعل . يقول : " وإن شئت قدَّمت وأخَّرت فقلت : كَسَي الثوبَ زيدُ ، وأعْطَي المالَ عبدُ الله ، كما قلت : ضربَ زيداً عبدُ الله ، فالأمر في هذا كالأمر في الفاعل " ( ) . كما يرى هذه العناية والاهتمام في تقديم الظرف أيضاً ( ) . ويقول في باب ( إنَّ ) : " واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام ههنا مثله في باب كان " ( ) .
ويرى الزركشي أن وضع سيبويه للتقديم والتأخير قاعدة عامة هي أنهم يقدمون ما يعنون به " وذلك أن من عادة العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما – وأناطت به حكماً- وقد يشركه غيره في ذلك الحكم أو فيما أخبر به عنه ، وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب ، فإنهم مع ذلك يبدءون بالأهم والأولى . قال سيبويه : ( كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم ) " ( ) .
ولعل سيبويه بلفته النظر إلى هذا السر البلاغي الذي تلقفه علماء النحو والبلاغة يكون قد أثرى كثيرا من المباحث البلاغية . ولا شك أن هذا يدل على أنه كان من الأوائل الذين أسهموا في تأسيس البعد التعليلي النظري للتقديم ، وفيه ما فيه من مراعاة موقع الوحدات داخل الرسالة اللسانية والشروط التي يفرضها عليه المقام التخاطبي .
ولعل من أهم الذين انتفعوا بمبدأ الاهتمام الذي أقره سيبويه عبد القاهر الجرجاني ، فقد سعى إلى تسويغ تقدم اللفظ أو تأخره بالنظر إلى ما يمثله في السياق ، وذلك بتوظيف ( الاعتبارات ) في البحث عن مصدر اهتمام المتكلم ببعض الجزاء الكلامية دون بعض . يقول الجرجاني : " واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئاً يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول : كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم … إن معنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه ، كمثل ما يعلم في حال الخارجي ، يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى ، أنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ، ولا يعنيهم منه شيء ، فإذا قُتل وأراد مريد الإخبار بذلك ، فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول: قتلَ الخارجيَّ زيدٌ ، ولا يقول : قتل زيدٌ الخارجيَّ ، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له (زيد) جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم " ( ) .
وقال في المقتصد معقباً على قول سيبويه : " يريد أنهم كانوا يقصدون ذكر كل واحد من المفعول والفاعل في قولك : ضرب الأميرَ زيدٌ ، فإنهم يقدمون الذي هو أجزل حظاً من العناية والاهتمام مفعولاً كان أو فاعلاً " ( ) .
فالتعليل بالعناية عند الجرجاني ذو طابع عقلي . يقول د. تامر سلوم : " وفي التقديم نرى أن المعنى الوجداني ليس أصلاً في حديث عبد القاهر الجرجاني ، إذ القول بالأهمية ، أو العناية ، وتأكيد الحكم ، ودعوى الانفراد ذو صبغة عقلية ، لا يتضح فيه تلمس الجانب الوجداني أو المعنى الأدبي " ( ) .
لقد أصبح مبدأ العناية والاهتمام أصلاً معتمداً عند البلاغيين المتأخرين الذين تابعوا سيبويه والجرجاني في دعوتهما إلى تسويغ تقدم اللفظ أو تأخره بالنظر إلى ما يمثله في السياق . يقول الزمخشري في تعليقه على قوله تعالى : ***61533; إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ***61531; ( ) : " هذا كلام جامع لا يزاد عليه . فإن قلت : كيف جعل ( خير من استأجرت ) اسماً (لإن) ، و( القوي الأمين) خبرا ؟ قلت هو مثل قوله :
أَلا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حياً وهالكاً أَسيرُ ثقيف عِنْدَهُم فِي السَّلاسِلِ
في أن العناية هي سبب التقديم " ( ) .
ويقول في تفسيره لتقديم كلمة ( راغب ) في قوله تعالى : ***61533; قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ***61531; ( ) : " لأنه أهم عنده وأعنى ، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وأن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد " ( ) . وقريب منه قول ابن الأثير في الآية نفسها : " ولم يقل : أأنت راغب لأنه كان أهم عنده ، وهو به شديد العناية " ( ) .
ولم يخرج السكاكي عن ملاحظة سيبويه في التقديم . يقول : " والحالة المقتضية هي كون العناية بما يقدم أتمّ ، وإيراده في الذكر أهمّ ، والعناية التامة بتقديم ما يقدم والاهتمام بشأنه نوعان : أحدهما أن يكون أصل الكلام في ذلك هو التقديم ، ولا يكون في مقتضى الحال ما يدعو إلى العدول عنه . وثانيهما : أن تكون العناية بتقديمه والاهتمام بشأنه لكونه في نفسه نصب عينيك ، وأن التفات الخاطر إليه في التزايد ، كما تجدك قد منيت بهجر حبيبك وقيل لك : ما تتمنى ؟ تقول : وجه الحبيب أتمنى " ( ) .
لقد جعل السكاكي التقديم للعناية مطلقاً أي سواء كان المقدم من معمولات الفعل أو غيرها . كما جعل الأهمية ههنا قسيماً لكون الأصل التقديم ، ومراده بالأهمية ؛ الأهمية العارضة بحسب اعتناء المتكلم أو السامع بشأنه ، واهتمامه بحاله لغرض من الأغراض كقولك : قتلَ الخارجيَّ فلانٌ ، بتقديم المفعول ، لأن المقصود الأهم قتل الخارجي ليتخلص الناس من شره ( ) .
مظاهر العناية والاهتمام :
إن تقديم بعض المعمولات على بعض لا يكون إلا بكون ذلك البعض أهم ، لكن ينبغي أن يفسر وجه العناية بشأنه ، ويعرف له معنى ، ولا يكفي أن يقال : قدم للعناية والاهتمام ، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية ؟ وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال : إنه قدم للعناية ، ولتخيلهم ذلك قد قصر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم وهونوا الخطب فيه ، ولعل ذلك ما ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها ( ) .
يقول ابن يعقوب المغربي : " ثم كون الذكر أهم لا يكفي في علة التقديم لذاته ، لأن الأهمية نفسها حكم يفتقر إلى علة توجبها ، إذ الأهمية بالشيء هي الاعتناء به ، والاعتناء لا بد له من سبب ، فلذلك لو قيل : هذا أهم من ذلك ، كان هذا القائل بصدد أن يقال له لماذا كان أهم ؟ ومن أي وجه كانوا به أعنى ؟ " ( ) .
وبهذا يكون ذكر الأهمية كالقانون الجامع الذي سنسعى إلى تفصيله من خلال عرض بعض مظاهر وتجليات العناية الدائرة في فلك الانفعالات النفسية من تعجب واستعظام وفرح وحزن وتفاؤل وتشاؤم ومدح وذم وتشويق وتبكيت ، باعتبار أن الأهمية هي المعنى المقتضي للتقديم ، وجميع المذكورات تفاصيل له .
إن معظم علل التقديم هو من مظاهر العناية بالمقدَّم ، وهو تفاصيل للعناية ، إذ كانت العناية بمثابة القانون الجامع ، وكانت هذه المعاني النفسية مظهراً لها ، وهي لا تنحصر . والذي يطبع هذه الظاهرة الأسلوبية البلاغية ويحكمها هو الأبعاد النفسية الانطباعية ، ذلك أن النفس تُعنى وتتطلع إلى تقديم الذي بيانه لها أهم ، وهي بشأنه أعنى ، فقد يشغل نفسَ المتلقي أمرٌ من الأمور ، وتتطلع إلى خبره ، وتتشوق إلى ما تم بشأنه ، لكون التعرف عليه مهماً لديها ، أو لأن أموراً مهمة تترتب عليه ، فحينئذ ولكي يكون التعبير أكثر قدرة وقابلية على التأثير والإثارة ، يقدَّم فيه ما انعقد القلب به ، وإن كان حقه الترتيبي من حيث الوجود الذهني التأخير ، وذلك حتى يعجل للنفس ما تريد التعرف عليه فتطمئن وتستقر ، وإلا فقَدَ النص قيمته لانشغال النفس عما يرد فيه بما تعلقت به وتأخر بيانه في النطق ( ) .
وقد كان عبد القاهر أقرب البلاغيين إلى تفهُّم حقيقة هذه الظاهرة والكشف عن بعدها النفسي حينما ذهب إلى أن النفس إنما تُعنى بتقديم ما تهتم بشأنه ، وذلك لأنه ماثلٌ نصب العينين ، وأن التفات الخاطر إليه في ازدياد .
لقد اتضح من خلال ما سبق – بما لا يدع مجالاً للشك – أن العناية ومظاهرها أصل من أصول التعليل البلاغي لظاهرة التقديم والتأخير ، وأن ارتباطها بالملكات النفسية المعبر عنها بما تفرع عن العناية الدالة على حسن مراعاة المخاطب وسبر أغوار نفسه أمر لا يمكن تجاهله البتة .
وعلى هذا الأساس يمكننا تفسير التلوين الصوتي المتولد عن العدول التركيبي في الجمل بمعانقتها لسياقات التقديم والتأخير الرتبي بما يحمله من مظاهر العناية والاهتمام ، وتفريعات أهل النحو والبلاغة في هذا المقام .
* فمن هذا النموذج ما نلمسه من عدول تركيبي يتمثل في تقديم المسند إليه ( المبتدأ ) وهو في صورته المنكرة ، حيث إن حقه التأخير قفي هذه الحالة . وقد تناول البلاغيون مسألة ( الابتداء بالنكرة ) في أثناء حديثهم عن " تنكير المسند إليه " ، وقد جعلوا لهذا التنكير أغراضاً هي ( ) :
1- للإفراد ؛ أي القصد إلى فرد بعينه دونما تحديد .
2- للنوعية ؛ أي القصد إلى نوع بعينه محدد .
3- للتعظيم .
4- للتكثير .
5- للتقليل .
6- لإرادة العموم .
فإذا أردنا هنا في هذا المقام تلمس هذه الأغراض في الآيات التي وردت مبتدأٌ فيها بالنكرة ، يكون النسق كالتالي :
* ما ورد من النكرة للتعظيم ، تمثل في الآيات التالية :
– قوله تعالى : ***61533; فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ***61531; سورة الذاريات ( آية رقم 60 ) .
– قوله تعالى : ***61533; فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ***61531; سورة الطور آية رقم (11 ) .
– قوله تعالى : ***61533; لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ***61531; سورة الطور آية رقم ( 23 ) . تعظيماً لشأن الجنة ، وتميزها عن الدنيا .
– قوله تعالى : ***61533; فوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ***61531; سورة المرسلات الآيات رقم ( 15 – 19 – 24 – 28 – 34 – 37 – 40 – 45 – 47 – 49 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ***61531; سورة المطففين آية رقم ( 1 ) .
– قوله تعالى : ***61533; فوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ***61531; سورة المطففين آية رقم ( 10 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ***61531; سورة الهمزة آية رقم ( 1 ) .
– قوله تعالى : ***61533; فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ***61531; ( ) . يقول الزمخشري : " فويل للمصلين على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم ؛ لأنهم كانوا مع التكذيب ، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين " ( ) .
وكل ما ورد من نكرة مبتدأ بها بغرض الدعاء ، وبلفظ ( ويل ) فلا شك في أن إرادة تهويل العذاب المنتظر لهذه الفئات ، هو عين المراد هنا ، ليكون ذلك أقوى رادع ، وأشد مخوف لهم .
* أما ما ورد من النكرة ويراد به التكثير ، فيتمثل في الآيات التالية :
– قوله تعالى : ***61533; ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ***61531; سورة الواقعة آية رقم ( 13 ) . فهذه الفئة المؤمنة من أصحاب رسول الله ***61541; هم أكثر أهل الجنة ، وهم أهل المنزلة العالية . وهم لهذه الصحبة ، ولهذا البلاء الحسن ( ثلة ) كبيرة كثيرة آثرت الآخرة فنالوها معاً ، واستحقوا ما وعدهم الله من عظيم الجزاء والثواب .
– قوله تعالى : ***61533; وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ***61531; سورة القيامة آية رقم ( 24 ) .
– قوله تعالى : ***61533; قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ***61531; سورة النازعات آية رقم ( 8 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ***61531; سورة عبس آية رقم ( 40 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ***61531; سورة الغاشية آية رقم ( 2 ) .
فهذه الأصناف جميعها من الفئات التي ضلت وأضلت ، ولذا كان الأصل فيها أن تكون كثيرة في جانب أصحاب النار . فقد جاء سياق النكرة هنا دالاً على كثرة هذه الفئات يوم القيامة ، فقد ورد سياق الحديث بها في سياق الحديث عن القيامة وما يتبعها من أحداث ، لم تخالف آية منها في ذلك السياق . وجاءت النكرة في هذه الآيات مدللة على فداحة الخطب ، وكثرة الفئات الضالة في ذلك اليوم لأنه يوم الحساب ، فهو يوم العرض ، والمجازاة بالأعمال .
* أما ما ورد من النكرة ويراد بها التقليل ، فيتمثل في الآيات التالية :
– قوله تعالى : ***61533; وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ***61531; سورة الواقعة آية رقم ( 14 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ***61531; سورة القيامة آية رقم ( 22 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ***61531; سورة عبس آية رقم ( 38 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ***61531; سورة الغاشية آية رقم ( 8 ) .
فالسياق هنا سياق تقليل لهذه الفئات الناجية يوم القيامة ؛ فالسابقون الأولون أكثريتهم من الأولين ، وأقلهم من المتأخرين . ومن ينعم برؤية المولى ***61529; منا هم فئة ناجية استحقت بإخلاصها هذه المنحة والمنة العظمى . ولذا كان سياق النكرة في هذه الآيات سياق تقليل ، وذلك لإبراز تميز هذه الفئات وتفردها بهذا المقام ، وهذه المكانة السامقة .
* وما ورد من النكرة للنوعية ، فيتمثل في الآية التالية :
– قوله تعالى : ***61533; فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ***61531; سورة الواقعة آية رقم ( 91 ) . أي أن هذا السلام مختلف تماماً عما عهدناه من سلامات ، فهو سلام أهل الجنة للنبي ***61541; سلام أصحاب اليمين ، مبلغا من قبل رب العزة ***61529; فهو سلام مختلف في نوعه ، مختلف في مصدره ، مختلف في منتهاه ، مختلف تماما فيمن يبلغه ويحمله . ويجوز هنا حمل النكرة على أن الغرض منها في هذه الآية هو ( التكثير ) ، وذلك لكون أهل اليمين في الجنة كثير ، وهم يسلمون على النبي ***61541; فتحمل النكرة هنا على هذا الغرض .
وهكذا فإن سياقات العدول في تقديم النكرة جاءت متناسبة مع السياق العام لهذه الآيات ، ومتناغمة مع النسيج النصي الذي وظفت فيه ، رعاية للبعد الدلالي والجمالي لهذه التوظيفات .
* كذلك من ألوان التلوين العدولي بالتقديم والتأخير ما أشار إليه أهل البلاغة من فروق دلالية بين الابتداء بأحد المعرفتين في السياق التركيبي ، أي عندما يكون المبتدأ والخبر معرفتين . فقد كان تقرير النحويين لهيكل الجملة الاسمية صريحا إذ جعلوا لهيكلها الرئيسي ركنين رئيسيين هما : ( المبتدأ ) + ( الخبر ) . وقد يتم اختراق هذا الهيكل لأغراض ومقاصد متعمدة .
وفي إطار البحث في هذه الأغراض والمقاصد المؤدية إلى هذا الاختلال التركيبي للنسق المثالي لهيكل الجملة الاسمية ، تناول النحويون بالتحليل أحد فروض هذه الهيكلة ، وهو ( التعريف والتنكير في ركني الجملة الاسمية ) . وما يقصد بالتعريف والتنكير هو فروض شكلية تتخذ شكلاً من الأشكال الآتية :
1- ( مبتدأ معرفة ) + ( خبر نكرة ) .
2- ( مبتدأ معرفة ) + ( خبر معرفة ) .
3- ( مبتدأ نكرة ) + ( خبر نكرة ) .
هذه الأشكال هي التي حكمت مسألة التعريف والتنكير لركني الجملة الاسمية . لكن أي هذه الأشكال هو الأصل الأول لتشكيل الهيكل التركيبي للجملة الاسمية ؟ وأيها يأتي تاليا بعد ذلك ؟ والإجابة على هذا التساؤل نجدها عند الكثير من النحويين . فابن السراج يشير إلى أنه : " إذا اجتمع اسمان معرفة ونكرة ، فحق المعرفة أن تكون هي المبتدأ ، وأن تكون النكرة الخبر ، لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده ، فالخبر هو الذي ينْكِره ولا يعرفه ، ويستفيده ، والاسم لا فائدة له لمعرفته به ، وإنما ذكرته لتسند الخبر إليه " ( ) .
فهو يجعل من الشكل الأول (الأصل) ، فالمبتدأ حقه التعريف ، والخبر حقه التنكير ليصح الإخبار عنه ، والتنبيه عليه . وتأمل قوله : ( لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده ) فقد جعل غرض هذا التعريف والتنكير هو تنبيه السامع ولفت انتباهه للخبر الذي لا يعرفه ، وذلك عن طريق المبتدأ الذي يعلمه جيداً . وهذا هو أسلوب البلاغة في أداء المعاني ، بالدلالة على المجهول بما هو معلوم ليكون ذلك أوكد للمعاني في الذهن .
والسهيلي يرى هذا الشكل الأصل المقرر إذ يقول : " حق المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصاً ، وإلا لا فائدة في الإخبار عنه ، فإن لم يكن منعوتاً أو مخصوصاً ولا مستفهماً عنه ولا منفياً نحو : ***61533; َلا لَغْوٌ فِيهَا ***61531;( ) فلا يخبر عنه " ( ) .
والمهلبي ( ت583 هـ) يفصل المسألة أكثر بقوله : " حكم الاسم المبتدأ أن يكون معرفة لأنه إذ لم يعرف في نفسه فأجدر أن لا يعرف في غيره ، ولأنك إنما تخبر الرجل عمن لا يعلمه بما يعلمه ، فتقع الفائدة بإخبارك إياه ، فأما إذا أخبرته عمن لا يعلمه بما لا يعلمه لم تقع بذلك فائدة " ( ).
وعلى النهج نفسه يسلك ابن يعيش في المسألة باحثاً في جوانبها بقوله : " أصل المبتدأ أن يكون معرفة ، وأصل الخبر أن يكون نكرة ، وذلك لأن الغرض في الإخبارات إفادة المخاطب ما ليس عنده ، وتنزيله منزلتك في علم ذلك الخبر ، والإخبار عن النكرة لا فائدة فيه " ( ).
والنحويون على هذا الرأي ، إذ يقررون هذا الأصل ويعتمدوه في مؤلفاتهم ، كلّ بأسلوبه وطريقته الخاصة ( ) . أما حديثهم عن الشكلين الأول والثاني وهما كون المبتدأ والخبر معرفتين أو نكرتين معاً ، فقد فصل بعض النحويون القول في الابتداء بأحدهما . فقد أشار سيبويه إلى أنه إذا اجتمع معرفتان فالفيصل في الابتداء بأحدهما واعتماده ( مبتدأ ) ، واعتماد الثاني منهما ( خبراً ) هو المتلقي نفسه . يقول : " إذا كانا معرفتين فأنت فيهما بالخيار ، أيهما جعلته فاعلاً ورفعته ، ونصبت الآخر كما فعلت ذلك في ( ضَربَ ) وذلك قولك : كان أخوك زيداً ، وكان زيدٌ أخاك ، وكان هذا زيداً ، وكان المتكلم أخاك " ( ) .
فسيبويه هنا يجعل مقاليد الأمور كلها في يد المتلقي تأمل قوله : ( فأنت فيهما بالخيار ) أليس هذا معناه أنه لا فرق في المعني إذا ابتدأت بأحدهما ؟! لأنك بالخيار ، فلا فرق في الدلالة بين التركيبي ( زيدٌ أخوك ) و ( أخوك زيدٌ ) . وهذا مستغرب على سيبويه الذي يكرر في كتابه الكثير من الإشارات في بيان الفروق الدلالية بين التراكيب ، والمتولدة عن حركية أحد أركان الجملة في ذات الجملة إيجاباً وسلباً ( ) .
والمبرد يتناول المسألة من سيبويه ، لكنه يبرز الفروق المتولدة من الابتداء بأحد المعرفتين إذ يقول : " إذا قلت : ( ظننت زيدا أخاك ) فإنما يقع الشك في الأخوة ، فإن قلت : (ظننت أخاك زيداً) أوقعت الشك في التسمية " ( ) .
أما ابن يعيش فيسلك في تحليل هذه المسألة سبيل البلاغة إذ يغوص على الفروق الدلالية المتولدة من كون المبتدأ والخبر معرفة والابتداء بأحدهما ، فيجعل لكل منهما دلالات خاصة . يقول : " قد يكون المبتدأ والخبر معرفتين معاً نحو : ( أخوك زيدٌ ) و(عمرو المنطلقُ) و (الله إلهُنا) و (محمدٌ نبيُنا) ، فإذا قلت : (زيدٌ أخوك) وأنت تريد أخوة النسب ، فإنما يجوز مثل هذا إذا كان المخاطب يعرف زيداً على انفراده ، ولا يعلم أنه أخوه لفرقة كانت بينهما أو لسبب آخر ، أو يعلم أن له أخاً ولا يدري أنه زيد هذا ، فتقول : ( زيدٌ أخوك ) أي هذا الذي عرفته هو أخوك الذي كنت علمته ، فتكون الفائدة في مجموعهما ، فإن كان يعرفهما مجتمعين لم يكن في الإخبار فائدة " ( ) .
فهو في هذا النص يجعل للابتداء بأحد المعرفتين (زيد) و( أخوك) ضربين من الجمل هما : (أخوك زيدٌ) و(زيدٌ أخوك) . ويفصل القول فيما يتولد منهما من دلالات . فالابتداء بـ(زيد) يجعل المعنى المراد متمحوراً حول التنبيه على أخوة النسب ، وهذا عنده يجوز لأمور منها : معرفة المخاطب زيداً منفرداً ، أو جهله بهذا النسب بينه وبين زيد لافتراق كان بينهما ، أو لمعرفة المخاطب بهذه الأخوة لكنه يجهل تعيين هذا الأخ . وتنتفي هذه الدلالات تماماً عند الابتداء بـ(أخوك) إذ يكون التعيين هنا هو العامل المميز لهذه الجملة ، وذلك لأن الاستعانة بـ(كاف الخطاب) والتي تجعل هذا التعيين واقعاً في الابتداء ، فيكون المعنى : (هذا أخوك زيدٌ) . فالمعنى عمدة في تحليله في هذه المسألة .
أما ابن هشام فقد تناول المسألة أثناء حديثه عما يميز المبتدأ من الخبر ، وخاصة إذا كانا معرفتين ، فيدير المعاني في المسألة على النسق البلاغي ، يقول : " فإن كان المخاطب يعلم أحدهما دون الآخر فالمعلوم الاسم والمجهول الخبر ؛ فيقال : (كان زيدٌ أخا عمرو) لمن علم زيداً وجهل أخوته لعمرو ، و( كان أخو عمرو زيداً ) لمن يعلم أخاً لعمرو ، ويجهل أن اسمه زيد . وإن كان يعلمهما ويجهل انتساب أحدهما إلى الآخر ، فإن كان أحدهما أعرف فالمختار جعله الاسم فتقول : ( كان زيدٌ القائم ) لمن كان سمع بزيد وسمع برجل قائم ، فعرف كل منهما بقلبه ، ولم يعلم أن أحدهما هو الآخر . ويجوز قليلاً : ( كان القائمُ زيداً ) . وإن لم يكن أحدهما أعرف فأنت مخير نحو : ( كان زيدٌ أخا عمرو ) و( كان أخو عمرو زيداً ) " ( ) .
فابن هشام يدير الدلالات نفسها التي أثارها ابن يعيش في تناوله للمسألة ، لكن ما يحسب له بحق هو إشارته إلى كون أحد المعرفتين ضميراً أو اسم إشارة ودخلت عليهما كان ، فالأرجح في هذا المقام تعيين هذا الضمير مبتدأ وذلك لمكان التنبيه المتصل به ( ) .
أما السيوطي فينقل في هذه المسألة رأي ابن الخباز النحوي الذي يقول فيه : " إن قلت : ما الفرق بين ( زيدٌ أخوك ) و ( أخوك زيدٌ ) ؟ قلت من وجهين : أحدهما : أن ( زيدٌ أخوك ) تعريف للقرابة ، و( أخوك زيدٌ ) تعريف للاسم . والثاني : أن ( زيدٌ أخوك ) لا ينفي أن يكون له أخ غيره لأنك أخبرت بالعام عن الخاص ، و( أخوك زيدٌ ) ينفي أن يكون له أخ غيره ، لأنك أخبرت بالخاص عن العام " ( ) .
ألا يتضح مما سبق دوران النحويين حول دلالة – تكاد تكون واحدة تقريبا- متولدة من الابتداء بأحد المعرفتين ، هذه الدلالة هي من ابتكارات المبرد أولاً ، ولم يشر أحد من النحويين إلى ذلك .
ومسألة الابتداء بأحد المعرفتين تحمل في طياتها الكثير من أوجه البلاغة ، والغوص على المعاني التي مدار البلاغة وعنوان مباحثها . وتناول النحويين لهذه المسألة كان ينحو نحو الجانب التأملي في دلالات التراكيب ، لكون هذه التراكيب جاءت على غير الأصل المقرر في هيكلة الجملة الاسمية .
وخلاصة الرأي النحوي : أنه إذا اجتمع معرفتان أو نكرتان كلاهما نكرة محضة ، فإنه يمتنع تقديم الخبر فيهما لأمن اللبس ، وذلك عند انعدام القرينة الدالة على تعيين أحدهما ومنحه حق الصدارة . وهذا الأمر على أقسام :
الأول : المتقدم مبتدأ والمؤخر خبر سواء تساويا في درجة التعريف أو تفاوتا ، وهو الظاهر من رأي ابن عقيل ( ) .
والثاني : يجوز جعل كل واحد منهما مبتدأ لصحة الابتداء بهما جميعاً ( ) .
والثالث : إذا كان أحدهما مشتقا والآخر جامدًا ، فالمشتق هو الخبر سواء تقدّم أو تأخّر ، وإلاّ إن كانا جامدين أو كلاهما مشتقاً فالمقدم هو المبتدأ ( ) .
والرابع : المبتدأ هو الأعرف عند المخاطب ، سواء تقدّم أم تأخّر ، فإن تساويا في المعرفة عند المخاطب فالمقدم المبتدأ ( ) .
تلك هي آراء النحويين في مسألة اجتماع المعرفتين والابتداء بأحدهما ، وقد دارت كلها حول إبراز الفروق بين التركيبين من خلال الاتكاء على الجانب الدلالي واستثماره أفضل استثمار ، فخرج النحويون في هذه المسألة من العباءة النحوية إلى حيز أرحب وأوسع ، ولمسوا بحق ما يسميه البلاغيون بـ( معنى المعنى ) .
أما بحث المسألة عند البلاغيين فقد اتخذت مدار المعنى سبيلاً لها ، وتناولوها بالفحص والدرس والتحليل الدقيق ، وإن كان بدء هذا التحليل – كما هو دوماً – على يد عبد القاهر الجرجاني ، فلم نجد فيما سبقه من مؤلفات بلاغية أي إشارة إلى هذه المسألة من الوجهة البلاغية التحليلية .
فقد بدأ عبد القاهر ببحث المسألة بحثاً مفصلاً بقوله : " أما قولنا : ( المنطلقُ زيدٌ ) والفرق بينه وبين أن تقول : ( زيدٌ المنطلقُ ) ، فالقول في ذلك : أنك وإن كنت تريد في الظاهر أنهما سواء من حيث كان الغرض في الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد ، فليس الأمر كذلك ، بل بين الكلامين فصل ظاهر " ( ) .
ثم يشرع بعد ذلك في تفصيل ما بين الكلامين من فروق دلالية ، وخلاصة قوله : أن قولك : ( زيدٌ المنطلقُ ) المعنى فيه ثبوت صفة (الانطلاق) لشخص ما دون تعيينه ، فيكون الشك في فاعل هذا الفعل ، فتعين هذا الفاعل بقولك : ( زيد ) ، فبذلك يعلم السامع أن فعل ( الانطلاق ) قد ثبت لفاعل (معنى لا رتبة) هو ( زيد ) ، فالفعل في هذه الجملة تمّ وانتهى . أما قولك : ( المنطلقُ زيدٌ ) فهو على معنى أن فعل الانطلاق يتم ويتكون الآن ، ولكن السامع لم يعين من صاحب هذا الانطلاق الذي يتم في هذا الوقت ، والابتداء بـ(زيد) هنا يعين صاحب هذا الفعل ( الانطلاق ) .
إذن عبد القاهر يتخذ من زمنية الحدث معياراً للتفرقة الدلالية بين الجملتين ، فهذا الزمن في جملة (المنطلقُ زيدٌ) في طور النمو والتشكل ، أما في جملة ( زيدٌ المنطلقُ ) فقد تمّ واكتمل .
لكن عبد القاهر يشير إلى لمحة دلالية غاية في الجمال والروعة إذ يجعل المعنى المتولد من الجملتين السابقتين ليس على إطلاقه ، لكن هناك بعض الاستثناءات ؛ منها : إذا كان أحد المعرفتين (اسم فاعل) أو (صفة) وبدئ به كان الغرض الدلالي مختلفاً عما سبقت الإشارة إليه . ومثال ذلك : قولك : ( اللابسُ الديباجَ صاحبُك ) فليس الغرض هنا إثبات لبس الديباج له ، لأن معاينتك إياه تنبئك عن ذلك . يقول عبد القاهر : " متى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدئ به فَجُعِلَ مبتدأ ، وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبراً ، فاعلم أن الغرض هناك غير الغرض إذا كان اسم الفاعل أو الصفة خبرا ، كقولك : ( زيدٌ المنطلقُ ) " ( ).
وينعي عبد القاهر على سيبويه رأيه الذي يجعل فيه الابتداء بأحد المعرفتين( بالخيار)( ) ، ويُعرِّض به دون أن ينص على اسمه ، ثم ينقض رأيه ويدلل على فساده بسوق العديد من الأمثلة والشواهد الشعرية ( ) .
أما الزمخشري فيسلك المسلك التطبيقي للتدليل على رأيه الذي ذهب إليه ، ففي تفسيره لقوله تعالى : ***61533; وَظَنُّوا أَنَّهُمُ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اْلَّلهِ***61531; ( ) يقوم بتعيين المعرفتين وهما ( مانِعَتُهم ) و( حصُونُهم ) ثم يعتمد ( مانعتهم ) خبراً مقدماً ، و( حصونهم ) مبتدأ مؤخراً ، ويجعل مدار النظم في هذه الآية هي الدلالة . يقول : " فإن قلت : أي فرق بين قولك : ( وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ) وبين النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسما لـ( إن) وإسناد الجملة إليه ، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم " ( ) .
فهو يجعل المعنى في الآية على النظم الذي وردت به في الذكر الحكيم ، على فرط ثقتهم بحصانة ومنعة هذه الحصون ، أي إثبات فعل المنع لكن لمن ؟ فيكون تعيين الحصون بهذا الفعل وهذا هو المقصد من نظم هذه الآية . بينما لو قدم ( حصونهم ) لكان المعنى على استمرار الثقة بفعل التحصن ، وهذا ما لا يستقيم مع الأحداث إذ أجلاهم المصطفي***61541; عن هذه الحصون فكيف يستمر فعل التحصن وهو منقوض . هكذا يطبق الزمخشري نظرة عبد القاهر في النظم كما أرادها ، يطبقها تطبيقاً جلياً على هذه الآية الكريمة ، ويخرج لنا بالدلالات الرائعة والمعاني الجليلة .
والرازي يسوق المسألة بشيء من التفصيل فيجعل المعنى في قولك : (زيدٌ المنطلقُ) على ثبوت صفة (الانطلاق) لكن ليس لمتعين ، ولذا فقولك : (زيد) تعيين لصاحب هذه الصفة ، أي حصر هذه الصفة في جانب هذا المتعين ( ) . أما قولك : ( المنطلقُ زيدٌ ) فعناه على اعتقاد من اعتقد انطلاق إنسان ما ولم يعينه ، فيجعل من تقديم (المنطلق) تعيين لهذا الإنسان وتخصيص له ( ) .
ويلخص الرازي المسألة بقوله : " الحاصل أن الإخبار يجب أن يكون عما يعرف بما لا يعرف ، فإذا قلنا : ( المنطلقُ زيدٌ ) فالمنطلق معلوم ، أما الشخص الذي هو المنطلق فمجهول . وإذا قلت : ( زيدٌ المنطلقُ ) كان المقصود إما حصر انطلاق معين ، أو حصر حقيقة الانطلاق " ( ) .
لكن الرأي العجيب الذي جاء به الرازي في نهاية بحثه للمسألة إذ يقول : " المبتدأ موصوف ، والخبر صفة ، فكما وجب أن يكون أحدهما في الوجود أولى بأن يكون موصوفاً ، والآخر صفة ، فكذلك في اللفظ ، فإذا قلنا : ( اللهُ خالقُنا ) و( محمدٌ نبيُّنا ) ، فالخالقية صفة لله تعالى ، والنبوة صفة لمحمد ***61541; فهما في الحقيقة متعينان للخبرية ، ولا يصلحان للمبتدئية " ( ) .
إن الرازي لما حاول هنا تقسيم المسألة ساق ما يخالف الإجماع ، فقد أراد جعل كل ما يصلح صفة ( خبراً ) سواء قدّم أو أخّر ، وعلة ذلك عنده أن الصفات لا تصلح إلا للخبرية . وهو في هذا الرأي مخالف لما قرره النحويون في هذه المسألة ، وكذلك مخالف لرأي عبد القاهر ، ولم يذكر حجة أو دليل على صحة ما ذهب إليه .
ويسير السكاكي على الدرب نفسه ( ) . ويتبعه على النهج ذاته القزويني دونما تجديد يذكر( ) .
تنــوير :
كان نظر البلاغيين لجزئية الابتداء بأحد المعرفتين متمحوراً في الاستشهاد القرآني حول آية قرآنية وحيدة هي قوله تعالى : ***61533; وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ ***61531; ( ). فقد وردت المعرفتان هنا ( مانعتهم ) + ( حصونهم ) معرفتان بالإضافة إلى الضمير . ونلمح تواتر البلاغيين على تناول هذه الآية بشيء من التفصيل والتحليل كما يلي :
فضياء الدين ( ابن الأثير ) في ( المثل السائر ) يتعرض للآية في أثناء بحثه باب " التقديم والتأخير " ، ويخرج الآية على أنها من باب ( تقديم الخبر على المبتدأ ) ، وذلك بإقرار ( مانعتهم ) خبرا مقدما على ( حصونهم ) المبتدأ المؤخر ، ثم يفلسف هذا التخريج معتمدا على ذوقه التحليـلي ، وتحليـله الذوقـي فيقول : " إنما قال ذلك ولم يقل : ( وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ( مانعتهم ) لأن في تقديم الخبر الذي هو ( مانعتهم ) على المبتدأ الذي هو ( حصونهم ) دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها ، وزيادة وثوقهم بمنعها إياهم ، وفي تصويب ضميرهم اسما لـ( أن ) ، وإسناد الجملة إليه دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع لا يبالي معها قصد قاصد ، ولا تعرض متعرض ، وليس شيء من ذلك في قولك : ( وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله ) " ( ).
إذن التقديم هنا لغرض محدد ومقصود هو إبراز الخلفية النفسية لهؤلاء اليهود المتحصنين بهذه الحصون ؛ إذ إنهم قوم ماديون يحتاجون دوما إلى الوثوق بما يلمس أي بالمادة ، دون ما يحس . ألم يقولوا لنبي الله موسى ***61557; حكي القرآن الكريم: ***61533; فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً***61531; ( ) . فهذه المادية هي عين المعنى المراد في آية سورة الحشر ، فقد وثقوا بالحصون وبأنها تمنعهم – حتى من الله – وقد خاب ظنهم فطردوا منها على يد المصطفي***61541; .
والعلوي في ( الطراز ) يسير على النهج نفسه ، إذ يصنف الآية على أنها من باب ( تقديم الخبر على المبتدأ ) بل ويكاد ينقل لنا نص ( ابن الأثير ) مع بعض التغيير في هيكل النص دون روحه ، يقول : " إنما قدّم قوله ( مانعتهم حصونهم من الله ) وهو حبر المبتدأ في أحد وجهيه ، ليدل بذلك على فرط اعتقادهم لحصانتها ، ومبالغة في شدة وثوقهم بمنعها إياهم ، وأنهم لا يبالون معها بأحد ، ولا ينال فيهم نيل . وفي تقرير ضمير ( هم ) اسما وإسناد المنع والحصول إليهم ، دلالة بالغة على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا ترمى حوزتهم ، ولا يغزون في عقر دارهم ، ولو أخر الخبر لم يعط شيئا من هذه الفوائد " ( ) .
فالنص هنا يكاد يتطابق مع نص ( ابن الأثير ) تطابقا تاما ، ولا يتميز عنه سوى بإدراك ( العلوي ) لمسألة ( الابتداء بأحد المعرفتين ) ، يلمح ذلك من قوله : ( في أحد وجهيه ) أي أن هذا الخبر المقدم قد يتحرك ( سلبا ) فيكون خبراً مؤخراً ، أو ينسخ حكمه فيكون في موقعه مبتدأً . إن العلوي لم يسمح لنفسه أن ينطلق بفكره ، فلم يهتم باستنباط الدلالات الممكنة من وراء هذا التأخير ، واكتفي بتكرار عبارة ابن الأثير بمعناها فقال : ( ولو أخر الخبر لم يعط شيئاً من هذه الفوائد ) .
ونلحظ أن كلاً من ابن الأثير والعلوي من أنصار مدرسة التجديد أو محاولات التجديد التالية لمحاولات السكاكي وأنصاره المدرسيين المنطقيين . والسؤال الآن هل تناول السكاكي هذه المسألة هو وتلامذته بالبحث والتحليل ؟ والإجابة أن السكاكي قد بحث هذه الجزئية في بحثه لأحوال المسند عندما تعرض لـ( تعريف المسند ) . فقد أشار السكاكي إلى أن تعريف المسند لا بد أن يعتمد قبل ذلك على تعريف المسند إليه ، وهو ما قرره النحويون أن الأصل في الجملة الاسمية أن يُعرَّف المبتدأ ويُنَكَّر الخبر . لكن السكاكي يجعل تعريف ( المسند ) واجباً في حالة واحدة هي : إذا كان المسند عند السامع أو المتلقي متشخصاً أي ( معروفاً ) بأحد طرق التعريف ، وذلك لأن تعريف المسند استلزم قبل ذلك كون المسند إليه معرفة ( ) .
لكن ماذا يستفيد السامع من تعريف المسند إليه والمسند ؟ يجيب السكاكي : " يستفيد إما لازم الحكم ، كما ترى في قولك لمن أثنى عليك بالغيب : الذى أثنى علي بالغيب أنت . معرفاً لأنك عالم بذلك . أو الحكم كما ترى في قولك لمن تعرف أن له أخاً ، ويعف إنسانا يسمى زيداً ، أو يعرفه يحفظ التوراة ، أو تراه بين يديه ، لكن لا يعرف أن ذلك الإنسان هو أخوه ، إذا قلت له : أخوك زيدٌ ، أو أخوك الذي يحفظ التوراة ، أو أخوك هذا ، فقدمت الأخّ ، أو إذا قلت : زيدٌ أخوك ، أو الذي يحفظ التوراة أخوك ، أو هذا أخوك ، فأخرت الأخ معرفاً له في جميع ذلك " ( ) .
فالسكاكي هنا يجعل تعريف المسند إليه والمسند يفيدان أحد أمرين هما :
الأول : إفادة لازم الحكم ، ومعناه : الحكم على أمر معلوم بآخر معلوم ، أي أنه يتناص هنا مع الأغراض المستفادة من الخبر ، خاصة مع ما يسمى ( لازم فائدة الخبر ) . وهذا مغاير لعلم المخاطب بالحكم ، فقولك : أنت الذي مدحني بالقصيدة الرائعة ، معلوم لك أنه هو ، لكنك أردت أن تؤكد الحكم هنا .
والثاني : إفادة الحكم ، ومعناه : الحكم على أمر معلوم للسامع ، ومعرف بطريقة من طرق التعريف ، بأمر آخر غير معلوم له ، وذلك لأنه يجب عند تعريف المسند تعريف المسند إليه ، إذ ليس في كلام العرب مسند إليه نكرة ومسند معرفة ، فقولك : أخوك زيد اقتضى جهل السامع بأحد المعرفتين ، فلذا وجب إفادته حكماً بأن له أخاً هو زيد . فالأمر هنا على إفادة حكم لا لازم حكم .
ويعود السكاكى لينقل لنا رأياً مستفاداً من رأي النحويين في هذه المسألة ، مفاده : أنه إذا أتت معرفتان فليس كل منهما صالحا للابتداء ، بل هناك منهما من هو متعين دوماً للخبرية ولا يصلح للابتداء به ، ومنهما من يصلح دوماً للمبتدئية ولا يصلح للإخبار به ( ) .
وقد تواتر على هذا الرأي أتباع المدرسة السكاكية ، دون أي تجديد أو إضافة ، اللهم ما كان من بعضهم من توظيف بعض آيات النص القرآني في هذه المسألة ، مثلما فعل ( الطيبي ) الذي حاول إبراز ذاته التجديدية في إطار النظرية السكاكية بتوظيف الآي القرآني في هذه المسألة ، وقد تأتى له ذلك بصورة جميلة ( ) ، أو إضافة بعض أبيات الشعر ( ) ، أو الإفاضة في الشرح فقط ( ).
ورغم تخريج النحويين والبلاغيين لهذه المسألة ، وإبراز الآراء والأقوال فيها ، إلا أن حدود هذه الآراء لم يكن لتشمل دلالات آيات النص القرآني في توظيفه لهذه المسألة . فمثلاً قوله تعالى : ***61533; سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ***61531; ( ) ، فتعريف المبتدأ والخبر هنا لا يفيدنا لازم الحكم أو الحكم إطلاقاً . فالمسند إليه والمسند معرفتان وفي لازم الحكم تدل بأمر معلوم ( هو ) الدال على الذات الإلهية ، على أمر آخر معلوم ( العزيز ) وهو دال أيضاً على الذات الإلهية ، والاثنان معلومان في الذهن الإنساني بما لا يدع مجالاً لدلالة هذا على ذاك ، ولا ذاك على هذا .
والمتأمل لعظمة التركيب في الآية القرآنية كما يلي : ( هو العزيز الحكيم ) يجد أن البنية التركيبية تعطى دلالات تتضافر دون شك مع البنية السياقية للآية ومن ثم البنية السياقية للسورة . فالسياق في الآية في يتناول الحديث عن عبودية كل مخلوقات الله لله ، وتسبيحهم إياه على الدوام . تأمل دلالة التعبير بالفعل الماضي ( سَبَّحَ ) فليس المقصود هنا انتهاء فعل التسبيح ، بل المعنى على أن هذه المخلوقات جميعها سبحت – وتسبح وستظل تسبح – لله ***61529; قبلك أيها الإنسان ، وما زلت بجهلك وعنادك ، فاستلزم الأمر أن نرسل لك رسلاً وكتباً ، ولم تستدل مثل هذه المخلوقات على إلهك مباشرة ، بل أعملت عنادك ، فانظر وتأمل صبر الله عليك وحبه لك لما أرسل لك الرسل والكتب رغم ما أنت فيه من كفر وجهل وعناد ، ولم يأخذك أخذ عزيز مقتدر ( وهو العزيز الحكيم ) .
فالسياق هنا يقتضي الابتداء بالضمير الدال على الذات الإلهية لإشعار الرهبة في النفس عند سماعه . و ( هو ) ضمير دال مؤثر في مثل هذا السياق ، ثم أتبع بصفة واسم دال على التمكن من الأمور ، وطلاقة التصرف فيها والقدرة عليها ، وذلك بمطلق العلم بل بمطلق الحكمة . لكن هل يمكن أن تستفاد هذه المعاني والدلالات من تأخر الضمير المبتدأ به ( هو ) ليصير خبراً ؟ تأمل مثلاً قولنا : ( والعزيز الحكيم هو ) أننا بذلك نرى استقامة في البنية الهيكلية ، وفي المعنى الدلالي في غير القرآن ، لأن المعنى حينئذ : أن هناك أعزاء كثيرون فاقتضى منك ذلك تحديد المقصود بهذه العزة فقـلت : ( هو ) ، وحاش لله أن يكون هذا المقصود .
إذن التخريج النحوي والبلاغي لهذه المسألة يطرد على مادون القرآن ، أما النص القرآني فالمسألة تحتاج إلى دقة نظر عند بحث هذه الآيات ، دون قولبة الأغراض البلاغية الجاهزة ، وصبها على هيكل الآيات القرآنية دون وعي ، فلكل آية ذوق وطعم لمن أراد أن يتذوق .
وخلاصة القول : أن الرأي النحوي وقف في بحث هذه المسألة على الأصل الذي ينبغي أن تكون عليه هذه الهيكلة من حيث كون ( المبتدأ ) معرفة و( الخبر ) نكرة ، فهذا هو الهيكل النسقي للجملة الاسمية عندهم . وإن كان بعض النحويون قد تطرق بالتحليل إلى المعاني المتولدة من إتيان ( المبتدأ والخبر ) معرفتين مثلما فعل المبرد وابن يعيش ، رغم أن هذه الإشارة لم تكن كافية من جانب النحويين ، فقد كان الأولى بهم أن يفصلوا وهم أهلٌ لذلك دون غيرهم .
أما البلاغيون فقد استبان الأمر عندهم ، فتناولوا المسألة مقرين إياها بداية ، ومحللين لكل تركيب على حدة من حيث المعاني المتوخاة منه ، فلكلٍ دلالات تختلف تماماً عن الآخر . وقد وجدنا صدى هذا الجهد الذي فتق مباحثه عبد القاهر ، عند الزمخشري والرازي والسكاكي والقزويني . والتحليل البلاغي في هذه المسألة لم يتخذ الأساس النحوي منطلقاً له ، بل اتخذه مرمى للنقد ، وغرضاً للهدم ، وذلك لعدم اتكاء الأساس النحوي في هذه المسألة على روح التراكيب ، وفنية الأداء ، واكتفائه برصد الهيكلة الجملية التي تحكم علاقات الأركان فيها .
تلك هي بعض إشارات التلوين الصوتي بالعدول الرتبي ، أي بتوظيف فنية التقديم والتأخير في سياقات الجمل القرآنية ، وما اعتمدت عليه من تخريجات للنحويين والبلاغيين ، دارت معظمها على القواعد الجامدة دون مراعاة لروح النص القرآني وتفردات سياقاته .
الهوامش :
1. – ينظر : د. فايز الداية ، علم الدلالة العربي ، معهد الإنماء العربي ، حلب ، 1995 ، 21 .
2. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 10 .
3. – ينظر : أبو حيان التوحيدي ، الإمتاع والمؤانسة ، 1 / 121 .
4. – ينظر : د. عبد الحكيم راضي ، نظرية اللغة في النقد العربي ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1997 ، 213 .
5. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 111 .
6. – العلوي ، الطراز ، 2 / 66 .
7. – ينظر : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 186 . – الرازي ، نهاية الإيجاز ، 159 . – الرضي ، شرح الكافية ، 1 / 100 .
8. – د. إبراهيم أنيس ، من أسرار اللغة ، 323 .
9. – سورة الأنعام : آية رقم ( 100 ) .
10. – ينظر : د. محمد عبد المطلب ، البلاغة و الأسلوبية ، 252 .
11. – برجشتراسر ، التطور النحوي ، 133 .
12. – ينظر : د. تمام حسان ، الأصول ، 385 .
13. – ينظر : القاضي الجرجاني ، الوساطة ، 412 – 413 .
14. – ينظر : د. صلاح فضل ، علم الأسلوب ، 89 – 90 .
15. – ينظر : د. سعد مصلوح ، الدراسة الإحصائية للأسلوب ، 106 .
16. – ينظر : د. عبد الحكيم راضي ، نظرية اللغة ، 489 .
17. – د. صلاح فضل ، علم الأسلوب ، 81 .
18. – ينظر : د. تمام حسان ، الأصول ، 47 .
19. – ينظر : د. يحيى أحمد ، الاتجاه الوظيفي ودوره في تحليل اللغة ، دار الثقافة ، الدار البيضاء ، 1998 ، 76 .
20. – ينظر : د. محمد عبد المطلب ، البلاغة والأسلوبية ، 248 .
21. – د. صلاح فضل ، علم الأسلوب ، 93 .
22. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 364 .
23. – ينظر : د. عبد الحكيم راضي ، نظرية اللغة ، 211 .
24. – ينظر : د. محمد أبو موسى ، دلالات التراكيب ، 175 .
25. – ينظر : عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل ، إعجاز القرآن ، تحقيق : أمين الخولي ، مطبعة البابي الحلبي ، القاهرة ، 1966 ، 16 / 199 .
26. – ج . فندريس ، اللغة ، 187 .
27. – ينظر : د. مجيد ناجي ، الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، بيروت ،1995 ، 114 .
28. – ينظر : د. محمد أبو موسى ، دلالات التركيب ، 177 .
29. – ينظر : د. ريمون طحان ، الألسنية العربية ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، بيروت ، 1994 ، 2 / 85 .
30. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 85 .
31. – الرازي ، نهاية الإيجاز ، 284 .
32. – د. تمام حسان ، الأصول ، 84 .
33. – ينظر : الجاحظ ، البيان والتبيين ، 1 / 135 . ابن رشيق ، العمدة ، 1 / 176 .
34. – سورة طه : آية رقم ( 129 ) .
35. – الفراء ، معاني القرآن ، 2 / 195 .
36. – ينظر : أبو عبيدة ، مجاز القرآن ، 1 / 124 ، 2 / 13 . – ابن فارس ، الصاحبي ، 412 . – الثعالبي ، فقه اللغة ، 322 .
37. – سورة الكهف : الآيتان رقم ( 1 ، 2 ) .
38. – سورة هود : آية رقم ( 71 ) .
39. – سورة الشمس : آية رقم ( 14 ) .
40. – ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن ، تحقيق : السيد صقر ، مكتبة التراث ، القاهرة ، 1989 ، 158 .
41. – ينظر : السكاكي ، مفتاح العلوم ، 93 . – القزويني ، الإيضاح ، 101 . – ابن مالك ، المصباح ، 26 .
42. – ينظر : السكاكي ، مفتاح العلوم ، 105 . – ابن مالك ، المصباح ، 38 . – الجرجاني ، الإشارات والتنبيهات ـ 78 .
43. – سورة النور : آية رقم ( 42 ) .
44. – ينظر : الرازي ، نهاية الإيجاز ، 316 . – الزركشي ، البرهان ، 3 / 153 . – القزويني ، الإيضاح ، 53 .
45. – سورة الفاتحة : آية رقم ( 5 ) .
46. – سورة الأنعام : آية رقم ( 164 ) .
47. – سورة الضحى : آية رقم ( 9 ) .
48. – عبد القاهر الجرجاني ، المقتصد في النحو ، 1 / 330 .
49. – د. إلياس ديب ، أساليب التأكيد في اللغة العربية ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ،1999 ،66 .
50. – سورة النمل : آية رقم ( 68 ) .
51. – سورة المؤمنون : آية رقم ( 83 ) .
52. – سيبويه ، الكتاب ، 1 / 14 .
53. – السابق ، 1 / 19 .
54. – نفسه ، 1 / 27 .
55. – نفسه ، 1 / 285 .
56. – الزركشي ، البرهان في علوم القرآن ، 3 / 235 .
57. – عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، 107 – 108 .
58. – عبد القاهر ، المقتصد ، 1 / 311 .
59. – د. تامر سلوم ، نظرية اللغة والجمال ، دار النفائس ، بيروت ، 1988 ، 131 .
60. – سورة القصص : آية رقم ( 26 ) .
61. – الزمخشري ، الكشاف ، 3 / 403 .
62. – سورة مريم : آية رقم ( 46 ) .
63. – الزمخشري ، الكشاف ، 3 / 20 .
64. – ابن الأثير ، المثل السائر ، 2 / 216 .
65. – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 236 .
66. – التفتازاني ، المطول ، 202 .
67. – ينظر : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 108 .
68. – ابن يعقوب المغربي ، مواهب الفتاح ، 1 / 389 .
69. – ينظر : د. مجيد ناجي ، الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ، 117 .
70. – ينظر : السكاكي ، مفتاح العلوم ، 286 – 290 . القزويني ، الإيضاح ، 52 – 54 . الطيبي ، التبيان ، 257 – 260 .
71. – سورة الماعون : آية رقم ( 4 ) .
72. – الزمخشري ، الكشاف ، 4/ 804 .
73. – ابن السراج ، الأصول في النحو ، 1/59 .
74. – سورة الطور : آية رقم ( 23).
75. – السهيلي ، نتائج الفكر ،409 .
76. – المهلبي ، نظم الفرائد وحصر الشرائد ، تحقيق : د. عبد الرحمن العثيمين ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1986 ،61 .
77. – ابن يعيش ، شرح المفصل ، 1/85 .
78. – ينظر : – ابن معطي ، الفصول الخمسون ، 198 .- المرادي ، توضيح المقاصد ، 1/ 281 . -ابن عقيل ، شرح الألفية ، 1/216 . – ابن الناظم ، شرح الألفية ، 114 . – المكودي ، شرح الألفية ، 1/180 . – السيوطي ، الأشباه والنظائر ، 2/ 257 .
79. – سيبويه ، الكتاب ، 1/50 .
80. – السابق ، 1/59 ، 2/88 ، 2/127 .
81. – المبرد ، المقتضب ، 3/95 .
82. – ابن يعيش ، شرح المفصل ، 1/98 .
83. – ابن هشام ، مغني اللبيب ، تحقيق : د. مازن المبارك ، دار الفكر ، بيروت ، ط1 ، 1989 ، 432.
84. 3- السيوطي ، الأشباه والنظائر ، 2/ 268 .
85. 1 – ابن عقيل ، شرح الألفية ، 2/ 221 .
86. 2- الخضري ، حاشية الخضري على شرح ابن عقيل ، 1/222 .
87. 3- المرجع السابق ، 1/ 223 .
88. 4- الرضي ، شرح الكافية ، 1/230 .
89. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 187 .
90. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 187 .
91. – سيبويه ، الكتاب ، 1/50 .
92. – عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، 188- 193 .
93. – سورة الحشر : آية رقم ( 2) .
94. – الزمخشري ، الكشاف ، 4/499 .
95. – الرازي ، نهاية الإيجاز ، 160 .
96. – المرجع السابق ، 162 .
97. – الرازي ، نهاية الإيجاز ، 163 .
98. 2- السابق ، 164 .
99. – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 314- 316 .
100. – القزويني ، الإيضاح ، 104 .
101. – سورة الحشر : آية رقم ( 2 ) .
102. -ابن الأثير ، المثل السائر ، 2 / 38 .
103. – سورة النساء : آية رقم ( 153 ) .
104. – العلوي ، الطراز ، 235 .
105. – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 314 .
106. – السابق ، 315 .
107. – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 315 .
108. – الطيبي ، التبيان ، 265 .
109. – القزويني ، الإيضاح، 105 .
110. – ينظر : القزويني ، الإيضاح ، 104- 106 . الطيبي ، التبيان ، 264-265 . ابن مالك ، المصباح ، 42- 44 . السبكي ، عروس الأفراح ، 2/93 – 2/103 . التفتازاني ، المطول ، 174-181 . ابن يعقوب ، مواهب الفتاح ، 2/94 – 2/ 102 .
111. – سورة الحشر : آية رقم ( 1 ) .
تلوينات العدول في الجملة القرآنية
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ
أينما وُجِدَ العدول في التعبير اللغوي وُجِدَ التركيب الفني والجمالي ، فما العدول في حقيقته إلا اللغة في بنيتها السطحية ( الفنية ) ، مبتعدة في اتجاه مضاد لمستوى البنية العميقة ( المعيارية ) ، التي هي أصل بنية العدول .
والقرآن الكريم كأثمن نص تعبيري باللغة العربية وظّف هذه البنية العدولية في مبانيه الجملية والتركيبية على أروع نسق ، وأجمل هيئة تعبيرية ، ذلك لأن فنية العدول في القرآن تتسع لتشمل في فضائها ألوان متنوعة تتمثل في :
1- العدول الرتبي ( التقديم والتأخير الرتبي ) .
2- العدول المعنوي ( التقديم والتأخير المعنوي ) .
3- العدول الضمائري ( أسلوب الالتفات ) .
ولذا فالتلوين بالعدول في سياقات التوظيف القرآني للتراكيب يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى إثبات فرادة النص الكريم ، وثانياً إلى تثوير الدلالات الجمالية المتولدة عن مثل هذا العدول . ولنحاول الآن الوقوف مع كل لون من هذه الألوان العدولية من خلال السياقات القرآنية ، محاولين تلمس جماليات التوظيف النصي في هذه السياقات .
أولاً : العدول الرتبي ( التقديم والتأخير الرتبي )
أصبح من المسلم به أن معنى الجملة ليس هو مجموع معاني المفردات التي تتألف منها ، بل هو حصيلة تركيب هذه المفردات في نمط معين حسب قواعد لغوية محددة ، تماما كما أن الساعة مثلاً ، ليست مجموع القطع المعدنية التي تتألف منها ، وإنما هي آلة تتكون من هذه القطع حسب قواعد معدنية ، لتؤدي وظيفة لا تؤديها أي من القطع وحدها ، ولا تؤديها كل القطع مجتمعة إلا إذا ركبت بطريقة محددة ( ) .
كما أن نسق الجملة وكيفية ترتيب الأجزاء فيها مما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في أثناء عملية الاختيار البنائي للجملة . يقول الجرجاني : " وإن أردت أن ترى ذلك عياناً فاعمد إلى أي كلام شئت وأزل أجزاءه عن مواضعها وضعها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها فقل في :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
( من نبك قفا حبيب ذكرى منزل ) ثم انظر هل يتعلق منك فكر بمعنى كلمة منها " ( ) . ذلك لأن المعنى إنما يتولد فقط من ترتيب الألفاظ والعبارات ، والمعاني هي معاني النحو بالتقديم والتأخير ( ). ومعنى هذا أن لكل تركيب نظمه وترتيبه ومواقع ألفاظه ، وقد صرح باسكال بأن الكلمات المختلفة الترتيب يكون لها معنى مختلف ، وأن المعاني المختلفة الترتيب يكون لها تأثيرات مختلفة أيضا ( ) .
إن تقديم ما هو متأخر ، وتأخير ما هو متقدم لمناسبة تقتضي ذلك جائز لا مشاحة فيه . وهذا الجواز ليس مجانياً ، بل ما من مقدَّم أو مؤخَّر يُزَال عن موضعه إلا ويترك ظلالاً معنويةً يخالف الوضع الثاني فيها الوضع الأول ، ومن ثم كان تقسيم التقديم إلى مفيد وغير مفيد ، مما أثار حفيظة عبد القاهر فقال : " واعلم أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين ، فيجعل مفيداً في بعض الكلام وغير مفيد في بعض ، وأن يعلل تارةً بالعناية وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب ، حتى تطرد لهذا قوافيه ولذلك سجعه ، ذاك لأن من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى ، فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلاً على الفعل في كثير من الكلام أنه قد اختص بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير ، فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وفي كل حال ، ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء أن يدعي أنه كذلك في عموم الأحوال ، فأما أن يجعله شريجين فيزعم أنه للفائدة في بعضها ، وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض ، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به " ( ) .
لقد حاول البلاغيون التدليل على اختلاف الدلالات باختلاف التراكيب بالتقديم والتأخير ، واجتهدوا في بيان الفروق الدقيقة بين عبارات أصبحت رائجة في مصادرهم قديمها وحديثها من مثل : ( زيداً ضربتُ ) ، و( ضربتُ زيداً ) ، و( زيدٌ المنطلقُ ) ، و( المنطلقُ زيدٌ ) ، و(جاءَ زيدٌ ضاحكاً) ، و(جاءَ ضاحكاً زيدٌ) . وكان تحليلهم لها مؤذناً بفهم دقيق واعي . فمن ذلك مثلاً تفريقهم بين :
*( زيداً ضربتُ ) ، و( ضربتُ زيداً ) : عبارتان ليستا بمعنى واحد " فإن في قولك : ( زيداً ضربتُ ) تخصيصاً له بالضرب دون غيره ، بخلاف قولك : ( ضربتُ زيداً ) ، وبيانه هو أنك إذا قدمت الفعل فإنك تكون بالخيار في إيقاعه على أي مفعول أردت بأن تقول : ضربتُ زيداً أو عمراً أو بكراً أو خالداً ، وإذا أخرت الفعل وقدمت مفعوله فإنه يلزم الاختصاص للمفعول على أنك لم تضرب أحدا سواه " ( ) .
*( زيدٌ المنطلقُ ) ، و( المنطلقُ زيدٌ ) : وأما قولك ( المنطلقُ زيدٌ ) والفرق بينه وبين أن تقول ( زيدٌ المنطلقُ ) ، فالقول في ذلك أنك وإن كنت ترى في الظاهر أنهما سواء من حيث كان الغرض في الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد ، فليس الأمر كذلك . بل بين الكلامين فصل ظاهر وبيانه : أنك إذا قلت : ( زيدٌ المنطلقُ ) فأنت في حديث انطلاق قد كان وعرف السامع كونه ، إلا أنه لم يعلم أمن زيد كان أم من عمرو ، فإذا قلت : ( زيدٌ المنطلقُ ) أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد بعد أن كان يرى ذلك على سبيل الجواز ، وليس كذلك إذا قدمت ( المنطلق ) ، فقلت : ( المنطلقُ زيدٌ ) ، بل يكون المعنى حينئذ على انك رأيت إنساناً ينطلق بالبعد عنك ، فلم تثبته ولم تعلم أنه أزيد هو أم عمرو ، فقال لك صاحبك : (المنطلقُ زيدٌ) ، أي هذا الشخص الذي تراه من بُعد هو زيد ( ) .
وقد أثارت محاولات البلاغيين التمييز بين هذه العبارات د. إبراهيم أنيس فقال عن الجرجاني : " وقد حاول عبد القاهر الجرجاني أن يفرق بين مثلين من صنعه هما : (زيدٌ المنطلقُ) ، و( المنطلقُ زيدٌ ) فلقي من العنت والمشقة ما أجهده وأجهدنا معه ، ويظهر أن صعوبة تمييز المسند من المسند إليه في مثل هذه الجمل هو الذي ألجأ عبد القاهر وغيره إلى تكلف الشطط في علاجها . وهذه المزاوجات لا تعدو أن تكون أمر أسلوب إذ لا يكاد المعنى يختلف بتأخير أحدهما أو تقديمه " ( ) .
ولعل د. إبراهيم أنيس حين أصدر حكمه هذا كان واقعاً تحت تأثير التصور النحوي الذي لا شأن له بالدلالات الجزئية ، فالمعنى لا يختلف سواء قدّمنا أو أخّرنا ، بينما يحدث التغيير في الدلالة ذاتها ففي قوله تعالى : ***61533; وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ***61531; ( ) وجدنا المعنى العام أنهم جعلوا الجن شركاءَ وعبدوهم مع الله ، أما الدلالة فتأتي من وراء الصياغة الإبداعية في التقديم والتأخير ( ) .
ولهذا لم يستطع برجشتراسر أن يقف عند حدود فارقة بين التعبير بالتركيب الفعلي ( جاءَ زيدٌ ) ، و التركيب الاسمي ( زيدٌ جاءَ ) . يقول : " والأقرب إلى الاحتمال هو أن يكون معنى ( زيد جاء ) عين معنى ( جاء زيد ) ، وإنما الفرق بينهما أنه إذا قلت : ( جاء زيد ) أخبرت عن مجيئه إخباراً محضاً ولا يخالطه شيء غيره ، فتقديم الفعل هو العبارة المألوفة ، وإذا قلت : ( زيد جاء ) كان مرادي أن أنبه به السامع إلى أن الذي جاء هو زيد ، كأني قلت : زيد جاء لا غيره . فتقديم الفاعل عبارة عن أن الأهم كون زيد هو الفاعل لا كونه فَعَلَ الفعل ، وما ينبه به السامع على هذا المعنى شيئان :
الأول : تغيير الترتيب العادي ، فكل شيء يخالف العادة هو أكثر تأثيراً في الفهم من المألوف .
والثاني : أن أول كلمة في الجملة هي على العموم المضغوطة في اللغة العربية إذا صرفنا نظرنا عما تبتدئ به الجملة من الأدوات كإن وأخواتها إلى غير ذلك " ( ) .
فبرجشتراسر لم يجد بداً من الاعتراف بهذه الفروق الدلالية الدقيقة وإرجاعها إلى تغيير الترتيب الذي يجعل بداية الجملة مضغوطة معتنى بشأنها ، وهذا الضغط هو ما سماه تمام حسان (المعنى الشأني) أو (البؤري) ( ) ، وهو ما يفهم من تحديد بؤرة الاهتمام بمضمون اللفظ بواسطة التقديم والتأخير .
يمكن أن نستخلص مما سبق أن أي تغيير في النظام التركيبي للجملة يترتب عليه بالضرورة تغير الدلالة وانتقالها من مستوى إلى مستوى آخر ، ومِلاك ذلك كله وتمامه الجامع له – كما ينص عليه البلاغيون ويلخصه القاضي الجرجاني- صحة الطبع وإدمان الرياضة فإنهما أمران ما اجتمعا في شخص فقصرا في إيصال صاحبهما عن غايته ورضيا له بدون نهايته – وأقل الناس حظاً في هذه الصناعة لا يعبأ باختلاف الترتيب واضطراب النظم وسوء التأليف ، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها ولا يسبر ما بينهما من نسب ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب ( ) .
إن اختيار المتكلم لترتيب دون ترتيب باعتبار الظروف والمقاصد التي يريدها ، أي باعتبار نظام القيم ، ينتج عنه كون التقديم أو التأخير من نتائج الاختيار النحوي ، إذ يعود عدد الاختيارات الممكنة إلى بنية اللغة بالذات ، ففي بعض الأحوال لا يكون هناك سوى بديل واحد كتقديم الفاعل أو تأخيره ، فالمتحدث يختار أبنية لغوية تخضع لقواعد نحوية إجبارية في صياغتها لا مفر من اتباعها . وتظل هناك بعد ذلك مجموعة إمكانيات التعبير الاختيارية المتعادلة دلالياً بشكل أو بآخر يستطيع المتحدث أن يمارس فيها اختياراته الأسلوبية ( ) .
وبهذا يكون التقديم والتأخير نمطاً من الأنماط الدالة ، وهو وجه من أوجه الاختيار التي تُؤَدَّى بها المعاني ، وانتقاء بديل من البدائل الأسلوبية المتاحة تمثل مجالاً لتباري المبدعين باعتبار أن هناك ممكنات يختص قوم دون قوم بإدراكها واكتشافها ، فتكون التراتيب اللغوية المناسبة لها ملكاً لأولئك الذين يدركون كيفية استعمالها . وقد رأينا استحسان الجرجاني للتراكيب والتراتيب المنتقاة والتي عمها الحسن من جهة أن قدّمت فيها كلمة وأخّرت أخرى .
العدول في الأسلوب :
لكل أسلوب بياني دوافعه وأهدافه ، ولكل مبدع أسلوبه وطريقته في التعبير ، وإذا كانت بعض المدارس تجعل الأسلوب انتقاءً واختياراً ، وتلزمنا بمعرفة البدائل المتاحة ، تلك التي يعمل المنشئ فيها فكره بالاختيار والاستبعاد . فإن بعض الاتجاهات تحدد الأسلوب بأنه مفارقة أو انحراف أو عدول عن أنموذج آخر من القول ينظر إليه على أنه معيار ( ) . إن مدرسة الأسلوب باعتباره انحرافاً عن النمط تحاول أن تعزف على وتر المفارقة بين البنية السطحية والبنية العميقة خاصة في الحالات التي توصف فيها البنية السطحية بأنها غير نحوية ، إذ يلاحظ أصحاب هذه المدرسة كثرة ورود الجمل غير النحوية في لغة الشعر تلك الجمل التي لا يعود انعدام النحوية فيها أو انحرافها إلى جانب التركيب فحسب ، وإنما قد يكون له جانبه الدلالي أيضاً ( ) .
ولهذا كان بيروسلي يرى " أن الأسلوب هو التفصيل الدلالي ، أو هو الدلالة على نطاق مصغر . أما كيفية التعرف على التفصيل الدلالي من غيره فيحددها بأنها هي التي تعتمد على معيار الانحراف في اللفظ عن القاعدة العامة لتكوينه ونظمه ، فأي اختلاف في النظم يؤدي إلى اختلاف في الأسلوب " ( ) .
إن هذه العوارض والاختلافات التي تقع في بناء الجملة لا تتم بالنظر إلى البنية الأساسية أو الأصل أو القاعدة ، فلولا اعتبار هذه الأمور بالنسبة للتركيب في التحليل النحوي لما وجدنا ما يسمى بالتقديم أو التأخير أو الحذف . وهذان العارضان من أدل الدلائل على أن النحو العربي في تحليله لبناء الجملة كان يراعي الأصل والبنية الأساسية ( ) .
والبنية الأساسية تمثل النسق المحايد الذي يراد به مجرد الإخبار ، وحينما يريد المتكلم أن يجذب انتباه السامع إلى عنصر معين في الجملة ، أو يريد التركيز على عنصر معين لأنه يمثل في نظره زبدة البحث اللغوي ، فإنه يلجأ حينئذ إلى خرق هذا النسق بالانحراف عنه ، لأن لغة الفن لها بديل سابق عليها ، والمستوى الفني لا يقف عند هذا البديل ، بل ربما يدفعه الموقف المعين إلى أن يعدل عن ذلك الأصل بتغيير مواقع الكلم فيه أو بالزيادة أو الحذف . وهو لا يفعل ذلك عبثاً وإنما لينقل إلى السامع دلالة يرى أن أصل الوضع قد لا يفي بأدائها . إن العدول عن الأصل يمثل نوعاً من الخروج عن اللغة النفعية إلى اللغة الإبداعية ( ) .
ومن هنا وجه البلاغيون اهتماماً خاصاً لهذا المبحث ، ورصدوا عوارض بناء الجملة ، واعتبروا التقديم أحد هذه العوارض ، فوضع الكلمة في غير موضعها انحرافاً بها عن الأصل أو القاعدة لداعٍ من الدواعي التي تتغير به الدلالة تغيراً يوجب لها المزية والفضيلة ( ) . إن درجة الوعي في اختيار المتكلم أو المؤلف للمواد التي يوظفها أسلوبياً أو ينحرف عنها تختلف بين قيم تعبيرية لا شعورية تقريباً ، وتتكون من العناصر الاجتماعية والنفسية اللازمة للتعبير ، وبين قيم صياغة واعية ومقصودة شعورياً . يقول د. صلاح فضل : " بيد أنه إذا كان التمييز بين هذين اللونين من الاختيار صالحاً نظرياً فغالباً ما يصعب تطبيقه من الوجهة العلمية ، وهناك بلا شك حالات تتوفر فيها لدينا قرائن كافية للتدليل على أن الاختيار قد تم بشكل واع مقصود . فاللجوء المنظم للأدوات الأسلوبية مؤشر لا يخطئ على النشاط الواعي المقصود " ( ) .
وقد ألح الجرجاني على الوعي بالترتيب ، وجعله شرطاً في ترتيب الكلام ، ووضع الألفاظ موضعها . يقول : " وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصفة إن لم يقدم فيه ما قدّم ولم يؤخّر ما أخر ، وبدئ بالذي ثُنِّيَ أو ثَنَّي بالذي ثَلَّثَ به لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة ، وإذا كان كذلك فينبغي أن ننظر إلى الذي يقصد واضع الكلام " ( ) . وعملية الترتيب جزء من عملية الاختيار ، وهي عملية واعية مقصودة ، فمؤلِّف القول يفكر في المعنى الذي يريد أن يصوره ، ويرتب هذا المعنى في نفسه ، ثم يختار النظم المناسب لأدائه ، يُقدّم فيه ما تَقَدَّم في نفسه ويؤخِّر ما تأخَّر فيها .
أسلوبية العدول الرتبي :
يقع مبحث التقديم والتأخير في بؤرة مباحث الأسلوب الدائرة حول التركيب ، ويكتسب هذا المبحث أهمية خاصة من حقيقة أنه يخضع في كل لغة للطابع الخاص بها فيما يتعلق بترتيب الأجزاء داخل الجملة . وهو من الظواهر الأسلوبية الشائعة في القرآن الكريم وذلك لما له من تأثير في المعنى واللفظ معاً ( ) .
وهو مظهر من مظاهر أسلوبية كثيرة تمثل قدرات إبانة أو طاقات تعبيرية يديرها المتكلم إدارةً حيةً واعيةً فيسخرها تسخيراً منضبطاً للبوح بأفكاره . ومواقع الكلمات من الجملة عظيمة المرونة كما هي شديدة الحساسية ، وأي تغيير فيها يحدث تغييرات جوهرية في تشكيل المعاني وألوان الحس وظلال النفس ( ) . فالذي تظهر به المزية في الأساليب " ليس إلا الإبدال – الاختيار- الذي يختص الكلمات ، أو التقديم والتأخير الذي يختص الموقع ، أو الحركات التي تختص الإعراب ، فبذلك تقع المباينة " ( ) .
وقد وصف فندريس البحث القائم على تحديد القيمة الفنية أو الأسلوبية للتغيير في مواقع الكلمات بأنه " في غاية الدقة ، ويتطلب حساً لغوياً مدرباً ولطفاً عالياً في الذوق الأدبي ، يضاف إليها معرفة نادرة بالظروف الفيلولوجية للغة المدروسة " ( ) .
كما أن المعاني التي تكون أسبق وجوداً في الذهن من غيرها – والتي يلزم تقديمها اللفظي بحسب تقدمها الرتبي المعنوي- كثيرة متعددة بحسب تعدد أسبابها الموجبة لها النابعة من أبعادها ومواقعها في النفس ، ولا يعدل بها عن مواقعها ومراتبها التي استحقتها ، إلا إذا اقتضت التجربة الشعورية ذلك لأغراض وأبعاد نفسية معينة . وهذا هو الضرب الثاني من ضروب التقديم والتأخير القائم على أساس تقديم ما حقه التأخير وتأخير ما رتبته التقديم ( ) . فقد يعمد المبدع إلى هذا الضرب من الأسلوب في التعبير ، فيرتب الألفاظ على غير ما يقتضيه ترتيبها ووجودها الذهني ، وذلك من أجل تحقيق أبعاد نفسية معينة تنبع من طبيعة التجربة الشعورية والمعنى المراد نقله ، ومن ظروف وأحوال المقام الذي سيق فيه التخاطب ، مما يحتم على المتكلم تقديم ما حقه التأخير أو تأخير ما حقه التقديم . تقول : ( زيدُ جاءني ) إذا أردت أن تفيد فوق الإخبار بالمجيء ضرباً من الاهتمام بزيد والحفاوة بأمره ، وتوكيد تلك الحقيقة لسامعك لأهميتها ، أو لأنه على حال لا يتوقع مجيء زيد . وما شابه ذلك من تلك الألوان النفسية التي يبوح بها تقديم المسند إليه فإذا قلت : ( جاءني زيدٌ ) انقطع هذا الفيض من الهواجس والخواطر ، وكان الكلام كلاماً مرسلاً يجري في سياق خال من تلك النبضات التي جرى فيها السياق الأول ، لأنك لما زحزحت ( زيد ) ورميت به قريباً من الصدر صار قريباً من رأس الفكرة وبؤرة الاهتمام ( ) .
وكذلك الألفاظ التي تأتي حكماً في صدر الكلام وفي مطلع الجمل فإنها تحمل شحنات أسلوبية معينة ، فهي تشبه المفاتيح الموسيقية التي تكون فاتحة القطعة الموسيقية التي تحدد تنغيمها ( ) . كما إن الترتيبات المختلفة تصنف باعتبار درجتها البلاغية ، وكثيراً ما نقرأ في كتب المتقدمين أن هذا أبلغ من هذا ، وأن هذا القول أبلغ من ذاك ، ونعثر على مثل هذا في كتابات الجرجاني . وغاية الأمر فيه أن هذا الرجل يبين بالاعتماد على النظرية النحوية نجاح اختيار المتكلمين لترتيباتهم وما تبعها من مجازات . يقول الجرجاني متحدثاً عن أبيات البحتري التي يقول فيها :
بَلَوْنَا ضَرَائِبَ مَنْ قَدْْ نَرَى فَمَا إِنْ رَأَيْنا لِفَتْحٍ ضَرِيباً
هُوَ المَرْءُ أبْدَتْ لَهُ الحادِثَا تُ عَزْماً وَشِيكاً وَرَأْياً صَلِيباً
تَنَقَّلَ في خُلُقَيْ سُـؤْدَدٍ سَماحاً مُرَجَّى وَبَأساً مهيباً
فكَالسّيْفِ إنْ جِئْتَهُ صَارِخاً وكالبَحْرِ إنْ جِئْتَهُ مُسْتَثِيباً
( الضرائب : الطبيعة والخُلُق . الضريب : النظير والشبيه . مستثيبا : يطلب الثواب ) .
: " فإذا أنت رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ووجدت لها اهتزازات في نفسك ، فعد فانظر في السبب ، واستقص في النظر ، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قَدَّمَ وأخَّرَ وعَرَّفَ ونَكَّرَ وحَذَفَ وأَضْمَرَ ، وتوخَّى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو فأصاب في ذلك كله ، ثم لطف موضع صوابه ، وأتى مأتى يوجب الفضيلة " ( ) .
إذن فأسلوبية التقديم أكيدة في العبارة العربية حاضرة في الذوق الأدبي ، تهب الجمال وتنزعه ، وتقوي الحكم وترفعه أو تضعه . يقول الرازي معلقاً على قول إبراهيم بن العباس :
فلو إذْ نَبَا دهرٌ وَأُنْكِرَ صَاحِبٌ وسَُلَِطَ أعْدَاءٌ وغَابَ نَصِيرُ
تكُونُ عَنِ الأهْوَازِ دَاري بنَجْوَةٍ ولكن مَقَاديرُ جَرَتْ وأُمُورُ
: " لم تجد لما فيه من الرونق والطلاوة والحسن والحلاوة شيئاً إلا من أجل تقديم الظرف الذي هو ( إذ نبا ) على عامله الذي هو ( تكون ) وإن لم يقل : فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر … وكل ذلك من معاني النحو كما ترى " ( ) . فاختيار تقديم الظرف – من جملة البدائل الأسلوبية المتاحة – هو الذي حقق للشاعر هذا المسلك البديع الذي اكسب عبارته وقعاً وجمالاً .
ومما لا شك فيه أن اختلاف العبارتين يترتب عليه اختلاف في المعنى وفي الحسن . يقول د. تمام حسان : " إذا اختلفت عبارتان وقد أفهمتا معنى واحداً ، فالفرق بينهما منوط بالأسلوب لا محالة ، وأول ما يميز أسلوباً عن أسلوب هو تفضيل طريقة تركيبية على طريقة تركيبية أخرى ، أضف إلى ذلك أن الطرق الأسلوبية تكشف عن الكثير من المميزات المزاجية لأصحابها حتى يمكن من خلال الأسلوب أن نحدد الشخصية " ( ) . ولذلك كان القدماء يوصون المتكلم بأن يجتهد في ترتيب ألفاظه وتهذيبها وصيانتها من كل ما يخل بالدلالة ، ويعوق دون الإبانة ، ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان (غفلاً عرياناً ) ، مثلما يتراجعه الصبيان ويتكلم به العامة في السوق ( ) .
علل التقديم وإفادته :
كان الدارسون قبل عبد القاهر يكتفي أكثرهم ببيان أصل العبارة في دراسة التقديم دون أن يحاولوا الكشف عن المعاني الإضافية للنصوص المختلفة بإدراك جانب من العلاقات الداخلية ، فالفراء لا يتجاوز تلك النظرة المحدودة التي تحصر التقديم والتأخير في وضع كلمة موضع الأخرى ، وتبادل مكان الكلمتين فتفسح إحداهما مكانها للأخرى كما يقول في قوله تعالى : ***61533;وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى***61531; ( ) : " يريد : ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً ، مُقَدَّم ومُؤَخَّر " ( ) .
وقد سار على هذا النهج كل من أبي عبيدة في مجاز القرآن ، وابن فارس ، والثعالبي ، دون أن يقفوا على الأسرار البلاغية والدلالية لأسلوب التقديم والتأخير ( ) .
وتناوله ابن قتيبة بقوله : " ومن المقدم والمؤخر قوله تعالى : ***61533;الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً***61531; ( ) أراد : أنزل الكتاب قيماً ، ولم يجعل له عوجاً . ومنه : ***61533; فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ***61531; ( ) ، أي بشرناها فضحكت . وقوله : ***61533; فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا***61531; ( ) ، أي فعقروها فكذبوه بالعقر " ( ) .
إلا أن الكتابات البلاغية تجاوزت بيان أصل العبارة بالنظر في أسباب التقديم ودلالاته ، وتوصل أصحابها إلى أن ما قدّم أو أخّر لا يكون إلا لعلة بلاغية ، وجعلوا علم المعاني مجال درسه وخاصة منه ما يتعلق بتقديم المسند والمسند إليه ومتعلقات الفعل ، وجعلوا لكل قسم عللاً وأغراضاً . فالمسند إليه يتقدم ( ) :
1- لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه ، كتقديم الفاعل على المفعول ، والمبتدأ على الخبر .
2- أو ليتمكن في ذهن السامع لأن في المبتدأ تشويقاً إليه .
3- أن يقصد تعجيل المسرة إن كان في ذكره تفاؤل ، أو المساءة إن كان فيه ما يتطير به .
4- أو إيهام أن المسند إليه لا يزول عن الخاطر.
5- أو إيهام التلذذ بذكره .
6- أو تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي إن ولي حرف النفي .
7- أو تقوية الحكم وتقريره .
8- أو لإفادة العموم .
* كما يتقدم المسند لأغراض منها ( ) :
1- تخصيص المسند بالمسند إليه كقوله تعالى : ***61533;وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ***61531; ( ) .
2- التنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت .
3- التفاؤل بتقديم ما يسر مثل : عليه من الرحمن ما يستحقه .
4 – التشويق إلى ذكر المسند إليه .
* ومن أغراض تقديم متعلقات الفعل ( ) :
1- الاختصاص : كقوله تعالى : ***61533; إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ***61531; ( ) .
2- الاهتمام بالمقدم كقوله تعالى : ***61533; قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ***61531; ( ) .
3- التبرك : مثل قولك : قرآناً قرأت .
4- رعاية الفاصلة كقوله تعالى : ***61533; فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ***61531; ( ) .
وهذه العلل أو الإفادات أو الأغراض يمكن تقسيمها إلى قسمين :
أ – قسم لفظي له صلة بالنظم ، والهدف منه تحسين العبارة من الناحية الشكلية ، وإضفاء طابع الجمالية والانسياب على العبارة كمراعاة الفاصلة والضرورة الشعرية .
ب – قسم دلالي يختص بالمعاني الإضافية المتولدة عن التقديم كالعناية والاهتمام والتخصيص والتقوية .
التقديم والعناية :
لقد صاغ البلاغيون بعض المبادئ التي يجدر بنا الوقوف عندها في أثناء مقاربة التقديم والتأخير منطلقين من مبدأ عام يتعلق بإفادات العلاقات النظمية ، ثم عن مصدر تلك الإفادات . والبلاغيون فسروا ظاهرة التقديم على أنها تركيز العناية والاهتمام بالعنصر المقدَّم ، فالمتكلم يختار ترتيباً دون آخر باعتبار الظروف والمقاصد ، وهو يقدم ما العناية به أشد ، قصداً إلى التأثير في السامع الذي أصبح معتبراً في العملية التواصلية . إن مفهوم العناية يمكّننا من النظر في التحويلات الممكنة للتراكيب ، فرغم أن كل مكونات الجملة تهم المتكلم إلا أن هذا الاهتمام وهذه العناية ليسا على درجة واحدة ، فالمقدم درجة الاهتمام به تفوق غيره . يقول الجرجاني : " وإنما يكون التقديم والتأخير على قدر العناية والاهتمام " ( ) .
إذن فالأهم واجب التقديم ، وهذا أصل في تعليل التقديم -أو كالأصل- وهو من جوامع الكلم ، وله اطراد في تعليل حالات التقديم والتأخير المختلفة . فتقديم المسند إليه ، وتقديم المسند ، وتقديم متعلقات الفعل ، كل ذلك يكون من أجل العناية والاهتمام ولهذا عدَّ د.إلياس ديب بيان الأهمية أهم الدواعي البيانية لتعليل التقديم ، وأصلاً لباقي المتعلقات البلاغية الأخرى ( ) . وتفسير هذا : أن التقديم دليل على أن المقدَّم هو الغرض الأهم . ففي قوله تعالى : ***61533; لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ***61531; ( ) ، فقد قدّم اسم الإشارة الذي يريد به البعث ، فكان دليلاً على أهمية البعث ، وأن الكلام قد سيق لأجله . وفي قوله تعالى : ***61533; لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ***61531; ( ) قدَّم ( نحن وآباؤنا ) على اسم الإشارة (هذا) ، فكان ذلك دليلاً على أهمية المبعوثين ، وهم القصد من الحديث وليس البعث .
إن قضية العناية التي تناولها علماء النحو والبلاغة واللغة وما زلنا نقرأ عنها حتى يومنا هذا في كتب النحو والنقد والبلاغة ، أساسها من صنع سيبويه فهو أول من أشار إليها وطرق بابها ، يقول في ( باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى المفعول ) : " فإذا قدمت المفعول وأخرت الفاعل كقولك : ضربَ زيداً عبدُ الله ، وكان حظ اللفظ فيه أن يكون الفاعل مقدماً ، وهو عربي جيد كثير ، كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم " ( ) .
وفي باب ( كَسَى وما ينصب مفعولين ليسا المبتدأ والخبر ) يرى أن التقديم لبيان العناية والاهتمام كما كان في تقديم المفعول على الفاعل . يقول : " وإن شئت قدَّمت وأخَّرت فقلت : كَسَي الثوبَ زيدُ ، وأعْطَي المالَ عبدُ الله ، كما قلت : ضربَ زيداً عبدُ الله ، فالأمر في هذا كالأمر في الفاعل " ( ) . كما يرى هذه العناية والاهتمام في تقديم الظرف أيضاً ( ) . ويقول في باب ( إنَّ ) : " واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام ههنا مثله في باب كان " ( ) .
ويرى الزركشي أن وضع سيبويه للتقديم والتأخير قاعدة عامة هي أنهم يقدمون ما يعنون به " وذلك أن من عادة العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما – وأناطت به حكماً- وقد يشركه غيره في ذلك الحكم أو فيما أخبر به عنه ، وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب ، فإنهم مع ذلك يبدءون بالأهم والأولى . قال سيبويه : ( كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم ) " ( ) .
ولعل سيبويه بلفته النظر إلى هذا السر البلاغي الذي تلقفه علماء النحو والبلاغة يكون قد أثرى كثيرا من المباحث البلاغية . ولا شك أن هذا يدل على أنه كان من الأوائل الذين أسهموا في تأسيس البعد التعليلي النظري للتقديم ، وفيه ما فيه من مراعاة موقع الوحدات داخل الرسالة اللسانية والشروط التي يفرضها عليه المقام التخاطبي .
ولعل من أهم الذين انتفعوا بمبدأ الاهتمام الذي أقره سيبويه عبد القاهر الجرجاني ، فقد سعى إلى تسويغ تقدم اللفظ أو تأخره بالنظر إلى ما يمثله في السياق ، وذلك بتوظيف ( الاعتبارات ) في البحث عن مصدر اهتمام المتكلم ببعض الجزاء الكلامية دون بعض . يقول الجرجاني : " واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئاً يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول : كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم … إن معنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه ، كمثل ما يعلم في حال الخارجي ، يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى ، أنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ، ولا يعنيهم منه شيء ، فإذا قُتل وأراد مريد الإخبار بذلك ، فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول: قتلَ الخارجيَّ زيدٌ ، ولا يقول : قتل زيدٌ الخارجيَّ ، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له (زيد) جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم " ( ) .
وقال في المقتصد معقباً على قول سيبويه : " يريد أنهم كانوا يقصدون ذكر كل واحد من المفعول والفاعل في قولك : ضرب الأميرَ زيدٌ ، فإنهم يقدمون الذي هو أجزل حظاً من العناية والاهتمام مفعولاً كان أو فاعلاً " ( ) .
فالتعليل بالعناية عند الجرجاني ذو طابع عقلي . يقول د. تامر سلوم : " وفي التقديم نرى أن المعنى الوجداني ليس أصلاً في حديث عبد القاهر الجرجاني ، إذ القول بالأهمية ، أو العناية ، وتأكيد الحكم ، ودعوى الانفراد ذو صبغة عقلية ، لا يتضح فيه تلمس الجانب الوجداني أو المعنى الأدبي " ( ) .
لقد أصبح مبدأ العناية والاهتمام أصلاً معتمداً عند البلاغيين المتأخرين الذين تابعوا سيبويه والجرجاني في دعوتهما إلى تسويغ تقدم اللفظ أو تأخره بالنظر إلى ما يمثله في السياق . يقول الزمخشري في تعليقه على قوله تعالى : ***61533; إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ***61531; ( ) : " هذا كلام جامع لا يزاد عليه . فإن قلت : كيف جعل ( خير من استأجرت ) اسماً (لإن) ، و( القوي الأمين) خبرا ؟ قلت هو مثل قوله :
أَلا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حياً وهالكاً أَسيرُ ثقيف عِنْدَهُم فِي السَّلاسِلِ
في أن العناية هي سبب التقديم " ( ) .
ويقول في تفسيره لتقديم كلمة ( راغب ) في قوله تعالى : ***61533; قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ***61531; ( ) : " لأنه أهم عنده وأعنى ، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وأن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد " ( ) . وقريب منه قول ابن الأثير في الآية نفسها : " ولم يقل : أأنت راغب لأنه كان أهم عنده ، وهو به شديد العناية " ( ) .
ولم يخرج السكاكي عن ملاحظة سيبويه في التقديم . يقول : " والحالة المقتضية هي كون العناية بما يقدم أتمّ ، وإيراده في الذكر أهمّ ، والعناية التامة بتقديم ما يقدم والاهتمام بشأنه نوعان : أحدهما أن يكون أصل الكلام في ذلك هو التقديم ، ولا يكون في مقتضى الحال ما يدعو إلى العدول عنه . وثانيهما : أن تكون العناية بتقديمه والاهتمام بشأنه لكونه في نفسه نصب عينيك ، وأن التفات الخاطر إليه في التزايد ، كما تجدك قد منيت بهجر حبيبك وقيل لك : ما تتمنى ؟ تقول : وجه الحبيب أتمنى " ( ) .
لقد جعل السكاكي التقديم للعناية مطلقاً أي سواء كان المقدم من معمولات الفعل أو غيرها . كما جعل الأهمية ههنا قسيماً لكون الأصل التقديم ، ومراده بالأهمية ؛ الأهمية العارضة بحسب اعتناء المتكلم أو السامع بشأنه ، واهتمامه بحاله لغرض من الأغراض كقولك : قتلَ الخارجيَّ فلانٌ ، بتقديم المفعول ، لأن المقصود الأهم قتل الخارجي ليتخلص الناس من شره ( ) .
مظاهر العناية والاهتمام :
إن تقديم بعض المعمولات على بعض لا يكون إلا بكون ذلك البعض أهم ، لكن ينبغي أن يفسر وجه العناية بشأنه ، ويعرف له معنى ، ولا يكفي أن يقال : قدم للعناية والاهتمام ، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية ؟ وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال : إنه قدم للعناية ، ولتخيلهم ذلك قد قصر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم وهونوا الخطب فيه ، ولعل ذلك ما ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها ( ) .
يقول ابن يعقوب المغربي : " ثم كون الذكر أهم لا يكفي في علة التقديم لذاته ، لأن الأهمية نفسها حكم يفتقر إلى علة توجبها ، إذ الأهمية بالشيء هي الاعتناء به ، والاعتناء لا بد له من سبب ، فلذلك لو قيل : هذا أهم من ذلك ، كان هذا القائل بصدد أن يقال له لماذا كان أهم ؟ ومن أي وجه كانوا به أعنى ؟ " ( ) .
وبهذا يكون ذكر الأهمية كالقانون الجامع الذي سنسعى إلى تفصيله من خلال عرض بعض مظاهر وتجليات العناية الدائرة في فلك الانفعالات النفسية من تعجب واستعظام وفرح وحزن وتفاؤل وتشاؤم ومدح وذم وتشويق وتبكيت ، باعتبار أن الأهمية هي المعنى المقتضي للتقديم ، وجميع المذكورات تفاصيل له .
إن معظم علل التقديم هو من مظاهر العناية بالمقدَّم ، وهو تفاصيل للعناية ، إذ كانت العناية بمثابة القانون الجامع ، وكانت هذه المعاني النفسية مظهراً لها ، وهي لا تنحصر . والذي يطبع هذه الظاهرة الأسلوبية البلاغية ويحكمها هو الأبعاد النفسية الانطباعية ، ذلك أن النفس تُعنى وتتطلع إلى تقديم الذي بيانه لها أهم ، وهي بشأنه أعنى ، فقد يشغل نفسَ المتلقي أمرٌ من الأمور ، وتتطلع إلى خبره ، وتتشوق إلى ما تم بشأنه ، لكون التعرف عليه مهماً لديها ، أو لأن أموراً مهمة تترتب عليه ، فحينئذ ولكي يكون التعبير أكثر قدرة وقابلية على التأثير والإثارة ، يقدَّم فيه ما انعقد القلب به ، وإن كان حقه الترتيبي من حيث الوجود الذهني التأخير ، وذلك حتى يعجل للنفس ما تريد التعرف عليه فتطمئن وتستقر ، وإلا فقَدَ النص قيمته لانشغال النفس عما يرد فيه بما تعلقت به وتأخر بيانه في النطق ( ) .
وقد كان عبد القاهر أقرب البلاغيين إلى تفهُّم حقيقة هذه الظاهرة والكشف عن بعدها النفسي حينما ذهب إلى أن النفس إنما تُعنى بتقديم ما تهتم بشأنه ، وذلك لأنه ماثلٌ نصب العينين ، وأن التفات الخاطر إليه في ازدياد .
لقد اتضح من خلال ما سبق – بما لا يدع مجالاً للشك – أن العناية ومظاهرها أصل من أصول التعليل البلاغي لظاهرة التقديم والتأخير ، وأن ارتباطها بالملكات النفسية المعبر عنها بما تفرع عن العناية الدالة على حسن مراعاة المخاطب وسبر أغوار نفسه أمر لا يمكن تجاهله البتة .
وعلى هذا الأساس يمكننا تفسير التلوين الصوتي المتولد عن العدول التركيبي في الجمل بمعانقتها لسياقات التقديم والتأخير الرتبي بما يحمله من مظاهر العناية والاهتمام ، وتفريعات أهل النحو والبلاغة في هذا المقام .
* فمن هذا النموذج ما نلمسه من عدول تركيبي يتمثل في تقديم المسند إليه ( المبتدأ ) وهو في صورته المنكرة ، حيث إن حقه التأخير قفي هذه الحالة . وقد تناول البلاغيون مسألة ( الابتداء بالنكرة ) في أثناء حديثهم عن " تنكير المسند إليه " ، وقد جعلوا لهذا التنكير أغراضاً هي ( ) :
1- للإفراد ؛ أي القصد إلى فرد بعينه دونما تحديد .
2- للنوعية ؛ أي القصد إلى نوع بعينه محدد .
3- للتعظيم .
4- للتكثير .
5- للتقليل .
6- لإرادة العموم .
فإذا أردنا هنا في هذا المقام تلمس هذه الأغراض في الآيات التي وردت مبتدأٌ فيها بالنكرة ، يكون النسق كالتالي :
* ما ورد من النكرة للتعظيم ، تمثل في الآيات التالية :
– قوله تعالى : ***61533; فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ***61531; سورة الذاريات ( آية رقم 60 ) .
– قوله تعالى : ***61533; فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ***61531; سورة الطور آية رقم (11 ) .
– قوله تعالى : ***61533; لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ***61531; سورة الطور آية رقم ( 23 ) . تعظيماً لشأن الجنة ، وتميزها عن الدنيا .
– قوله تعالى : ***61533; فوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ***61531; سورة المرسلات الآيات رقم ( 15 – 19 – 24 – 28 – 34 – 37 – 40 – 45 – 47 – 49 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ***61531; سورة المطففين آية رقم ( 1 ) .
– قوله تعالى : ***61533; فوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ***61531; سورة المطففين آية رقم ( 10 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ***61531; سورة الهمزة آية رقم ( 1 ) .
– قوله تعالى : ***61533; فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ***61531; ( ) . يقول الزمخشري : " فويل للمصلين على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم ؛ لأنهم كانوا مع التكذيب ، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين " ( ) .
وكل ما ورد من نكرة مبتدأ بها بغرض الدعاء ، وبلفظ ( ويل ) فلا شك في أن إرادة تهويل العذاب المنتظر لهذه الفئات ، هو عين المراد هنا ، ليكون ذلك أقوى رادع ، وأشد مخوف لهم .
* أما ما ورد من النكرة ويراد به التكثير ، فيتمثل في الآيات التالية :
– قوله تعالى : ***61533; ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ***61531; سورة الواقعة آية رقم ( 13 ) . فهذه الفئة المؤمنة من أصحاب رسول الله ***61541; هم أكثر أهل الجنة ، وهم أهل المنزلة العالية . وهم لهذه الصحبة ، ولهذا البلاء الحسن ( ثلة ) كبيرة كثيرة آثرت الآخرة فنالوها معاً ، واستحقوا ما وعدهم الله من عظيم الجزاء والثواب .
– قوله تعالى : ***61533; وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ***61531; سورة القيامة آية رقم ( 24 ) .
– قوله تعالى : ***61533; قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ***61531; سورة النازعات آية رقم ( 8 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ***61531; سورة عبس آية رقم ( 40 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ***61531; سورة الغاشية آية رقم ( 2 ) .
فهذه الأصناف جميعها من الفئات التي ضلت وأضلت ، ولذا كان الأصل فيها أن تكون كثيرة في جانب أصحاب النار . فقد جاء سياق النكرة هنا دالاً على كثرة هذه الفئات يوم القيامة ، فقد ورد سياق الحديث بها في سياق الحديث عن القيامة وما يتبعها من أحداث ، لم تخالف آية منها في ذلك السياق . وجاءت النكرة في هذه الآيات مدللة على فداحة الخطب ، وكثرة الفئات الضالة في ذلك اليوم لأنه يوم الحساب ، فهو يوم العرض ، والمجازاة بالأعمال .
* أما ما ورد من النكرة ويراد بها التقليل ، فيتمثل في الآيات التالية :
– قوله تعالى : ***61533; وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ***61531; سورة الواقعة آية رقم ( 14 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ***61531; سورة القيامة آية رقم ( 22 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ***61531; سورة عبس آية رقم ( 38 ) .
– قوله تعالى : ***61533; وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ***61531; سورة الغاشية آية رقم ( 8 ) .
فالسياق هنا سياق تقليل لهذه الفئات الناجية يوم القيامة ؛ فالسابقون الأولون أكثريتهم من الأولين ، وأقلهم من المتأخرين . ومن ينعم برؤية المولى ***61529; منا هم فئة ناجية استحقت بإخلاصها هذه المنحة والمنة العظمى . ولذا كان سياق النكرة في هذه الآيات سياق تقليل ، وذلك لإبراز تميز هذه الفئات وتفردها بهذا المقام ، وهذه المكانة السامقة .
* وما ورد من النكرة للنوعية ، فيتمثل في الآية التالية :
– قوله تعالى : ***61533; فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ***61531; سورة الواقعة آية رقم ( 91 ) . أي أن هذا السلام مختلف تماماً عما عهدناه من سلامات ، فهو سلام أهل الجنة للنبي ***61541; سلام أصحاب اليمين ، مبلغا من قبل رب العزة ***61529; فهو سلام مختلف في نوعه ، مختلف في مصدره ، مختلف في منتهاه ، مختلف تماما فيمن يبلغه ويحمله . ويجوز هنا حمل النكرة على أن الغرض منها في هذه الآية هو ( التكثير ) ، وذلك لكون أهل اليمين في الجنة كثير ، وهم يسلمون على النبي ***61541; فتحمل النكرة هنا على هذا الغرض .
وهكذا فإن سياقات العدول في تقديم النكرة جاءت متناسبة مع السياق العام لهذه الآيات ، ومتناغمة مع النسيج النصي الذي وظفت فيه ، رعاية للبعد الدلالي والجمالي لهذه التوظيفات .
* كذلك من ألوان التلوين العدولي بالتقديم والتأخير ما أشار إليه أهل البلاغة من فروق دلالية بين الابتداء بأحد المعرفتين في السياق التركيبي ، أي عندما يكون المبتدأ والخبر معرفتين . فقد كان تقرير النحويين لهيكل الجملة الاسمية صريحا إذ جعلوا لهيكلها الرئيسي ركنين رئيسيين هما : ( المبتدأ ) + ( الخبر ) . وقد يتم اختراق هذا الهيكل لأغراض ومقاصد متعمدة .
وفي إطار البحث في هذه الأغراض والمقاصد المؤدية إلى هذا الاختلال التركيبي للنسق المثالي لهيكل الجملة الاسمية ، تناول النحويون بالتحليل أحد فروض هذه الهيكلة ، وهو ( التعريف والتنكير في ركني الجملة الاسمية ) . وما يقصد بالتعريف والتنكير هو فروض شكلية تتخذ شكلاً من الأشكال الآتية :
1- ( مبتدأ معرفة ) + ( خبر نكرة ) .
2- ( مبتدأ معرفة ) + ( خبر معرفة ) .
3- ( مبتدأ نكرة ) + ( خبر نكرة ) .
هذه الأشكال هي التي حكمت مسألة التعريف والتنكير لركني الجملة الاسمية . لكن أي هذه الأشكال هو الأصل الأول لتشكيل الهيكل التركيبي للجملة الاسمية ؟ وأيها يأتي تاليا بعد ذلك ؟ والإجابة على هذا التساؤل نجدها عند الكثير من النحويين . فابن السراج يشير إلى أنه : " إذا اجتمع اسمان معرفة ونكرة ، فحق المعرفة أن تكون هي المبتدأ ، وأن تكون النكرة الخبر ، لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده ، فالخبر هو الذي ينْكِره ولا يعرفه ، ويستفيده ، والاسم لا فائدة له لمعرفته به ، وإنما ذكرته لتسند الخبر إليه " ( ) .
فهو يجعل من الشكل الأول (الأصل) ، فالمبتدأ حقه التعريف ، والخبر حقه التنكير ليصح الإخبار عنه ، والتنبيه عليه . وتأمل قوله : ( لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده ) فقد جعل غرض هذا التعريف والتنكير هو تنبيه السامع ولفت انتباهه للخبر الذي لا يعرفه ، وذلك عن طريق المبتدأ الذي يعلمه جيداً . وهذا هو أسلوب البلاغة في أداء المعاني ، بالدلالة على المجهول بما هو معلوم ليكون ذلك أوكد للمعاني في الذهن .
والسهيلي يرى هذا الشكل الأصل المقرر إذ يقول : " حق المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصاً ، وإلا لا فائدة في الإخبار عنه ، فإن لم يكن منعوتاً أو مخصوصاً ولا مستفهماً عنه ولا منفياً نحو : ***61533; َلا لَغْوٌ فِيهَا ***61531;( ) فلا يخبر عنه " ( ) .
والمهلبي ( ت583 هـ) يفصل المسألة أكثر بقوله : " حكم الاسم المبتدأ أن يكون معرفة لأنه إذ لم يعرف في نفسه فأجدر أن لا يعرف في غيره ، ولأنك إنما تخبر الرجل عمن لا يعلمه بما يعلمه ، فتقع الفائدة بإخبارك إياه ، فأما إذا أخبرته عمن لا يعلمه بما لا يعلمه لم تقع بذلك فائدة " ( ).
وعلى النهج نفسه يسلك ابن يعيش في المسألة باحثاً في جوانبها بقوله : " أصل المبتدأ أن يكون معرفة ، وأصل الخبر أن يكون نكرة ، وذلك لأن الغرض في الإخبارات إفادة المخاطب ما ليس عنده ، وتنزيله منزلتك في علم ذلك الخبر ، والإخبار عن النكرة لا فائدة فيه " ( ).
والنحويون على هذا الرأي ، إذ يقررون هذا الأصل ويعتمدوه في مؤلفاتهم ، كلّ بأسلوبه وطريقته الخاصة ( ) . أما حديثهم عن الشكلين الأول والثاني وهما كون المبتدأ والخبر معرفتين أو نكرتين معاً ، فقد فصل بعض النحويون القول في الابتداء بأحدهما . فقد أشار سيبويه إلى أنه إذا اجتمع معرفتان فالفيصل في الابتداء بأحدهما واعتماده ( مبتدأ ) ، واعتماد الثاني منهما ( خبراً ) هو المتلقي نفسه . يقول : " إذا كانا معرفتين فأنت فيهما بالخيار ، أيهما جعلته فاعلاً ورفعته ، ونصبت الآخر كما فعلت ذلك في ( ضَربَ ) وذلك قولك : كان أخوك زيداً ، وكان زيدٌ أخاك ، وكان هذا زيداً ، وكان المتكلم أخاك " ( ) .
فسيبويه هنا يجعل مقاليد الأمور كلها في يد المتلقي تأمل قوله : ( فأنت فيهما بالخيار ) أليس هذا معناه أنه لا فرق في المعني إذا ابتدأت بأحدهما ؟! لأنك بالخيار ، فلا فرق في الدلالة بين التركيبي ( زيدٌ أخوك ) و ( أخوك زيدٌ ) . وهذا مستغرب على سيبويه الذي يكرر في كتابه الكثير من الإشارات في بيان الفروق الدلالية بين التراكيب ، والمتولدة عن حركية أحد أركان الجملة في ذات الجملة إيجاباً وسلباً ( ) .
والمبرد يتناول المسألة من سيبويه ، لكنه يبرز الفروق المتولدة من الابتداء بأحد المعرفتين إذ يقول : " إذا قلت : ( ظننت زيدا أخاك ) فإنما يقع الشك في الأخوة ، فإن قلت : (ظننت أخاك زيداً) أوقعت الشك في التسمية " ( ) .
أما ابن يعيش فيسلك في تحليل هذه المسألة سبيل البلاغة إذ يغوص على الفروق الدلالية المتولدة من كون المبتدأ والخبر معرفة والابتداء بأحدهما ، فيجعل لكل منهما دلالات خاصة . يقول : " قد يكون المبتدأ والخبر معرفتين معاً نحو : ( أخوك زيدٌ ) و(عمرو المنطلقُ) و (الله إلهُنا) و (محمدٌ نبيُنا) ، فإذا قلت : (زيدٌ أخوك) وأنت تريد أخوة النسب ، فإنما يجوز مثل هذا إذا كان المخاطب يعرف زيداً على انفراده ، ولا يعلم أنه أخوه لفرقة كانت بينهما أو لسبب آخر ، أو يعلم أن له أخاً ولا يدري أنه زيد هذا ، فتقول : ( زيدٌ أخوك ) أي هذا الذي عرفته هو أخوك الذي كنت علمته ، فتكون الفائدة في مجموعهما ، فإن كان يعرفهما مجتمعين لم يكن في الإخبار فائدة " ( ) .
فهو في هذا النص يجعل للابتداء بأحد المعرفتين (زيد) و( أخوك) ضربين من الجمل هما : (أخوك زيدٌ) و(زيدٌ أخوك) . ويفصل القول فيما يتولد منهما من دلالات . فالابتداء بـ(زيد) يجعل المعنى المراد متمحوراً حول التنبيه على أخوة النسب ، وهذا عنده يجوز لأمور منها : معرفة المخاطب زيداً منفرداً ، أو جهله بهذا النسب بينه وبين زيد لافتراق كان بينهما ، أو لمعرفة المخاطب بهذه الأخوة لكنه يجهل تعيين هذا الأخ . وتنتفي هذه الدلالات تماماً عند الابتداء بـ(أخوك) إذ يكون التعيين هنا هو العامل المميز لهذه الجملة ، وذلك لأن الاستعانة بـ(كاف الخطاب) والتي تجعل هذا التعيين واقعاً في الابتداء ، فيكون المعنى : (هذا أخوك زيدٌ) . فالمعنى عمدة في تحليله في هذه المسألة .
أما ابن هشام فقد تناول المسألة أثناء حديثه عما يميز المبتدأ من الخبر ، وخاصة إذا كانا معرفتين ، فيدير المعاني في المسألة على النسق البلاغي ، يقول : " فإن كان المخاطب يعلم أحدهما دون الآخر فالمعلوم الاسم والمجهول الخبر ؛ فيقال : (كان زيدٌ أخا عمرو) لمن علم زيداً وجهل أخوته لعمرو ، و( كان أخو عمرو زيداً ) لمن يعلم أخاً لعمرو ، ويجهل أن اسمه زيد . وإن كان يعلمهما ويجهل انتساب أحدهما إلى الآخر ، فإن كان أحدهما أعرف فالمختار جعله الاسم فتقول : ( كان زيدٌ القائم ) لمن كان سمع بزيد وسمع برجل قائم ، فعرف كل منهما بقلبه ، ولم يعلم أن أحدهما هو الآخر . ويجوز قليلاً : ( كان القائمُ زيداً ) . وإن لم يكن أحدهما أعرف فأنت مخير نحو : ( كان زيدٌ أخا عمرو ) و( كان أخو عمرو زيداً ) " ( ) .
فابن هشام يدير الدلالات نفسها التي أثارها ابن يعيش في تناوله للمسألة ، لكن ما يحسب له بحق هو إشارته إلى كون أحد المعرفتين ضميراً أو اسم إشارة ودخلت عليهما كان ، فالأرجح في هذا المقام تعيين هذا الضمير مبتدأ وذلك لمكان التنبيه المتصل به ( ) .
أما السيوطي فينقل في هذه المسألة رأي ابن الخباز النحوي الذي يقول فيه : " إن قلت : ما الفرق بين ( زيدٌ أخوك ) و ( أخوك زيدٌ ) ؟ قلت من وجهين : أحدهما : أن ( زيدٌ أخوك ) تعريف للقرابة ، و( أخوك زيدٌ ) تعريف للاسم . والثاني : أن ( زيدٌ أخوك ) لا ينفي أن يكون له أخ غيره لأنك أخبرت بالعام عن الخاص ، و( أخوك زيدٌ ) ينفي أن يكون له أخ غيره ، لأنك أخبرت بالخاص عن العام " ( ) .
ألا يتضح مما سبق دوران النحويين حول دلالة – تكاد تكون واحدة تقريبا- متولدة من الابتداء بأحد المعرفتين ، هذه الدلالة هي من ابتكارات المبرد أولاً ، ولم يشر أحد من النحويين إلى ذلك .
ومسألة الابتداء بأحد المعرفتين تحمل في طياتها الكثير من أوجه البلاغة ، والغوص على المعاني التي مدار البلاغة وعنوان مباحثها . وتناول النحويين لهذه المسألة كان ينحو نحو الجانب التأملي في دلالات التراكيب ، لكون هذه التراكيب جاءت على غير الأصل المقرر في هيكلة الجملة الاسمية .
وخلاصة الرأي النحوي : أنه إذا اجتمع معرفتان أو نكرتان كلاهما نكرة محضة ، فإنه يمتنع تقديم الخبر فيهما لأمن اللبس ، وذلك عند انعدام القرينة الدالة على تعيين أحدهما ومنحه حق الصدارة . وهذا الأمر على أقسام :
الأول : المتقدم مبتدأ والمؤخر خبر سواء تساويا في درجة التعريف أو تفاوتا ، وهو الظاهر من رأي ابن عقيل ( ) .
والثاني : يجوز جعل كل واحد منهما مبتدأ لصحة الابتداء بهما جميعاً ( ) .
والثالث : إذا كان أحدهما مشتقا والآخر جامدًا ، فالمشتق هو الخبر سواء تقدّم أو تأخّر ، وإلاّ إن كانا جامدين أو كلاهما مشتقاً فالمقدم هو المبتدأ ( ) .
والرابع : المبتدأ هو الأعرف عند المخاطب ، سواء تقدّم أم تأخّر ، فإن تساويا في المعرفة عند المخاطب فالمقدم المبتدأ ( ) .
تلك هي آراء النحويين في مسألة اجتماع المعرفتين والابتداء بأحدهما ، وقد دارت كلها حول إبراز الفروق بين التركيبين من خلال الاتكاء على الجانب الدلالي واستثماره أفضل استثمار ، فخرج النحويون في هذه المسألة من العباءة النحوية إلى حيز أرحب وأوسع ، ولمسوا بحق ما يسميه البلاغيون بـ( معنى المعنى ) .
أما بحث المسألة عند البلاغيين فقد اتخذت مدار المعنى سبيلاً لها ، وتناولوها بالفحص والدرس والتحليل الدقيق ، وإن كان بدء هذا التحليل – كما هو دوماً – على يد عبد القاهر الجرجاني ، فلم نجد فيما سبقه من مؤلفات بلاغية أي إشارة إلى هذه المسألة من الوجهة البلاغية التحليلية .
فقد بدأ عبد القاهر ببحث المسألة بحثاً مفصلاً بقوله : " أما قولنا : ( المنطلقُ زيدٌ ) والفرق بينه وبين أن تقول : ( زيدٌ المنطلقُ ) ، فالقول في ذلك : أنك وإن كنت تريد في الظاهر أنهما سواء من حيث كان الغرض في الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد ، فليس الأمر كذلك ، بل بين الكلامين فصل ظاهر " ( ) .
ثم يشرع بعد ذلك في تفصيل ما بين الكلامين من فروق دلالية ، وخلاصة قوله : أن قولك : ( زيدٌ المنطلقُ ) المعنى فيه ثبوت صفة (الانطلاق) لشخص ما دون تعيينه ، فيكون الشك في فاعل هذا الفعل ، فتعين هذا الفاعل بقولك : ( زيد ) ، فبذلك يعلم السامع أن فعل ( الانطلاق ) قد ثبت لفاعل (معنى لا رتبة) هو ( زيد ) ، فالفعل في هذه الجملة تمّ وانتهى . أما قولك : ( المنطلقُ زيدٌ ) فهو على معنى أن فعل الانطلاق يتم ويتكون الآن ، ولكن السامع لم يعين من صاحب هذا الانطلاق الذي يتم في هذا الوقت ، والابتداء بـ(زيد) هنا يعين صاحب هذا الفعل ( الانطلاق ) .
إذن عبد القاهر يتخذ من زمنية الحدث معياراً للتفرقة الدلالية بين الجملتين ، فهذا الزمن في جملة (المنطلقُ زيدٌ) في طور النمو والتشكل ، أما في جملة ( زيدٌ المنطلقُ ) فقد تمّ واكتمل .
لكن عبد القاهر يشير إلى لمحة دلالية غاية في الجمال والروعة إذ يجعل المعنى المتولد من الجملتين السابقتين ليس على إطلاقه ، لكن هناك بعض الاستثناءات ؛ منها : إذا كان أحد المعرفتين (اسم فاعل) أو (صفة) وبدئ به كان الغرض الدلالي مختلفاً عما سبقت الإشارة إليه . ومثال ذلك : قولك : ( اللابسُ الديباجَ صاحبُك ) فليس الغرض هنا إثبات لبس الديباج له ، لأن معاينتك إياه تنبئك عن ذلك . يقول عبد القاهر : " متى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدئ به فَجُعِلَ مبتدأ ، وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبراً ، فاعلم أن الغرض هناك غير الغرض إذا كان اسم الفاعل أو الصفة خبرا ، كقولك : ( زيدٌ المنطلقُ ) " ( ).
وينعي عبد القاهر على سيبويه رأيه الذي يجعل فيه الابتداء بأحد المعرفتين( بالخيار)( ) ، ويُعرِّض به دون أن ينص على اسمه ، ثم ينقض رأيه ويدلل على فساده بسوق العديد من الأمثلة والشواهد الشعرية ( ) .
أما الزمخشري فيسلك المسلك التطبيقي للتدليل على رأيه الذي ذهب إليه ، ففي تفسيره لقوله تعالى : ***61533; وَظَنُّوا أَنَّهُمُ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اْلَّلهِ***61531; ( ) يقوم بتعيين المعرفتين وهما ( مانِعَتُهم ) و( حصُونُهم ) ثم يعتمد ( مانعتهم ) خبراً مقدماً ، و( حصونهم ) مبتدأ مؤخراً ، ويجعل مدار النظم في هذه الآية هي الدلالة . يقول : " فإن قلت : أي فرق بين قولك : ( وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ) وبين النظم الذي جاء عليه ؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسما لـ( إن) وإسناد الجملة إليه ، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم ، وليس ذلك في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم " ( ) .
فهو يجعل المعنى في الآية على النظم الذي وردت به في الذكر الحكيم ، على فرط ثقتهم بحصانة ومنعة هذه الحصون ، أي إثبات فعل المنع لكن لمن ؟ فيكون تعيين الحصون بهذا الفعل وهذا هو المقصد من نظم هذه الآية . بينما لو قدم ( حصونهم ) لكان المعنى على استمرار الثقة بفعل التحصن ، وهذا ما لا يستقيم مع الأحداث إذ أجلاهم المصطفي***61541; عن هذه الحصون فكيف يستمر فعل التحصن وهو منقوض . هكذا يطبق الزمخشري نظرة عبد القاهر في النظم كما أرادها ، يطبقها تطبيقاً جلياً على هذه الآية الكريمة ، ويخرج لنا بالدلالات الرائعة والمعاني الجليلة .
والرازي يسوق المسألة بشيء من التفصيل فيجعل المعنى في قولك : (زيدٌ المنطلقُ) على ثبوت صفة (الانطلاق) لكن ليس لمتعين ، ولذا فقولك : (زيد) تعيين لصاحب هذه الصفة ، أي حصر هذه الصفة في جانب هذا المتعين ( ) . أما قولك : ( المنطلقُ زيدٌ ) فعناه على اعتقاد من اعتقد انطلاق إنسان ما ولم يعينه ، فيجعل من تقديم (المنطلق) تعيين لهذا الإنسان وتخصيص له ( ) .
ويلخص الرازي المسألة بقوله : " الحاصل أن الإخبار يجب أن يكون عما يعرف بما لا يعرف ، فإذا قلنا : ( المنطلقُ زيدٌ ) فالمنطلق معلوم ، أما الشخص الذي هو المنطلق فمجهول . وإذا قلت : ( زيدٌ المنطلقُ ) كان المقصود إما حصر انطلاق معين ، أو حصر حقيقة الانطلاق " ( ) .
لكن الرأي العجيب الذي جاء به الرازي في نهاية بحثه للمسألة إذ يقول : " المبتدأ موصوف ، والخبر صفة ، فكما وجب أن يكون أحدهما في الوجود أولى بأن يكون موصوفاً ، والآخر صفة ، فكذلك في اللفظ ، فإذا قلنا : ( اللهُ خالقُنا ) و( محمدٌ نبيُّنا ) ، فالخالقية صفة لله تعالى ، والنبوة صفة لمحمد ***61541; فهما في الحقيقة متعينان للخبرية ، ولا يصلحان للمبتدئية " ( ) .
إن الرازي لما حاول هنا تقسيم المسألة ساق ما يخالف الإجماع ، فقد أراد جعل كل ما يصلح صفة ( خبراً ) سواء قدّم أو أخّر ، وعلة ذلك عنده أن الصفات لا تصلح إلا للخبرية . وهو في هذا الرأي مخالف لما قرره النحويون في هذه المسألة ، وكذلك مخالف لرأي عبد القاهر ، ولم يذكر حجة أو دليل على صحة ما ذهب إليه .
ويسير السكاكي على الدرب نفسه ( ) . ويتبعه على النهج ذاته القزويني دونما تجديد يذكر( ) .
تنــوير :
كان نظر البلاغيين لجزئية الابتداء بأحد المعرفتين متمحوراً في الاستشهاد القرآني حول آية قرآنية وحيدة هي قوله تعالى : ***61533; وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ ***61531; ( ). فقد وردت المعرفتان هنا ( مانعتهم ) + ( حصونهم ) معرفتان بالإضافة إلى الضمير . ونلمح تواتر البلاغيين على تناول هذه الآية بشيء من التفصيل والتحليل كما يلي :
فضياء الدين ( ابن الأثير ) في ( المثل السائر ) يتعرض للآية في أثناء بحثه باب " التقديم والتأخير " ، ويخرج الآية على أنها من باب ( تقديم الخبر على المبتدأ ) ، وذلك بإقرار ( مانعتهم ) خبرا مقدما على ( حصونهم ) المبتدأ المؤخر ، ثم يفلسف هذا التخريج معتمدا على ذوقه التحليـلي ، وتحليـله الذوقـي فيقول : " إنما قال ذلك ولم يقل : ( وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ( مانعتهم ) لأن في تقديم الخبر الذي هو ( مانعتهم ) على المبتدأ الذي هو ( حصونهم ) دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها ، وزيادة وثوقهم بمنعها إياهم ، وفي تصويب ضميرهم اسما لـ( أن ) ، وإسناد الجملة إليه دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع لا يبالي معها قصد قاصد ، ولا تعرض متعرض ، وليس شيء من ذلك في قولك : ( وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله ) " ( ).
إذن التقديم هنا لغرض محدد ومقصود هو إبراز الخلفية النفسية لهؤلاء اليهود المتحصنين بهذه الحصون ؛ إذ إنهم قوم ماديون يحتاجون دوما إلى الوثوق بما يلمس أي بالمادة ، دون ما يحس . ألم يقولوا لنبي الله موسى ***61557; حكي القرآن الكريم: ***61533; فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً***61531; ( ) . فهذه المادية هي عين المعنى المراد في آية سورة الحشر ، فقد وثقوا بالحصون وبأنها تمنعهم – حتى من الله – وقد خاب ظنهم فطردوا منها على يد المصطفي***61541; .
والعلوي في ( الطراز ) يسير على النهج نفسه ، إذ يصنف الآية على أنها من باب ( تقديم الخبر على المبتدأ ) بل ويكاد ينقل لنا نص ( ابن الأثير ) مع بعض التغيير في هيكل النص دون روحه ، يقول : " إنما قدّم قوله ( مانعتهم حصونهم من الله ) وهو حبر المبتدأ في أحد وجهيه ، ليدل بذلك على فرط اعتقادهم لحصانتها ، ومبالغة في شدة وثوقهم بمنعها إياهم ، وأنهم لا يبالون معها بأحد ، ولا ينال فيهم نيل . وفي تقرير ضمير ( هم ) اسما وإسناد المنع والحصول إليهم ، دلالة بالغة على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، لا ترمى حوزتهم ، ولا يغزون في عقر دارهم ، ولو أخر الخبر لم يعط شيئا من هذه الفوائد " ( ) .
فالنص هنا يكاد يتطابق مع نص ( ابن الأثير ) تطابقا تاما ، ولا يتميز عنه سوى بإدراك ( العلوي ) لمسألة ( الابتداء بأحد المعرفتين ) ، يلمح ذلك من قوله : ( في أحد وجهيه ) أي أن هذا الخبر المقدم قد يتحرك ( سلبا ) فيكون خبراً مؤخراً ، أو ينسخ حكمه فيكون في موقعه مبتدأً . إن العلوي لم يسمح لنفسه أن ينطلق بفكره ، فلم يهتم باستنباط الدلالات الممكنة من وراء هذا التأخير ، واكتفي بتكرار عبارة ابن الأثير بمعناها فقال : ( ولو أخر الخبر لم يعط شيئاً من هذه الفوائد ) .
ونلحظ أن كلاً من ابن الأثير والعلوي من أنصار مدرسة التجديد أو محاولات التجديد التالية لمحاولات السكاكي وأنصاره المدرسيين المنطقيين . والسؤال الآن هل تناول السكاكي هذه المسألة هو وتلامذته بالبحث والتحليل ؟ والإجابة أن السكاكي قد بحث هذه الجزئية في بحثه لأحوال المسند عندما تعرض لـ( تعريف المسند ) . فقد أشار السكاكي إلى أن تعريف المسند لا بد أن يعتمد قبل ذلك على تعريف المسند إليه ، وهو ما قرره النحويون أن الأصل في الجملة الاسمية أن يُعرَّف المبتدأ ويُنَكَّر الخبر . لكن السكاكي يجعل تعريف ( المسند ) واجباً في حالة واحدة هي : إذا كان المسند عند السامع أو المتلقي متشخصاً أي ( معروفاً ) بأحد طرق التعريف ، وذلك لأن تعريف المسند استلزم قبل ذلك كون المسند إليه معرفة ( ) .
لكن ماذا يستفيد السامع من تعريف المسند إليه والمسند ؟ يجيب السكاكي : " يستفيد إما لازم الحكم ، كما ترى في قولك لمن أثنى عليك بالغيب : الذى أثنى علي بالغيب أنت . معرفاً لأنك عالم بذلك . أو الحكم كما ترى في قولك لمن تعرف أن له أخاً ، ويعف إنسانا يسمى زيداً ، أو يعرفه يحفظ التوراة ، أو تراه بين يديه ، لكن لا يعرف أن ذلك الإنسان هو أخوه ، إذا قلت له : أخوك زيدٌ ، أو أخوك الذي يحفظ التوراة ، أو أخوك هذا ، فقدمت الأخّ ، أو إذا قلت : زيدٌ أخوك ، أو الذي يحفظ التوراة أخوك ، أو هذا أخوك ، فأخرت الأخ معرفاً له في جميع ذلك " ( ) .
فالسكاكي هنا يجعل تعريف المسند إليه والمسند يفيدان أحد أمرين هما :
الأول : إفادة لازم الحكم ، ومعناه : الحكم على أمر معلوم بآخر معلوم ، أي أنه يتناص هنا مع الأغراض المستفادة من الخبر ، خاصة مع ما يسمى ( لازم فائدة الخبر ) . وهذا مغاير لعلم المخاطب بالحكم ، فقولك : أنت الذي مدحني بالقصيدة الرائعة ، معلوم لك أنه هو ، لكنك أردت أن تؤكد الحكم هنا .
والثاني : إفادة الحكم ، ومعناه : الحكم على أمر معلوم للسامع ، ومعرف بطريقة من طرق التعريف ، بأمر آخر غير معلوم له ، وذلك لأنه يجب عند تعريف المسند تعريف المسند إليه ، إذ ليس في كلام العرب مسند إليه نكرة ومسند معرفة ، فقولك : أخوك زيد اقتضى جهل السامع بأحد المعرفتين ، فلذا وجب إفادته حكماً بأن له أخاً هو زيد . فالأمر هنا على إفادة حكم لا لازم حكم .
ويعود السكاكى لينقل لنا رأياً مستفاداً من رأي النحويين في هذه المسألة ، مفاده : أنه إذا أتت معرفتان فليس كل منهما صالحا للابتداء ، بل هناك منهما من هو متعين دوماً للخبرية ولا يصلح للابتداء به ، ومنهما من يصلح دوماً للمبتدئية ولا يصلح للإخبار به ( ) .
وقد تواتر على هذا الرأي أتباع المدرسة السكاكية ، دون أي تجديد أو إضافة ، اللهم ما كان من بعضهم من توظيف بعض آيات النص القرآني في هذه المسألة ، مثلما فعل ( الطيبي ) الذي حاول إبراز ذاته التجديدية في إطار النظرية السكاكية بتوظيف الآي القرآني في هذه المسألة ، وقد تأتى له ذلك بصورة جميلة ( ) ، أو إضافة بعض أبيات الشعر ( ) ، أو الإفاضة في الشرح فقط ( ).
ورغم تخريج النحويين والبلاغيين لهذه المسألة ، وإبراز الآراء والأقوال فيها ، إلا أن حدود هذه الآراء لم يكن لتشمل دلالات آيات النص القرآني في توظيفه لهذه المسألة . فمثلاً قوله تعالى : ***61533; سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ***61531; ( ) ، فتعريف المبتدأ والخبر هنا لا يفيدنا لازم الحكم أو الحكم إطلاقاً . فالمسند إليه والمسند معرفتان وفي لازم الحكم تدل بأمر معلوم ( هو ) الدال على الذات الإلهية ، على أمر آخر معلوم ( العزيز ) وهو دال أيضاً على الذات الإلهية ، والاثنان معلومان في الذهن الإنساني بما لا يدع مجالاً لدلالة هذا على ذاك ، ولا ذاك على هذا .
والمتأمل لعظمة التركيب في الآية القرآنية كما يلي : ( هو العزيز الحكيم ) يجد أن البنية التركيبية تعطى دلالات تتضافر دون شك مع البنية السياقية للآية ومن ثم البنية السياقية للسورة . فالسياق في الآية في يتناول الحديث عن عبودية كل مخلوقات الله لله ، وتسبيحهم إياه على الدوام . تأمل دلالة التعبير بالفعل الماضي ( سَبَّحَ ) فليس المقصود هنا انتهاء فعل التسبيح ، بل المعنى على أن هذه المخلوقات جميعها سبحت – وتسبح وستظل تسبح – لله ***61529; قبلك أيها الإنسان ، وما زلت بجهلك وعنادك ، فاستلزم الأمر أن نرسل لك رسلاً وكتباً ، ولم تستدل مثل هذه المخلوقات على إلهك مباشرة ، بل أعملت عنادك ، فانظر وتأمل صبر الله عليك وحبه لك لما أرسل لك الرسل والكتب رغم ما أنت فيه من كفر وجهل وعناد ، ولم يأخذك أخذ عزيز مقتدر ( وهو العزيز الحكيم ) .
فالسياق هنا يقتضي الابتداء بالضمير الدال على الذات الإلهية لإشعار الرهبة في النفس عند سماعه . و ( هو ) ضمير دال مؤثر في مثل هذا السياق ، ثم أتبع بصفة واسم دال على التمكن من الأمور ، وطلاقة التصرف فيها والقدرة عليها ، وذلك بمطلق العلم بل بمطلق الحكمة . لكن هل يمكن أن تستفاد هذه المعاني والدلالات من تأخر الضمير المبتدأ به ( هو ) ليصير خبراً ؟ تأمل مثلاً قولنا : ( والعزيز الحكيم هو ) أننا بذلك نرى استقامة في البنية الهيكلية ، وفي المعنى الدلالي في غير القرآن ، لأن المعنى حينئذ : أن هناك أعزاء كثيرون فاقتضى منك ذلك تحديد المقصود بهذه العزة فقـلت : ( هو ) ، وحاش لله أن يكون هذا المقصود .
إذن التخريج النحوي والبلاغي لهذه المسألة يطرد على مادون القرآن ، أما النص القرآني فالمسألة تحتاج إلى دقة نظر عند بحث هذه الآيات ، دون قولبة الأغراض البلاغية الجاهزة ، وصبها على هيكل الآيات القرآنية دون وعي ، فلكل آية ذوق وطعم لمن أراد أن يتذوق .
وخلاصة القول : أن الرأي النحوي وقف في بحث هذه المسألة على الأصل الذي ينبغي أن تكون عليه هذه الهيكلة من حيث كون ( المبتدأ ) معرفة و( الخبر ) نكرة ، فهذا هو الهيكل النسقي للجملة الاسمية عندهم . وإن كان بعض النحويون قد تطرق بالتحليل إلى المعاني المتولدة من إتيان ( المبتدأ والخبر ) معرفتين مثلما فعل المبرد وابن يعيش ، رغم أن هذه الإشارة لم تكن كافية من جانب النحويين ، فقد كان الأولى بهم أن يفصلوا وهم أهلٌ لذلك دون غيرهم .
أما البلاغيون فقد استبان الأمر عندهم ، فتناولوا المسألة مقرين إياها بداية ، ومحللين لكل تركيب على حدة من حيث المعاني المتوخاة منه ، فلكلٍ دلالات تختلف تماماً عن الآخر . وقد وجدنا صدى هذا الجهد الذي فتق مباحثه عبد القاهر ، عند الزمخشري والرازي والسكاكي والقزويني . والتحليل البلاغي في هذه المسألة لم يتخذ الأساس النحوي منطلقاً له ، بل اتخذه مرمى للنقد ، وغرضاً للهدم ، وذلك لعدم اتكاء الأساس النحوي في هذه المسألة على روح التراكيب ، وفنية الأداء ، واكتفائه برصد الهيكلة الجملية التي تحكم علاقات الأركان فيها .
تلك هي بعض إشارات التلوين الصوتي بالعدول الرتبي ، أي بتوظيف فنية التقديم والتأخير في سياقات الجمل القرآنية ، وما اعتمدت عليه من تخريجات للنحويين والبلاغيين ، دارت معظمها على القواعد الجامدة دون مراعاة لروح النص القرآني وتفردات سياقاته .
الهوامش :
1. – ينظر : د. فايز الداية ، علم الدلالة العربي ، معهد الإنماء العربي ، حلب ، 1995 ، 21 .
2. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 10 .
3. – ينظر : أبو حيان التوحيدي ، الإمتاع والمؤانسة ، 1 / 121 .
4. – ينظر : د. عبد الحكيم راضي ، نظرية اللغة في النقد العربي ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1997 ، 213 .
5. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 111 .
6. – العلوي ، الطراز ، 2 / 66 .
7. – ينظر : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 186 . – الرازي ، نهاية الإيجاز ، 159 . – الرضي ، شرح الكافية ، 1 / 100 .
8. – د. إبراهيم أنيس ، من أسرار اللغة ، 323 .
9. – سورة الأنعام : آية رقم ( 100 ) .
10. – ينظر : د. محمد عبد المطلب ، البلاغة و الأسلوبية ، 252 .
11. – برجشتراسر ، التطور النحوي ، 133 .
12. – ينظر : د. تمام حسان ، الأصول ، 385 .
13. – ينظر : القاضي الجرجاني ، الوساطة ، 412 – 413 .
14. – ينظر : د. صلاح فضل ، علم الأسلوب ، 89 – 90 .
15. – ينظر : د. سعد مصلوح ، الدراسة الإحصائية للأسلوب ، 106 .
16. – ينظر : د. عبد الحكيم راضي ، نظرية اللغة ، 489 .
17. – د. صلاح فضل ، علم الأسلوب ، 81 .
18. – ينظر : د. تمام حسان ، الأصول ، 47 .
19. – ينظر : د. يحيى أحمد ، الاتجاه الوظيفي ودوره في تحليل اللغة ، دار الثقافة ، الدار البيضاء ، 1998 ، 76 .
20. – ينظر : د. محمد عبد المطلب ، البلاغة والأسلوبية ، 248 .
21. – د. صلاح فضل ، علم الأسلوب ، 93 .
22. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 364 .
23. – ينظر : د. عبد الحكيم راضي ، نظرية اللغة ، 211 .
24. – ينظر : د. محمد أبو موسى ، دلالات التراكيب ، 175 .
25. – ينظر : عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل ، إعجاز القرآن ، تحقيق : أمين الخولي ، مطبعة البابي الحلبي ، القاهرة ، 1966 ، 16 / 199 .
26. – ج . فندريس ، اللغة ، 187 .
27. – ينظر : د. مجيد ناجي ، الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، بيروت ،1995 ، 114 .
28. – ينظر : د. محمد أبو موسى ، دلالات التركيب ، 177 .
29. – ينظر : د. ريمون طحان ، الألسنية العربية ، المؤسسة الجامعية للدراسات ، بيروت ، 1994 ، 2 / 85 .
30. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 85 .
31. – الرازي ، نهاية الإيجاز ، 284 .
32. – د. تمام حسان ، الأصول ، 84 .
33. – ينظر : الجاحظ ، البيان والتبيين ، 1 / 135 . ابن رشيق ، العمدة ، 1 / 176 .
34. – سورة طه : آية رقم ( 129 ) .
35. – الفراء ، معاني القرآن ، 2 / 195 .
36. – ينظر : أبو عبيدة ، مجاز القرآن ، 1 / 124 ، 2 / 13 . – ابن فارس ، الصاحبي ، 412 . – الثعالبي ، فقه اللغة ، 322 .
37. – سورة الكهف : الآيتان رقم ( 1 ، 2 ) .
38. – سورة هود : آية رقم ( 71 ) .
39. – سورة الشمس : آية رقم ( 14 ) .
40. – ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن ، تحقيق : السيد صقر ، مكتبة التراث ، القاهرة ، 1989 ، 158 .
41. – ينظر : السكاكي ، مفتاح العلوم ، 93 . – القزويني ، الإيضاح ، 101 . – ابن مالك ، المصباح ، 26 .
42. – ينظر : السكاكي ، مفتاح العلوم ، 105 . – ابن مالك ، المصباح ، 38 . – الجرجاني ، الإشارات والتنبيهات ـ 78 .
43. – سورة النور : آية رقم ( 42 ) .
44. – ينظر : الرازي ، نهاية الإيجاز ، 316 . – الزركشي ، البرهان ، 3 / 153 . – القزويني ، الإيضاح ، 53 .
45. – سورة الفاتحة : آية رقم ( 5 ) .
46. – سورة الأنعام : آية رقم ( 164 ) .
47. – سورة الضحى : آية رقم ( 9 ) .
48. – عبد القاهر الجرجاني ، المقتصد في النحو ، 1 / 330 .
49. – د. إلياس ديب ، أساليب التأكيد في اللغة العربية ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ،1999 ،66 .
50. – سورة النمل : آية رقم ( 68 ) .
51. – سورة المؤمنون : آية رقم ( 83 ) .
52. – سيبويه ، الكتاب ، 1 / 14 .
53. – السابق ، 1 / 19 .
54. – نفسه ، 1 / 27 .
55. – نفسه ، 1 / 285 .
56. – الزركشي ، البرهان في علوم القرآن ، 3 / 235 .
57. – عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، 107 – 108 .
58. – عبد القاهر ، المقتصد ، 1 / 311 .
59. – د. تامر سلوم ، نظرية اللغة والجمال ، دار النفائس ، بيروت ، 1988 ، 131 .
60. – سورة القصص : آية رقم ( 26 ) .
61. – الزمخشري ، الكشاف ، 3 / 403 .
62. – سورة مريم : آية رقم ( 46 ) .
63. – الزمخشري ، الكشاف ، 3 / 20 .
64. – ابن الأثير ، المثل السائر ، 2 / 216 .
65. – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 236 .
66. – التفتازاني ، المطول ، 202 .
67. – ينظر : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 108 .
68. – ابن يعقوب المغربي ، مواهب الفتاح ، 1 / 389 .
69. – ينظر : د. مجيد ناجي ، الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية ، 117 .
70. – ينظر : السكاكي ، مفتاح العلوم ، 286 – 290 . القزويني ، الإيضاح ، 52 – 54 . الطيبي ، التبيان ، 257 – 260 .
71. – سورة الماعون : آية رقم ( 4 ) .
72. – الزمخشري ، الكشاف ، 4/ 804 .
73. – ابن السراج ، الأصول في النحو ، 1/59 .
74. – سورة الطور : آية رقم ( 23).
75. – السهيلي ، نتائج الفكر ،409 .
76. – المهلبي ، نظم الفرائد وحصر الشرائد ، تحقيق : د. عبد الرحمن العثيمين ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1986 ،61 .
77. – ابن يعيش ، شرح المفصل ، 1/85 .
78. – ينظر : – ابن معطي ، الفصول الخمسون ، 198 .- المرادي ، توضيح المقاصد ، 1/ 281 . -ابن عقيل ، شرح الألفية ، 1/216 . – ابن الناظم ، شرح الألفية ، 114 . – المكودي ، شرح الألفية ، 1/180 . – السيوطي ، الأشباه والنظائر ، 2/ 257 .
79. – سيبويه ، الكتاب ، 1/50 .
80. – السابق ، 1/59 ، 2/88 ، 2/127 .
81. – المبرد ، المقتضب ، 3/95 .
82. – ابن يعيش ، شرح المفصل ، 1/98 .
83. – ابن هشام ، مغني اللبيب ، تحقيق : د. مازن المبارك ، دار الفكر ، بيروت ، ط1 ، 1989 ، 432.
84. 3- السيوطي ، الأشباه والنظائر ، 2/ 268 .
85. 1 – ابن عقيل ، شرح الألفية ، 2/ 221 .
86. 2- الخضري ، حاشية الخضري على شرح ابن عقيل ، 1/222 .
87. 3- المرجع السابق ، 1/ 223 .
88. 4- الرضي ، شرح الكافية ، 1/230 .
89. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 187 .
90. – عبد القاهر ، دلائل الإعجاز ، 187 .
91. – سيبويه ، الكتاب ، 1/50 .
92. – عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، 188- 193 .
93. – سورة الحشر : آية رقم ( 2) .
94. – الزمخشري ، الكشاف ، 4/499 .
95. – الرازي ، نهاية الإيجاز ، 160 .
96. – المرجع السابق ، 162 .
97. – الرازي ، نهاية الإيجاز ، 163 .
98. 2- السابق ، 164 .
99. – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 314- 316 .
100. – القزويني ، الإيضاح ، 104 .
101. – سورة الحشر : آية رقم ( 2 ) .
102. -ابن الأثير ، المثل السائر ، 2 / 38 .
103. – سورة النساء : آية رقم ( 153 ) .
104. – العلوي ، الطراز ، 235 .
105. – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 314 .
106. – السابق ، 315 .
107. – السكاكي ، مفتاح العلوم ، 315 .
108. – الطيبي ، التبيان ، 265 .
109. – القزويني ، الإيضاح، 105 .
110. – ينظر : القزويني ، الإيضاح ، 104- 106 . الطيبي ، التبيان ، 264-265 . ابن مالك ، المصباح ، 42- 44 . السبكي ، عروس الأفراح ، 2/93 – 2/103 . التفتازاني ، المطول ، 174-181 . ابن يعقوب ، مواهب الفتاح ، 2/94 – 2/ 102 .
111. – سورة الحشر : آية رقم ( 1 ) .
الله يحفظك ويجعلها في ميزان حسناتك اختي شككككككككككككككككككككككككككرا
moyennes minimales orientation bac 2022
سيصدر موقع المدرسة الوطنية للاعلام الالي بوادي السمار بالجزائر العاصمة بعد أيام قائمة المعدلات الدنيا للتوجيه و القبول في التخصصات المفتوحة في مختلف الجامعات و المعاهد الجزائر للطلبة الناجحين الجدد في شهادة البكالوريا دورة 2022
مشكورة على الاعلام
تحياتي
التحويلات الجامعية بالتفصيل
°,انواع التحويلات
هناك ثلاث انواع للتحويل
ّتحويل داخلي وهو تحويل من تخصص الى تخصص اخر في نفس الجامعة
ّتحويل خارجي بين الجامعات مثلا نتحول من تخصص في سطيف ونروح نقؤرا فالجزائر العاصمة
ّتحويل بسبب تغيير الاقامة هدا في حالة انتقال الطالب وتغييره للسكن يحول من ولايتو لقديمة الى جامعة الولاية الجديدة
2°.الوثائق المطلوبةّ
ّالنسبة للتحويل للطلبة الجدد
– إستمارات تحويل تسحب من المكتب المخصص للتحويل
-نسخة من شهادة البكالوريا
-نسخة مصدقة من شهادة الدراسة أو شهادة التسجيل
ّبالنسبة للطلبة القدامى
– إستمارات تحويل تسحب من المكتب المخصص للتحويل
-نسخة من شهادة البكالوريا
-نسخة مصدقة من شهادة الدراسة أو شهادة التسجيل
-نسخة من كشف النقاط
في حالة قبولهم عليهم ارفاق الملف بشهادة حسن السيرة والسلوك
ّباالنسبة للطلبة الدين غيروا الاقامة
اضافة للوثائق السابقة تضاف للوثائق بطاقة الاقامة الجديدة
3°,من اين نستخرج الوثائق
1)الاستمارات تستخرج من مكتب التحويل وكل جامعة وعندها طريقة عمل
ّهناك جامعات تمدهم للطلبة لي رايحين يحولو ليها يعني الجامعة الجديدة لي تمدها
ّهناك جامعات تطلب من الطلبة يجيبوهم من جامعاتهم القديمة يعني يستخرجةها من الجامعة القديمة
وهناك نوعين من الاستمارات
=لي تخص التحويل الخارجي
2)شهادة حسن السيرة والسلوك تستخرج من عند رئيس القسم chef de département الدي ينتمي له الطالب
3)في حابة تغيير الاقامة تستخرج بطاقة الاقامة من البلدية
4)النسخ عن شهادة التسجيل وكشف النقاط وشهادة الباكالوريا يصادق عليها فالبلدية
4°,خطوات التحويل:
ّبالنسبة للتحويل الخارجي
1) يدهب الطالب الي الجامعة التي يريد ان يتحول اليها(الجديدة) مصحوب بالوثائق اللازمة ويتوجه الى مكتب نائب رئيس الجامعة وهو صاحب القرار فالرفض او القبول حسب الاماكن البيداغوجية الشاغرة عنده وحسب المعدل الدي يتطلبه التخصص .ادا وافق يوقع لك الاستمارة
2) تأخد هده الاستمارة مع -نسحة من البكالوريا الى رئيس الجامعة القديمة ليوقع لك فيها
3)تخرج ملفك كاملا (ملف التسجيل+ملف الاقامة+ملف المنحة ) من مصلحة الانخراط بالجامعة القديمة مصحوبا بشهادة حسن السيرة والسلوك ان كان الطالب قديم
4) تاحد هدا الملف وتدهب به الى الجامعة الجديدة وتدفعه وتسجل بها تقرا عادي
ّبالنسبة للتحويل الداخلي
هنا يتغير شيء واحد في مكان الانتقال بين نائبي رئيسي الجامعتين يصبح عميدا او نائبي عميدا الكليتين الجديدة والقديمة
بعد ما يوقعولو فالاستمارة ياخدها لنائب رئيس الجامعة ليوقع فيها
ويتحول ملفو عادي بين مصالح الانخراط للكليات ومصلحة الانخراط المركزية
ملاحظة هامة:
بالنسبة للتحويل الخارجي من ولاية لولاية ولكي يتمكن الطالب من الاستفادة من الاقامة الجامعية عليه ان يملك وثيقة تثبت دلك
مرسي ختي لعزيزة على هاد المعلومات والله استفدت منهم بزاف ,,,,,انا دك حابة نستفسر ونسقسيك بلاك تقدري تعاونيني فهاد الحاجة .
انا من بوسعادة ولاية المسيلة جبت الباك تاعي في 2022 و دك راني نقرا في عنابة مي والله عييت بزاف من السفر والمسافة البعيدة و زيد المصاريف حبيت هاد العام ان شاء الله ندير تحويل لجامعة باب الزوار مي البروبلام راهو في شهادة الاقامة كيفاش نجيبها؟ حبيت نجيبلهم اقامة من الاخضرية باسكو عندنا دار تما وعشت فيها من قبل مي ماعلاباليش إدا نقدر دك نخرجها ولا ماعنديش الحق ربي يحفضك و يعطيلك ماتتمناي ان شاء الله جاوبيني واعطيني حل ادا عندك و مرسي
مرسي ختي لعزيزة على هاد المعلومات والله استفدت منهم بزاف ,,,,,انا دك حابة نستفسر ونسقسيك بلاك تقدري تعاونيني فهاد الحاجة .
انا من بوسعادة ولاية المسيلة جبت الباك تاعي في 2022 و دك راني نقرا في عنابة مي والله عييت بزاف من السفر والمسافة البعيدة و زيد المصاريف حبيت هاد العام ان شاء الله ندير تحويل لجامعة باب الزوار مي البروبلام راهو في شهادة الاقامة كيفاش نجيبها؟ حبيت نجيبلهم اقامة من الاخضرية باسكو عندنا دار تما وعشت فيها من قبل مي ماعلاباليش إدا نقدر دك نخرجها ولا ماعنديش الحق ربي يحفضك و يعطيلك ماتتمناي ان شاء الله جاوبيني واعطيني حل ادا عندك و مرسي |
السلام عليكم …………الله يتقبل منا ومنكم
أهلا وسهلا بك
لا شكر على واجب………..ويسعدني ان ما قدمته قد أفادك
واذا استطعت مساعدتك فلم لا ….فهدفنا نشر الخير للغير
في الحقيقة سأسأل لك
إليكم الوثائق اللازمة للتحويل مابين الجامعات
- 3إستمارات تحويل تسحب من المكتب المخصص للتحويل بالجامعة
- نسخة مصادق عليها من شهادة البكالوريا
- نسخة مصادق عليها من شهادة التسجيل او الشهادة المدرسية للسنة الحالية
- نسخة من كشف النقاط بالنسبة الطلبة القدماء
- مبرر التحويل (تحويل الإقامة .شهادة طبية …..)
هام جدا : يجب الحصول أولا على موافقة المؤسسة المستقبلة
بارك الله فيك اختي الكريمة على هذا الموضوع جا فوقتو
وفيك يبارك الله ……………اهلا وسهلا بك
وان شاء الله استفدتي …….اي استفسار تفضلي
بالتوفيق ان شاء الله
شكرا لكم
كنت ابحث عن ملف التحويلات الجامعية 2022/2014 يعني بين الجامعات فوجدت ضالتي عندكم
شكرا لكم
كنت ابحث عن ملف التحويلات الجامعية 2022/2014 يعني بين الجامعات فوجدت ضالتي عندكم |
اهلا بك يسرنا اننا افدناك و لله الحمد ….
بالتوفيق ان شاء الله
بارك الله فيك موضوع وافي جدا كنت ابحث عن فترة التحويلات الجامعية في الجزائر 2022/2014 و الحمد لله وجدته .. كتبت و وفتي شكرااااااااا
بارك الله فيك موضوع وافي جدا كنت ابحث عن فترة التحويلات الجامعية في الجزائر 2022/2014 و الحمد لله وجدته .. كتبت و وفتي شكرااااااااا
|
وفيك يبارك الرحمن ………..الحمد الله انا افدناكم فنحن نسعى الى تحقيق ذلك
شكرا على طيب المرور و بالتوفيق ان شاء الله
بحث حول وسائل الاثبات
وسائل الإثبات
الحمد الله نحمده ونستعينه ونسأله التوفيق والعصمة من الزلل والفقه في دينه والبصر بأموره والمعرفة بموازين العدل التي شرعها سبحانه في القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبانت للناس أسسها وطرق الوصول إليها، فالعدل في القضاء لا يتأتى إلا أذا كان القاضي على بينه مما يقضي به وما يقضي فيه، ومن هنا كانت ولاية القضاء لأولى النهي، الذين نور الله بصائرهم، فاعتصموا بحبله، استمطروا رحمته ومن فيض علمه وتوفيقه، واستشعروا من أنفسهم العجز إلا بقدرته.
والقضاء بين الناس والفصل في خصوماتهم منذ خلق الله مجتمع الإنسان كان موكولاً إلى الأنبياء والمرسلين أمرهم الله به لتستقيم الأمور ويستقر العدل، ويرتدع الظالم.
"أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" سورة النساء الآية 58
وكان من سنة الإسلام وتشريعه للعدل بين الناس أن قرر القواعد المثلى التي يجري بها القضاء ويلتزمها القضاة يتمثل هذا قول الرسول e في الحديث الصحيح انه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال (إنما أنا بشر مثلكم، وأنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار).
وفي هذا توجيه للمتخاصمين أن يستغل فصاحة لسانه ووضوح بينة وقوة حجته في الإيقاع بخصمه والغلبة عليه في ساحة القضاء وتوجيه القضاة ألا تبهرهم الفصاحة فتميل بهم عن استنكاف الحق واستبصاره من حجج المرافعات التي يتبارى الخصوم في عرضها أو استعراضها، تجلية للحق، أو طمساً لمعالمه بضوضاء الباطل، فالمهمة صعبة ولا بد من استقامة الطريق الموصلة إليها وتأصيل ضوابطها وبيان معالمها ليكون القاضي على بصيرة بطرق القضاء ليحكم بالعدل الذي ولي ميزانه وليكون في علم المتقاضي أصول القضاء التي تجرى عليها المرافعات فلا يضل ولا ينسى، فيضيع الحق ويسود الجور.
ولقد جاء القرآن الكريم بأصول القضاء، فهو قول الله العدل مبيناً للرسول e ومن بعده للقضاة سماع الدعاوي في الأنزعة والخصومات من إقرار وشهادة وكتابة ويمين وقرائن وغيرها بطريق المصنفات ولكن بالآيات البينات والإشارات.
والأصل أن يكون القضاء صحيحاً منطبقاً على الحق والعدل ظاهراً وباطناً يشترط أن يحصل للقاضي حين فصل القضاء علمان.
الأول علمه بالحادثة التي يراد منه الفصل فيها علما منطبقاً على الواقع
الثاني علمه بحكم الله تعالى في تلك الحادثة.
أدلة الإثبات والثبوت
الدليل في اللغة: المرشد
الاصطلاح: هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء أخر.
فإذا أعلم المدعى القاضي بحجته على دعواه لزم من علم القاضي بتلك الحجة مع اقتناعه بها علمه بصدق دعوى المدعى فيما أدعاه.
الإثبات: هو إقامة المدعى الدليل على ثبوت ما يدعيه قبل المدعى عليه
والثبوت هو قيام الحق المدعى.
فالإثبات فعل يصدر من المدعى وهو قائم وصادر عنه الثبوت وصف قائم بذات الشيء المدعى قبل المدعى عليه.
فالأثر في ذلك أن القاضي يحكم للمدعى على المدعى عليه بما أدعاه متى استوفت الدعوى كل شروطها الشرعية.
من يلزم بإقامة الدليل (عبء الإثبات)
الأصل براءة الذمة
فمن أدعى على غيره حقاً أو قولا ملزماً بحق أو فعلاً كذلك فعليه الدليل فإن دفع المدعى عليه دعواه فعليه إقامة الدليل على ما دفع به.
وهذا الأصل من حديث الني e قال "لو يعطي الناس بدعواهم لادعى أناس دماء رجال وأموالهم ولكن البينة على المدعي وفي إسناد أخر البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
طرق الإثبات الشرعية:
ما يفيد القاضي علماً يقينا
علم القاضي – التواتر
علم القاضي: كأن يسمع رجلا يقر لأخر بمال أو بطلاق أو بقذف أو قتل
التواتر التابع : هو خبر جماعة يقع العلم بخبرهم أو هو خبر جماعة لا يتصور اتفاقهم على الكذب. فلا تقام بينة على خلافه لأن البينات يدخلها الشك بخلاف التواتر سواء أكان المستند إلى التواتر مدعيا أم مدعى عليه وسواء أكان مثبتاً أم نافياً أكان في الأموال أم الحدود أم القصاص وسواء أكان قبل الحكم أم بعده وذلك لأن التواتر حجة على النفي والإثبات لإفادته القطع واليقين.
ما يفيد علم القاضي ظنا راجحاً
الإقرار ـ الشهادة ـ اليمين ـ الخط والكتابة ـ المعاينة ـ القرينة ـ القيافة ـ القرعة.
الإقرار : هو إخبار الإنسان عن ثبوت حق لغيره على نفسه
من محاسنه : – إسقاط واجب الناس عن ذمته وقطع ألسنتهم عن مذمته
-إيصال الحق إلى صاحبه وتبليغ المكسوب إلى كاسبه فكان فيه نفع صاحب الحق وإرضاء خالق الخلق.
إحماد الناس المقر بصدق القول ووصفهم إياه بوفاء العهد وإنالة النول.
الدليل على مشروعيه قوله تعالى "وليملل الذي عليه الحق"
"كونوا قوامين بالقسط شهداء على الناس ولو على أنفسكم"
من السنة حديث ماعز
ـ الإجماع أجمع المسلمون على الإقرار حجة منذ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير منكر
المعقول: لأن الخبر كان متردد بين الصدق والكذب في الأصل لكنه ظهر رجحان الصدق على الكذب لوجود الداعي إلى الصدق الصارف عن الكذب لأن عقل المقرر دينه يحميلانة على الصدق ويزجرانه عن الكذب ونفسه الأمارة بالسوء ربما تحمله على الكذب في حق غيره أما في حق نفسه فلا فصار علقه ودينه وطبعه داعي إلى الصدق زواجر عن الكذب فكان الصدق ظاهر فيما أقر به على نفسه فوجب قبوله والعمل به.
ركن الإقرار : اللفظ الدال عليه مثال لفلان عليه كذا أو ما يشبه
شروط المقر: العقل ـ البلوغ
أما الصغير والمجنون ومن في حكمهم لا يصح إقرار أوليائهم أو أوصيائهم عنهم بل هو باطل ويلحق بهم المحجور عليه والسكران.
الشهادة
الشهادة هي أخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القاضي ولو بلا دعوى.
الدليل من القرآن قوله تعالى:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم" فاستشهدوا عليهن أربعة منكم"
من السنة: شاهداك أو يمينه "البينة على المدعي"
الإجماع على مشروعيتها منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم حتى الآن
المعقول: حجة الناس داعية إلى ذلك لأن المنازعات تكثر بين الناس ويتعذر إقامة الحجة الموجبة للعلم في كل خصومة والتكليف يقوم بحسب الوسع.
تحمل الشهادة يجب على من تحملها أن يؤديها لأن تحمل الشهادة على حفظ حقه قال تعالى "ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا"
شروط تحمل الشاهدة العقل والبصر ومعاينة المشهود عليه في مالا تقبل فيه الشهادة بالتسامع كل الموت والنكاح.
أداء الشهادة: من تحمل الشهادة على قول أو فعل فيما كان من حقوق الله تعالى فعلى الشاهد أن يؤدي شهادته حسبة أمام القضاء لأن صاحب الحق هو الله سبحانه وتعالى.
أداء الشهادة يكون في مكان القضاء وبلفظ أشهد
شروط الشاهد العامة والخاصة:
الشروط العامة:
أن يكون من أهل الولاية (البلوغ والعقل والحرية).
اتصافه بما يرجح به جانب الصدق على جانب الكذب (العدالة) وألا يتصف بما يخل بالمرؤة
انتفاء التهمه عنه في شهادته كشهادة الفروع للأصول والعكس وألا تجر له منعه كالأجير والصديق وغير ذلك.
النطق والبصر فلا تقبل شهادة الأخرس والأعمى.
الشروط الخاصة:
الإسلام، الذكورة , الأصالة لا تقبل الشهادة على الشهادة ، العدد
مراتب الشهادة: الحدود، القتل، الردة ، الزنا، القذف، المعاملات، وغيرها.
موافقة الشهادة للدعوى
اليمين
تعريفه وقسم معتبر شرعاً على أمر قد وقع في زمن الماضي أو الحاضر تأكيداً له في مجلس القضاء.
مشروعيته بالكتاب "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان"
من السنة ولكن اليمن على المدعى عليه
الإجماع: أجمعت الأمة على مشروعية اليمين
إلى من توجه اليمين: توجه اليمين إلى المدعى عليه أو العجز عن الإثبات ويوجهها القاضي بدون طلب في دعاوي الحسبة
أنواع اليمين:
الحاسمة: هي اليمين التي يوجهه الخصم إلى خصمه عند عجزه عن الإثبات لحقه حسماً للنزاع
اليمين المردودة: هي اليمين التي يوجهها المدعى عليه إلى المدعي.
يمين الاستظهار: يوجهها القاضي من تلقاء نفسه رغبةً منه في تحري الحقيقة ليستكمل به دليل ناقص في الدعوى وهذه اليمين لا تحسم النزاع إلا أن القاضي أن يقضي على أساسها باعتبارها مكمله لعناصر الإثبات الأخرى القائمة في الدعوى ليبني على ذلك حكمه في موضوعها أو قيمة ما يحكم به.
النكول عن اليمين: هو قضاء بالقرائن
وهي بدلاً عن الإقرار وقائم مقام في قطع الخصومة واستدلال عن ما ذهب إليه والنكول عن اليمين يدل على أن الناكل كاذب في إنكاره السابق ومقر في المعنى بما دعاه المدعي ولولا ذلك ما نكل لأن اليمين الصادقة فيها ثواب بذكر الله تعالى على وجه التعظيم وفيها صيانة المال الحارث وعرضه بدفع تهمة الكذب عن نفسه والعاقل يميل إلى مثل هذا طبعاً.
الأوراق والمسندات
المستندات الرسمية يعمل بها بلا بينه
المستندات غير الرسمية العرفية يعمل بها مع البينه في الإثبات
القرائن
استنباط القاضي أو الشارع أمر مجهولاً من أمراً من أمر معلوم فهي دليل غير مباشر كشهادة أو الإقرار
الدليل : الولد للفراش والعاهر الحجر
ونفي النسب لغيره لا يجوز لمخالفته ذلك للشرع إذ النسب من حقوق الله وله نفيه باللعان
القرائن نوعان:
القرائن القاطعة: كبيع المريض في مرض الموت لوارثه إلا إذا اجازه باقي الورثة وكذا لغيره
القرائن غير القاطعة : وهي تقبل إثبات ما ينقضها كوجود سند الدين تحت يد المدين.
المعاينة: مشاهدة القاضي بنسفه لمحل النزاع.
القيافة: كالعلم بموجود الشبه بين شخصين ليعرف أبينهما نسبه فالبنوة بالأخوة أم لا.
القرعة: تجب عند تساوي الحقوق والمصالح عند النزاع ومنعاً للضغائن والأحقاد والرضي بما جرى به الأقدار.
………………………………………….. ………………………………………….. …..
نظامُ الإثـبَات
في الفقـه الإسـلامي
[دراسة مقارنة]
للدكتور: عوض عبد الله أبو بكر
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
(4)
الحكم بالفراسة والقرائن
أولا: الحكم بالفراسة:
من وسـائـل الإثبات المختلف فيها عند فقهاء الشريعة الحكم بالفراسة، وهل تصلح دليلا يعتمد عليه القاضي في بناء أحكامه، أم لا تصلح دليلا لبناء الأحكام القضائية. وقبل أن نعرض آراء الفقهاء ينبغي معرفة المقصود من الفراسة.
الفراسة لغـة:
الفِراسـة بالكسـر من التفـرس, يقال: تفرّس الشيء إذا توسمه، وتفرّست فيه خيرا: توسّمته، وهو يتفرّس يتثبت وينظر، فالتفرس والتوسّم معناهما واحد أي يفسّر أحدهما بالآخر.
الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي:
الأصل في الفراسة قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}. (الحجر: 75).
فذكر أهل التفسير أن المتوسّمين يعني المتفرسين، وذلك اعتماداً على ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم .
فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم تلا الآية ".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسُّم".
يقول الألوسي: "قال الجلال السيوطي: هذه الآية أصل في الفراسة".
معنى هذا أن الفراسـة قد ورد اعتبارها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنها سمة من سمات المؤمنين، إذ أن الأحـاديث مادحـة للمتفرسين, وأن الفراسـة مدرك من مدارك المعاني؛ لأن المؤمن المتفرس ينظر بنور الله، فالله عز وجل هو الذي يريه ويفيض عليه.
فإذا ثبت هذا فلينظر كيف سارت تفسيرات العلماء للفراسة:
يقول ابن العربي المالكي في تفسير الآية السابقة: "التوسم: هو تفعّل من الوسم وهي العـلامـة التي يستـدل بها على مطلوب غيرهـا, وهي الفراسة وحقيقتها: الاستدلال بالخَلقْ على الخُلق، وذلك بجودة القريحة، ووحدة الخاطر، وصفاء الفكر".
ويقول القرطبي: "هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها…" وقال ثعلب: "النظـر من القرن إلى القـدم, واستقصاء وجـوه التعـريف, وذلـك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وزاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا وتطهيره من أدناس المعاصي، وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا".
ويفسرها الحكيم الترمذي بقوله: "والتفرس أن يركـض بقلبه فارساً بنور الله إلى أمر لم يكن فيدركه… وإذا امتلأ القلب من نور الله تعالى نظرت عينا قلبه بنوره فأدرك في صدره مالا يحاط به وصفا".
ويفسرها ابن الأثير بقوله: "الفراسة بمعنيين: أحدهما: ما دل عليه ظاهر الحديث، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس. والثاني: يعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق".
نلاحظ أن هذه التفسيرات مترددة بين اتجاهين:
الأول: إن الفراسة علامة يستدل بها على مطلوب غيرها- وأصحاب هذا التفسير يوافقـون المعنى اللغوي، ويقـولون: إن العلامات لما كانت متفاوتة منها ما يظهر من أول وهلة ولكل فرد من الناس، ومنها ما كان خفيا لا يدرك بباديء النظر، كان الخفيّ منها لا يعرفه إلا ذوو التجـربـة وصفاء الفكـر، والفراسة في جميع هذه الأحوال استدلال بالعلامة لا مدخل للإلهام فيها، بل إن أصحاب هذا القـول استنكـروا على الصـوفية وغيرهم ممن يرون أن الفراسة نوع من الإلهام والكرامة.
وقد تمثل هذا الاتجاه في قول ابن العربي وبه أخذ القرطبي وثعلب، وهو المعنى الثاني عند ابن الأثير.
الثاني: إنّ الفراسة خاطر إلهامي يوقعه الله سبحانه وتعالى في قلوب الصالحـين من عباده، فيعـرفـون به أحوال الناس، ويطّلعون على مالا يطّلع عليه العامة، وقد يدركون به أمراً لم يكن بعد.
وهـذا يتمثـل في تفسير الحكيم الترمذي, والمعنى الأول عند ابن الأثـير وإليه أشار القرطبي بقـولـه: "إنها تكون لمن صفى قلبه من كدورات الأخلاق وتفريغ القلب من حشو الدنيا…" الخ.
سواء كانت الفراسة استـدلالاً بالعـلامة أو خاطراً إلهامياً، فإن المتفق عليه في هذه التفسيرات هو أنّ سبيل الإدراك بالفراسة مستتر، وطريق المعرفة بها طريق خفي، وخطوات الاستنتـاج فيها غير ظاهرة إلا لمن صفى فكـره وكـان حادّ الـذكـاء، أو كان من المؤمنين الصادقـين الـذين مدحتهم الآية والأحاديث وذكرت أنهم ينظرون بنور الله فتكون فراستهم صادقة ويطرد صوابها.
وجـدير في هذا المقام، وحتى يتبيّن لنا معنى الفراسة، أن نذكر جانباً من الآثار التي أوردها الفقهاء تمثيلا للفراسة.
أولا: ما روي من فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أ ـ أنه قال: "يا رسـول الله لو اتخـذت من مقـام إبـراهيم مصلى" ونزلت الآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}. (البقرة: 125).
ب ـ أنه قال: "يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن. فنزلت آية الحجاب".
ج ـ أنـه قال حين اجتمـع على رسـول الله صلى الله عليه وسلم نسـاؤه في الغـيرة: "{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُن}. فنزلت كذلك". (التحريم: 5).
هـ ـ أنـه دخـل عليـه قوم فيهم الأشتر فصعّد فيه النظر وصوّبه، وقال: "أيهم هذا؟" قالوا: "مالك بن الحارث"، فقال: "ماله قاتله الله إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا"، فكان منه في الفتنة ما كان.
ثانيا: ما روي عن ذي النورين عثمان رضي الله عنه:
أ ـ أنه دخل عليه بعض الصحابة، وكان قد مرّ بالسوق فنظر إلى امرأة, فلما نظر إليه عثـمان قال: "يدخـل أحـدكم عليّ وفي عينيه أثر الزنا". فقال له: أَوَحْياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟, قال عثمان: "لا ولكن فراسة صادق".
ب ـ أنـه لما تفرّس أنـه مقتول ولابد، أمسك عن القتال والدفع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو، فأَحبَّ أن يُقتل دون أن يقع قتال بين المسلمين.
ثالثا: ما روي من فراسة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الحسين بن علي رضي الله عنهما لمّا ودَّعه قال: "أستودعك الله من قتيل"، ومع الحسين رضي الله عنه كتب أهل العراق تناشده الحضور لنصرته، فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم.
رابعا: ما روي من فراسة الشعبي- رحمـه الله أنه قال لداود الأزدي – وهو يماريه-: "إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك", فكان كذلك.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة تجل عن الحصر، ولكن الذي يبدو كـما ذكرت هو خفاء طريق الاستنتاج، وأن المتفرس يدرك الأمر بأسلوب مستتر، فقد يكون استنتاجه هذا مبنياً على علامات خفية تفرسها، وقد يكون مبنيا على خواطر إلهامية قذفها الله في قلبه ونطق بها لسانه.
القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء:
لما كان الاستدلال بالفراسـة لا يقـوم على أسس واضحـة ظاهرة حيث أنّ خطوات الاستنتاج فيها خفية غير معروفة لغير المتفرِّس فقد منع جمهور الفقهاء بناء الأحكام القضائية على الفراسة، وقالوا: إنها لا تصلح مستنداً للقاضي في فصل الدعوى، إذ أن القاضي لابد له من حجة ظاهرة يبني عليها حكمه.
يقول الشيخ الدردير المالكي فيما يتصف به القاضي: "فالمطلوب الدهاء ويندب ألا يكون زائدا فيه عن عادة الناس، خشية أن يحمله ذلك على الحكم بين الناس بالفراسة وترك قانون الشريعة من طلب البيّنة وتجريحها، وتعديلها، وطلب اليمين ممن وجهت إليه وغير ذلك".
ويقول ابن العربي المالكي: "إذا ثبت أن التوهّم والتفرّس من مدارك المعاني، ومعالم المؤمنين، فإن ذلك لا يترتب عليـه حكم، ولا يؤخـذ به موسـوم ولا متفرس، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعاً، مدركة قطعاً، وليست الفراسة منها".
وجـاء في تبصرة الحكّـام لابن فرحـون قولـه: "والحكـم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحـرز والتخمـين، وذلـك فسق وجـور من الحكم، والظن يخطئ ويصيب"، ثم بيّن الشـاطبي في كتـابـه الموافقات: أن الفراسـة لا تصلح مستنـداً للقاضي في حكمـه لأن الاعتبـارات الغيبيـة لا دخـل لها في بنـاء الأحكـام القضائيـة، فالرسـول صلى الله عليه وسلم – وهو أعظم المتفرِّسين – لم يعتـبرها دليلا يعتمد عليه فقال: "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجتـه من بعـض، فمن قضيت له بحق أخيـه شيئـا بقـولـه فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". فقيّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك".
كـما أن صاحب (معين الحكام) الحنفي قد ذكر من القول في منع الحكم بالفراسة مثل ما قدمناه عن صاحب تبصرة الحكام، وأن الحكم بها حكم بالظن والتخمين.
رأي ابن القيـم:
خالف ابن القيم جمهـور الفقهاء وذهب إلى القول بجـواز الحكم بالفراسة وقال إنها مدرك صحيح للأحكام، واستخراج الحقوق وفصل الدعاوى، ومن قوله في ذلك: "ولم يزل حذّاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدّموا عليها شهادة ولا إقراراً".
وهو في ذلك يرى أنّ الفراسة من القرائن، ويفسِّرها بالعلامة، ويظهر ذلك من فحوى اعـتراضـه على تفرقـة أبي الوفاء بن عقيل- أحد فقهاء الحنابلة – بين الفراسة والأمارات. قال: "وسئل أبو الـوفـاء بن عقيل عن هذه المسألـة – أي مسألة الحكم بالقرينة والأمارات – فقال: "إن الحكم بالقرينة ليس من باب الحكم بالفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج".
فاعترض ابن القيم قائـلا: "وقـول أبي الـوفاء بن عقيل ليس هذا فراسة فيقال: لا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة، وقد مدح الله الفراسة وأهلها في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وهم المتفرسون الآخذون بالسّيما وهي العلامة2.
ومن هنا يتضـح لنا أن ابن القيم لا يفرّق بين الاستـدلال بالعـلامـات كانت هذه العلامات خفية لا تدرك إلا للمتفرسين، أم كانت ظاهرة تدرك لكل أحد، ومع أنه قد ذكر جانبـاً من الأمثلة التي تقـدّمت عن الفراسة التي يختفي فيهـا طريق الاستـدلال بالعـلامة ويتضـح فيها جانب الإلهام كتلك التي قدمناها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلا أنه يرى أن كل ذلك استدلالا بالعلامة ويجوز بناء الأحكام القضائية عليه.
وزيادة على ذلك فقد استدل ابن القيم على القضاء بالفراسة بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح، إذ اشتهر عنهما ذلك، وذاع ذكاؤهما وحسن فراستهما, وقد أورد ابن القيم في الطـرق الحكميـة آثـارا كثيرة عنهـما تنم عن ذكاء وصفاء فكر وحدّة فراسة تميّزا بها في إرجاع الحقوق إلى أهلها.
تعقيـب.
ومن رأينا أن الفراسة لا تصلح مستندا لحكم القاضي وفصل الدعاوى وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء خلافا لابن القيم، وذلك للأسباب التالية:
الأول: أنه لم يرد في الشرع الحكيم ما يدل على اعتبارها والأخذ بها في القضاء، ومع أن الله عز وجل قد مدح المتفرّسين، وأنه تعالى هو الذي يفيض عليهم ويهديهم هذه المعارف التي لا يدركها غـيرهم، إلا أن مدارك الأحكام القضائية معلومة شرعا، وقد وضّحها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم خير المتفرسين وأفضلهم وأعرف الناس بالناس. قال: "إنكم تختصمون إليّ.." الحـديث, فلم يجعـل للاعتبارات الخفية مدخلا، ولم يترك لوسائل الاستنباط غير المنضبطة والمستترة مجالا.
ثانيا: لما كانت الفراسة غير مدركة بالعين الحسية، فقد يكون الاحتجاج بها مدخلا لذوي النفـوس المريضة والأغراض والـدعاوى الباطلة، فيحكمـون بما يوافق أهواءهم وأطماعهم مما يؤدي إلى اختلاف الأحكام وفساد القضاء.
ثالثا: إذا كنا قد وافقنا الفقهاء القائلين بعدم السماح للقاضي القضاء بعلمه لكون طريق الإثبات غير معـروف لغـير القاضي، فمن باب أولى ألا نوافق في القضاء بالفراسة لنفس السبب. وإن كان فسـاد الزمـان من أسباب منع القاضي أن يقضي بعلمه فهو أيضا سبب كاف لمنع الحكم بالفراسة.
رابعا: قول ابن القيم -رحمـه الله- "إن الفـراسـة من الاستدلال بالعـلامة" محل نظر لوجود حالات كثيرة للفراسة يختفي فيها الاستدلال بالعلامة، وفيما قدّمنا من أمثلة دليل صادق على صحة قولنا. أما الفراسة التي يكون الاستدلال فيها مبنيا على العلامة الظاهرة فحكمها ملحق بحكم العمل بالقرائن والعلامات. وهو ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.
أما فعل إيـاس بن معاويـة وشريح، فقد رجعت إلى كثير من القضايا المأثورة عنهما ووجـدت استـدلالهم بالعـلامة الظاهرة واضحا، غير أنه يظهر جليا ذكاؤهما وفراستهما في الوصول إلى هذه العلامة. ثم إن القضاة ليسوا كإياس وشريح حتى يسيروا سيرهما. كـما أنّ جمهور الفقهاء لا يتفق معهم على الأخذ بمنهجهما في القضاء.
وعلى هذا أرى أن الفراسة لا تصلح أن تكون طريقاً من طرق الإثبات في الفقه ا لإسلامي.
ثانيا: ا لحكم بالقرائن:
معنى القرينة لغـة:
القرينة، جمعها قرائن، قارن الشيء يقارنه مقارنة وقرانا: اقترن به وصاحبه, وقارنته قرانـا: صاحبته، وقرينـة الرجل: امرأته، وسميت الزوجة قرينة لمقارنة الرجل إياها. وقرينة الكـلام ما يصاحبه ويدل على المراد به. والقرين المصاحب, والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه, وفي الحديث: "ما من أحد إلا وكّل به قرينه" أي مصاحبه من الملائكة والشياَطين.
معنى القرينة اصطلاحا:
لم أعثر فيـما اطلعت عليه من كتب الفقـه القديمة على تعريف للقرينة إلا ما ورد في كتاب "التعريفات" للجرجاني حيث يقول: "القرينة: أمر يشير إلى المطلوب". وما نقله العلامة ابن نجيم المصري الحنفي عن ابن الغرس من قوله: "من جملة طرق القضاء القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به". وأيضا ما جاء في مجلة الأحكام العدلية من أن: "القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حدّ اليقين".
هذه التعـريفات وان اختلفت كلماتها إلا أنها تتفق على أن القرينة أمر أو أمارة أي علامـة تدل على أمر آخر وهـو المراد، بمعنى أنّ هناك واقعة مجهولة يراد معرفتها فتقوم هذه العلامـة أو مجمـوعة العلامات بالدلالة عليها، وهي لا تختلف عن المعنى اللغوي لأن هذه العلامات تصاحب الأمر المجهول فتدل عليه، أي تدل عليه لمصاحبتها له.
والقرينة في مجال الإثبات هي العـلامات التي تدل على الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها عند انعدام أدلة الإثبات الأخرى الأقوى من إقرار أو بينة.
مثال ذلك: أن يرى شخـص الله عليه وسلم يحمل سكينا ملطخة بالدماء وهو خارج من خربة خائفا يرتجف، فيدخـل شخـص أو أشخـاص الخربة على الفور فيجدون آخر مذبوحا لتوه مضرجا بدمائه وليس في الخربة غيره. فالواقعة المراد إثباتها هي شخصية القاتل والعلامات التي تدل عليها هي خروج ذلك الرجل وبتلك الهيئة التي تحمل على الاعتقاد أنه القاتل، وذلك عند عدم اعترافه أو قيام البيّنة على القاتل. فالاعتراف والبينة دليلان يتناولان الواقعة المجهولة مباشرة، أما العلامات فإنها تدل عليها دلالة أي يؤخذ منه بالدلالة والاستنتاج حكـم الواقعة المجهولة.
الفرق بين القرينة والفراسة:
بناء على ما قدمنا من تعـريف للقرينـة، وبناء على ما قدمنا من قول في الفراسة فيمكن تلخيص الفرق بـين القرينة والفراسة في النقاط التالية:
أولا: أن القرينـة علامـة ظاهرة مشاهدة بالعيان، كمن يرى رجلا مكشوف الرأس وليس ذلك من عادته يعدو وراء آخر هارباً وبيد الهارب عمامة وعلى رأسه عمامة، فهذه قرينة مشاهـدة بالعـين الحسيـة ودلالتها كـما يقول العلماء واضحة على أن العمامة للرجل مكشوف الرأس، ولا يقال عمن يرى هذه العلامة ويستنتج هذا الحكم إنه متفرس.
ثانيا: أن رؤية القرينة لا تتطلب مواصفات معينة في الرائي، كصدق الإيمان وصفاء الفكـر وحّـدة الـذكـاء، وذلك لأن خطوات الاستنتاج فيها ظاهرة واضحة، حتى أن الدقيق منهـا كتلك التي تقـوم على التجـارب العلمية لها أسسها وضـوابطها وقانونها الذي يسهل الاطلاع عليه ومعرفته، أما الفراسة فهي تتطلب مواصفات معينة في المتفرّس، صدق إيـمان أو حّدة ذكاء وصفاء فكر، وذلك لأن خطوات الاستنتاج فيها مستترة خفية.
ثالثا: إنـه يمكن أن تقـام البيّنـة على وقـوع القرينة ويتأكد القاضي من ثبوتها ففي المثال المتقدّم قد يشهد اثنان أو أكثر على رؤية الواقعة، أما الفراسة فلا يتوفر فيها ذلك، فلا يستطيع أحد الشهادة عليها وإن صحّ وقوعها على قلب اثنين أو أكثر فتلك حالة نادرة.
رابعا: القرينـة قد تصلح دليلاً لبناء الأحكام القضائية ومستنداً للقاضي في فصل النزاع كـما سنبين ذلك. أما الفراسة فلا يصح الحكم بها على قول جمهور الفقهاء خلافاً لابن القيم.
القرينة والعرف:
وقبل أن نبيِّن آراء الفقهاء في القضاء بالقرينة نشير إلى ما لاحظناه من ارتباط وثيق بين القرينة والعرف.
والعرف: هو ما تعارف عليه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك, بحيث لا يخالف دليـلا شرعيـا أو يحلّ حرامـا أو يبطـل واجبا، والعرف بهذا المفهوم قد راعته الشريعة طالما أن الناس تعارفوا عليه واتفق مع حاجاتهم ومصالحهم، فقد راعى الشارع الحكيم عرف العرب ففرض الـدية على العـاقلة واعتبر العصبية في الإرث ولهذا يقول الحنفية: "المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً" و"الثابت بالعرف كالثابت بالنص", وقد غيّر الإمام الشافعي- رحمه الله – بعض أحكام مذهبه بعد أن ذهب إلى مصر لاختلاف أعرافهم عن أعراف أهل العراق.
ويظهر ارتباط القرينـة بالعـرف في صور يشكـل فيها العـرف قرائن تجب مراعـاتها وملاحظتها، مثال ذلك: لقد تعارف الناس على البيع بالتعاطي وهو التبادل بين المتعاوضين من غير لفظ، فهذا عرف وهـو في نفس الـوقت قرينة دالـة على رضا الطرفين بالبيع، وقد استجاب الفقهاء لمتطلبات العرف وتحرّروا بموجب هذه القرينة عن التقيُّد بشكلية اللفظ.
ومن أظهر الصور التي جعلوا فيها العرف قرينة تجب مراعاتها في فهم الدعوى مسألة تنازع الزوجين في متاع البيت, وفى هذا يقـول القرافي المالكي: "إنّ الإشهاد بين الزوجين يتعذر لأنهما لو اعتمدا ذلك، وأن من كان له شيء أشهد عليه أدى إلى المنافرة وعدم الوداد بينهما، وربما أفضى إلى الطلاق والقطيعة, فهما معذوران في عدم الإشهاد وملجآن إليه، وإذا الجاَ لعدم إشهاد فلو لم يقض بينهما بالعادة لانسد الباب بينهما".
ومن ذلك أيضا قولهم: إن الزوجين إذا اختلفا في قدر المعجل والمؤجل في المهر ولا بينة لأحدهما فالقول لمن شهد له العرف.
يستفاد من هذا أن العرف قد يكون قرينة تدل على ما يطلب معرفته فلذلك كان لابد من ملاحظته ومعرفته عند نظر الدعوى, لأجل هذا فقد نبّه الفقهاء على القاضي بالتعرف على أحوال الناس وعاداتهم وما تواضعوا عليه لأنه بذلك تتبين له الدعوى ويعرف المحق من المبطل. ومن يرجع إلى ابن القيم في كتابيه الطرق الحكمية وأعلام الموقعين، وابن فرحون في تبصرته، والطرابلسي في كتابه معين الأحكام، لوجد ما فيه الكفاية من حث القاضي على معرفـة العـرف. ثم إن الفقيه الحنفي ابن عابدين قد ألف رسالة في هذا الشأن أسماها "نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العُرف"
ومـع هذا التـداخـل بين القرينة والعـرف يجب ألا يغيب عن نظـرنا التفرقة بينهما، فالقرينة كـما قدمنا هي العلامات التي يستنتج منها الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها أو الحكم فيها، فقد تكون هذه العلامات مستفادة من أعراف الناس وما تواطأوا عليه، وقد تكون من غير ذلك. بمعنى آخر إن للقاضي أن يبني حكمه بناء على قرينة تعارف الناس على كذا، وقد يبنيه على علامات أخرى في الدعوى ليست مستفادة من العرف والعادة. ومن ثم فإن دائرة القرينة في مجال الإثبات أوسع لأنها تضم العرف وغيره.
القضاء بالقرينـة:
لم تحظ القرينة بالاتفاق على صلاحيتها كدليل لبناء الأحكام القضائية إلا أنه بالرغم مما يبدو لنا من خلاف حول تحكيم القرائن في فصل النزاع القضائي، فإن جميع المذاهب لا تخلو من إعمال القرائن في بعض المسائل حتى ولو كان ذلك تحت ستار العرف والعادة. ولكن هذا التحكيم للقرائن يختلف من مذهب لآخر، فيتسـع مداه لدى فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ويتوسط لدى الحنفية ويضيق عند فقهاء الشافعية والظاهرية.
وقبـل أن نعـرض أمثلة توضـح أخـذ المـذاهب المختلفـة بالقرائن نطرح أولا أدلـة الفريقين، القائلين بتحكيم القرائن والمانعين لها.
أدلة القائلين بالقرينـة:
أولا: القرآن الكريم:
لعل من نافلة القـول أن نذكـر أنـه ليس في القرآن الكريم نص قطعي الدلالة على اعتبار القرينـة في الأحكـام أو عدم اعتبـارها, ولكن القائلين بالقرينة قد استنبطوا اعتبارها بدلالة ظنية لبعض النصوص في القرآن الكريم ورأوا جواز الأخذ بها.
والآيات التي استنبط منها الفقهاء جواز الأخذ بالقرينة في الأحكام هي:
(1) قولـه تعـالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}. (يوسف18).
(2) قولـه تعـالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ, قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم}. (يوسف: 26- 28).
ومحـل الاستـدلال الوارد في هذه الآيات ما ذكـره المفسـرون من أنّ يعقوب -عليـه السلام- استدل بقرينة سلامة القميص من التمزيق عَلى كذب دعوى إخوة يوسف- عليه السلام – بأن الذئب قد أكله, وكذلك استدل الشاهد بقرينة قدّ القميص من دبر على كـذب امرأة العزيز وبراءة يوسف- عليه السلام-.
ونرى الآن منهجهم في استنباط حكم القرينة من هذه الآيات.
الشاهد الأول:
يقول ابن العربي المالكي عن قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ…} الآية: "فيها ثلاث مسائل- نذكر منها:
المـسألـة الأولى: إنـما أرادوا أن يجعـلوا الدم علامة على صدقهم فروي في الإسرائيليات أن الله تعـالى قرن بهذه العلامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التلبيب. والعـلامـات إذا تعـارضت تعـيَّن الـترجيـح، فيقضى بجانب الرجحان وهي قوة التهمـة لوجـوه تضمنها القرآن، منها طلبهم إياه شفقة ولم يكن من فعلهم ما يناسبها فيشهد بصـدقها بل كان سبق ضدهـا وهي تبرمهـم، ومنها أن الـدم يحتمـل أن يكون في القميص موضـوعـاً، ولا يمكن افتراس الـذئب ليـوسف وهـو لابس القميص ويسلم القميص من تخريق، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات (العلامات) وتعارضها.
المسألة الثانية: القضاء بالتهمة إذا ظهرت كما قال يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ولا خلاف في الحكم بالتهمة, وإنـما اختلف الناس في تأثير أعيان التهم".
ومن ذلـك أيضـا قول القرطبي في تفسيره "استـدل فقهاؤنا بهذه القرينة على إعمال الأمارات في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها وأجمعوا على أنّ يعقوب -عليه السلام- استدل على كذبهم بصحـة القميص, وهكـذا يجب عَلى النـاظر أن يلحظ الأمارات والعلاقات إذا تعارضت, فـما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهى قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها".
الشاهد الثاني:
إنه لما نشب النزل بين يوسف -عليه السلام- وامرأة العزيز التي قذفته بـما قذفته من إرادة الفاحشـة، قال يوسف -عليـه السـلام- مكـذبـا لها، ودفعا لما نسب إليه، {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} فعند ذلك جاء دور الشاهد الذي وصفه القرآن الكريم بأنه من أهلها والذي فصل الخطاب بـما ذكره من القرائن التي بان بها الحق وانفض بها النزاع.
والقرائن التي ذكـرهـا الشـاهـد هي أنـه إذا كان قميص يوسف قدّ من القبـل فالمرأة صادقة في دعواها بأنه هو الذي أرادها، أما إذا كان قدّ من دبر فهي كاذبة ويوسف بريء من التهمة. والحاصل أن القميص قدّ من دبر, وهذا دليل إدباره عنها وهو دليل براءته.
وقد يعترض على العلامـة المـذكـورة إذ أنها لا تدل قطعا على براءة يوسف – عليه السـلام – لاحتـمال أن الرجـل قصد المرأة بطلب الفاحشة فغضبت عليه المرأة فعدت خلفه لتضربه، فعلى هذا الوجه قد يتمزّق القميص من دبر، والمرأة بريئة من الذنب.
وأجيب على هذا الاعتراض بأن القرائن كانت كثـيرة وكفيلة بصرف هذه التهمـة عنـه، أمـا القرينة المذكورة في الآية إنما جاءت دليلا مرجحا ومقويا لتلك القرائن، ومن هذه القرائن التي ذكـرهـا المفسرون أن يوسف – عليه السلام- كان عبدا في ظاهر الأمر والعبد لا يمكن أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحـد، كـما أنهم رأوا أن المرأة زيّنت نفسهـا على أكمل الوجـوه، ولم يكن على يوسف -عليـه السـلام- آثـاراً للتزين. ثم إنّ أحوال يوسف -عليه السـلام- في المـدة الطـويلة تدل على براءته إذ لم يروا منه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك مما يقوى الظن. وقيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة.
فلما حصلت هذه الأمارات الـدالـة على أن مبـدأ هذه الفتنة كانت من المرأة استحى الزوج وتوقف وسكت لعلمـه بأن يوسف هو الصادق والمرأة كاذبة، أظهر الله ليوسف دليلا يقوي تلك الدلائل فجاءت تلك القرينة على لسان الشاهد.
كـما اعترض على هذه القـرينـة من ناحية الشاهد المذكور، فقد اختلفوا فيه فقيل: "إنه كان ابن عم المرأة وكان حكيما يستشره الملك"، وقيل: "إنه طفل تكلّم في المهد". فقالوا: إن كان الشـاهـد طفـلا تكلم في المهـد لا يكـون في الآية دليل على إعمال الأمارات إذ أن الدليل هو كلام الصبي في مهده.
وقد دفع هذا الاعتراض بأنه يستبعد أن يكون الشاهد صبيا بل كان رجلا حكيما وهو الذي ينـاسب سياق الآية، فلو أنطق الله الطفـل لكان كافيا قوله: "إنها كاذبة" ولما احتاج إلى نصب العلامة، ثم قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ليكون أولى بالقبول في حق المرأة ولو كان صبيا لا يتفاوت الحال كونه من أهلها أو من غير أهلها. كـما أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا لمن تقدمت معرفته بالواقعة وإحاطة بها.
وقيل: إنـه لا تعـارض بين كونه صبيا تكلم في المهد وبين الأمارة المنصوبة، فقد يتكلم الصبي, ومع ذلك ينبههم إلى الدليل الذي غفلوا عنه وهي أمارة القميص
وهناك اعتراض ثالث هو أن هذه الآية تبيِّن شرع السابقـين وشرع من قبلنا لا يلزمنا.
وقد أجيب على هذا الاعتراض بالأدلة التي يحتج بها مثبتو العمل بشرع من قبلنا إذا لم يرد دليل على نسخه عنا.
ثانيا: السنة الشريفة وعمل الصحابة رضوان الله عليهم :
كذلـك احتـجّ القـائلون بالقـرينـة في الأحكـام بآثـار كثـيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن هذه الآثار:
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الـذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: "إنما ذهب بابنك ", وقالت الأخرى: "إنـما ذهب بابنك", فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان ابن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكيـن أشقّه بينكما", فقالت الصغرى: "لا تفعل يرحمك الله هو ابنها ", فقضى به للصغرى".
فاستدل بقرينة رضا الكبرى أن يشقّه نصفين وعدم شفقتها عليه أنه ليس ابنها، بينما أشفقت الصغرى وامتنعت عن الدعوى حتى لا يذهب الطفل, فهذا يدل على أنه ابنها إذ أن الله أودع في قلوب الأمهات الشفقة على أبنائهن.
(1) ما روي عن جابر بن عبـد الله رضي الله عنـه قال: "أردت السفر إلى خيبر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته".
فأقام العلامة مقام الشهادة.
(3) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: "يا رسول الله وكيف إذنها؟" قال: "إذنها صماتها". أو قال: "أن تسكت".
فجعل عليه الصلاة والسلام صماتها قرينة على الرضا.
(4) أنـه صلى الله عليه وسلم حينـما صالـح يهود خيبر كان لحي بن أخطب مال كثير فأخفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم عنه؟ فقال ابن أبي الحقيق عم حيّ ابن أخطب: "أذهبتـه الحروب والنفقات"، فقال صلى الله عليه وسلم: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك", ثم دفعه إلى الزبير فضربه حتى أقر بمكان المال. فيظهر اعتماده صلى الله عليه وسلم على الأمارات وشواهد الحال قرب العهد وكثرة المال.
(5) عن زيـد بن خالـد الجهني أن رجـلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: "عرِّفها سنة ثم اعرف وكاءها ووعاءها وعفاصها ثم استنفع بها فإن جاء ربها فأدها إليه". فأمر رسـول الله صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يدفع اللقطة إلى صاحبها بمجرد الوصف لأن وصفه لها بما يطابق الواقع قرينة على ملكيته.
(6) أن ابني عفـراء لما تداعيا قتل أبي جهـل قال لهـم رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسحتـما سيفيكما؟ " قالا: "لا". قال: "فأرِياني سيْفيكُمَا", فلما نظر فيهما قال لأحدهما: "هذا قتله وقضى له بسلبه".
(7) أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالقافة وجعلها من أدلة ثبوت النسب وليس فيئها إلا مجرد العلامات والأمارات.
(8) حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجم المرأة التي ظهر حملها ولا زوج لها ولا سيد. كما ورد في المتفق عليه قوله في شأن الرجم: "وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف" .
(9) كذلك ما ورد في الموطأ وكذلك عن مسلم عن عمر وعثمان وابن مسعود -رضوان الله عليهم – بحد من وجدت منه رائحة الخمر.
هذا نزر قليل من الأدلة الكثيرة التي أوردها مثبتو العمل بالقرائن في القضاء راعيت في اختياره قوة الثبوت ووضوح الدلالة، ولنقف الآن قليلا مع أدلة المانعين لإعمال القرائن في بناء الأحكام القضائية .
أدلة المانعين:
تتركز حجة هؤلاء في خطورة الأخذ بالقرائن لما يحوطها من الاحتمالات من شأنها أن تؤدي إلى القصاص من متهم بريء ، أو إنزال العقوبة على شخص لا يستحق العقاب.
ومن الآثار الواردة في هذا المعنى:
(1) ما روي أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله علي رضي الله عنه فقال: "أنا قتلته", قال علي: "اذهبوا به فاقتلوه"، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعاً، فقال: "يا قوم لا تعجلوا ردّوه إلى علي"، فردوه، فقال الرجل: "يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته" فقال علي للأول: "ما حملك على أن قلت: أنا قتلته ولم تقتله؟" قال: "يا أمير المؤمنين وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحَّط في دمه وأنا واقف وفي يدي سكين وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة، فخفت ألا يقبل مني وأن يكون قسامة فاعترفت بما لم أصنع واحتسبت نفسي عند الله", فقال علي: "بئسما صنعت فكيف كان حديثك؟" قال: "إني رجل قصاب وخرجت إلى حانوتي في الغلس فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا وأخذوني فقال الناس: "هذا قتل هذا ما له قاتل سواه"، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه", فقال علي للمقر الثاني: "فأنت كيف قصتك؟" فقال: "أغواني الشيطان فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا، فاعترفت بالحق". فقال للحسين رضي الله عنه: "ما الحكم في هذا؟" قال: "يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}" (المائدة:32) فخلّى عليّ عنهما, وأخرج دية القتيل من بيت المال" .
وقد وقع نظير تلك القضية في عهده -صلى الله عليه وسلم- إلا أنها ليست في القتل .
عن علقمـة بن وائـل عن أبيـه: أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجـد بمكـروه من نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ ذوو عَدد فاستغـاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر, فجاءوا به يقودونه إليها فقال: "أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر"، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: "إنـما كنت أغثتهـا على صاحبهـا فأدركني هؤلاء فأخذوني", فقالت: "كـذب، هو الذي وقع عليَّ ", فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا به فارجموه", فقام رجل فقال: "لا ترجموه فارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل" واعترف, فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها والذي أغـاثها والمرأة. فقال: "أمـا أنت فقد غفر لك", وقال للذي أغاثها قولا حسنا. فقال عمر رضي الله عنـه: "أرجم الـذي اعترف بالزنا", فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا. لأنه قد تاب", وفي رواية فقالوا: "يا رسول الله أرجمه", فقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم".
وعند الترمذي أمر برجمه، فقال: "ارجموه لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم".
مما لا شك فيه أن هذين الأثرين يوهنان الأخذ بالقرينة ويفتان في عضد الاحتجاج بها ويقويان شبهة المانعين للعمل بها من حيث أن شواهد الحال كثيرا ما تكذب، وأن الأمر يكـون خلاف ما دلت عليـه القرائن الظـاهرة, فلو أخـذنـا بها لذهبت دمـاء وأموال لمجرد الاحتمال. غير أنه لا يفوتنا في هذه المقام أن نورد ما ذكره الإمام ابن القيم- رحمه الله- عن هذين الأثرين.
يقول ابن القيم عن القضية التي عرضت على أمير المؤمنين علي-رضي الله عنه-: "وهـذا إن كان صلحـا وقـع برضا الأولياء فلا إشكال، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقـوال الفقهاء أن القصـاص لا يسقـط بذلك؛ لأن الجاني قد اعترف بـما يوجبه ولم يوجد ما يسقطه فيتعين استيفاؤه، وبعد فلحكم أمير المؤمنيـن وجه قوي".
رأي ابن القيم أن القصاص قد وجدت موجباته فليس هناك ما يمنع استيفاءه، اللهم إلا أن يكون قد تم ذلك برضاء الأولياء، فكأنه يرى نقصان الرواية لكونها لم تبين وجه عدول أمير المؤمنين علىّ عن استيفاء القصاص.
أما الحديث الثاني فيقول عنه: "وهذا الحديث إسناده على شرط مسلم، ولعله تركه لهذا الاضطراب في متنه", ويقصد بالاضطراب في المتن ورود رواية بعدم رجم الذي اعترف بالـزنـا, وروايـة الترمذي أنه أمر برجمه. قال ابن القيم: "إن الراوي إما أن يكون قد جرى على المعتاد برجم المعترف، وإما أن يكون اشتبه عليه أمره برجم الذي جاءوا به أولا، فوهم وقال: إنه أمر برجم المعترف. ثم بين أن الذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون، ولم يكن هذا من بينهم. والظاهر أن راوي الرجم في هذه القصـة استبعد أن يكون قد اعترف بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجمه، وعلم أن من هديه رجم الزاني فقال: "وأمر برجمه".
وبعـد أن بيّن ابن القيم – رحمـه الله- هذا الاضطـراب في متن الحـديث، ووهّم أحد رواته ذكر أن القرائن في هذا الحديث مع أنها دلت على خلاف الواقع، إلا أن الرسول عليه الصـلاة والسـلام قد حكّم القرائن أيضا، وإلا فكيف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجم المتهم الذي كان مغيثا للمرأة مع عدم إقراره ولم تقم شهادة على رؤية الزنا. قال: "فيقال: – والله أعلم- إن هذا مثال إقامة الحد باللوث الظاهر القوي، فإنه أدرك وهو يشتد هارباً بين أيدي القوم، واعترف بأنـه كان عنـد المرأة، وادعى أنه كان مغيثا لها، وقالت المرأة: "هو هذا" وهذا لوث ظاهر، وقد أقام الصحابة حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه وهو الحمل والرائحة… ولما انكشف الأمر بخلاف ذلك تعين الرجوع إليه، كـما لو شهد أربعة بزنا المرأة لم يحكم برجمها إذا ظهر أنها عذراء أو ظهر كذبهم"
يتبين من هذا أن الإمام ابن القيم يرى أن هذين الأثرين لا يمنعان العمل بالقرينة، إنما يؤيدان الحكم بالقرائن إذ أنه عليه السلام أمر برجم الرجل الذي وجد عند المرأة وادّعى إغاثتها وليس هناك ما يدعوه إلى إصدار هذا الحكم بالرجم إلا القرائن الظاهرة. ويرى ابن القيم أن في هذا الحديث تأييداً لمذهبه القاضي بإعمال القرائن في إثبات الحدود.
رأينا في الموضـوع:
تبين مما سبق أن الحديث الذي استدل به من رفـض القرينة اختلفت فيه أقوال الرواة فظهر الاضطراب في متنه، ومع ذلك ففيه الدلالة على تحكيم القرائن. وكذلك الأثر المروي عن علي- رضي الله عنه- وأعوانه فيه اتهام بنقصان الرواية حيث لم تبين كل ظروف القضية المطروحة، ومع ذلك فمن رأيي أن القرائن في هذا الأثر مع أنها دلت على خلاف الواقع إلا أن فيه دلالة على إعمالها أيضا، فالمتهم الأول بالرغم من أنه لم يرتكب الجريمة إلا أنه علم أنـه لا يستطيـع دحـض القرائن الظـاهرة فآثر الاعتراف بـما لم يجنه. ونفس هذه القرائن هي التي جعلت عسكـر علي -رضي الله عنـه- يلقـون القبض على المتهم, ولـو لم تكن القرائن دليلا في الـدعـوى لما قبضـوه ولمـا ذكروا أنه القاتل, وإلا كيف يكون الحال إذا وجدنا رجلا مذبـوحـا وإلى جواره آخر يحمل سكينـا مضرجة بالدماء ثم نتركه لاحتمال أن يكون القاتل غيره، فإن صح وجود قاتل غيره كـما في هذا الأثر فإنه في حكم النادر.
ففي اعتقادي أنـه لا خلاف في أن القـرائن لا تخلو من بعـض الاحتمالات التي توهن اعتبارها وتضعفها كدليل، ولكن يمكن القول بأن هذه الاحتمالات -كـما تدخل في القرينة- قد تدخـل في غيرهـا من طرق الإثبات, فالبينـة قد يتطرق إليهـا كذب الشهود أو نسيانهم، والإقرار قد يدخل الغرض وتحقيق مصلحة ذاتية، ومع ذلك لم يلغ الشارع الحكيم اعتبارهما واعتمادهما كأدلة للإثبات لتوهم هذه الاحتمالات، فالشريعة لها الظاهر والله يتولى السرائر. فإذا كان الاحتـمال قد يدخـل في أقـوى الحجـج الشـرعيـة، فليس هو بحجة يمنع بها اعتبار القـرائن، وكـما يكـون هنـاك ضحـايـا في القـرائن في مثل هذه الاحتمالات، فلا تخلو الأدلة الأخرى أيضا من ضحايا.
ولكن هذه الاحتـمالات ليس هي الغـالب في أحوال القرينة كـما أنها ليست الغالب في الإقرار والبينة. والشارع الحكيم قد عول على الظاهر ودلالة الحال في مواطن كثيرة لا يمكن تجاهلها منها ما ذكرنا ومنها مالا يتسع المجال لذكره. والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إذا رأيتم الرجـل يعتـاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان". فجعل الشهادة على إيـمانه مبنية على الظاهر من حاله وهو ارتياد المساجد. وما الحكـم بعدالة الشهود إلا بناء على الظاهر من حالهم، فالغـالب من الأحـوال أن الظـاهر يطابق الواقع. أما الاحتمال فهو في حيز التوهم، فيجب ألا نلقي بالتعـويـل على القرائن لمجـرده. ثم إننـا بهذا القـول الذي نطلب فيه من القاضي النظر إلى القـرائن والأمـارات نشـترط عليه إمعان النظر والفكر والتثبت فلا يحكم بالقرائن الضعيفـة المتهـافتـة التي لا يقـوى بها الظن على ظهور الحكم. فلا بد أن يؤسس حكمـه على قرائن ظاهـرة يتبـين فيها وضوح الدلالة وقوة الحجة بحيث يكون مطمئنا لذلك الحكم منشرح الصدر.
ثم إن هؤلاء المـانعـين للعمـل بالقرائن إذا كانوا قد عاشوا في مجتمعات سليمة غلب على الناس فيها الأمانة والصدق والورع، مما جعلهم يتورعون إلى هذا الحد ويوجبون على القاضي ألا يتعدّى في أدلته على المذكور، فإنّ أعراف اليوم قد تغيَّرت تماما، وتعقّد أسلوب الحياة، ومـع هذا التعقيـد انعدم الضمير والوازع، وانتشر الفساد وضرب أطنابه، وتكونت للسلب والنهب والسطـو عصابـات وجمعيات ليس في البلد الواحد فحسب بل أصبحت لها شبكـات وفروع عالميـة، وانتشرت دعـاوى التزوير والغش، وسهل التعدي على النفس والعرض والمال، وكل ذلك يتم وقلّ أن يكون في حادثة منها شاهد عيان واحد، أو إقرار ممن قام بها، وليس هناك من الوازع الديني أو الأخلاقي ما يجعل المتهم يقر بحق عليه أو جريمة ارتكبها، ولو تركناه لليمين لحلفها وحلف عليها ألفاً أنه ما فعل ولا أخذ, فلو قصرنا الإثبات على الأدلـة المـذكـورة لما ثبتت جريمة ولا استخلـص حق. ولعمري أن رجال هذا المذهب -مع قلتهم بالنسبـة للقـائلين بالقرائن- لو وقعت عليهم مثل ما يقـع اليـوم من الحوادث والقضـايـا، أو لو أنهم عاشـوا حتى رأوا ما نرى لما توقفـوا في الإفتـاء بـما يوافق متطلبـات هذه الحوادث والمنازعات، خصوصا وقد عرف منهم حرصهم الشديد على إقامة الحق والعدل.
ثم إنه مع هذا التقدم العلمي الذي يشهده عالم اليوم أمكن التوصل إلى قرائن قوية تبين الحق وتعـين على فهم الـدعـوى كالتحليلات المعملية من فحـص للدم وغيره ومطابقة بصـمات الأصـابـع ومضـاهـاة الخطوط وغير ذلك. فإننا إذا أهملنا هذه القرائن وألقينا بها في البحـر بحجـة ما يتطـرق إليها من الاحتمال لعرضنا الشريعة الإسلامية لتهمة الجمود وعدم مسايرة العصر، وهذا ما لم يقله إلا المكابر، فهي شريعة كل وقت وقانون كل جيل، وما هذه الفتاوى المأخوذة من أصولها المعروفة إلا دليل مرونتها وقابليتها لحكم الأجيال المتعاقبة.
وعليه فإنه لا مناص من الأخذ بالقرائن والرجوع إليها في بناء الأحكام القضائية إذا لم يكن من دليل غيرها وفقاً على فتوى الكثيرين من الفقهاء -كـما رأينا وسنرى إن شاء تعالى-.
على أننا حينما نؤيد الأخذ بالقرائن ونرى ضرورة مراعاتها عند بناء الأحكام القضائية لا نلقي هذا القول على عواهنـه ونطلقـه بلا حدود، فالقرائن التي نرى الاحتكام إليها هي تلك القرائن التي تكـون واضحـة الـدلالـة في الـدعوى ظاهرة في محل النزاع، لا القرائن الضعيفة التي يتسع فيها باب الشك والاحتمال.
كـما أننا نرى ضرورة المحافظة على مقاصد الشرع الحكيم ومراعاة منهجه في الإثبات، فالـدعـاوى التي تكـون منهـج الشـارع فيهـا التشدد في الإثبات والحيطة في تطبيق عقوباتها كجـرائم الحـدود ينبغي ألا يكـون هنـاك توسّـع في إثباتها أو إعـمال للقرائن لدرجة يخل بنظام الشـارع، إذ أن هذا النـوع من القضايـا ليس متروكـا لاقتناع القاضي بارتكـاب المتهم للجريمة، ولذا فقد جعل له الشارع نظاما مقيَّدا في الإثبات، وزاد في أمر التثبت والنظر دون ما هو معهود في غيرها من القضايا، كـما طلب من القاضي أن يفسر كل شك يطرأ في الدعوى لصالح المتهم، فإذا وجد أي شبهة تصرف الحد عن المتهم دفع عنه الحد لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
القرائن في نصوص الفقهاء:
ليس مقصودي في هذه الفقرة أن أسجِّل دراسة نصِّية للقرائن عند الفقهاء فإن ذلك لا يتسـع له المجـال. ثم إني قد جعلت هذه الـدراسـة في كتـاب أعـدّ لطبعه بإذن الله تعالى. تناولت فيه أنواع القرائن وتطبيقاتها على الدعاوى سواء كانت دعاوى الجنايات أو المعاملات أو الـدعـاوى التي تقـع في دائـرة الأحوال الشخصيـة كـما تنـاولت فيه نظرة الفقه الإسلامي للقرائن المستحدثة التي أبرزتها العلوم المعاصرة. أما الذي أقصده من هذه الفقرة أن أبيِّن في عجالة ملاحظاتي عن تلك الدراسة.
الناظر في مذاهب الفقهاء يبدو له من أولى وهلة أن الفقهاء على فريقين، فريق يرى عدم الاعتداد بالقرينة ويقول إنها لا تصلح حجة في بناء الأحكام القضائية, وفريق آخر يراها حجة يجوز للقاضي عدها من أدلة الإثبات والفصل في الدعوى بناء على دلالتها.
لننظر مثلا في هذا النص الذي نقلناه عن العلاّمة الحنفي ابن نجيم المصري يقول في كتابـه البحـر الرائق: "إعلم أنـه قد ظهـر من كلام المصنف أنّ طرق القضاء ثلاثة: بيّنة، وإقرار، ويمين ونكـول عليه, أو القسامة أو علم القاضي بما يريد أن يحكم به… قال ابن الغـرس -ولم أره حتى الآن لغيره-: "أو القرائن الـدالـة على ما يطلب الحكم به دلالـة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به "، قال الخير الرملي-أي عن قول ابن الغرس في القرائن-: "هذا غريب خارج عن الجادة فلا ينبغي التعويل عليه ما لم يعضده نقل من كتاب معتمد".
هذا النص يبيّن لنا اختلاف فقهاء المذهب الحنفي في الاحتجاج بالقرينة، ولكن عند التحقيق نجد أن فقهاء المذهب الحنفي قد اتفقوا على الاعتداد بالقرائن في بعض المواضع، ولـذا فإننا نقـول إنـه لا يخلو مذهب من هذه المـذاهب من الاحتجـاج بالقرينة, ولكن هذا الاحتجـاج يختلف من مذهب لآخر، فبينما يتسع مداه عند فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ليشمل إعمال القرائن في الحدود والقصاص، يضيق لدى فقهاء الشافعية والظاهرية الذي اقتصـدوا في الاحتجاج بها ولم يأخـذوا بها إلا حيث بلغت من القوة مبلغ اليقين وأصبح عدم الأخذ بها يخالف بداهة العقول أو يخالف النص الصريح.
ونبرهن على صحـة هذا القـول بعـرض موجز لبعـض القرائن التي تحدث عنها الفقهاء، وسأكتفي بسـرد موجز لآرائهم, مشيرا إلى المواطن التي اعتمدت عليها في النقل عنهم حتى يتمكّن من يريد الاستزادة في هذا الخصوص من الرجوع إلى هذه المصادر.
أ ـ قرينة الحيازة ودلالتها على الملك:
والحيازة هي وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه. ولا فرق بين الحيازة ووضع اليـد عند فقهاء الشريعـة إذ المقصود هو الاستيلاء على الشيء بصورة مختلفة, فإذا وضع شخص يده على دار أو أرض تصير تلك الدار أو الأرض في حيازته، وترتب على ذلك حماية تلك الحيازة واحترامها، وعُدَّ ذلك المال المحاز من أملاكه وذلك بناء على أمرين هامين:
الأول: القاعدة الفقهية التي تقضى بأن "الأصـل في الإنسان البراءة" وأنّ الناس محمولون على السلامة، فـما لم يثبت أن الشخص مقيَّد أو غاصب فالأصل أنه بريء.
الثاني: ما جرت عليـه العـادة ومـا عرف من غالب أحوال الناس أنهم يتصرفون في أملاكهم، فإذا حاز الإنسان شيئا وتصرف فيه، فالغالب أنه يتصرف في ملكه ما لم يقم دليل على عكس ذلك.
وبناء على ذلـك فإنّ أقـلّ أحوال ثبوت هذه اليد عند الفقهاء أنها تفيد الملك كـما يدل عليه ظاهر الحيازة، وعليه فإنه يجب حماية هذه الحيازة وذلك بعدم انتقال الملكية من الحائز إلا بناقل أرجح من هذه القرينة الظاهرة، أي قرينة الحيازة، والناقل الأرجح عند الدعوى هو إما الإقرار أو البيّنـة أو قرائن أخرى تكـون دلالتها أقوى من دلالة الحيازة وأظهر في حجيتها من دلالة الظاهر.
هذا المعنى في الحيازة متفق عليـه بين الفقهاء. ومن أهم مميزات هذه القـرينـة أنها وضعت حلاً للمشكلات التي تبدو في سبيل تمييز المدّعي من المدّعى عليه، مستفيدين بذلك من دلالة الظاهر التي تفيد أنّ الحائز يتصرّف في ملكه، وعلى مدّعي الملكية في مواجهة الحائز إثبات دعواه.
ب ـ قرينة الاستعمال وقرينة الصلاحية:
قلنا إنّ الفقهاء اتفقوا على أن الحيازة قرينة على الملكية لما تدل عليه شواهد الأحوال، غير أنّ الحيازة وحدها قد لا تضع حداً لكثير من المنازعات، وخاصة إذا كان الشيء المتنازع عليـه في أيدي المتـداعيين يستعملانه أو يتجاذبانه بحيث تكون يد كل واحد منهما عليه، لم يقف الفقهاء عند ذلك مكتوفي الأيدي إنما رجعوا للقرائن المرجحة، والقرائن المرجحة هي:
1ـ قرينة الاستعمال:
وفكرة هذه القرينة تقوم على أساس أنّ اليد دليل الملك كـما قدمنا، فإذا تداعا اثنان في الشيء وكـان في يد أحـدهما، قدّم من كان في يده إذا لم يقدِّم المدَّعي بينة استحقاقه للشيء المتنازع فيـه، فيـترك لمن كان في يده، أمـا إذا تداعيا الشيء وكان في أيديهما، يقوم من كان استعماله للمال المحاز أظهر، ذلك أنَّ الحيازة تقوم على أساس استعمال المال والتصرّف فيه، إذ لا معنى لحيازة الشيء دون تصرف فيه، فالأموال جعلت للاستفادة منها. ومن تم قالوا: كلما كان أحـد المتـداعيـين مستعمـلا للمال المتنازع فيه، ومتصرفا فيه تصرفا يميزه عن الآخر بحيث يجعل سيطرته عليه أكثر وأرجح، ترجح جانبه وقضى له بناء على قرينة استعماله لهذا المال.
ويظهـر جليا اعتـداد فقهاء الحنفيـة والمالكية والشافعية بهذه القرينة في المسائل التي بحثـوهـا في باب "مسـائـل الحيطـان " أو باب "التنازع بالأيدي" أو باب "الشهادات" أو باب "الدعاوى والبينات ". ومن المسائل التي ظهر فيها اعتدادهم بهذه القرينة، قولهم: "إذا تداعيا حائطا وكان لأحدهما عليه جذوع ولا شيء للآخر يقضى به لصاحب الجذوع لأنه مستعمل للحـائـط والاستعـمال دليـل الصـدق, وإذا تنـازعـا في دار يقـدّم ساكن الدار على الذي لا يسكنها, ومن حفر فيها بئراً أو أحدث فيها بناءً يقدَّم على غيره, وإذا تنازعا دابة يقدَّم راكبها على المتعلق بلجامها.. كل ذلك مع الاستهداء بـما يقضي به العرف وشواهد العادات في مثل هذه الأحوال"
ومن الـذين اقتصدوا في الاعتداد بهذه القرينة ابن حزم الظاهري فيرى فيما ذكرنا أن يد المتنازعين متساوية فيقسم المتنازع فيه بينهما.
قرينة الصلاحية:
وتقـوم فكـرة هذه القرينة على أساس ترجيح أحد الجانبين بناء على صلاحية الشيء المتنازع فيه لأحد المتداعيين، يعني أن يكون ذلك الشيء ملائـماً له بحسب العرف والعادة، كأن يكـون أداة صنعتـه أو آلة حرفتـه، أومن مستلزمـات مظهره حسب نفوذه أو مركزه في المجتمـع ومـا عرف به بـين الناس، ومن أمثلة ذلك الجلد للدباغ أو العطر للعطار أو السفينة للملاح أو الفـرس للأمـير وذي الجـاه وغير ذلك من الأشياء التي تصلح لأحد الجانبين، في الوقت الذي يكون هذا الشيء ليس من مستلزمات أو أداة حرفة للجانب الآخر، وكـما قلت إن أثر هذه القرينة يبدأ حينما يكون أيدي المتداعيين متساوية على الشيء المتنازع فيه.
وقد قال بالترجيح بهذه القرينة فقهاء المالكية والحنفية والحنابلة، ومنع من الترجيح بها الإمـام الشافعي وابن حزم الظاهري بحجـة أنَّ ذلك يخالف قاعدة الدعوى من أنّ كل من يدّعي حقا فعليه إثبات دعواه ولا ينظر لصلاحية المدّعى به له أو لغيره.
ج ـ في دعوى ملكية اللقطة أخذ الفقهاء بقرينة مطابقة الوصف دليلا على ملكية الـواصف -بمعنى أن الـواصف للقطة إذا ذكر وصفاً مطابقاً للواقع، جاز للملتقط تسليمه اللقطـة- ومن ثم لا يلزمـه ضمان المـال إذا اتضـح أنّ الواصف ليس هو المـالك عند المالكية والحنابلة والظاهرية وهو الصحيح في نظري, ويلزم بالضمان عند الشافعية .
د ـ قرينة التهمة أدت إلى تقييد تصرفات المريض في مرض الموت، فلا تنفذ تصرفاته المنجزة سواء أكانت تبرعية أم بعوض إلا في حدود ثلث أمواله مراعاة لحق ورثته. خالف في ذلـك ابن حزم الظاهري ولم يعتد بقرينة التهمة وجعل تصرفات المريـض نافذة كتصرفات الأصحاء. ورأي الجمهور هو الظاهر الغالب.
ه ـ لم يعتد جمهور الفقهاء بالقرينة في إثبات الحدود، وذهب فقهاء المالكية وابن تيمية وابن القيم وهو قول عن الإمـام أحمـد إلى القـول بثبـوت الحدود ببعض القرائن وهي قرينة الحمـل في الـزنـا في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وقرينة الرائحة أو السكر أو القيء في حد الخمر، والتعريـض مع دلالة القرائن الأخرى في حد القذف. ولكل من الفريقين أدلة تؤيد مذهبه، أقواها من جهة النقل أدلة المانعين لإثبات الحدود بالقرائن
و ـ يقول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة: إنّ الوسيلة المستخدمة في القتل تدل على القصد الجنائي أو العمدية فإذا استخدم القاتل وسيلة معدة للقتل كالسلاح أو آلة تقتل غالبا كان ذلـك قرينـة على العمدية، وكان القتل قتلا عمدا، ولم يأخذ بفكرة الوسيلة هذه مالك وابن حزم.
ز ـ أخذ الفقهاء بالقرائن في إثبات القسامة، وهي اللوث عند جمهور الفقهاء, وقرينة وجود القتيل في محله قدم عن الحنفية.
ح ـ في مجال إثبات الحقوق المترتبة على عقـد الـزواج يعدّ فقهاء الحنفية والحنابلة الخلوة الشرعيـة قرينـة على الـدخـول الحقيقي، فإذا ما ثبتت خلوة الـرجـل بزوجتـه خلوة صحيحة – وهى التي ينعدم فيها المانع الحقيقي الذي يمنع اتصاله بها كـمرضه أو مرضها أو المانع الشرعي كالصوم أو الإحرام في الحج أو المانع الطبعي كوجود شخـص ثالث- فالغالب أنه يجامعها. ولما كان إثبات هذا الجـماع أمرا متعذرا قال هؤلاء بأنه يكفي المرأة إثبات الخلوة الصحيحـة، لتنال حقـوقها في إثبات المهر وثبوت النسب والعدة، ووجوب النفقة والسكنى وغير ذلك، وجعل المالكية أيضا الخلوة قرينة على الوطء ولذا قالوا لن تصدق المرأة في دعواها الوطء وعليها اليمين.
وجعل الفقهاء كذلك قرينة الصلاحية معيارا لفض النزل بـين الزوجين في متاع البيت وذلك بجعل ما يصلح للرجال من كتب وسلاح وغيره للرجل، وما يعرف أنه من متاع النساء كالحلي والمغازل فهو للمرأة. خلافا للإمام الشافعي الذي لا يرى فـض النزل بالصلاحية.
وفي إثبات النسب بالقرائن، أخذ الفقهاء من قرينة قبول الرجل التهنئة وشراء لوازم الولادة قرينة على. أن الولد منه، وقبل الحنفية وصف العلامة في ثبوت نسب اللقيط. كـما عد فقهاء المـالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية قرينة القافة- أي النظر إلى الشبه- دليلا على ثبوت النسب. وخالف فيها فقهاء الحنفية.
(ي) قال فقهاء المالكية والحنابلة بثبوت الوقف بالقرائن، فيثبت وقف المسجد الذي بناه صاحبه وأذن بالصلاة فيه وإن لم يصرح بأنه وقف لأن القرائن تدل على الوقفية، ويثبت وقف الفـرس إذا كان موسـومـا بعـلامة الوقف، وتثبت وقفية كتب المدرسة التي يوجد عليها كتابة الوقف.
والحق أن القرائن التي حفلت بها كتب الفقهاء كثيرة، ولكني اكتفي بهذا القدر لعلى أكون به قد أبرزت جانبا من أهمية القرائن، وأنها دليل قوى قد يصل إلى درجة القطع، وأننا إذا أغفلناه نكون قد عطلنا مدركا هاما من مدارك الأحكام، فنعر ض بذلك نظام الإثبات في الفقه الإسلامي لتهمة الجمود، كـما أننا إذا أفرطنا في استخدامها نكون قد ضيعنا كَثيرا من الحقوق.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأميـن.
ي ـ قال فقهاء المالكية والحنابلة بثبوت الوقف بالقرائن، فيثبت وقف المسجد الذي بناه صاحبه وأذن بالصلاة فيه وإن لم يصرّح بأنه وقف لأن القرائن تدل على الوقفية، ويثبت وقف الفـرس إذا كان موسـومـا بعـلامة الوقف، وتثبت وقفية كتب المدرسة التي يوجد عليها كتابة الوقف.
والحق أن القرائن التي حفلت بها كتب الفقهاء كثيرة، ولكني أكتفي بهذا القدر لعلي أكون به قد أبرزت جانباً من أهمية القرائن، وأنها دليل قوي قد يصل إلى درجة القطع، وأننا إذا أغفلناه نكون قد عطلنا مدركا هاما من مدارك الأحكام، فنعرّض بذلك نظام الإثبات في الفقه الإسلامي لتهمة الجمود، كـما أننا إذا أفرطنا في استخدامها نكون قد ضيعنا كَثيرا من الحقوق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأميـن.
………………………………………….. ………………………………………….
البصمة الوراثية و حجيتها في الإثبات
طالب علم
المبحث الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
النسب
المسألة الأولى :مفهومه
النسب في اللغة : القرابة ، وسميت القرابة نسباً لما بينهما من صلة واتصال ، وأصله من قولهم نسبته إلي أبيه نسباً ، ومن باب طلب ، بمعني : عزوته إليه ، وانتسب إليه : اعتزي.
والاسم : النسبة بالكسر ، وتجمع علي نسب ، قال ابن السكيت : يكون من قبل الأب ، ومن قبل الأم ، وقال بعض أهل اللغة : هو في الآباء خاصة علي اعتبار أن المرء إنما ينسب لأبيه فقط ولا ينسب لأمه إلا في حالات استثنائية .
وقد استعمل النسب وهو المصدر في مطلق الوصلة بالقرابة فيقال : بينهما نسب أي قرابة ،وجمعه أنساب .قال الراغب الأصفهاني النسب والنسبة : اشتراك من جهة أحد الأبوين وذلك ضربان : نسب بالطول ، كالاشتراك من الآباء والأبناء ، ونسب بالعرض ، كالنسبة بين بني الأخوة ، وبني الأعمام ()
إصطلاحاً :
مع البحث المستفيض في كثير من المصنفات في المذاهب الفقهية الأربعة لم أقف علي تعريف شرعي للنسب جامع مانع إذ يكتفي الفقهاء بتعريف النسب بمعناه العام ، المستفاد في معناه في اللغة وهو مطلق القرابة بين شخصين ، دون أن يعرفوه بالمعني الاصطلاحي الشرعي ، وهو الذي يفيد صحة ثبوت النسب لشخص ما ، أو عدم ثبوته له . ومن تلك التعريفات العامة تعريف العلامة البقري بقوله : ( هو القرابة ، والمراد بها الرحم ، وهي لفظ يشمل كل من بينك وبينه قرابة ، قربت أو بعدت ، كانت من جهة الأب أو من جهة الأم ) ()
وعرفه صاحب العذب الفائض ، بالقرابة أيضاً ، ثم قال ( وهي الاتصال بين إنسانين بالاشتراك في ولادة قريبة أو بعيدة .
وقد حاول بعض الباحثين المعاصرين تعريف النسب بمعناه الاصطلاحي الخاص ، وهو القرابة من جهة الأب باعتبار أن الإنسان إنما ينسب لأبيه فقط فقد قال في تعريفه : ( حالة حكمية إضافية بين شخص وآخر ، من حيث أن الشخص انفصل عن رحم امرأة هي في عصمة زوج شرعي ، أو ملك صحيح ، ثابتين ، أو مشبهين الثابت للذي يكون الحمل من مائه ) ()
المسألة الثانية : رعاية الشريعة الإسلامية للنسب :
أولت الشريعة الإسلامية النسب مزيداً من العناية ، وأحاطته ببالغ الرعاية ، ولا أدل علي ذلك من جعله في طليعة الضروريات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية علي وجوب حفظها ورعايتها .
وأن من أجلى مظاهر العناية بالنسب في الإسلام أن الله تعالي امتن على عباده بأن جعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ، فقال عز وجل : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم )) () ولا يتحقق معرفة الشعوب والقبائل ، وما يترتب علي ذلك من تعارف وتألف إلا بمعرفة الأنساب وحفظها عن الاشتباه والاختلاط .
ومن أجل ذلك عني الإسلام أيما عناية بتنظيم العلاقة بين الرجل والمرآة ضماناً لسلامة الأنساب ، فحرم الإسلام كل اتصال جنسي يتم علي أصول شرعية يحفظ لكل من الرجل والمرآة ما يترتب ما يترتب علي هذا الاتصال من آثار ، وما ينتج عنه من أولاد ، وأبطل جميع أنواع العلاقات التي تعارفت عليها بعض الأمم والشعوب التي انحرفت عن شرائع الله السوية ، ولم يبح الإسلام سوي العلاقة القائمة علي النكاح الشرعي بشروطه المعتبرة ، أو بملك اليمين الثابت ، ولذا قال عز وجل ) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن أبتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون ( ()
ومن مظاهر عناية الإسلام بالنسب أنه شدد النكير ، وبالغ في التهديد للآباء والأمهات حين يقدمون علي إنكار نسب أولادهم الثابت ويتبرؤون منهم ، أو حين ينسبون لأنفسهم أولاداً ليسوا منهم
وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام : ( أيما امرأة أدخلت علي قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ، ولن يدخلها الجنة ، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه ، احتجب الله منه يوم القيامة ، وفضحه علي رؤوس الأولين والآخرين ) ()
وحرم الإسلام الانتساب إلي غير الآباء حيث قال عليه الصلاة والسلام في معرض التحذير من ذلك ، وبيان الوعيد الشديد علي فاعله : ( من ادعي إلي غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) ()
وأبطل الإسلام التبني وحرمه ، بعد أن كان مألوفاً وشائعاً عند أهل الجاهلية وفي صدر الإسلام ، يقول عز وجل ) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ( ()
وإنما حرم الإسلام التبني لما يترتب عليه من مفاسد كثيرة لكون المتبني ابناً مزوراً في الحقيقة والواقع ، وعنصراً غريباً عن الأسرة التي أنضم إليها ، ولا يحل له أن يطلع علي محارمها ، أو يشاركها في حقوقها ، إضافة إلي أنه قد لا ينسجم مع أخلاقها ، ولا يتلاءم مع طباعها ، لإحساسه وإحساس الأسرة بأنه أجنبي عنها ، وسواء كان المتبني معروف النسب أو مجهولة ، إلا أن الإسلام مع هذا يلحق المجهول بمن أدعاه بمجرد الدعوى ، مع إمكان كونه منه عادة ، وكل هذا من عناية الشريعة الإسلامية بالنسب ، ومزيد رعايتها له تحقيقاً لمقاصد عظيمة ، وحكم جليلة .
المسألة الثالثة :
الوسائل الشرعية لإثبات النسب :
والمقصود هنا بيان طرق إثبات النسب بياناً مجملاً ، دون الدخول في تفاصيل آراء العلماء في بعض الشروط والصور المعتبرة في كل طريق من طرق إثبات النسب .
وطرق إثبات النسب خمسة ، وهي : الفراش ، الإستلحاق ، والبينة ، والقافة ، والقرعة . فالثلاثة الأول محل اتفاق بين العلماء ()
وأما الرابع فيه قال الجمهور ، وأما الخامس فيه قال بعض أهل العلم ، ودونك الكلام علي كل واحد من هذه الطرق بشيء من الإيضاح علي النحو التالي :
أولاً : الفراش :
أجمع العلماء رحمهم الله تعالي علي إثبات النسب به بل هو علي أقوي الطرق كلها ، قال العلامة بن القيم : ( فأما ثبوت النسب بالفراش فأجمعت عليه الأمة ) () والمراد بالفراش : فراش الزوجة الصحيح ، أو ما يشبه الصحيح ، فالصحيح هو عقد النكاح المعتبر شرعاً ، حيث توفرت أركانه وشروطه ، وانتفت موانعه ، وأما ما يشبه الصحيح فهو عقد النكاح الفاسد ، وهو المختلف في صحته ، وكذا الوطء بشبهة علي اختلاف أنواعها ، فإن حكمه حكم الوطء بنكاح صحيح فيما يتعلق بثبوت نسب المولود الناتج عن ذلك الوطء .
فإذا أتت المرآة بولد ممن يمكن ان يولد لمثله لستة أشهر منذ الوطء ، أو إن كان الوطء ، فإن النسب يثبت لصاحب الفراش إذا ولد حال الزوجية حقيقة ، أو حكماً كما في المعتدات ، لقوله عليه الصلاة والسلام ( الولد للفراش وللعاهر الهجر ) ()
ويدخل في الفراش عند جمهور العلماء الوطء بملك اليمين ، وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بالإستيلاد ، فإذا كان لرجل سُرية يطئها بملك اليمين ، فإنها تعد فراشاً عند الجمهور () أما الحنفية فيرون أن فراش الأمة فراش ضعيف ، لا يلتحق الولد بصاحب الفراش إلا باستلحاقه له ، علي تفصيل عندهم في هذا ()
ثانياً : الاستلحاق :
ويعبر عنه أيضاً بـ ( الإقرار بالنسب ) وغالباً ما يكون في أولاد الإماء والإقرار بالنسب علي نوعين :
الأول : إقرار يحمله المقر علي نفسه فقط كالإقرار بالبنوة ، أو الأبوة .
الثاني : إقرار يحمله المقر علي غيره وهو ما عدا الإقرار بالبنوة والأبوة كالإقرار بالأخوة ، والعمومة .
وقد أشترط الفقهاء لصحة الإقرار بالنسب في كلا النوعين شروطاً لا بد من تحققها لصحة الإقرار وثبوت النسب بمقتضاه ، فاشترطوا لصحة الإقرار بالنسب علي النفس الشروط التالية :
أن يكون المقر بالنسب بالغاً ، عاقلاً ، فلا يصح إقرار الصغير ، ولا المجنون ، لعدم الاعتداد بقولهم لقصورهم عن حد التكليف .
أن يكون المقر له بالنسب ممن يمكن ثبوت نسبه من المقر ، وذلك بأن يولد مثله لمثله ، فلو أقر من عمره عشرون ببنوة من عمره خمسة عشر لم يقبل إقراره ، لاستحالة ذلك عادة .
أن يكون المقر له مجهول النسب ، لأن معلوم النسب لا يصح إبطال نسبه السابق بحال من الأحوال .
ألا يكذب المقرب المقر له المقر ، إن كان أهلاً لقبول قوله ، فإن كذبه فإنه لا يصح الإقرار عندئذ . ولا يثبت به النسب .
أن لا يصرح المقر بأن المقر له ولده من الزنا ، فإن صرح بذلك فإنه لا يقبل إقراره ، لأن الزنا لا يكون سبباً في ثبوت النسب لقول النبي صلي الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر)
أن لا ينازع المقر بالنسب أحد ، لأنه إذا نازعه غير فليس أحدهما أولي من الأخر بمجرد الدعوى ، فلابد من مرجح لأحدهما فإن لم يكن فإنه يعرض علي القافة ، فيكون ثبوت النسب لأحدهما بالقيافة لا بالإقرار .
فإذا توفرت هذه الشروط ثبت نسب المقر له من المقر ، وثبت بمقتضي ذلك جميع الأحكام المتعلقة بالنسب . فإن كان الإقرار بالنسب فيه تحميل للنسب علي الغير ، كالإقرار بأخ له ونحوه ، فإنه يشترط لصحة ثبوت النسب إضافة إلي الشروط المتقدمة ما يأتي :
اتفاق جميع الورثة علي الإقرار بالنسب المذكور
أن يكون الملحق به النسب ميتاً ، لأنه إذا كان حياً فلابد من إقراره بنفسه .
أن لا يكون الملحق به النسب قد أنتفي من المقر له في حياته باللعان ()
ثالثاً : البينة :
والمراد بها الشهادة ، فإن النسب يثبت لمدعيه بناء علي شهادة العدول بصحة ما ادعاه وقد أجمع العلماء علي أن النسب يثبت لمدعيه بشهادة رجلين عادلين ، واختلفوا في إثباته بغير ذلك : كشهادة رجل وامرأتين ، أو شهادة أربعة نساء عادلات ، أو شهادة رجل ويمين المدعي ، حيث قال بكل حالة من هذه الحالات طائفة من العلماء ، غير أن مذهب جماهير أهل العلم ، وهم المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، أنه لا يقبل في إثبات النسب بالشهادة إلا شهادة رجلين عادلين ()
فإذا ثبت نسب المدعي بالبينة لحق نسبه بالمدعي وترتب عليه ثبوت جميع الأحكام المتعلقة بالنسب .
رابعاً : القيافة :
وهي لغة تتبع الآثار لمعرفة أصحابها ، والقائف : من يتبع الأثر ويعرف صاحبه ، وجمعه قافه ()
والقائف في الاصطلاح الشرعي : هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلي أعضاء المولود ()
والقيافة عند القائلين بالحكم بها في إثبات النسب ، إنما تستعمل عند عدم الفراش ، والبينة ، وحال الاشتباه في نسب المولود والتنازع عليه ، فيعرض علي القافة ، ومن ألحقته به القافة من المتنازعين نسبه ، ألحق به .
وقد أختلف العلماء في حكم إثبات النسب بها علي قولين مشهورين :
القول الأول : أنه لا يصح الحكم بالقيافة في إثبات النسب ، وبه قال الحنفية ()
القول الثاني : اعتبار الحكم بالقيافة في إثبات النسب عند الاشتباه والتنازع . وبه قال جمهور العلماء ، حيث قال به : الشافعية ()والحنابلة () والظاهرية () والمالكية في أولاد الإماء في المشهور من مذهبهم ، وقيل : في أولاد الحرائر أيضاً () ومما لا شك فيه أن ما ذهب إليه الجمهور من الحكم بالقيافة واعتبارها طريقاً شرعياً في إثبات النسب هو الراجح ، لدلالة السنة المطهرة علي ذلك ، وثبوت العمل بها عند عدد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يعرف لهم مخالف ، فكان كالإجماع منهم علي الحكم بها ، قال العلامة بن القيم رحمه الله في بيان حجية العمل بالقيافة في إثبات النسب وقد دل عليها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل خلفائه الراشدين ، والصحابة من بعدهم ، منهم عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو موسى الأشعري ، وابن عباس ، وأنس بن مالك رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم في الصحابة ، وقال بها من التابعين سعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، والزهري ، وإياس بن معاوية ، وقتادة وكعب بن سور ومن تابعي التابعين اليس بن سعد ومالك بن أنس وأصحابه وممن بعدهم الشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وإسحاق وأبو ثور ، وأهل الظاهر كلهم ، وبالجملة فهذا قول جمهور الأئمة ، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة وأصحابه وقالوا العمل بها تعويل علي مجرد الشبه ، وقد يقع بين الأجانب ، وينتفي بين الأقارب ) ()
هذا وقد أشترط الجمهور لاعتبار قول القائف ، والحكم به في إثبات النسب عدة شروط من أهمها : أن يكون القائف مسلماً مكلفاً ، عدلاً ، ذكراً ، سميعاً ، بصيراً ، عارفاً بالقيافة ، مجرباً في الإصابة ()
وقد ذهب أكثر القائلين بالحكم بالقيافة إلي جواز الاكتفاء بقول قائف واحد والحكم بإثبات النسب بناء علي قوله ، بينما ذهب آخرون إلي أنه لا يقبل في ذلك أقل من أثنين .
ومبني الخلاف في ذلك علي اعتبار القائف هل هو شاهد ، أو مخبر ، فمن قال بالأول أشترط أثنين ، ومن قال بالثاني أكتفي بواحد ، وقيل مبني الخلاف علي أن القائف هل هو شاهد أو حاكم ؟ قال الباجي : (وجه القول الأول : أن هذه طريقة الخبر عن علم يختص به القليل من الناس كالطبيب والمفتي ، ووجه القول الثاني انه يختص بسماعه ، والحكم به ، الحكام ، فلم يجز في ذلك أقل من أثنين ()وقال في الإنصاف : ( وهذا الخلاف مبني عند كثير من الأصحاب علي أنه هل هو شاهد أو حاكم ؟ فإن قلنا هو شاهد اعتبرنا العدد ، وإن قلنا هو حاكم : فلا وقالت طائفة من الأصحاب : هذا خلاف مبني علي أنه شاهد ، أو مخبر ، فإن جعلناه شاهداً اعتبرنا العدد ، وإن جعلناه مخبراً لم نعتبر العدد ، كالخبر في الأمور الدنيوية ) () ورجح العلامة بن القيم الاكتفاء بقول قائف واحد محتجاً بذلك بقوله : ( ومن حجة هذا القول ، وهو قول القاضي وصاحب المستوعب ، والصحيح من مذهب الشافعي ، وقول أهل الظاهر أن النبي صلي الله عليه وسلم سر بقول مجزز المدلجي وحده ، وصح عن عمر أنه أستقاف المصطلقي وحده كما تقدم ، واستقاف بن عباس ابن كلبة وحده ، واستلحقه بقوله . وقد نص أحمد علي أنه يكتفي بالطبيب والبيطار الواحد إذا لم يوجد سواه ، والقائف مثله ………… بل هذا أولي من الطبيب والبيطار ، لأنهما أكثر وجوداً منه فإذا أكتفي بالواحد منهما مع عدم غيره فالفائق أولي () هذا وإن لم تتفق الفاقة علي إلحاق المجهول نسبه بأحد المدعيين ، بل تباينت أقوالها وتعارضت ، فإن قولها يسقط لتعارضها ، كالبينتين إذا تعارضتا تساقطتا ، إلا في حالة واحدة وهي أن يتفق اثنين من الفاقة علي إلحاقه بشخص ، ويخالفهما قائف واحد ، فإنه لا يلتفت إلي قوله ، ويؤخذ بقول الاثنين لأنهما كالشاهدين ، فقولهما أقوي من قول الواحد .
أما ما عدا ذلك من حالات الاختلاف كأن يعارض قول اثنين قول اثنين أحرين ، أو قول ثلاثة فإن قول القافة يسقط في هذه الحالات كلها . وبهذا قال الحنابلة () أما لو أخذ بقول القافة ، وحكم به حاكم ، ثم جاءت قافة أخري فألحقته بشخص أخر ، فإنه لا يلتفت إلي قول المتأخرة منهما ، لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف ، ومثل هذا أيضاً لو رجعت القافة عن قولها بعد الحكم به وألحقته بشخص أخر فإنه لا يلتفت إلي رجوعها عن قولها الأول لثبوت نسب المجهول بمن ألحق به أولاً وبهذا قال الشافعية والحنابلة () وإذا لم يؤخذ بقول القافة لاختلاف أقوالها ، أو أشكل الأمر عليها فلم تلحقه بواحد من المدعين ، أو لم توجد قافة ، فإن نسب المجهول يضيع علي الصحيح من مذهب الحنابلة () والقول الأخر للحنابلة هو مذهب الشافعية () : أن الأمر يترك حتى يبلغ المجهول ، ثم يؤمر بالانتساب إلي أحد المدعين ، لأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للغلام الذي ألحقته القافة بالمدعيين ( وال أيهما شئت ) () ، ولأنه إذا تعذر العمل بقوله الفاقة رجع إلي اختيار الولد الجبلي ، لأن الإنسان يميل بطبعه إلي قريبه دون غيره ، ولأنه إذا بلغ صار أهلاً للإقرار ، فإذا صدقه المقر له فيثبت نسبه حينئذ بالإقرار .
وفي قول في كلا المذهبين : أنه يؤمر بالاختيار والانتساب إلي أحد المدعيين إذا بلغ سن التمييز . والمفهوم من مذاهب المالكية : أن الحكم كذلك ، حيث نصوا علي أن الفاقة إذا بأكثر من أب ألحق بهم حتى يبلغ ، ثم يؤمر باختيار واحد منهم ()
المبحث الثاني
البصمة الوراثية
المسألة الاولى :
مفهومها :
البصمة مشتقة من البُصْم وهو : فوت ما بين طرف الخنصر إلي طرف البنصر يقال ما فارقتك شبراً ، ولا فتراً ، ولا عتباً ، ولا رتباً ، ولا بصماً . ورجل ذو بصم أي غليظ البصم وبصم بصماً : إذا ختم بطرف إصبعه .
والبصمة أثر الختم بالإصبع ( ) ( )
فالبصمة عند الإطلاق ينصرف مدلولها غلي بصمات الأصابع وهي : الانطباعات التي تتركها الأصابع عند ملامستها سطحها مصقولاً ، وهي طبق الأصل لأشكال الخطوط الحلمية التي تكسو جلد الأصابع وهي لا تتشابه إطلاقاً حتى في أصابع الشخص الواحد .
المسألة الثانية : ماهية البصمة الوراثية : –
مما تقدم في بيان التعريف اللغوي للفظ البصمة يتضح أن من أهم فوائد معرفة بصمات الأصابع الاستدلال بها علي مرتكبي الجرائم من خلال ما ينطبع من بصماتهم علي الأجسام المصقولة في محل الجريمة ، فهي قرينة قوية في التعرف علي الجناة ، ولقد تجاوزت الاكتشافات الطبية الحديثة معرفة هذه الخاصية من جسم الإنسان إلي اكتشاف خواص كثيرة فيه وإدراك مدي تأثير تلك الخواص في الوراثة عن طريق أجزاء من جسم الإنسان من دم أو شعر أو مني ، أو بول أو غير ذلك .
وقد دلت الاكتشافات الطبية أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان ( 46 ) من الصبغيات ( الكروموسومات ) وهذه الكروموسومات تتكون من المادة الوراثية – الحمض النووي الريبوري اللأكسجيني – والذي يرمز إليه بـ (دنا ) أي الجينات الوراثية ، وكل واحد من الكروموسومات يحتوي علي عدد كبير من الجينات الوراثية قد تبلغ في الخلية البشرية الواحدة إلي مائة ألف مورثة جينية تقريباً وهذه المورثات الجينية هي التي تتحكم في صفات الإنسان ، والطريقة التي يعمل بها ، بالإضافة إلي وظائف أخرى تنظيمية للجينات .
وقد أثبتت التجارب الطبية الحديثة بواسطة وسائل تقنية في غاية التطور والدقة : أن لكل إنسان جينوماً بشرياً يختص به دون سواه ، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره أشبه ما يكون ببصمة الأصابع في خصائصها بحيث لا يمكن تطابق الصفات الجينية بين شخص وآخر حتى وإن كانا توأمين .
ولهذا جري إطلاق عبارة ( بصمة وراثية ) للدلالة علي تثبيت هوية الشخص أخذاً من عينة الحمض النووي المعروف بـ ( دنا ) الذي يحمله الإنسان بالوراثة عن أبيه وأمه ، إذ أن كل شخص يحمل في خليته الجينية ( 46 ) من صبغيات الكروموسومات ، يرث نصفها وهي ( 23 ) كروموسوماً عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي ، والنصف الأخر وهي ( 23) كروموسوماً يرثها عن أمه بواسطة البويضة وكل واحد من هذه الكروموسومات والتي هي عبارة عن جينات الأحماض النووية المعروف باسم ( دنا ) ذات شقين ويرث الشخص شقاً منها عن أبيه والشق الأخر عن أمه فينتج عن ذلك كروموسومات خاصة به لا تتطابق مع كروموسومات أبيه من كل وجه ن ولا مع كروموسومات أمه من كل وجه وإنما جاءت خليطاً منهما ()
وبهذا الاختلاط أكتسب صفة الاستقلالية عن كروموسومات أي من والديه مع بقاء التشابه معهما في بعض الوجوه ، لكنه مع ذلك لا يتطابق مع أي من كروموسومات والديه ، فضلاً عن غيرهما
قال الدكتور محمد باخطمة: ( وتتكون كل بصمة من وحدات كيماوية ذات شقين ، محمولة في المورثات وموزعة بطريقة مميزة تفرق بدقة بارعة كل فرد من الناس عن الآخر ، وتتكون البصمة منذ فترة الانقسام في البويضة الملقحة وتبقي كما هي حتي بعد الموت ، ويرث كل فرد أحد شقي البصمة من الأب والأخر من الأم بحيث يكون الشقان بصمة جديدة ، ينقل الفرد أحد شقيها إلي أبنائه ،
وهكذا ….. ) ()
وقال الدكتور عبد الهادي مصباح : ( الحامض النووي عبارة عن بصمة جينية لا تتكرر من إنسان إلي آخر بنفس التطابق ، وهي تحمل كل ما سوف يكون عليه هذا الإنسان من صفات وخصائص ، وأمراض وشيخوخة ، وعمر ، منذ التقاء الحيوان المنوي للأب ببويضة الأم وحدوث الحمل ) ()
وعلماء الطب الحديث يرون أنهم يستطيعون إثبات الأبوة ، أو البنوة لشخص ما أو نفيه عنه من خلال إجراءات الفحص علي جيناته الوراثية حيث قد دلت الأبحاث الطبية التجريبية علي أن نسبة النجاح في إثبات النسب أو نفيه عن طريق معرفة البصمات الوراثية يصل في حالة النفي إلي حد القطع أي بنسبة 100 %أما في حالة الإثبات فإنه فأنه يصل إلي قريب من القطع وذلك بنسبة 99 % تقريباً
وطريقة معرفة ذلك : أن يؤخذ عينة من أجزاء الإنسان بمقدار رأس الدبوس من البول ، أو الدم ، أو الشعر ، أو المني ، أو العظم أو اللعاب أو خلايا الكلية ، أو غير ذلك من أجزاء جسم الإنسان وبعد أخذ هذه العينة يتم تحليلها ، وفحص ما تحتوي عليه من كروموسومات – أي صبغيات – تحمل الصفات الوراثية ، وهي الجينات ، فبعد معرفة هذه الصفات الوراثية الخاصة بالابن وبوالديه يمكن بعد ذلك أن يثبت بعض هذه الصفات الوراثية في الابن موروثة له عن أبيه لاتفاقهما في بعض هذه الجينات الوراثية فيحكم عندئذ بأبوته له ، أو يقطع بنفي أبوته له ، وكذلك الحال بالنسبة للأم ، وذلك لأن الابن – كما تقدم – يرث عن أبيه نصف مورثاته الجينية ، بينما يرث عن أمه النصف الآخر ، فإذا أثبتت التجارب الطبية والفحصوات المخبرية وجود التشابه في الجينات بين الابن وأبويه ، ثبت طبياً بنوته لهما .
وقد تثبت بنوته لأحد والديه بناء علي التشابه الحاصل بينهما في المورثات الجينية بينما ينفي عن الآخر منهما ، بناء علي انتقاء التشابه بينهما في شتي المورثات الجينية ()
المسألة الثالثة : مجالات العمل بالبصمة الوراثية :
يري المختصون في المجال الطبي وخبراء البصمات أنه يمكن استخدام البصمات الوراثية في مجالات كثيرة ، ترجع في مجملها إلي مجالين رئيسين هما :
المجال الجنائي : وهو مجال واسع يدخل ضمنه :
الكشف عن هوية المجرمين في حالة ارتكاب جناية قتل ، أو اعتداء ، وفي حالات الاختطاف بأنواعها ، وفي حالة انتحال شخصيات الآخرين ونحو هذه المجالات الجنائية .
مجال النسب : وذلك في حالة الحاجة إلي إثبات البنوة أو الأبوة لشخص ، أو نفيه عنه ، وفي حالة اتهام المرآة بالحمل من وطء شبة ، أو زنا ()
المبحث الثالث
المسألة الأولى
حكم استخدام البصمة الوراثية في مجال النسب
بعد بيان ماهية البصمة الوراثية وإيضاح طرق إثبات النسب الشرعي ، وطريق نفيه ، فإن مقتضي النظر الفقهي لمعرفة حكم استخدام البصمة الوراثية في مجال النسب ، يفرض علي الباحث الشرعي النظر في إمكانية اعتبار البصمة الوراثية قرينة يستعان بها علي إثبات النسب أو نفيه فحسب ، أو اعتبار هما طريقاً من طرق إثبات النسب قياساً علي إحدى الطرق الثابتة شرعاً .
غير إني وقبل بيان ذلك أود القول بأن النظريات العلمية الحديثة من طبية وغيرها مهما بلغت من الدقة والقطع بالصحة في نظر المختصين إلا أ،ها تظل محل شك ونظر ، لما علم بالاستقراء للواقع أن بعض النظريات العلمية المختلفة من طب وغيره يظهر مع التقدم العلمي الحاصل بمرور الزمن إبطال بعض ما كان يقطع بصحته علمياً ، أو علي الأقل أصبح مجال شك ، ومحل نظر ، فكم من النظريات الطبية علي وجه الخصوص – كان الأطباء يجزمون بصحتها وقطعيتها ، ثم أصبحت تلك النظريات مع التقدم العلمي الطبي المتطور ضرباً من الخيال ()
**وهذا أمر معلوم وثابت مما يحتم علي الفقهاء والباحثين الشرعيين التروي في النظر ، وعدم الاندفاع بالأخذ بالنظريات العلمية كأدلة ثابتة توازي الأدلة الشرعية أو تقاربها ، فضلاً عن إحلال تلك النظريات محل الأدلة الشرعية الثابتة () أمارات قد تحمل عليه ، أو قرائن قد تدل علية ، لأن الشارع يحتاط للأنساب ويتشوف غلي ثبوتها . ويكتفي في إثباتها بأدنى سبب ، فإذا ما ثبت النسب فإنه يشدد في نفيه ، ولا يحكم به إلا بأقوى الأدلة .
قال ابن قدامه : ( فإن النسب يحتاط لإثباته ويثبت بأدنى دليل ، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه . وأنه لا ينتفي إلا بأقوى دليل () وقال العلامة بن القيم : ( وحيث اعتبرنا الشبه في لحوق النسب ، فإنما إذا لم يقاومه سبب أقوي منه ، ولهذا لا يعتبر مع الفراش ، بل يحكم بالولد للفراش وإن كان الشبه لغير صاحبه ، كما حكم النبي صلى الله عليه و سلم في قصة عبد ابن زمعة بالولد المتنازع فيه لصاحب الفراش ولم يعتبر الشبه المخالف له فاعمل صلى الله عليه و سلم الشبه في حجب سوده حيث أنتفي المانع من إعماله في هذا الحكم بالنسبة غليها ولم يعلمه في النسب لوجود الفراش ) () ومن تشديد الشارع في نفي النسب بعد ثبوته أنه حصر نفيه بطريق واحد فقط وهو اللعان ، واشترط لإقامته شروطاً كثيرة تحد من حصوله ، وتقلل من وقوعه – وقد سبق بيانها – وبناء علي ذلك فإنه لا يجوز استخدام البصمة الوراثية في نفي نسب ثابت ، كما لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان في نفي النسب بمقتضي نتائجها الدالة علي انتفاء النسب بين الزوج والمولود علي فراشه ، وذلك لأن اللعان حكم شرعي ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وله صفة تعبدية في إقامته ، فلا يجوز إلغاؤه ، وإحلال غيره محله ، أو قياس أي وسيلة عليه مهما بلغت من الدقة والصحة في نظر المختصين به .
وإن كان بعض الفقهاء المعاصرين قد ذهبوا إلي جواز الأخذ بالبصمة الوراثية والاكتفاء بها عن اللعان إذا دلت نتائجها عن انتفاء النسب بين الزوج والمولود علي فراشه ، معللين لذلك بأن الزوج إنما يلجأ إلي اللعان لنفي النسب عند فقد من يشهد له بما رمي به زوجته ، وحيث أن الفحص من خلال البصمة الوراثية قد يدل علي صحة قول الزوج ، فإنها تكون بمثابة الشهود التي تدل علي صدق الزوج فيما يدعيه علي زوجته في حال ثبوت انتفاء النسب بين الزوج والمولود علي فراشه من خلال نتائج البصمة الوراثية ()ومع تقديري للقائلين بهذا القول من الفقهاء فإن فيه من المصادمة للنصوص الشرعية ، الجرأة علي إبطالها ، وإلغاء العمل بها ما يحمل علي رد هذا القول وعدم اعتباره ، وذلك لأن الأحكام الشرعية الثابتة لا يجوز إلغاؤها ، أو إبطال العمل بها إلا بنص شرعي يدل علي نسخها وهو أمر مستحيل ، ولأنه لو أقرت الزوجة بصدق زوجها فيما رماها به من الفاحشة فإن النسب يلحق الزوج لقوله صلى الله عليه و سلم ( الولد للفراش وللعاهر الهجر ) ولا ينتفي عنه إلا باللعان ولأن اللعان يشرع لدرء الحد حاملاً ، ويعلم الزوج أن الحمل منه ، ولكنه زنت بعد الحمل فيريد أن يدرأ الحد علي نفسه باللعان فلا يجوز منعه من هذا الحق الثابت له شرعاً ، فكيف يجوز إلغاء حكم شرعي بناء علي نظريات طبية مظنونة ، والله عز وجل يقول ) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ( () وقد جاء في مشروع توصية المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة : ( أنه لا يجوز استعمال البصمة الوراثية في نفي النسب استقلالً اكتفاء باللعان ، ولا استعمالها في نفي نسب من ثبت نسبه بأي دليل شرعي ) ()
وقال الشيخ محمد الأشقر ( إنه لن يكون مقبولاً شرعاً استخدام الهندسة الوراثية ، والبصمة الوراثية لإبطال الأبوة التي ثبتت بطريق شرعي صحيح من الطرق التي تقدم بيانها ولكن مجال العمل بالبصمة الوراثية سيكون في إثبات أو نفي أبوة لم تثبت بطريق شرعي صحيح …..) ()
هذا ومع أنه لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان ، فإنه يحسن الاستعانة بها علي اعتبار أنها قرينه قد تحمل الزوج علي العدول عن اللعان فيما إذا ثبت من خلال نتائج البصمة الوراثية أن المولود علي فراشه هو أبنه قد تخلق من ماءه ، وهذه مصلحة شرعية يدعو إليها الشرع المطهر ويتشوف إليها لما فيها من تأكيد للأصل الشرعي وهو ( أن الولد للفراش ) ، ولما فيها من درء مفسدة اللعان وضرره ، فإن أصر الزوج علي طلب اللعان للانتفاء من نسب المولود علي فراشه فذلك حق له لا يجوز منعه منه بناء علي ما ظهر من نتائج البصمة الوراثية من كون المولود المراد نفيه هو أبنه .
ولو أن اللعان تم بين الزوجين ، وانتفي الزوج من الولد ، ثم أكذب نفسه ، وعاد واستلحق الولد بنسبه ، فأنه يلحق به سواءً أكان إستلحاقه بسبب ما ظهر له من نتائج البصمة الوراثية قبل اللعان أو حتي بعده والتي تدل علي أنه ولده ، أو لم يكن إستلحاقه بعد اللعان بسبب ، لأن الفقهاء أجمعوا علي أن الملاعن إذا أكذب نفسه وأستلحق الولد بعد نفيه فإنه يقبل منه ويلحقه نسبه ، لتشوف الشارع إلي ذلك ، لكن يقام عليه حد القذف إن كانت الزوجة محصنة ، ويعذر إن لم تكن محصنة ) ()
وأما إذا تبين من خلال نتائج البصمة الوراثية صحة ما يدعيه الزوج من كون أن المولود علي فراشه ليس أبنه ، فذلك قرينه تقوى جانب الزوج ، وتؤكد حقه في اللعان .
فالخلاصة أنه لا يجوز الاكتفاء بالبصمة الوراثية عن اللعان علي اعتبار أن نتائجها عند ذوي الاختصاص بها قطعية أو قريبة من القطعية ، وذلك لأن الحكم الشرعي لا يجوز إبطاله وترك العمل به إلا بدليل نصي وهو غير ممكن ، غير أن الحاكم الشرعي يجدر به أن يستفيد من هذه التقنية الحدية المتطورة وإجراء الفحوصات المخبرية للبصمة الوراثية للاستعانة بها كقرينة من القرائن التي يستعان بها علي التحقق من صحة دعوى الزوج أو عدمها ، بغرض الحيلولة دون وقوع اللعان قدر المستطاع لحض الشارع علي درء ذلك ومنعه ، وتشوفه لاتصال الأنساب وبقاء الحياة الزوجية ()
المسألة الثانية
حكم استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب
نظراً لتشوف الشارع إلي ثبوت النسب وإلحاقه بأدنى سبب فإن الأخذ بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التي يجوز فيها الحكم بثبوت النسب بناء علي قول القافة ، أمر ظاهر الصحة والجواز وذلك لأنه إذا جاز الحكم بثبوت النسب بناء علي قول القافة ، لاستنادها علي علامات ظاهرة ، أو خفية مبنية علي الفراسة والمعرفة والخبرة ()في إدراك الشبه الحاصل بين الآباء والأبناء فإن الأخذ بنتائج الفحص بالبصمة الوراثية ، والحكم بثبوت النسب بناء علي قول خبراء البصمة الوراثية أقل أحواله أن يكون مساوياً للحكم بقول القافة إن لم تكن البصمة أولي بالأخذ بها ، والحكم بمقتضي نتائجها من باب قياس الأولي ، لأن البصمة الوراثية يعتمد فيها علي أدلة خفية محسوسة من خلال الفحوصات المخبرية ، التي علم بالتجارب العلمية صحة نتائجها الدالة علي وجود الشبه ، والعلاقة النسبية بين أثنين أو نفيه عنهما كما قال أحد الأطباء المختصين ( أن كل ما يمكن أن تفعله القافة يمكن للبصمة الوراثية أن تقوم به ، وبدقة متناهية () . وقد نص بعض الفقهاء علي ترجيح قول القائف المستند في قوله إلي شبه خفي علي قول القائف المستند في قوله إلي شبه ظاهر ، معللين لذلك : بأن الذي يستند في قوله إلي شبه ظاهر معللين لذلك : بأن الذي يستند في قوله إلي شبه خفي معه زيادة علم تدل علي حذقه وبصيرته ().
ومما لا شك فيه أن البصمة الوراثية فيها من زيادة العلم والحذق واكتشاف المورثات الجينية الدالة علي العلاقة النسبية ما لا يوجد مثله في القافة ومع ذلك فإن ( القياس وأصول الشريعة تشهد للقافة ، لأن القول بها حكم يستند إلي درك أمور خفية وظاهرة توجب للنفس سكوناً ، فوجب اعتباره كنقد الناقد وتقويم المقوم ) () ، ولأن قول القائف ( حكم بظن غالب ، ورأي راجح ممن هو من أهل الخبرة فجاز كقول المقومين ) () فكذلك الحال بالنسبة للبصمة الوراثية لما فيها من زيادة العلم والمعرفة الحسية بوجود الشبه ، والعلاقة النسبية ما لا يوجد مثله في القافة ، إما يحمل علي الحكم لمشروعية الأخذ بها في مجال إثبات النسب في الحالات التي يجوز فيها الحكم بناء علي قول القافة ، قياساً عليها ، ولأن الأصل في الأشياء – غير العبادات – الإذن والإباحة ، وأخذاً من أدلة الشرع العامة ، وقواعده الكلية في تحقيق المصالح ، ودرء المفاسد لما في الأخذ بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب من تحقيق لمصالح ظاهرة ، ودرء المفاسد قصيرة .
قال العلامة بن القيم رحمه الله : ( وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب والشارع متشوف إلي اتصال الأنساب وعدم انقطاعها ، ولهذا أكتفي في ثبوتها بأدنى الأسباب من شهادة المرآة الواحدة علي الولادة والدعوى المجردة مع الإمكان ، وظاهر الفراش ، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافياً في ثبوته …. ) () وقال أيضاً : ( بل الشبه نفسه بينه من أقوي البيانات ، فإنها أسم لما يبين الحق ويظهره وظهور الحق هاهنا بالشبه أقوي من ظهوره بشهادة من يجوز عليه الوهم والغلط والكذب ، وأقوي بكثير من فراش يقطع بعدم اجتماع الزوجين فيه ) ()
وقال شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله : ( إن الأساس في هذا كله مراعاة الشبه الذي يراه المختصون ، فإذا كان ولد تنازعت فيه امرأتان أو تنازع فيه أبوان أو ثلاثة ، أمان أو أكثر فهذا محل البحث … فيمكن للثقات الذين يعرفون الشبه سواء بالبصمة أو غيرها أن يشهدوا أن هذا ولد فلانة ، وهذا ولد فلانة عند الإشتباه ()
فالبصمة الوراثية ، والاستدلال بها علي إثبات النسب يمكن أن يقال بأنها نوع من علم القيافة ، وقد تميزت بالبحث في خفايا وأسرار النمط الو راثي للحامض النووي بدقة كبيرة ، وعمق ومهارة علمية بالغة ، مما يجعلها تأخذ حكم القيافة في هذا المجال من باب أولي فيثبت بالبصمة ما يثبت بالقيافة مع وجوب توفر الشروط والضوابط التي وضعها الفقهاء في القافة عند إرادة الحكم بإثبات النسب عن طريق البصمة الوراثية ()
وجاء في توصية ندوة الوراثة والهندسة الوراثية ما نصه : ( البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من ألوالديه البيولوجية ، والتحقق من الشخصية ، ولا سيما في مجال الطب الشرعي ، وهي ترقي إلي مستوي القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية ، وتمثيل تطوراً عصرياً عظيماً في مجال القيافة الذي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه ، ولذلك تري الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولي ) ()
وبناء علي ذلك فإنه يمكن الأخذ بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية :
حالات التنازع علي مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء أكان التنازع علي مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها ، أو كان بسبب اشترك في وطء شبهه ونحوه . ()
حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية المواليد والأطفال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب .
حالات ضياع الأطفال واختلاطهم ، بسبب الحوادث والكوارث وتعذر معرفة أهليهم ، () وكذا عند وجود جثث لم يمكن التعرف علي هويتها بسبب الحروب ، أو غيرها .
مسائل لا يجوز إثبات النسب فيها بالبصمة الوراثية :
نص بعض الفقهاء علي مسائل لا مجال للقيافة في إثبات النسب بها ، وبالتالي فإنه لا مجال للبصمة الوراثية في إثبات النسب بها ومن هذه المسائل ما يأتي :
الأولى : إذا أقر رجل بنسب مجهول النسب ، وتوفرت شروط الإقرار بالنسب فإنه يلتحق به ، للإجماع علي ثبوت النسب وتوفرت شروط الإقرار بالنسب فإنه يلتحق به ، للإجماع علي ثبوت النسب بمجرد الإستلحاق مع الإمكان ، فلا يجوز عندئذ عرضة علي القافة لعدم المنازع فكذا البصمة الوراثية كالقافة في الحكم هنا ()
الثانية : إقرار بعض الإخوة بأخوة النسب لا يكون حجة علي باقي الإخوة ، ولا يثبت به نسب ،وإنما تقتصر آثاره علي المقر في خصوص نصيبه من الميراث () ولا يعتد بالبصمة الوراثية هنا ، لأنه لا مجال للقيافة فيها ()
الثالثة : إلحاق مجهول النسب بأحد المدعيين بناء علي قول القافة ، ثم أقام الآخر بينة علي أنه ولده فإنه يحكم له به ، ويسقط قول القافة ، لأنه بدل علي البينة ، فيسقط بوجودها ، لأنها الأصل كالتيمم مع الماء () فهكذا البصمة الوراثية في الحكم هنا .
حكم استخدام البصمة الوراثية للتأكد من صحة النسب الثابت
سبقت الإشارات إلى أن النسب إذا ثبت بأحدي الطرق الشرعية ، فإنه لا يجوز نفيه البتة ، إلا عن طريق اللعان للدلالة الدالة علي ذلك ، فقد دلت قواعد الشرع أيضاً علي أنه لا يجوز محاولة التأكد من صحة النسب بعد ثبوته شرعاً ، وذلك لاتفاق الشرائع السماوية علي حفظ الضروريات للحياة الإنسانية ومنها حفظ النسب ، والعرض ، ولما جاءت به هذه الشريعة المباركة من جلب للمصالح ودرء للمفاسد ، وحيث أن محاولة التأكد من صحة الأنساب الثابتة فيه قدح في أغراض الناس وأنسابهم يؤدي إلي مفاسد كثيرة ، ويلحق أنواعاً من الأضرار النفسية والاجتماعية بالأفراد والأسر والمجتمع ، ويفسد العلاقات الزوجية ويقوض بنيان الأسر ، ويزرع العداء بين الأقارب والأرحام ، لهذا كله فإنه لا يجوز محاولة التأكد من صحة النسب عن طريق البصمة الوراثية ولا غيرها من الوسائل كما أنه لو تم إجراء الفحص بالبصمة الوراثية للتأكد من نسب شخص من الأشخاص وأظهرت النتائج خلاف المحكوم به شرعاً من ثبوت النسب ، فإنه لا يجوز الإلتفات إلي تلك النتائج ، ولا بناء علي حكم الشرعي عليها ، لأن النسب إذا ثبت ثبوتاً شرعياً ، فإنه لا يجوز إلغاؤه وإبطاله إلا عن طريق واحد وهو اللعان كما سبق بيانه – ويدل علي ذلك ما رواه البخاري ومسلم() عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : ( جاء رجل من بني فزارة إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ولدت امرأتي غلاماً أسود وهو حينئذ يعرض بنفيه ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم فهل لك من إبل ؟ قال نعم ، قال : فما ألوانها ، قال حمر ، قال : هل فيها من أورق ؟ قال : إن فيها لورقاً ، قال : فأني أتاها ذلك ؟ قال عسي أن يكون نزعه عرق ، ولم يرخص له صلى الله عليه و سلم في الانتفاء منه )
فقد دل هذا الحديث علي أنه لا يجوز نفي النسب بعد ثبوته مهما ظهر من أمارات وعلامات قد تدل عليه . قال العلامة بن القيم تعليقاً علي هذا الحديث : ( إنما لم يعتبر الشبه ها هنا لوجود الفراش الذي هو أقوي منه ، كما في حديث ابن أم زمعة ) () فإذا كان لا يجوز نفي النسب بعد ثبوته – بغير اللعان – فإنه لا يجوز أيضاً استخدام أي وسيلة قد تدل علي انتفاء النسب ونفيه عن صاحبه ، لأن للوسائل حكم الغايات ، فما كان وسيلة لغاية محرمة ، فإن للوسيلة حكم الغاية .
ونظراً لحرمة ذلك فإنه يجب علي الجهات المسئولة في البلاد الإسلامية منع ذلك والحيلولة دون حصوله ، وإيقاع العقوبات الرادعة علي المخالفين حماية لأنساب الناس وصيانة لأعراضهم ، ودرءاً للمفاسد والأضرار عنهم .
في استخدام البصمة الوراثية في المجال الجنائي
حيث أن البصمة الوراثية تدل علي هوية كل إنسان بعينه ، وأنها أفضل وسيلة علمية لتحقق من الشخصية ، ومعرفة الصفات الوراثية المميزة للشخص عن غيره عن طريق الأخذ من أي خلية من خلايا جسم الإنسان : من الدم أو اللعاب ، أو المني ، أو البول ، أو غير ذلك () والاستدلال من خلال نتيجة البصمة الوراثية علي مرتكبي الجرائم ، ومعرفة الجناة عند الاشتباه ، سواء كانت جريمة زنا أو قتل أو اعتداء علي ما دون النفس ، أو سرقة أو حرابة ، أو قضية اختطاف ، أو انتحال لشخصيات الآخرين ، أو غير ذلك من أنواع الجرائم والجنايات علي النفس ، أو العرض أو المال ، فإنه – كما يري المختصون – يمكن الاستدلال عن طريق البصمة الوراثية علي مرتكب الجريمة والتعرف علي الجاني الحقيقي من بين المتهمين من خلال أخذ ما يسقط من جسم الجاني الحقيقي من بين المتهمين من خلال أخذ ما يسقط من جسم الجاني في محل الجريمة وما حوله ، وإجراء تحاليل البصمة الوراثية علي تلك العينات المأخوذة ، ومطابقتها علي البصمات الوراثية للمهتمين بعد إجراء الفحوصات المخبرية علي بصماتهم الوراثية .
فعند تطابق البصمة الوراثية للعينة المأخوذة من محل الجريمة ، مع نتيجة البصمة الوراثية لأحد المتهمين ، فإنه يكاد يجزم بأنه مرتكب الجريمة دون غيره من المتهمين ، في حالة كون الجاني واحداً . وقد يتعدد الجناة ويعرف ذلك من خلال تعدد العينات الموجودة في مسرح الجريمة ، ويتم التعرف عليهم من بين المتهمين من خلال مطابقة البصمات الوراثية لهم مع بصمات العينات الموجودة في محل الجريمة.
ويري المختصون أن النتيجة في هذه الحالات قطعية أو شبه قطعية ولا سيما عند تكرار التجارب ، ودقة المعامل المخبرية ، ومهارة خبراء البصمة الوراثية ، فالنتائج مع توفر هذه الضمانات قد تكون قطعية أو شبه قطعية الدلالة علي أن المتهم كان موجوداً في محل الجريمة . لكنها ظنية في كونه هو الفاعل حقيقة .
يقول أحد الأطباء : ( لقد ثبت أن استعمال الأسلوب العلمي الحديث بأعداد كثيرة من الصفات الوراثية كدلالات للبصمة الوراثية يسهل اتخاذ القرار بالإثبات أو النفي للأبوة والنسب والقرابة بالإضافة إلي مختلف القضايا الجنائية مثل: التعرف علي وجود القاتل أو السارق ، أو الزاني من عقب السيجارة ، حيث أن وجود أثر اللعاب أو وجود بقايا من بشرة الجاني أو شعرة من جسمه أو من مسحات من المني مأخوذة من جسد المرآة تشكل مادة خصبة لاكتشاف صاحب البصمة الوراثية من هذه الأجزاء . ونسب النجاح في الوصول إلي القرار الصحيح مطمئنة ، لأنه في حالة الشك يتم زيادة عدد الأحماض الأمينية ، ومن ثم زيادة عدد الصفات الوراثية ) ()
بناء علي ما ذكر عن حقيقة البصمة الوراثية ، فإن استخدامها في الوصول إلي معرفة الجاني ، والاستدلال بها كقرينة من القرائن المعينة علي اكتشاف المجرمين ، وإيقاع العقوبات المشروعة عليهم في غير الحدود والقصاص ، أمر ظاهر الصحة والجواز ، لدلالة الأدلة الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة علي الأخذ بالقرائن ، والحكم بموجبها ومشروعية استعمال الوسائل المتنوعة لاستخراج الحق ومعرفته كما سيأتي تفصيل ذلك .
والقول بجواز الأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي في غير قضايا الحدود والقصاص هو ما ذهب إليه الفقهاء في المجامع والندوات العلمية الشرعية التي تم بحث هذه المسألة فيها ، ولم أقف علي خلاف لأحد في حكم هذه المسألة ، حتى في البحوث المفردة لبعض الفقهاء ، فقد جاء في مشروع () قرار المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي ما نصه ( إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته (15) المنعقد في مكة المكرمة التي بدأت يوم السبت 9/7/1419 هـ الموافق 31/10/1998 م وقد نظر في موضوع البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها …… وبعد التدارس والمناقشات قرر المجلس ما يلي :
أولاً : البصمة الوراثية بمثابة دليل يمكن الاعتماد عليها في المجالات التالية :
في إثبات الجرائم التي لا يترتب عليها حد شرعي … الخ )
وجاء في توصية الندوة الفقهية حول الوراثة والهندسة الوراثية ما نصه ( البصمة الوراثية من الناحية العلمية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الو الدية البيولوجية ، والتحقق من الشخصية ، ولا سيما في مجال الطب الشرعي ، وهي ترقي إلي مستوي القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية ()
وإنما قيل بمشروعية الأخذ بالبصمة الوراثية كقرينة من القرائن التي يتدل بها علي المتهم في قضايا الجرائم المختلفة ، ولكن لا يثبت بموجبها حد ولا قصاص ، لأمرين :
أما الأول : فلأن الحد والقصاص لا يثبت إلا بشهادة أو إقرار ، دون غيرهما من وسائل الإثبات عند كثير من الفقهاء
وأما الثاني : فلأن الشارع يتشوف إلي درء الحد والقصاص ، لأنهما لا يُدرءان بأني شبه أو احتمال .
والشبه في البصمة الوراثية ظاهرة ، لأنها إنما تثبت بيقين هوية صاحب الأثر في محل الجريمة ، أو ما حوله ، لكنها مع ذلك تظل ظنية عند تعدد أصحاب البصمات علي الشيء الواحد أو وجود صاحب البصمة قدراً في مكان الجريمة قبل أو بعد وقوعها ، أو غير ذلك من أوجه الظن المحتملة ()
مستند الحكم الشرعي للأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي :
المستند الشرعي لجواز الأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي إنها وسيلة لغاية مشروعة ، وللوسائل حكم الغايات ، ولما في الأخذ بها في هذا المجال من تحقيق لمصالح كثيرة ، ودرء لمفاسد ظاهرة ، ومبني الشريعة كلها علي قاعدة الشرع الكبري ، وهي ( جلب المصالح ودرء المفاسد ) وأخذاً بما ذهب إليه جمهور الفقهاء من مشروعية العمل بالقرائن والحكم بمقتضاها ، والحاجة غلي الاستعانة بها علي إظهار الحق ، وبيانه بأي وسيلة قد تدل عليه ، أو قرينة قد تبينه ، استناداً للأدلة الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة الدالة علي ذلك وعملاً بما درج عليه الولاة والقضاة منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم ، ومن بعدهم في عصور الإسلام المختلفة إلي يومنا هذا من استظهار للحق بالقرائن ، والحكم بموجبها ، كما قال العلامة بن القيم رحمه الله ( ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادة تخالفها ولا إقراراً ، وقد صرح الفقهاء كلهم بأن الحاكم إذا ارتاب بالشهود فرقهم وسألهم كيف تحملوا الشهادة وأين تحملوها ؟ وذلك واجب عليه متي عدل عنه أثم وجار في الحكم ، وكذلك إذا ارتاب بالدعوى سال المدعي عن سبب الحق وأين كان ؟ ونظر في الحال هل يقتضي صحة ذلك ؟ وكذلك إذا ارتاب بمن القول قوله ، والمدعي عليه ، وجب عليه أن يستكشف الحال ويسأل عن القرائن التي تدل علي صورة الحال ، وقل حاكم أو وال اعتني بذلك وصار له فيه ملكة إلا وعرف المحق من المبطل ،وأصل الحقوق إلي أهلها ..) ()
وقال بن العربي : علي الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت فما ترجح منها قضي بجانب الترجيح ، وهو قوة التهمة ، ولا خلاف في الحكم بها وقد جاء العمل بها في مسائل اتفقت عليها الطوائف الأربعة ، وبعضها قال بها المالكية خاصة ) ()قد كان القضاة قديماً يستعينون بالقافة لمعرفة آثار أقدام المجرمين ثم مع التقدم العلمي أصبح الأخذ ببصمات الأصابع قرينة من أشهر القرائن في التعرف علي الجناة ، واكتشاف المجرمين ، وأضحي العمل بها شائعاً في بلاد الإسلام وغيرها () ولعله يحسن أن أسواق هنا بعض الأدلة من الكتاب والسنة وغيرها في الدلالة علي مشروعية العمل بالقرائن ، والحكم بمقتضاها فمن ذلك :
أولاً : من الكتاب :
قول الله عز وجل ) وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأي قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ( ()فاعتبر موضع قد القميص دليلاً علي صدق أحدهما ، وقد حكى الله سبحانه وتعالي هذه القصة مقرراً لها ()
ثانياً من السنة :
وقد ورد في هذا أحاديث كثيرة منها :
عن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلي قصرهم ، فغلب علي الزرع والأرض والنخل فصالحوه علي أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله صلى الله عليه و سلم الصفراء والبيضاء () وشرط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكاً () *فيه مال وحلي لحي بن أخطب ، كان أحتمله معه إلي خيبر حين أجليت بنوا النضير ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعم حيي بن أخطب : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ قال : أذهبته النفقات والحروب ، قال العهد قريب والمال أكثر من ذلك ، فدفعه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الزبير ، فمسه بعذاب فقال : قد رأيت حيياً يطوف في خربة هاهنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة ) ()
فقد أعتبر النبي صلى الله عليه و سلم قرينة المال ، وقصر المدة دليلاً علي كذبه في دعواه نفاذ المال فعززه بناء علي هذه القرينة ، فدل علي اعتبار القرائن في إثبات الحقوق إذا لو لم تكن دليلاً شرعياً لما أمر صلى الله عليه و سلم بضربه ، لأنه ظلم ، وهو عليه الصلاة والسلام منزه عنه ()
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ( أرادت الخروج إلي خيبر فأتيت رسول الله r فسلمت عليه وقلت له : أني أردت الخروج إلي خيبر فقال : إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإذا أبتغي منك آية فضع يدك علي ترقوته ) ()
فقد بين عليه الصلاة والسلام جواز الاعتماد علي القرينة في الدفع للطالب ، واعتبرها دليلاً علي صدقه كشهادة الشهود ()
ثالثاً : وردت آثار كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم من ولاة وقضاه تدل علي أخذهم بالقرائن وحكمهم بمقتضاها ، وقد ذكر العلامة بن القيم في كتابه ( الطرق الحكيمة ) ، وابن فرحون في ( تبصرة الحكام ) آثار كثيرة عن عدد من الصحابة والتابعين : كعمر ، وعلي ، وكعب بن سور ، وإياس ، وغيرهم من مشاهير الولاة والقضاة .
رابعاً : أن الاعتماد علي القرينة في الحكم أمر متقرر في الشرائع السابقة ، يدل علي ذلك ، ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( بينما امرأتان معهما أبناهما جاء الذئب ، فذهب بابن أحدهما ، فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بأبنك أنت ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك أنت فتحاكمتا إلي داود ن فقضي به للكبرى فخرجتا علي سليمان بن داود عليه السلام ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغري : لا ، يرحمك الله ، هو ابنها ، فقضي به للصغري ) () فقد استدل سليمان عليه السلام بعدم موافقة الصغري علي شقه علي أنها أمه ، وأن اعترافها بالولد للكبرى راجع إلي شدة شفقتها عليه ، فآثرت أن يحكم به لغيرها علي أن يصيبه سوء ، فحكم عليه السلام بالولد للصغرى بناء علي هذه القرينة الظاهرة ، وقدم تلك القرينة علي إقرارها ببنوته للكبرى لعلمه أنه إقرار غير صحيح فلو لم يكن الحكم بالقرائن مشروعاً لما حكم سليمان بذلك () . وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه .
فهذه بعض الأدلة الدالة علي جواز العمل بالقرائن وبناء الأحكام عليها ، وأن عدم الأخذ بالقرائن جملة يؤدي إلي إضاعة كثير من الحقوق ،وبالاستقراء يعلم أن بعض القرائن لا تقل قوة فبالدلالة علي الحق عن الشهادة والإقرار ، إن لم تكن أقوي منها .
وإذا كان العمل بالقرائن أمراً مشروعاً كما تدل عليه تلك الأدلة ، فإن التوسع في ذلك والاعتماد علي كل قرينة قد يؤدي إلي مجانبة الحق والبعد عن الصواب ، فيجب ألا يتعجل في الأخذ بالقرينة إلا بعد إمعان النظر وتقليب الأمر علي مختلف الوجوه ، إذ قد تبدوا القرائن قاطعة الدلالة لا يتطرق إليها احتمال ، فلا تلبث أن يتبين ضعفها ويتضح أنها بعيدة عما يراد الاستدلال بها عليه .
على أن الاحتياط في الأخذ بالقرائن ليس معناه أنها لا تعتبر إلا إذا كانت دلالتها قطعية ، لأن ذلك أمر يصعب تحققه ، فما من دليل إلا ويتطرق إليه الاحتمال ، وإنما مبنى الأمر علي الظن الغالب .
فإن أقوي الأدلة الشرعية الإقرار والشهادة ، وقد دلت بعضاً من الحوادث علي أن بعضاً من الإقرارات لا يكون مطابقاً للواقع ، لأنه صادر تحت تأثير الرغبة أو الرهبة ، أو عدم التصور الكامل للشيء المقر به . وأن بعضاً من الشهود قد يبدوا صدقهم فيما شهدوا به لاتصافهم بالعدالة الظاهرة ، ثم تسفر الحقيقة عن خلاف ذلك فليس ما يعتري القرينة من احتمال الضعف بأكثر ولا بأقوى مما يعتري الشهادة أو الإقرار ، ومن يتتبع المأثور عن قضاة السلف في مختلف العصور لا يساوره شك في أن الأخذ بالقرائن والعمل بمقتضاها في إثبات كثير من الحقوق أمر تدعو إليه الشريعة ، ويتفق مع غرض الشارع من إقامة العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلي أربابها ()وقد أوضح العلامة ابن القيم القول باعتبار القرائن وبناء الأحكام عليها أتم إيضاح وأسهب في الاستدلال لذلك بكثير من الآيات والأحاديث والآثار التي تدل علي اعتبار القرائن دليلاً من الأدلة الشرعية ، ثم قال : ( وبالجملة ، فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد ان ، إنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان ، مفردة ومجموعة . وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( البينة علي المدعي ) المراد به : أن عليه بيان ما يصحح دعواه ليحكم له ، والشاهدان من البينة ، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوي منها ، كدلالة الحال علي صدق المدعي فأنها أقوي من دلالة أخبار الشاهد ، والبينة ، والدلالة ، والحجة ، والبرهان ، والآية ، والتبصرة ،والعلامة/، والأمارة متقاربة في المعني ………. فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال بل من أستقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهداً لها بالاعتبار ، مرتباً عليها الأحكام ) ()
والواقع أن العمل بالقرائن أمر لا محيد عنه ، وقل أن تجد عالماً من العلماء أستطاع أن يتجنب الأخذ بالقرائن كلية ، وحتى الذين صرحوا بعدم قبولها كدليل صالح لبناء الأحكام عليها عملوا بها في كثير من المواضع ومن يستقري كتب الفقه الإسلامي يجد مسائل لا حصر لها أعتمد الفقهاء فيها علي قرائن الأحوال . ومن ذلك ما يأتي : أولاً : الإجماع علي جواز وطء الزوج لزوجته إذا زفت إليه ليلة الزواج وإن لم يعرف عينها ولم يشهد عنده شاهدان أنها زوجته اعتمادا علي القرينة الظاهرة .
ثانياً : قبول الشهادة علي القتل والحكم علي القاتل بالقصاص ، إذا قال الشهود : إن الجني قتل المجني عليه عمداً عدواناً ، مع أن العمدية صفة قائمة بالنفس لا يعلم بها إلا الله ، ومع ذلك قبلت الشهادة اعتماداً علي القرائن الظاهرة ، كاستخدام آلة تقتل غالباً وإتباع الجاني للمجني عليه ، وما أشبه ذلك مما أستوحي منه أن الجاني تعمد القتل
ثالثاً : الحكم علي التخنثي بأنه رجل أو امرأة علي الأمارات التي تدل علي ذلك
رابعاً : اعتبار سكوت البكر موافقة منها علي الزواج ، والسكوت ليس إلا قرينة علي رضاها
خامساً : قبول أيمان الأولياء في القسامة ، والحكم علي المتهم بالقوض أو الدية علي الخلاف في ذلك ، مع أن الأولياء لم يشاهدوا القتل ، وإنما اعتمدوا علي اللوث ، وهو ليس إلا قرينة تدل علي ارتكاب المدعي عليه للقتل .
سادساً : عدم قبول إقرار المريض مرض الموت لوارثه لاحتمال تهمة محاباة المقر له ، وهي قرينة ظاهرة . فهذه أمثلة علي بعض المسائل التي حكم الفقهاء فيها بالقرائن المجردة علي أي دليل آخر ، أو ردتها للدلالة علي ما ذكر من أن جمهور الفقهاء قد ذهبوا إلي القول بمشروعية الحكم بالقرائن ()
ولعله لهذا يتجلى مشروعية الأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي ذفي مختلف صوره وأنواعه كقرينة من أقوي القرائن التي يستدل بها علي معرفة الجناة ومرتكبي الجرائم ، لما ثبت بالتجارب العلمية المتكررة من ذوي الخبرة والاختصاص في أنحاء العالم من صحة نتائجها وثبوتها . مما يجعل القول بمشروعية الأخذ بها ، والحكم بمقتضي نتائجها – في غير قضايا الحدود والقصاص عند توفر الشروط والضوابط السابقة الذكر – () أمراً في غاية الظهور والوجاهة ومع ذلك فإن استثناء قضايا الحدود والقصاص هو من باب الاحتياط لهذه القضايا الخطيرة ، وأخذاً بما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم إثبات الحدود والقصاص إلا بالشهادة ، أو الإقرار دون غيرهما من وسائل الإثبات .
غير أنه يمكن القول بمشروعية الأخذ بالبصمة الوراثية أيضاً في قضايا الحدود والقصاص بناء علي ما ذهب إليه بعض الفقهاء من إثبات بعض الحدود والقصاص بالقرائن والأمارات الدالة علي موجبها وأن لم يثبت ذلك بالشهادة أو الإقرار ، ومن ذلك ما يأتي :
إثبات حد الزنا علي المرآة الحامل إذا لم تكن ذات زوج ولا سيد . ()
إثبات حد الزنا علي المرآة الملاعنة عند نكولها عن اللعان . ()
إثبات حد الخمر علي من وجد فيه رائحته أو تقيئه ، أو في حالة سكره ()
إثبات حد السرقة علي من وجد عنده المال المسروق ()
ثبوت القصاص علي من وجد وحده قائماً وفي يده سكين عند قتيل يتشحط في دمه . ()
فلو قيست البصمة الوراثية علي هذه المسائل التي أثبت بعض العلماء فيها الحد والقصاص من غير شهود ولا إقرار وإنما أخذاً بالقرينة وحكماً بها ، لم يكن الأخذ عندئذ بالبصمة الوراثية والحكم بمقتضاها في قضايا الحدود والقصاص بعيداً عن الحق ولا مجانباً للصواب فيما يظهر قياساً علي تلك المسائل ، لا سيما إذا حف بالقضية أو الحال من قرائن الأحوال ما يؤكد صحة النتائج قطعاً لدي الحاكم ، كمعرفته بأمانة ومهرة خبراء البصمة ، ودقة المعامل المخبرية ، وتطورها ، وتكرار التجارب سيما في أكثر من مختبر ، وعلي أيدي خبراء آخرين يطمئن الحاكم إلي أمانتهم ، وخبرتهم المميزة ، وغير ذلك من القرائن والأحوال التي تحمل الحاكم الشرعي إلي الاطمئنان إلي صحة النتائج ، وترجح ظهور الحق وبيانه عنده بالبصمة الوراثية ، إذ البينة ما أثرت عن وجه الحق وبينته بأي وسيلة .
قال العلامة بن القيم : ( فإذا ظهرت أمارات العدل ، وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ، والله سبحانه أعلم وأحكم ، وأعدل أن يخص طرق العدل وأمارته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أصغر منها وأقوي دلالة وأبين أمارة ، فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصودة إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة لهم ()
وإذا صح قياس البصمة الوراثية علي تلك المسائل ، وأنسحب عليها الخلاف الحاصل في تلك المسائل ، سوغ للحاكم عندئذ أن يحكم بأي القولين ترح عنده بحسب ما يحف بالقضية من قرائن قد تدعوه إلي إثبات الحد أو القصاص بها ، أو ضعف القرائن ، وتطرق الشك إليه في قضية أخري فيحمله ذلك علي الإحتياط والأخذ بما ذهب إليه الجمهور من عدم إثبات الحد والقصاص بمثل هذه القرائن ، فحكم الحاكم بأي قول من القولين يرفع الخلاف الحاصل ، كما هو إجماع العلماء ، ولا لوم علي القاضي في الحكم بأحدي القولين إذا تحري واجتهد في معرفة الحق ، ونظر في جميع القرائن والأحوال ثم حكم به بعد التأمل والنظر بل هذا هو الواجب والمتعين علي الحاكم .
قال العلامة بن القيم رحمه الله : ( والحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ، ودلائل الحال ومعرفة شواهده ، وفي القرائن الحالية والمقالية ، كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام ، أضاع حقوقاً كثيرة علي أصحابها ، وحكم بما يعلم الناس بطلانه ، ولا يشكون فيه اعتمادا منه علي نوع ظاهر لم يلتفت إلي باطنه وقرائن أحواله ، فهاهنا نوعان من الفقه لا بد للحاكم منهما : فقه في أحكام الحوادث الكلية ، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب ، والحق والمبطل ، ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ، ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع ) ()
ثم ذكر رحمه الله جملة من الأدلة الدالة علي الأخذ بالقرائن والحكم بمقتضاها ومن ذلك قوله : ( وقد حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه برجم المرآة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد . وذهب إليه مالك وأحمد في أصح روايته اعتماداً علي القرينة الظاهرة . وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما – ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة – بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل ، أو قيئه خمراً ، اعتماد علي القرينة الظاهرة .
ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسوق مع المتهم ، وهذه القرينة أقوي من البينة والإقرار ، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ، ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة ، وهل يشك أحد قتيلاً يتشحط في دمه ، وآخر قائم علي رأسه بالسكين أنه قتله ، ولا سيما إذا عرف بعداوته .
ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يميناً : أن ذلك الرجل قتله ، قم قال مالك وأحمد : يقتل به ، وقال الشافعي ، يقضي عليه بديته ، وكذلك إذا رأينا رجل مكشوف الرأس – وليس ذلك عادته – وآخر هارب قدامه بيده عمامة وعلي رأسه عمامة ، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعاً ، ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوي بكثير من البينة والاعتراف ، وهل القضاء النكول إلا رجوع إلي مجرد القرينة الظاهرة التي علمنا بها ظاهراً أنه لولا صدق المدعي لدف المدعي عليه دعواه باليمين ، فلما نكل عنها كان نكوله قرينة ظاهرة دالة علي صدق المدعي ، فقدمت علي أصل براءة الذمة وكثير من القرائن والأمارات أقوي من النكول ، والحس شاهد بذلك ، فكيف يسوغ تعطيل شهادتها .. ) () وإنما أكثرت من نقل كلام بن القيم رحمه الله لنفاسته وقوة حجته ، وطهور استدلالاته .
الخــاتمــــة
الحمد لله و كفى و الصلاة و السلام على النبي المصطفى محمد بن عبد الله و على آله و صحبه أجمعين ومن ولاه و بعد: فقد توصلت بفضل الله وتوفيقه من خلال هذا البحث إلى نتائج وأحكام فقهية كثيرة من أهمها ما يأتي :
أولاً : أن البصمة الوراثية هي البنية الجينية التفصيلية التي تدل عند ذوي الاختصاص علي هوية كل فرد بعينه ، وهي من الناحية العلمية وسيلة لا تكاد تخطيء في التحقق من الوالدية البيولجية والتحقق من الشخصية .
ثانياً : أن الطرق الشرعية لإثبات النسب خمسة ، واتفق العلماء علي ثلاثة منها وهي : الفراش ، والبينة ، والاستلحاق . أما الطريق الرابع وهي القيافة فبها قال جمهور العلماء ما عدا الحنفية ، أما الطريق الخامس وهي القرعة فبها قال بعض العلماء من مختلف المذاهب حسماً للنزاع عند تعدد المدعين للنسب .
ثالثاً : أن الطريق الشرعي لنفي النسب هو اللعان فقط بشروطه المعتبرة .
رابعاً : أنه لا يجوز نفي النسب الثابت شرعاً عن طريق البصمة الوراثية ولا غيرها بأي وسيلة من الوسائل ، ولكن يجوز الاستعانة بالبصمة الوراثية كقرينة من القرائن التي قد تؤيد الزوج في طلبه اللعان أو قد تدل علي خلاف قوله ، فربما مدعاة لعدوله عن اللعان .
خامساً : أن القول بجواز إحلال البصمة الوراثية محل اللعان في نفي النسب قول باطل ومردود ، لما فيه من المصادمة للنصوص الشرعية الثابتة ، ومخالفة ما أجمعت عليه الأمة .
سادساً : أن البصمة الوراثية تعتبر طريقاً من طرق إثبات النسب الشرعي قياساً أولوياً علي القيافة فيؤخذ بها في جميع الحالات التي يجوز الحكم فيها بالقيافة بعد توفر الشروط والضوابط المعتبرة في خبير البصمة ، وفي معامل الفحص الوراثي .
سابعاً : أنه لا يجوز استخدام البصمة الوراثية لغرض التأكد من صحة الأنساب الثابتة ، لما قد يترتب عليه من سوء العشرة الزوجية وسوء العلاقات الاجتماعية ، وغير ذلك من مفاسد كثيرة
ثامناً : أنه يجوز الاعتماد علي البصمة الوراثية في المجال الجنائي كقرينة من القرائن التي يستدل بها علي معرفة الجناة وإيقاع العقوبات المشروعة عليهم ، ولكن في غير قضايا الحدود والقصاص .
تاسعاً : يجب علي الدول الإسلامية منع استخدام البصمة الوراثية إلا بطلب من الجهات القضائية لأغراض مشروعة ، ومنع ما عدا ذلك وإيقاع العقوبات الرادعة علي المخالفين حماية لأعراض الناس وأنسابهم ، ودرء للمفاسد المترتبة علي ذلك .
وبهذا انتهي ما قصدت جمعه ، وما أردت بيانه من حكم في هذه النازلة الهامة ، فما كان فيه من حق وصواب فذلك من فضل الله وتوفيقه وما كان سوي ذلك فمني ، وأستغفر الله وأتوب إليه من زلة قلم ، أو نبو فهم ، وحسبي أني لم أدخر وسعاً في الوصول إلى الحق وبيانه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
قائمة المراجع
القرآن الكريم
إثبات النسب بالبصمة الوراثية
تأليف : الدكتور /محمد الأشقر . ضمن ثبت أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني – رؤية إسلامية . الكويت : المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421هـ -2000 م
إثبات النسب بالبصمة الوراثية .
تأليف : الشيخ / محمد المختار السلامي .
ضمن ثبت كامل أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني رؤية إسلامية– الكويت : المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421هـ -2000 م
الإحسان بترتيب ابن حبان
تأليف : الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي . بيروت : دار الفكر ، 1407 هـ – 1987 م الطبعة الأولى
الأحوال الشخصية .
تأليف : عبد العزيز عامر القاهرة : دار الفكر العربي ، 1396 هـ -1976 الطبعة الثانية .
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل .
تأليف : محمد ناصر الدين الألباني . إشراف : محمد زهير الشاويش . الطبعة الأولى
بيروت – دمشق : المكتب الإسلامي .
الاستنساخ بين العلم والدين .
تأليف : الدكتور / عبد الهادي مصباح . بيروت : الدار المصرية اللبنانية 1419 هـ – 1999 م الطبعة الثانية
أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه الإمام مالك
تأليف : أبي بكر بن حسن الكشناوي . بيروت : دار الفكر
الإفصاح عن معني الصحاح . تأليف : يحي بن محمد بن هبيرة .
الرياض : المؤسسة السعيدية .
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل
تأليف شرف الدين موسي الحجاوي المقدسي تصحيح وتعليق : عبد اللطيف محمد السبكي . مصر : المكتبة التجارية الكبري
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف علي مذهب الإمام أحمد بن حنبل
تأليف : علي بن سليمان المرداوي . صححه وحققه : محمد حامد الفقي . القاهرة : مطبعة السنة المحمدية ، 1376 هـ / 1957 م الطبعة الأولى.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق .
تأليف : زين الدين بن نجيم الحنفي . بيروت : دار المعرفة للطباعة والنشر الطبعة الثانية .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع .
تأليف :علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني بيروت :دار الكتاب العربي ، 1402هـ /1982 م الطبعة الثانية .
بداية المجتهد ونهاية المقتصد .
تأليف :أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد. راجعه وصححه : عبد الحليم محمد عبد الحليم ، وعبد الرحمن حسن محمود . القاهرة : مطبعة حسان .
البصمة الجينية وأثرها وأثرها في إثبات النسب
تأليف الدكتور : حسن الشاذلي .
ضمن ثبت كامل أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشرى والعلاج الجيني – رؤية إسلامية . الكويت : المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421 هـ -2000 م
البصمة الوراثية ومدي حجيتها في إثبات البنوة .
تأليف : الدكتور / سفيان العسولي ضمن ثبت كامل أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني – رؤية إسلامية . الكويت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421 هـ – 2000 م .
البصمة الوراثية وتأثيرها علي النسب إثباتاً أو نفياً .
تأليف : الدكتور / نجم عبد الله عبد الواحد بحث مقدم للمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته (15) عام 1419 هـ .
بعض النظرات الفقهية في البصمة الوراثية وتأثيرها علي النسب .
تأليف : الدكتور / محمد عابد باخصمة . بحث مقدم للمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته (15) عام 1419 هـ .
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام .
تأليف : إبراهيم بن الإمام شمس الدين بن فرحون . مصر : المطبعة العامرة الشرفية عام 1301 هـ – الطبعة الأولي – تصوير بيروت ، دار الكتب .
التعريفات .
تأليف : علي بن محمد بن علي الجرجاني . تونس : الدار التونسية للنشر عام 1971 م
ثبوت النسب .
تأليف ياسين بن ناصر الخطيب . جدة : دار البيان العربي ، 1407 هـ – 1987 م – الطبعة الأولى .
حاشية البقري علي شرح الرحبية .
تأليف : محمد بن عمر البقري الشافعي . دمشق : دار القلم ، 1406 هـ – 1986 م ، الطبعة الثالثة .
دور البصمة الوراثية في اختبارات الأبوة .
تأليف : الدكتورة / صديقة العوضي والدكتور رزق النجار . ضمن ثبت كامل أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني – رؤية إسلامية الكويت : المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – 1421هـ – 2000 م
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة .
تأليف : محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي . عني بطبعه : عبد الله إبراهيم الأنصاري . قطر : مطابع قطر الوطنية ، 1401 هـ /1981 م
رد المحتار علي الدر المختار ( حاشية ابن عابدين )
تأليف : أمين الشهير بأبن عابدين مصر : مكتبة ومطبعة مصطفي البابي الحلبي 1386 هـ – 1966 م الطبعة الثانية .
روضة الطالبين .
تأليف : يحيى بن شرف النووي تحقيق : عادل عبد الموجود ،وعلي معوض بيروت : دار الكتب العلمية 1412هـ -1992 م الطبعة الأولى .
روضة القضاة وطريق النجاة
تأليف : أبي القاسم علي بن محمد بن أحمد الرحبي السمناني . تحقيق : صلاح الدين الناهي . بيروت : مؤسسة الرسالة ، عمان : دار الفرقان .
زاد المعاد في هدي خير العباد .
تأليف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية . تحقيق : شعيب الأرناؤوط ، وعبد القادر الأرناؤوط . بيروت : مؤسسة الرسالة ، 1405هـ – 1985 م – الطبعة السابعة
سنن أبي داود .
تأليف : سليمان بن الأشعث السجستاني . مراجعة : محمد محيى الدين عبد الحميد . مكة : دار الباز للنشر والتوزيع .
سنن النسائي ( بشرح السيوطي وحاشية السندي )
. تأليف : أحمد بن شعيب النسائي بيروت : المكتبة العلمية .
السنن الكبرى .
تأليف : أحمد بن الحسين البيهقي . حيدر أباد الدكن – الهند : مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية الطبعة الأولي .
شرح الخرشي علي مختصر خليل .
تأليف : أبي عبد الله محمد الخرشي بيروت : دار صادر .
شرح الزرقاني علي مختصر خليل .
تأليف عبد الباقي الزرقاني . بيروت دار الفكر ، 1398 هـ ، 1978 م .
شرح معاني الآثار .
تأليف : أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي
بيروت : دار الكتب
شرح منتهي الإرادات .
العلمية ، 1399هـ – 1979- الطبعة الأولى تأليف : منصور بن يونس البهوتي .
بيروت : دار الفكر
صحيح البخاري ( مع حاشية السندي )
تأليف : محمد بن إسماعيل البخاري . مصر : مطبعة دار إحياء الكتب العربية .
صحيح مسلم .
تأليف : مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري . بيروت : دار المعرفة للطباعة والنشر .
الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية .
تأليف : شمس الدين محمد بن قيم الجوزية مصر : مطبعة الآداب والمؤيد ، 1317 هـ ، – الطبعة الأولى .
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
تأليف : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني . تصحيح وتحقيق : عبد العزيز بن عبد الله بن باز . القاهرة : المطبعة السلفية ومكتبتها .
الفقه الإسلامي وأدلته .
تأليف : وهبة الزحيلي . دمشق : دار الفكر ، 1404 هـ – 1984 م – الطبعة الأولى.
القاموس المحيط .
تأليف : مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي . مصر : المكتبة التجارية الكبري لصاحبها مصطفي محمد .
الكافي في فقه أهل المدينة
تأليف : يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي . تحقيق : محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني الرياض : مكتبة الرياض الحديثة ، 1398 هـ – 1978 م .
الكافي في فقه الأمام أحمد بن حنبل
تأليف : عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي . بيروت : المكتب الإسلامي ، 1399هـ – 1979 م . – الطبعة الثانية
كشاف القناع عن متن الإقناع .
تأليف : منصور بن يونس البهوتي . القاهرة : مطبعة أنصار السنة المحمدية ، 1366هـ / 1947 م .
لسان العرب .
تأليف : جمال الدين محمد بن عبد الله بن مكرم ابن منظور . بيروت : دار صادر.
المبدع في شرح المقنع .
تأليف : إبراهيم بن محمد بن عبد الله مفلح . بيروت : المكتب الإسلامي
المبسوط .
تأليف : شمس الدين أبي بكر محمد بن أحمد السرخسي . بيروت : دار المعرفة للطباعة والنشر – الطبعة الثانية .
محاضرات عن البصمات .
تأليف : محمد أحمد البار ، وأحمد إبراهيم الشبانة . الرياض : مطابع الأمن العام .
المحلى .
تأليف : أبي محمد علي بن أحمد بن حزم بيروت : دار الفكر .
المدونة الكبرى .
تأليف : الإمام مالك بن أنس رواية سحنون بن سعيد التنوخي عن عبد الرحمن بن قاسم
مصر : مطبعة السعادة ، 1323 هـ – تصوير : بيروت – دار صادر
المستدرك علي الصحيحين .
تأليف : أبي عبد الله الحاكم النيسابوري . حلب : مكتبة المطبوعات الإسلامية .
المصباح المنير .
تأليف : أحمد بن محمد بن علي الفيومي . بيروت المكتبة العليمة .
معالم السنن ( مع مختصر سنن أبي داود ) .
تأليف : أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي تحقيق : محمد حامد الفقي . القاهرة : مطبعة السنة المحمدية .
المعجم الوسيط .
تأليف : إبراهيم أنيس ،وزملائه
قطر : مطابع قطر الوطنية ، 1985 م ، نشر : غدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة
معونة أولي النهي شرح المنتهى .
تأليف : محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي . تحقيق : د. عبد الملك بن دهيش . بيروت : دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع ، 1419 هـ – ذ998 م – الطبعة الثانية .
معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام .
تأليف : علاء الدين أبي الحسين علي بن خليل الطرابلسي الحنفي . مصر : مطبعة مصطفي البابي الحلبي ، 1393 هـ – 1973 م – الطبعة الثانية .
المغني .
تأليف : عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي . الرياض : مكتبة الرياض الحديثة .
مغني المحتاج إلي معرفة معاني ألفاظ المنهاج .
تأليف : محمد الشربيني الخطيب . بيروت :دار إحياء التراث العربي .
المفردات في في غريب القرآن .
تأليف :أبي القاسم الحسن بن محمد الأصفهاني . تحقيق وضبط :محمد سيد كيلاني ، بيروت :دار المعرفة .
المقنع والشرح الكبيروالإنصاف .
تأليف : موفق الدين بن قدامة ، وعبد الرحمن بن قدامة ، وعلي بن سليمان المرداوي . تحقيق : د. عبد الله التركي ، د. عبد الفتاح الحلو . القاهرة : دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع ، 1414 هـ – 1993 م الطبعة الأولى
المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل .
تأليف : عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي . القاهرة : المطبعة السلفية ومكتبتها .
ملخص أعمال الحلقة النقاشية حول حجية البصمة الوراثية .
الكويت : المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ، 2000 م .
مناقشات جلسة المجمع الفقهي عن البصمة الوراثية وتأثيرها علي النسب إثباتاً ونفياً في دورته (15) المنعقدة في شهر رجب 1419 هـ
المنتقى شرح الموطأ .
تأليف : أبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي . بيروت : دار الفكر العربي .
المهذب في فقه الإمام الشافعي .
تأليف : إبراهيم بن علي الشيرازي بيروت : دار المعرفة للطباعة والنشر . مصور عن الطبعة الثانية 1379هـ /1959 م
موجز أعمال الندوة الفقهية الحادية عشر .
( الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني – رؤية إسلامية ) . الكويت : المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ، 2000 م
موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي . تأليف : سعدي أبو حبيب .
بيروت : دار العربية للطباعة والنشر .
الموسوعة العربية العالمية .
الرياض : مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولي .
الموسوعة الفقهية .
الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية . الكويت : طباعة ذات السلاسل ، الطبعة الثانية .
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود .
تأليف : د. عبد الله الركبان بيروت : مؤسسة الرسالة ، 1401 هـ – 1981 م ، الطبعة الأولى .
النهاية في غريب الحديث .
تأليف : مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري . تحقيق : طاهر الزواوي ، ومحمود الطناحي .
نهاية المحتاج إلي شرح المنهاج .
تأليف : محمد بن أبي عباس الرملي الناشر : المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ .
الهداية شرح بداية المبتدي .
تأليف : برهان الدين بن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني . مصر : مكتبة ومطبعة مصطفي البابي الحلبي .
………………………………………….. …………………………..
Le site d’orientation des bacheliers est actuellement
fermé pour maintenance. l’ouverture le 06 juillet 2022
ارييد بحث حول
مناخ الاستثمار الملائم وشروط الاستقطاب حالة الجزائر
مع المراجع
وشكرا مسبقا
http://www.ouarsenis.com/vb/showthread.php?t=22454 تصفحي هذا الرابط قد تجدين ما يفيدك