حسن الظن .. , والغرور
قال : الإمام ابن القيم رحمه الله في (الداء والدواء) :
((….، إتكال بعضهم على قوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه : (أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) يعني ما كان في ظنه فأنا فاعله به ، ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان ، فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته .
وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه ، وهذا موجود في الشاهد ، فإن العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به، ولا يُجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبداً ، فان المسيء مُستوحشٌ بقدر إساءته ، وأحسن الناس ظنا بربه أطوَعهم له ، كما قال الحسن البصري : " إن المؤمن أحسن الظن بربه فاحسن العمل وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل" .
فكيف يكون يحسن الظن بربه من هو شارد عنه حال مرتحل في مساخطه وما يغضبه ! ، متعرض للعنته قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه ، وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه ، وكيف يحسن الظن به من بارزه بالمحاربة وعادى أولياءه ووالى أعداءه وجحد صفات الله ، وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفته به رسله ، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟!
وكيف يُحسن الظن به من يَظُن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب ، وقد قال الله في حق من شك في تعلق سمعه ببعض الجزئيات وهو السر من القول :
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) (فصلت : 23 )، فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرا مما يعملون ، كان هذا إساءة لظنهم بربهم فأرداهم ذلك الظن ، وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله ووصفه بما لا يليق به ، فإذا ظن هذا أنه يُدخله الجنة كان هذا غرورا وخداعا من نفسه وتسويلا من الشيطان لا إحسان ظَنٍّ بربه ..
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) (فصلت : 23 )، فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرا مما يعملون ، كان هذا إساءة لظنهم بربهم فأرداهم ذلك الظن ، وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله ووصفه بما لا يليق به ، فإذا ظن هذا أنه يُدخله الجنة كان هذا غرورا وخداعا من نفسه وتسويلا من الشيطان لا إحسان ظَنٍّ بربه ..
فتأمل هذا الموضوع وتأمّل شدَّة الحاجة إليه ، وكيف يجتمع في قلب العبد فيوقنه بأنه ملاقي الله ، وأن الله يسمع ويري مكانه ويعلم سره وعلانيته ، ولا يخفى عليه خافية من أمره وأنه موقوف بين يديه ، ومسئول عن كل ما عمل وهو مع ذلك مقيم على مساخطه مضيع لأوامره مُعطِّل لحقوقه وهو مع هذا يُحسن الظن به ، و هل هذا إلا من خداع النفوس وغرور الأماني ، أوقد قال أبو اُمامة بن سهل بن حنيف دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة رضي الله عنها فقالت: " لو رأيتما رسول الله في مرض له وكانت عندي ستة دنانير أو سبعة فأمرني رسول الله أن أفرقها قالت فشغلني وجع رسول الله حتى عافاه الله ثم سألني عنها فقال : (ما فعلت أكنت فرقت الستة الدنانير) فقلت : لا والله لقد شغلني وجعك قالت : فدعا بها فوضعها في كفه فقال: (ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده) وفي لفظ: (ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده) ( رواه أحمد)
فيا لله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد عندهم ، فإن كان ينفعهم قولهم حسَّنَّا ظنوننا بك لم يعذب ظالم ولا فاسق فليصنع العبد ما شاء ، وليرتكب كل ما نهاه الله عنه وليحسِّن ظنه بالله فإن النار لا تمسه ، فسبحان الله ما يبلغ الغرور بالعبد ..
وقد قال إبراهيم لقومه: (أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات: 86 -87) أي: ما ظنكم أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره..
ومن تأمَّل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه ، فإن العبد إنما يَحمِله على حُسن العمل ظنه بربه أن يُجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه فالذي حمله على العمل حسن الظن فكلما حَسُن ظنه حسن عمله وإلا فحسن الظن مع ابتاع الهوى عجز ..
جاء في الترمذي والمسند من حديث شداد ابن أوس عن النبي : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) ، وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة ..
وإنما لا يتأتي حُسن الظن! مع انعقاد أسباب الهلاك ، فان قيل بل يتأتى ذلك! فيكون مستند حسن الظن سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وأن رحمته سبقت غضبه وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو، قيل : الأمر هكذا والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم، ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به، فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش وعقوبة من يستحق العقوبة ، فلو كان مُعَوَّل حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه، لاشترك في ذلك البر والفاجر والمؤمن والكافر ووليه وعدوه، فما ينفع المجرم أأسماؤه وصفاته ، وقد باء بسخطه وغضبه وتعرَّض للعنته ووقع في محارمه وانتهك حرماته؟!
بل حُسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع وبدل السيئة بالحسنة
واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم أحسن الظن
فهذا حسن ظن .. , والأول غرور
ربي حسن خلقنا بالإيمان واجعل حسن الظن بابا نفتحه كلما دخلنا لعبادتك لتدعنا نصاب بالغرور إذا نجحنا وعلمنا أن الحمد هو أول مراتب الشكر .
دمتم سالمين .