القلب السليم
لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة فالقلب الصحيح : هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به كما قال تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ الشعراء : 88 ] والسليم هو السالم وجاء على هذا المثال لأنه للصفات كالطويل والقصير والظريف فالسليم القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا فإنه ضد المريض والسقيم والعليل وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم والأمر الجامع لذلك : أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده فالقلب السليم : هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما بل قد خلصت عبوديته لله تعالى : إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء وخلص عمله لله .
القلب الميت
والقلب الثاني : ضد هذا وهو القلب الميت الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه بل هو واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط فهو متعبد لغير الله : حبا وخوفا ورجاء ورضا وسخطا وتعظيما وذلا إن أحب أحب لهواه وإن أبغض أبغض لهواه وإن أعطى أعطى لهواه وإن منع منع لهواه فهواه ا ثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور ينادى إلى الله وإلى الدار الا خرة من مكان بعيد ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد الدنيا تسخطه وترضيه والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه فهو في الدنيا كما قيل في ليلى :
عدو لمن عادت وسلم لأهلها
ومن قربت ليلى أحب وأقربا
فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سم ومجالسته هلاك .
القلب المريض
والقلب الثالث : قلب له حياة وبه علة فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى وهو لما غلب عليه منهما ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه : ما هو مادة حياته وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة : ما هو مادة هلاكه وعطبه وهو ممتحن بين داعبيين : داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة وداع يدعوه إلى العاجلة وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا وأدناهما إليه جوارا قالقلب الأول حى مخبت لين واع والثاني يابس ميت والثالث مريض فإما إلى السلامة أدنى وإما إلى العطب أدنى
وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان.
حقيقة مرض القلب
قال الله تعالى عن المنافقين
: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ البقره : 10 ] وقال تعالى : ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض [ الحج : 53 ] وقال تعالى : يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [ الأحزاب : 32 ] أمرهن أن لا يلن في كلامهن كما تلين المرأة المعطية الليان في منطقها فيطمع الذي في قلبه مرض الشهوة ومع ذلك فلا يخشن في القول بحيث يلتحق بالفحش بل يقلن قولا معروفا وقال تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغر ينك بهم [ الأحزاب : 60 ] وقال تعالى : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] أخبر الله سبحانه عن الحكمة التي جعل لأجلها عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر فذكر سبحانه خمس حكم : فتنة الكافرين فيكون ذلك زيادة في كفرهم وضلالهم وقوة يقين أهل الكتاب فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلق من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم فتقوم الحجة على معاندهم وينقاد للإيمان من يرد الله أن يهديه وزيادة إيمان الذين آمنوا بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك وعن المؤمنين لكمال تصديقهم به فهذه أربعة حكم : فتنة الكفار ويقين أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين وانتفاء الريب عن المؤمنين وأهل الكتاب .
انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين : طبيعية وشرعية
مرض القلب نوعان : نوع لا يتألم به صاحبه في الحال : وهو النوع المتقدم كمرض الجهل ومرض الشبهات والشكوك ومرض الشهوات وهذا النوع هو أعظم النوعين ألما ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له وهو متوار عنه باشتغاله بضده وهذا أخطر المرضين وأصعبهما وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم فهم أطباء هذا المرض
والنوع الثاني : مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم والغيظ وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب وما يدفع موجبها مع قيامها وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن فكذلك البدن يتألم كثيرا بما يتألم به القلب ويشقيه ما يشقيه ثلاثة وقد تضمنها الكتاب العزيز وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة.
حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا
للحق مريدا له مؤثرا له على غيره
لما كان في القلب قوتان : قوة العلم والتمييز وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل فمن لم يعرف الحق فهو ضال ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه .
وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ولهذا كان النصاري أخص بالضلال لأنهم أمة جهل واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد وهذه الأمة هم المنعم عليهم ولهذا قال سفيان ابن عيينة من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصاري ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود لأن النصاري عبدوا بغير علم واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه
وفي المسند والترمذي من حديث عدي بن حاتم عن النبيقال : اليهود مغضوب عليهم والنصاري ضالون
وقد جمع الله سبحانه بين الأصلين في غير موضع من كتابه فمنها قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون . فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به ومنها قوله عن رسوله فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون 2 وقال تعالى : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم و أولئك هم المفلحون.
هذا و ليس من الضروري أن يعلم الإنسان بموت قلبه بل قد يكون ميتا و هو لا يشعر به فهو لا يتألم لمعصية الله تعالى لموت قلبه ، فهو منغمس في شهواته و معاصيه و الإنسان إذا كان ميتا لا يتألم بالجرح يجرحه كما قال المتنبي :
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهوانُ عليه ما لِجُرْحٍ بِمَيتٍ إيلامُ
فليحرص إخواني أخواتي كل واحد منا على سلامة قلبه و ليحذر كل الحذر أن يكون قلبه مريضا أو ميتا فإنه لا نجاة يوم القيامة إلا من أتى الله به يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
أبو عبد الباري أمين الحنفي الجزائري – نونو-
شكرااااااااااااااااااااااااااااا