على ضفة نهر كان يضج بالحركة والحيوية ويتدفق خصبا وخيرا ، وفي عهد مغرق في القدم ، اختارت جماعة ساميّة موقعا لسكنها ، وفي هذا الموقع بدأت الحياة.
بدأت الزراعة في الأرض الخصبة ،وقام السكان بحفر كهوف في مرتفعات الموقع الطباشيرية الكلسية لتشكل هذه الكهوف أول تجمع سكاني إنساني في الجنوب الغربي من مدينة حلب الحالية . ثم لم تلبث تلك الجماعة أن تركت الكهوف بعد أن ازداد عددها لتبحث عن مكان أرحب ، فاتجهت شمالا مقتربة أكثر فأكثر من النهر متخذة بيوتاً في مكان ( تلة السودا ) حيث ظهرت فيها آثار تدل على ذلك نتيجة حفريات حديثة .وانتقلت الجماعة الساميّة بعد أن استوطنت ذلك التل سنوات طويلة إلى مكان مرتفع آخر قريب جدا من قويق هو حي ( العقبة ) حاليا , فنشأ تجمع في هذا الموقع , تجمع غدا ذات يوم عاصمة مملكة يمحاض ، ثم غدا مدينة حلب التي نعرفها اليوم .
موقع المدينة:
تتمتع الهضبة التي تطورت عليها حلب ببنية "جيولوجية" ذات طبيعة رسوبية عامة تكونت على الغالب في الحقب الجيولوجي الثاني بعصوره الجوراسي والكريتاسي وتتألف هذه الرسوبيات على الغالب من كربونات الكالسيوم ذات النسبة المختلفة من الشوائب ، مما يبرر وجود الكثير من المقالع الحجرية التي مازالت حلب تستقي منها اليوم المادة الرئيسية المميزة لبنائها .وتمتد مدينة حلب على الجهة الشمالية للوطن العربي ،في منتصف الطريق بين المتوسط والفرات على خط العرض /12, 36/ شمال خط الاستواء وخط الطول / 10, 37/ شرق غرينتش . مما يجعلها تتمتع بالمناخ المتوسط المعتدل ذي الشتاء القصير البارد و الرطب والصيف الطويل الحار والجاف : ويتميز هذا الموقع – نظرا لبعده عن الساحل – باتساع الفروق الحرارية بين الليل والنهار وبين الصيف والشتاء مما يجعلها تتمتع بصفات المناخ القاري أيضا .
يبلغ معدل الرطوبة النسبية شتاء في شهر كانون الثاني : 4 , 80% بينما يبلغ في الصيف في شهر حزيران 45% فقط ، وبالرغم من الانخفاض النسبي لمعدل الأمطار السنوي فإن الهطولات تتصف بما يسمى بلغة الأرصاد الجوية : بالهطولات الإعصارية وهذا يعني هطول كمية كبيرة من الأمطار في فترة زمنية قصيرة من الزمن مما يغذي المياه الجوفية المتوفرة أصلا في الموقع .
حلب عبر العصور :
حلب الأزل والأبد :
هي متحف التاريخ وحديقة آثاره منذ بدأ الإنسان يترك أثرا على وجه المعمورة ، وهي المدينة الجامعة لعمالقة الشواهد المعمارية الخالدة التي تقترن عظمهتا بعظمة بناتها منذ وجدوا . إنهم سلسلة من الخالدين ،لم نعد نعرف شيئا عن الحلقة الأولى منها ومازلنا نشهد حلقاتها … سلسلة منطلقها الأزل ومستقرها الأبد … رحلة في الخلق الحضاري والإبداع المعماري والعمراني لا تفنى عبر القرون ولا يبطئ حركتها تراكم الأجيال … إنها المدينة المفعمة بالحيوية الفاعلة المبدعة ، المدينة التي لم يخب شعاع عطائها منذ بدأت تشع . وثمة مقولة يرددها اليوم باحثوا التاريخ وعلماء الآثار ولدت مدينة سنة ألف قبل الميلاد ، وازدهرت وعاشت حضارة راقية ، وامتدت حتى شملت رقعة كبيرة من الأرض ) ثم يختمون حديثهم عنها بقولهم : ( ثم ما لبثت هذه المدينة أن انقرضت لسبب أو لآخر وانمحت وغاب أثرها فلا نعثر لها اليوم إلا على أطلال دارسة هنا وهناك , هي كل ما تبقى من قديم مجدها وسالف حضارتها ) فإذا صحّت هذه المقولة على بعض المدن القديمة التي بقي من أطلالها ما يذكرنا بها ( كتدمر و أفامية ) أو على تلك التي اندثرت تماما (عاد وثمود ) فإنها لا يمكن أن تطبق بحال من الأحوال على مدينة حلب . فبدلا من أن يشهد التاريخ مولدها, شهدت حلب مولد التاريخ , فلا نكاد نعثر على حضارة قديمة إلا وفي حلب رائحة تدل عليها وغصن أخضر يطل علينا من خلف القرون وقد شابت القرون ، ومازال الغصن أخضر … فهنا قامت كنيسة خالدة ، وهنا جامع متفرد في طريقة بنائه ودراسة واجهاته، وهناك مدرسة وبيمارستان وحمام …و…و ..على طول المدينة من أقصاها إلى أقصاها يمتد السوق القديم المغطى شرايين تربط أجزاء مركز المدينة ، قريبها وبعيدها بوشائح تؤكد القربى وتصل عضو الجسم بالجسم حتى لتحس بحلب جسدا نابعا بالحياة مدى الحياة ، جسدا يضرب في أعماق الأزل بعض جذوره ويطلق فروعة نحو الشمس يعانق الأبد بعطاء هو الضوء و الألق هو عطاء هذه الأمة الخالدة ، ووجود هذه الديمومة التي يمتد في شرايينها نسخ الوجود إلى أدق أعصابها حتى لتحس أنك أمام هيكل الوجود البشري و الوجود المعماري . فهي لا تزال عامرة مزدهرة منذ منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد ، تدل على ذلك رُقم مدينتي ( أور و ماري)سابقا وفيما بعد رُقم مدينة ( إبلا ) فهي المدينة الوحيدة في العالم التي تتجمع فيها كل مدارس تاريخ العمارة بتواصل زمني فريد . فقلما وجدت حضارة في العالم القديم إلا وفي حلب آثار لها تدل عليها وتذكر بها فهي متحف كبير حي للحضارات والعمارات والفنون منذ بدأ الفن يتسلق جدران الكهوف إلى أن ارتقى إلى معارج الكمال في كنف الحضارة العربية الإسلامية.
حلب – الديمومة :وزادها أهمية موقعها الفريد في مدن العالم القديم كعقدة للطرق التجارية العالمية التي تربط الشرق بالغرب و الشمال بالجنوب ، وذلك منذ بدأ ارتباط حلب بالإمبراطوريات الكبرى التي تكوَّنت بعد فتوحات الإسكندر المكدوني في المشرق العربي .لقد ظلت مدينة حلب عبر التاريخ مدينة حسنة الطالع ، باسمة الحظ ، لقد نزلت بها كوارث طبيعية ، وحوصرت مرارا ، وفتحت ودمرت وأحرقت ، وشهدت الكثير من فترات الخنوع والاستكانة لحاكم مستبد أو حكم غبي ، ولكنها كانت تنهض دائما من كبوتها وتواجه المصاعب والكوارث فتتغلب عليها ، وتحول ما أصابها من دمار إلى عمران مزدهر يعيد إلى حلب مكانتها وأهميتها في العالم القديم والعالم الحديث معا .
أبناء حلب :
وساهم أبناء حلب في بنائها وعملوا من أجل رفعتها وسموها وبذلوا الكثير من أجلها فكانت شغلهم الشاغل من أعظم ولاتها المحبين للعلم والأدب والعمران إلى أصغر عامل بناء كان يبدع مقرنصة متدلية ستشغل محراب جامع أو واجهة مبنى ذي نفع عام .
لقد تغنى بها الشعراء وحرص عليها الملوك والولاة وزهى بها الفاتحون وقد حرص أبناؤها على تأريخ مجدها فكان ابن العديم ، وابن شداد ، و الغزي والطباخ ، وإلى أيامنا هذه حيث ورث الأبناء حب حلب عن الآباء والأجداد وعمل المخلصون منهم على تكوين الجمعيات المهتمة بهذا التراث فكانت جمعية عاديات حلب كرابطة قدمت جهودا مشكورة في هذا المجال .
الاسم من أين جاء :
كثيرا ما يروي الحلبيون أسطورة تناقلوها عبر الأجيال تفيد بأن سيدنا إبراهيم الخليل لدى مكوثه في حلب في طريقه من (أور) التي نزح عنها متوجها إلى بلاد كنعان ( فلسطين )استقر في أحد مرتفعات المدينة وكان لديه بقرة شهباء اللون يحلبها كل صباح ليطعم الأهلين الذين يستبشرون بأنه "حلب الشهباء " . وبعد ذلك قامت المدينة التي حملت الاسم .
والواقع يفيد بأن حلب ذكرت في رُقم تسبق تاريخ تجوال سيدنا إبراهيم والذي كان حوالي /2000/ ق.م فرقم أور و لكاش وكيش وماري تذكر حلب منذ الألف الثالثة قبل الميلاد ، ويمكن اعتبار هذه الأسطورة " من لخماتهم " كما روى الأسدي .
فقد وردت حلب في الوثائق الحثية تحت اسم (خلب ) وفي الآثار المصرية الفرعونية باسم ( خرب ) و ( خالوبو )، وفي الوثائق الأكادية الكلدانية بأسماء ( خلابة- خلبو – خلمان – خلوان – حلاب ) . وقيل في تفسير الكلمة أنها تعني في اللغة العمورية الحديد والنحاس ويعتقد أنها تعني بالسومرية ( الحفر ) .وقد دانى فريد جحا بين مختلف الألفاظ فوجد أن حلب تعني مكان الألب أي التجمع . وخَلُصَ الأسدي إلى القول :
( إن حلب دعيت في أقدم ما بلغنا من الآثار باسمها هذا مضعفا تارة وغير مضعف تارة أخرى ، وإن هذا التضعيف ما لبث أن توارى دفعة واحدة بعد أن ساد اللفظ الثلاثي سيادة مطلقة انسحبت على كل العصور كما انسحبت على كل الأمم ) .
لقد عرفت المدينة منذ الأزل بهذا الاسم أو باسم قريب منه أو محرف عنه ولكن هذه الحروف الثلاثة المشعة أبد الدهر ( حلب ) ظلت الأساس في كل الأسماء المحرفة عن الأصل .
تاريخ حلب :
ما قبل الفتح العربي :
دخلت حلب التاريخ منذ ذكرها ريموش الأكادي بن صارغون (2530-2515) ق.م مؤسس أول إمبراطورية ساميّة في الشرق بعد أن استولى على حلب وأسر ملكها لوكال أو شومكال . وبعد أن نعمت حلب بالحرية بعد عهده استولى نارام الأكادي (2507-2452) ق.م عليها وسماها ( حلبابا وأرمان) وقد شهدت حلب عصرها الذهبي وقتذاك في عهد حمورابي البابلي و زمريليم ملك ماري نحو سنة ( 2000) ق.م . وعندما اتجه الحثيون أثناء زحفهم الجارف قاومتهم حلب ولكنهم استولوا عليها عام ( 1820) ق.م ولكن حلب انفكت عنهم عام (1650 )ق.م حيث انضمت إلى الميتانيين .
بعد ذلك احتل المصريون حلب حيث فتحها تحوتمس الثالث فرعون مصر (1473)ق.م ثم عادت حلب عاصمة للحثيين (1370) ق.م ثم عادت وتحالفت مع الميتانيين . وقد بقيت حلب متأرجحة بين الميتانيين و الحثيين وظلت المدينة حثية حتى ( 1200) ق.م حيث انهارت الدولة الحثية .
وبعد ظهور الآشوريين خضعت سورية كلها لحكمهم فقد فتحها سلمنصر الثالث ( 853)ق.م دون مقاومة وقد بقيت حلب كذلك حتى فتحها سارودري الثالث ثم ما لبث الملك الآشوري تغلات فلاصر أن استعادها (743)ق.م .ثم وقعت حلب تحت حكم البابليين بعد انهيار دولة الآشوريين (612)ق.م ، وبعد أقل من قرن فتح الفرس حلب ، ولم يهمل الفرس المدينة فقد أقاموا المحطات على طول الطرق وحفروا الأقنية وأقاموا السدود لتوسيع رقعة الري . وبعد معركة ايسوس الشهيرة (333) ق.م التي قادها الاسكندر المكدوني آل حكم حلب للمكدونيين ، وقد بدأت فترة المكدونيين بالنهب والسلب بعد عملية الاجتياح ، ولكن هذه الحقبة لم تدم طويلا ، إذ سرعان ما انصرف الإغريق نحو العمران والتنظيم . وقد أصبحت حلب في هذه الفترة عنبرا ممتازا لتجارة الترانزيت في العالم وظلت محافظة على هذا الامتياز قرونا عديدة .
وفي آخر عهد السلوقيين انتشر الفساد وتسرب النفوذ الروماني منذ سنة (64)ق.م ،وقد تميزت فترة الحكم الروماني بانتشار المسيحية في سورية حيث بدأ الاهتمام بالبناء فشيدت كنيسة كبرى في حلب .
وعام (540) م هاجم كيخسرو الأول سوريا فأحرق حلب برمتها وقد تم الصلح بين أهل حلب و بين هرقل (630) م فازدهر العمران وقامت المدن المحصنة على تخوم البادية الرومانية في جهة الجنوب من سبخة الجبول والجنوب الغربي منها .
ما بعد الفتح العربي :
وامتدت أسهم جيش الفتح العربي لتشمل خارطة الوطن العربي الكبير وليمتد مسيرة مدينة حلب عام (637)م حيث دخل خالد بن الوليد على رأس جيش المسلمين حلب من باب انطاكية ، ولم يمض وقت طويل حتى استطاع العرب الفاتحون أن ينشروا اللغة العربية في سوريا الشمالية (حلب) التي كانت لغتها السريانية غير بعيدة عن لغتهم .
ويمتد تاريخ حلب منذ الفتح إلى اليوم أربعة عشر قرنا ويزيد وقد قسم سوفاجيه هذا التاريخ إلى العهود التالية :
ومنذ عهد الاستقلال إلى اليوم وسورية تنهج النهج العربي القومي الواضح نحو مستقبل يضارع ماضيها حضارة ومجد
تحياتي للجميع 1. عهد الدولة العربية –الخلافة (636-836م) 2. عهد ما بعد الخلافة ( 837-1128م) 3. عهد الدولة النورية (1128-1260م) 4. عهد الأيوبيين ( 1183-1260م) 5. عهد المماليك (1260-1516م) 6. عهد العثمانيين (1516-1918م) 7. الاستقلال الموهوم (1918-1920م) 8. فترة الاستعمار الفرنسي (1920-1946م) 9. 1946-الآن
أتمنى أزور حلب يارررررررررررررررررريييييييييييييييييييييييييييييي يييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييت