يعد المنهج التجريبي من أقرب المناهج إلى الطريقة العلمية الصحيحة والموضوعية واليقينية في البحث عن الحقيقة واكتشافها وتفسيرها والتنبؤ بها والتحكم فيها.
ـ معنى المنهج التجريبي:
هناك عدة محاولات لتحديد ماهية ومعنى المنهج التجريبي, منها التي تسعى إلى تعريف المنهج التجريبي بأنه: " المنهج المستخدم حين نبدأ من وقائع خارجة عن العقل, سواء أكانت خارجة عن النفس إطلاقا, أو باطنة فيها كذلك كما في حالة الاستبطان, لكي نصف هذه الظاهرة الخارجة عن العقل ونفسرها. ولتفسيرها نهيب دائما بالتجربة, ولا نعتمد على مبادئ الفكر وقواعد المنطق وحدها."( )
كما حاول البحث أن يحدد معناه من خلال تحديد معنى التجربة أو التجريب, التي هي إحدى مراحل وعناصر المنهج التجريبي, ومنها:
" إن التجريب ما هو إلا ملاحظة تحت ظروف محكومة عن طريق اختيار بعض الحالات أو عن طريق تطويع بعض العوامل."( )
ومنها: " التجربة … هي ملاحظة مقصودة تحت ظروف محكومة, يقوم بها الباحث لاختبار الفرض للحصول على العلاقات السببية."( )
فمضمون المنهج التجريبي, يتمثل في الاعتماد على الملاحظة والتجربة, وهو لذلك استقرائي اختباري مع تدخل العقل بسلسلة من عملية الاستنباط المنطقي تنتهي بالارتقاء بنتائج عدد محدد من الحالات إلى قانون مفسر لشتى حالات الواقع, وذلك إلى ما لانهاية.
يتكون المنهج التجريبي من عناصر ومراحل:
ـ المشاهدة أو الملاحظة العلمية ـ الفروض ـ التجربة.
ويختلف المنهج التجريبي عن بقية المناهج العلمية الأخرى, خاصة المنهج الاستدلالي, من حيث كون المنهج التجريبي سلوك علمي وموضوعي وعملي خارجي.
والمنهج التجريبي موضوعه الظواهر والوقائع الخارجية, بينما موضوع المنهج الاستدلالي هو المخلوقات العقلية الداخلية.
مقومات وعناصر المنهج التجريبي:
يتألف المنهج التجريبي من ثلاثة مقومات وعناصر أساسية هي:
1 ـ الملاحظـة:
وهي الخطوة الأولى في البحث العلمي وهي من أهم عناصر البحث التجريبي, وأكثرها أهمية وحيوية, لأنها المحرك الأساسي لبقية عناصر المنهج التجريبي, حيث أن الملاحظة هي التي تقود إلى وضع الفرضيات وحتمية إجراء عملية التجريب على الفرضيات, لاستخراج القوانين والنظريات العلمية التي تفسر الظواهر والوقائع.
والملاحظة أو المشاهدة في معناها العام والواسع: هي الانتباه العفوي إلى حادثة أو واقعة أو ظاهرة أو أمر ما, دون قصد أو سابق إصرار وتعمد.( )
أما الملاحظة العلمية فهي: المشاهدة الحسية المقصودة والمنظمة والدقيقة للحوادث والأمور والظواهر, بغية اكتشاف أسبابها وقوانينها ونظرياتها, عن طريق القيام بعملية النظر في هذه الأشياء والأمور والوقائع, وتعريفها وتوصيفها وتصنيفها في أسر وفصائل, وذلك قبل تحريك عمليتي وضع الفرضيات والتجريب( ).
شروط الملاحظة العلمية:
ـ يجب أن تكون الملاحظة كاملة, فيجب أن يلاحظ الباحث كافة العوامل والأسباب والوقائع والظواهر والأشياء المؤثرة في وجود الظاهرة, أو المتصلة بها. وأن إغفال أي عامل من العوامل له صلة بالواقعة أو الظاهرة, يؤدي إلى عدم المعرفة الكاملة والشاملة للظاهرة, ويؤدي إلى وقوع أخطاء في بقية مراحل المنهج التجريبي.
ـ يجب أن تكون الملاحظة العلمية نزيهة وموضوعية ومجردة, أي يجب ألا تتأثر بأشياء وأحاسيس وفرضيات سابقة على عملية الملاحظة.
ـ يجب أن تكون منظمة ومضبوطة ودقيقة, أي يجب على العالم الباحث أن يستخدم الذكاء والدقة العلمية, وأن يستعمل وسائل القياس والتسجيل والوزن والملاحظة العلمية التكنولوجية في ملاحظته.
ـ يجب أن يكون العالم الباحث مؤهلا وقادرا على الملاحظة, أن يكون ذكيا متخصصا, عالما في ميدانه, سليم الحواس, هادئ الطبع سليم الأعصاب, مرتاح النفس قادرا على التركيز والانتباه.
2 ـ الفرضيات العلمية:Hypotheses
تعتبر الفرضية العنصر الثاني واللاحق لعنصر الملاحظة العلمية في المنهج التجريبي, وهي عنصر تحليل.
والفرضية في اللغة تعني التخمين أو الاستنتاج, أو افتراض ذكي في إمكانية تحقق واقعة أو شيء ما أو عدم تحققه وصحته.
أما مفهومها في الاصطلاح فهو: " تفسير مؤقت لوقائع وظواهر معينة, لا يزال بمعزل عن امتحان الوقائع, حتى إذا ما امتحن في الوقائع, أصبحت بعد ذلك فرضيات زائفة يجب العدول عنها إلى غيرها من الفرضيات الأخرى, أو صارت قانونا يفسر مجرى الظواهر."( )
أو أن الفرضية هي: " تخمين ذكي أو استنتاج ذكي, يصوغه الباحث ويتبناه مؤقتا, لشرح بعض ما يلاحظه من الظواهر الحقائق, وليكون هذا الفرض كمرشد له في البحث والدراسة التي يقوم بها."
وتتميز الفرضية بذلك عن غيرها من المصطلحات العلمية الأخرى مثل: النظرية, القانون, المفهوم, الإيديولوجية.
ـ ونستطيع تعريف النظرية بأنها: كل مجموعة من فروض منسجمة فيما بينها, ثبتت صحتها عن طريق التدليل العقلي فهي لذلك" نظرية فلسفية ", أو عن طريق التجريب فهي" نظرية علمية ".
فتختلف بذلك الفرضية عن النظرية, في الدرجة وليس في النوع.
الفرضية تفسير وتخمين مؤقت وغير نهائي.
والنظرية تفسير وتفسير ثابت ونهائي نسبيا.
وأصل النظرية أنها فرضية أجريت عليها اختبارات وتجارب فأصبحت نظرية.
ـ أما القانون فهو النظام أو العلاقة الثابتة وغير المتحولة بين ظاهرتين أو أكثر.
ـ أما المفهوم فهو: مجموعة من الرموز والدلالات التي يستعين بها الفرد لتوصيل ما يريده من معاني إلى غيره من الناس, ويشترط في المفهوم ربطه بالتعريفات الأخرى المتصلة به, كما يشترط فيه الدقة والوضوح والعمومية.
أو نستطيع القول أنه: التمثل العقلي لطائفة من المحسوسات من ثنايا خواصها الرئيسة المشتركة, فنقول " إنسان" مثلا ونعني به كمفهوم التعبير العام المطلق عن كل حالات أو أفراد الحيوان المفكر الناطق, فهو انتقال من المحسوس إلى التجريد.
أما الإيديولوجية: في مجموعة النظريات والقيم والمفاهيم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية العامة المتناسقة, المترابطة, المتكاملة والمتداخلة في تركيب وتكوين كيان عقائدي كلي وعام. وتستند إلى أسس ومفاهيم السمو والقداسة في سيادتها على المجتمع.
قيمة الفرضية وأهميتها العلمية:
تؤدي الفرضيات دورا هاما وحيويا في استخراج النظريات والقوانين والتفسيرات العلمية للظواهر, وهي تنبئ عن عقل خلاق وخيال مبدع وبعد نظر. كما تظهر أهميتها أيضا في تسلسل وربط عملية سير المنهج التجريبي من مرحلة الملاحظة العلمية, إلى مرحلة التجريب واستخراج القوانين, واستنباط النظريات العلمية.
وقيمة الفرضيات لم يعترف بها إلا في بداية القرن التاسع عشر, حيث عارض العلماء قبل ذلك وضع الفرضيات وحذروا منها, وهو ما فعله كل من كلود برنارد وبيكون.
شروط صحة الفرضيات العلمية:
ـ يجب أن تبدأ الفرضيات من ملاحظات علمية, أي تبدأ من وقائع محسوسة مشاهدة, وليس من تأثير الخيال الجامح, وهذا حتى تكون الفرضيات أكثر واقعية,
ـ يجب أن تكون الفرضيات قابلة للتجريب والاختبار والتحقق.
ـ يجب أن تكون خالية من التناقض للوقائع والظواهر المعروفة.
ـ يجب أن تكون شاملة ومترابطة, أي يجب أن تكون معتمدة على كل الجزئيات والخصوصيات المتوفرة, وعلى التناسق مع النظريات السابقة.
ـ يجب أن تكون الفرضيات متعددة ومتنوعة للواقعة الواحدة.
3 ـ عملية التجريب:
بعد عملية إنشاء الفرضيات العلمية, تأتي عملية التجريب على الفرضيات, لإثبات مدى سلامتها وصحتها, عن طريق استبعاد الفرضيات التي يثبت يقينا عدم صحتها وعدم صلاحيتها لتفسير الظواهر والوقائع علميا, واثبات صحة الفرضيات العلمية بواسطة إجراء عملية التجريب في أحوال وظروف وأوضاع متغايرة ومختلفة, والإطالة والتنوع في التجريب على ذات الفرضيات.
وإذا ما ثبتت صحة الفرضيات علميا ويقينيا, تتحول إلى قواعد ثابتة وعامة, ونظريات علمية تكشف وتفسر وتتنبأ بالوقائع والظواهر.( )
تطبيقات المنهج التجريبي في ميدان العلوم القانونية والإدارية:
لقد أصبحت العلوم الاجتماعية والعلوم القانونية ـ مع بداية القرن الثامن عشرـ ميدانا أصيلا لأعمال وتطبيق المنهج التجريبي في البحوث والدراسات الاجتماعية والقانونية, حيث بدأت عملية ازدهار ونضوج النزعة العقلية العلمية الموضوعية ـ التجريبية, تسود حقول العلوم الاجتماعية بصفة عامة والعلوم القانونية بصفة خاصة, على حساب النزعة العقلية الفلسفية التأملية الميتافيزيقية التي أصبحت تتناقض مع الروح والنزعة العلمية الناشئة.
فهكذا طبق المنهج التجريبي في دراسة العديد من الظواهر الاجتماعية والقانونية والإدارية, مثل البحوث والدراسات المتعلقة بظاهرة علاقة القانون بالحياة الاجتماعية, وعلاقة القانون بمبدأ تقسيم العمل الاجتماعي, وتلك المتعلقة بعلاقة ظاهرة القانون بالبيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية, وكذا البحوث المتعلقة بظاهرة الجريمة وفلسفة التجريم والعقاب, والدراسات الخاصة بإصلاح وخلق السياسات التشريعية والقضائية موضوعيا وإجرائيا.
وقد ازدهرت استخدامات المنهج التجريبي في مجال العلوم الجنائية والقانون الجنائي, عندما تمََّ اكتشاف حتمية العلاقة بين العلوم الجنائية وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع القانوني, وعلم الطب النفسي, وبعد سيادة المدارس الجنائية العلمية التجريبية.
ومن أشهر التطبيقات الحديثة للمنهج التجريبي في مجال العلوم القانونية والإدارية, الدراسات التي قامت بها بولندا عام 1960 لإصلاح نظامها القضائي وقانون الإجراءات والمرافعات. والدراسة التي قـام بها الأستاذ " مور بيرجر" حول ظاهرة البيروقراطية والمجتمع في مصر الحديثة عام 53 ـ 1954.( )
وأكثر فروع العلوم القانونية والعلوم الإدارية قابلية وتطبيقا للمنهج التجريبي, في الوقت الحاضر القانون الجنائي والعلوم الجنائية, والقانون الإداري, نظرا لطبيعتها الخاصة من حيث كونها أكثر فروع العلوم القانونية والإدارية واقعية وعلمية وتطبيقية واجتماعية ووظيفية. فهذه الفروع تتميز بأنها أكثر العلوم القانونية والاجتماعية حيوية وحركية وتغيرا والتصاقا بالواقع المحسوس والمتحرك والمتداخل والمعقد السريع التطور.