د. أحمد إسماعيل عمر(é)
مقدمــــــــة
الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة، ونصب لنا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أعلى علم وأوضح دلالة، وكان ذلك أفضل ما منّ به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة، فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة، ونشكر له، والشكر أول الزيادة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، خالق الخلق أجمعين، وباسط الرزق للمطيعين والعاصين، بسطاً يقتضيه العدل والإحسان، والفضل والامتنان، جاريا على حكم الضمان، ونشهد ان محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله، الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين، بملة حنيفية، وشرعة بالمكلفين بها حفية، ينطق بلسان التيسير بيانها، ويعرف أن الرفق خاصيتها والسماح شأنها، وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها وأسسوا قواعدها وأصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها رضي الله عليهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين، وأسوة للمهتدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد.
عنيت الشريعةُ الإسلامية بالمحافظة على الدماء عناية تامة, فزجرت الجناة الذين يعتدون على دماء الناس زجراً شديداً, وقد جعل الله تعالى عقوبة قتل النفس من أفظع العقوبات.
أهمية البحث
تنبع أهمية هذا الموضوع من أن أمر القصاص بالجناية على النفس وعلى ما دونها قد استحوذ على جانب كبير من الفقه واهتمامات الفقهاء من الأئمة المجتهدين والتابعين فقهاء وشراح القوانين في العصر الحديث.
ليس ذلك إلا لأن أمر الدماء عظيم وشأنها خطير أو ليس المولى تعالى قد نهى عن سفك الدماء والقتل بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}()، فلا تزهق نفس أو يسفك دم إلا بحقه, فقد قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}()، وقد كان النهى عن سفك الدماء شريعة من قبلنا لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}()، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم دليل على نسخه فضلاً عن أن القران قد جاء بنص صريح في أنه مكتوب علينا وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}()، وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}()، ولاغرو بعد كل هذه النصوص أن ينصب الاهتمام وبتركيز بالغ على أمر الدماء, حيث كثرت الاجتهادات والتفريعات في مسائله التي تجل عن الحصر, وليس ذلك إلا لأن عقوبة القصاص في تناهيها في الشدة ألحقت بالحدود في الإثبات عند بعض الفقهاء, وبالتالي()، يحترز لها ويدقق فيها لئلا يقام القصاص بلا مسوغ.
أسباب اختيار البحث
يأتي اختيار الباحث لهذا الموضوع لأنه يمس مسالة حيوية تتعلق بحياة الناس وهى مسالة المحافظة على الدماء والتي عنيت بها الشريعة الإسلامية عناية فائقة حيث لا تعرف الشريعة الإسلامية تقييد جريمة القتل ضد المجهول، ذلك أنه لا يضل دم امرئ في الإسلام, وبما إن المشرع السوداني قد استمد أحكامه من الشريعة الإسلامية التي تصلح لكل زمان ومكان وإزاء تطور أساليب ارتكاب جريمة القتل، أصبح اكتشاف الجاني أمراً عسيراً، ولذلك كان لزاماً علي المجتمع أن يستخدم نفس السلاح (سلاح العلم) باستخدام وسائل علمية حديثة للكشف عن الجريمة وإثباتها، فالأدلة العلمية هي وسائل لإيجاد الصلة بين الجريمة والجاني وهي من أهم مقومات الإثبات الجنائي في تقليل فرص الخطأ القضائي، ولذا فإن السبيل إلى العدالة المنشودة لا يأتي إلا بالاستعانة بالتطور العلمي والتقدم التكنولوجي في كافة المجالات. ومن هنا أخذ رجال الفقه يلهثون لملاحقة التطورات التي أصابت العلاقات القانونية في الصميم الأمر الذي استلزم ليس فقط إعادة النظر في المبادئ القانونية المستقرة منذ قرون، وإنما أيضاً استحداث قواعد جديدة لتحكم التكنولوجيا الحديثة. وهذا أمر طبيعي حيث إن الثورة العلمية التي ظهرت في العصر الحديث، والتي شملت مختلف مظاهر الحياة بالتطور، قد أمدت هذا التطور إلى القانون ذاته وخاصة القانون الإجرائي؛ وقانون الإثبات اللذان يعتبران أكثر القوانين استجابة لمقتضيات العصر.
وقد مهد هذا التطور لشروق فجر جديد وهو الأدلة العلمية وأصبح الاعتماد على المعمل الجنائي والأجهزة العلمية يزداد يوماً بعد يوم.
ففي عصر التكنولوجيا أصبحت وسائل الإثبات التي كانت محلاً للاختبار من عشرات السنين أمراً واقعاً وعادياً، فالأدلة المستمدة من أجهزة التصوير وأجهزة قياس السرعة والبصمة الوراثية والحاسبات الآلية وغيرها من الوسائل العلمية المتنوعة أصبحت مقبولة اليوم أمام المحاكم للثقة الكبيرة وإمكانية الاعتماد عليها دون غيرها وقد لا تحتاج عند كل استخدام لها أن يتولى الخبراء شرح المبادئ العلمية التي تقوم عليها تلك الوسائل أو النظريات العلمية التي تعتمد عليها.
أهداف البحث :
يهدف هذا البحث إلى ما يلي:-
أولاً: بيان أهمية دم المؤمن عند الله وأن زوال الدنيا أهون من قتل مؤمن بغير حق.
ثانياً:- معرفة أثر البصمة الوراثية في الإثبات على جرائم القصاص لدى المشرع السوداني ومعرفة إلى أي مدى اتفق مع ما ذهب إليه حينما لم يحدد نصاباً معيناً في إثباته لجرائم القصاص.
ثالثاً :- إثبات مبدأ عدم قيد دعوى القتل ضد مجهول في الشريعة وأثر الإثبات بالبصمة الوراثية على العمل.
حدود البحث:
يتناول هذا البحث أثر البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص، دراسة مقارنة في قانون الإثبات و القانون الجنائي السوداني.
منهج البحث:
انتهج الباحث في هذا البحث المنهج الوثائقي التحليلي الاستنباطي، وقد قام بنقل الآراء الفقهية من مصادرها من كتب الفقه وقارنها مع القانون الجنائي وقانون الإثبات.
مشكلة البحث
بما ان الشريعة الإسلامية لا تعرف تقييد جريمة القتل ضد مجهول، ذلك أنه لا يطل دم امرئ في الإسلام, وانه لما كان السلوك الإجرامي المتبع في السابق لارتكاب جريمة القتل يتسم بالبساطة والوضوح، وكان يكفي لاكتشافها وإسنادها إلى مرتكبيها استخدام وسائل الإثبات التي تعتمد على الإدراك الحسي المباشر بالاعتراف وشهادة الشهود.
و حتى بالنسبة لشهادة الشهود والاعتراف فهما ليس الدليل الذي يطمئن إليه القاضي الجنائي للحكم بالإدانة، فقد يكون الدافع إلى الإعتراف بعيدا ً تماماً عن الحقيقة، كما أن الشاهد قد يكون عرضة للخطأ والنسيان وقد يكون شاهد زور().
ثم أخذت أساليب الجريمة تتطور بتطور المجتمع الذي وقعت فيه، فجريمة القتل التي حدثت في الثلاثينيات مازالت ترتكب في القرن الحادي والعشرين؛ ولكن بأسلوب أكثر تنظيماً، فالمتهمون يستخدمون اليوم الوسائل العلمية في ارتكاب جرائمهم ومع ذلك بقيت النصوص القانونية وخاصة الإجرائية بلا تطور، والنتيجة هي عجز القوانين السارية عن احتواء هذه الأساليب، وأصبحت جرائم القتل تقيد ضد مجهول ومن ثم هدرت الدماء.
ولذلك فإن إثبات جرائم القصاص باستخدام البصمة الوراثية له أهميته في توصيل أجهزة العدالة بدقة إلى الحقيقة، ولم يعد المثل القديم أن الموتى لا يتكلمون قائما في عصرنا حيث أتاح التقدم العلمي للمحقق والقاضي أن يتيقن من شخصية الجاني وأسلوب ارتكاب الجريمة لمجرد توافر بصمته بمكان الحادث، فهي دليلاً قطعياً على وجوده في المكان الذي وجد فيه، ولكنها ليست دليل قطعي في إثبات إسناد الجرم إليه، إلا أنها يمكن أن تقودنا إلى مرتكب الجرم من خلال معرفة الشخص الموجود بمكان الحادث ولذلك يجب على المحاكم أن تقبل الإثبات العلمي عندما يقدم إليها في إطار إثبات جرائم القصاص حثى لا يطل دم في الإسلام، وسوف نتناول ذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: مفهوم جرائم القصاص في الفقه الإسلامي والقانون.
المبحث الثاني: اثر البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص.
المبحث الأول
مفهوم جرائم القصاص في الفقه الإسلامي والقانون
مما لا شك فيه أن من أعظم المقاصد التي قصدت ببعثة الأنبياء عليهم السلام دفع المظالم بين الناس فإن تظالمهم يفسد حالهم ويطبق عليهم ويسلب هدوأهم واستقرارهم.
والمظالم على ثلاثة: تعدّ على النفس وتعد على أعضاء الناس، وتعد على أموالهم، فاقتضت حكمة الله أن يزجر كل نوع من هذه الأنواع بزواجر قوية تردع الناس أن يفعلوا ذلك مرة أخرى، ولا ينبغي أن تجعل هذه الزواجر على مرتبة واحدة، لأن القتل ليس كقطع الطرف، ولا قطع الطرف كإتلاف المال، وإن الدواعي التي تنبعث منها هذه المظالم لها مراتب، من البديهي أن تعمد القتل ليس كالتساهل المؤدي إلى الخطأ، فأعظم المظالم القتل بغير حق، وهو أكبر الكبائر بإجماع أهل الملل قاطبة، وذلك لأنه طاعة النفس في داعية الغضب، وهو أعظم وجوه الفساد فيما بين الناس، وهو تغيير خلق، وهدم بنيات، ومناقضة لما أراد الله في عباده من انتشار نوع الإنسان، لذلك شرع المولي الحكيم العليم القصاص، وأوجب تنفيذه على الحكام صيانة لدماء الناس، ومحافظة على أرواح الأبرياء، وقضاء الفتنة في مهدها، ذلك لأن أخذ الجاني بجنايته يكون زاجراً له ولغيره، أو يجعله خيفة من القصاص فيكف عن القتل، فيكون في ذلك حياة له، وحياة لمن أراد قتله وحياة لأفراد المجتمع.
وقد رأيت أن أدلي بدلوي في بيان الأساس الفقهي الذي يستند اليه المشرع في منهجه المتوسع في إثبات جرائم القصاص ومناقشا ذلك على ضوء الواقع القانوني للخروج بخلاصه رشيدة يستفيد منها الواقع القانوني لذلك لابد لي أن أتناول في المقام الأول مفهوم جرائم القصاص بشئ من التفصيل وذلك على النحو التالي:-
المطلب الأول: تعريف الجريمة في الفقه الإسلامي و القانون
المطلب الثاني: مفهوم القصاص في الفقه الإسلامي والقانون
المطلب الأول
تعريف الجريمة في الفقه الإسلامي و القانون
الفرع الأول: تعريف الجريمة في اللغة:
لفظ الجريمة تعود مادته إلى (جرم) باعتباره أصل الفعل والتي تحمل فيطياتها الكثير من المعاني.
جرم الجَرْم: القطع. والجُرْم الذنب، والجمع إجرام وجروم وهو الجريمة وقد جرم يجرم جَرْماً وإجراما وأجرم، فهو مجرم وجريم .
والجرم الذنب وقوله تعالي: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}()، قال الزجاج: المجرمون هنا، والله أعلم الكافرون.
وتجرم: ادعى عليه الجرم والجارم: الجاني والمجرم: المذنب وقوله عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}()، أي لا يدخلنكم في الجرم.
وقد استعيرت كلمة الجريمة لكل كسب مكروه ولا يقال ذلك في الكسب المحمود()، وبذلك يخلص من تعريف الجريمة في اللغة أي أنها هبات لله تعالي فيما أمر ونهى ورغم التباين في تعريفها إلا أنها تنتهي جميعها إلى أن الجريمة هي إثبات فعل محّرم معاقب على فعله، أو ترك فعل محرم معاقب على تركه.
الفرع الثاني: تعريف الجريمة في الفقه الإسلامي:
نجد أن اللفظ الغالب عند الفقهاء في أفعال التعدي على النفس وما دونها هو لفظ الجناية.
وقد أورد الكاساني الحنفي:
(إن العقوبة جزاء يوقع على الجاني لزجره أو تأديبه وردع غيره ويكون هذا الجزاء حقا لله في جرائم الحدود بينما يكون حقاً للعبد في جرائم القصاص)().
أما المالكية: فيعرفون الجريمة بأنها: (مخالفة لأمر الشارع في حد أو قصاص أو تعزير) وهي كذلك كل ما وقع في النفس أو ما على دونها من جرح وغيره كالموضحة أو عمدا أو خطأً وما يتعلق بذلك من قصاص وغيره().
الجناية في مذهب الشافعية:
هي ما يفعله الإنسان بما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا والآخرة وهناك بعض الفقهاء من المذهب الشافعي قد أورد تعريفاً للجريمة فقد عرفها الماوردي بأنها أي (الجريمة) (محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير)().
وعرفها كذلك الإمام أبو زهرة بقوله (هي فعل ما نهي الله عنه وعصيان ما أمر به الله)
أما الحنابلة:
فلم يضعوا تعريفاً محدداً للجريمة وإنما عرفوا العقوبة فيقولون: (إن العقوبة هي جزاء مانع من الوقوع في مثله) ويقصدون بهذا التعريف للعقوبة تعريف الجريمة، فالجريمة إذاً وفقاً لهذه التعاريف هي إثبات فعل محرم معاقب على فعله أو ترك فعل محرم معاقب على تركه، أو هي فعل أو ترك نصت الشريعة على تحريمه والعقاب عليه فالفقه الإسلامي إذاً لم يضع تعريفا محدداً متفقاً عليه للجريمة وبالتالي أفسح المجال للمجتهدين في أن يضعوا التعريف الذي يتناسب مع زمانهم فالجريمة متجددة ومتطورة حسب الزمان والمكان والأشخاص.
الفرع الثالث : تعريف الجريمة في القانون
إن القوانين الوضعية قد عرفت الجريمة بأنها: (عمل يحرمه القانون أو امتناع عن عمل يقضي به القانون)، ولا يعتبر الفعل أو الترك جريمة في نظر القوانين الوضعية إلا إذا كان معاقبا عليه طبقا للتشريع الجنائي().
وقد عرفت الجريمة أيضا بأنها: (فعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبيرا احترازيا).
ومن هذا التعريف تقوم عناصر الجريمة على الآتي:
أولاً: تفترض الجريمة ارتكاب فعل يتمثل فيه الجانب المادي فلا جريمة إذا لم يرتكب فعل والارتكاب يشمل الإتيان والامتناع الذي يجرمه القانون.
ثانياً: تفترض الجريمة أن الفعل غير المشروع طبقا لقانون العقوبات أو القوانين المكملة له، فلا تقوم جريمة بفعل مشروع.
ثالثا: تفترض الجريمة صدور الفعل غير المشروع عن (إرادة جنائية)، فليست الجريمة ظاهرة مادية خالصة، بل هي عمل إنسان يسأل عنها ويتحمل العقاب من أجلها، ولذلك يجب أن تكون ذات أصول في نفسيته، ونجد العلاقة بين شخصية الجاني وماديات الجريمة يستحيل تحديد شخص تقوم مسئوليته عنها.
رابعا: تفترض الجريمة أن القانون يقرر لها عقوبة أو تدبيرا احترازيا ويعني ذلك أنه يترتب على ارتكابها تحقق أثر من نوع خاص يمتاز بطابعه الجنائي – البحت().
أما قانون العقوبات السوداني لسنة (1974م)، فقد عرف الجريمة كما يلي (إن كلمة جريمة تشمل أي جريمة بموجب أي قانون معمول به إلا إذا ظهر من النص خلاف ذلك) ()، فهذا التعريف غير منضبط ويكتنفه الغموض وعدم الوضوح وبالتالي لم يوفق المشرع في وضع تعريف جامع مانع كما فعل المشرع الحالي الذي أورد تعريفا مستحدثا و طارئاً على التشريع حيث عرف الجريمة بأنها (تشمل كل فعل معاقب عليه بموجب أحكام هذا القانون أو أي قانون آخر)()، ونجد أن المشرع السوداني بهذا التعريف قد وفق كثيرا في وضع تعريف يدل على المعني المقصود للجريمة بعبارات وجيزة والاختلاف بين هذا النص والنص السابق أن النصوص السابقة عرفت المعرفة بالمعرفة أي عرفت الجريمة بالجريمة وهذا تعريف مختصر().
وبعد أن عرضت تعريف الجريمة في الفقه الإسلامي والقانون يتضح أن الاختلاف بينهما ليس كبيرا، ولكن يتجلي الاختلاف بشكل واضح في التقسيم الذي يأخذ به كل فريق، ففي الشريعة الإسلامية تقسم الجريمة من حيث جسامة العقوبة إلى حدود وقصاص ودماء بجانب جرائم المال في حين تقسم القوانين الوضعية الجريمة من حيث الجسامة إلى جنايات أو جنح أو مخالفات أو بمعنى آخر فإن القوانين الوضعية تقسم الجريمة أساسا على مقدار العقوبة، وبذلك تحديد الجريمة يعتبر فرعا من العقوبة في حين أن التشريع الإسلامي يجعل في العقوبة جسامة الجريمة وخطرها من حيث المساس بالضروريات الخمس.
وبشكل أدق فالاختلاف يقع في التقسيم الثالث أي قسم التعازير في الشريعة، والمخالفات في القوانين الوضعية، ففي الأولى أشمل وأعم حيث إنه يدخل في التعازير كل الأفعال – أي التي لها عقوبة محددة أو التي لم ينص على عقوبة محددة لها، فالعقوبة هنا تقديرية وتبدأ من الزجر والتوبيخ وتنتقل إلى حد إيقاع عقوبة القتل تبعا للفعل المرتكب ونظرة القاضي لذلك الفعل في حين يحدد القانون الوضعي عقوبات محددة للمخالفات، بمعنى أنه لا يمكن معاقبة أي فعل ما لم يكن هناك نص محدد له في القانون وإلا لم يعتبر جرما، ومن هنا تختلف النظرة إلى الجريمة في الشريعة الإسلامية عنها في القوانين الوضعية حيث إنها أشمل وأعم في الشريعة الإسلامية عنها في القوانين الوضعية.
نخلص من ذلك أن التجريم والعقاب في النظام الإسلامي يتوجه مباشرة إلى صيانة وحماية المصالح المعتبرة في الإسلام، وهي الدين، والنسل والنفس والمال العقل، وأي اعتداء على مصلحة من هذه المصالح يعتبر جريمة يعاقب فاعلها، ويحدد بالطبع مقدار العقوبة حسب جسامة الفعل الإجرامي.
المطلب الثاني
مفهوم القصاص في الفقه الإسلامي والقانون
الفرع الأول : تعريف القصاص في اللغة
القصاص مأخوذ من قص الأمر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل فقص أثره منها وأتبع سبيله في ذلك.
وقيل القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما أي قطعت ما بينهما ومنه أخذ القصاص لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به().
وفي الصحاح : القصاص: القود، وقد أقصّ الأمير فلاناً من خلافه إذا اقتص له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله().
قال الراغب: القصاص مأخوذ من القص وهو تتبع الأثر قال تعالى {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً}()، والقصاص: تتبع الدم بالقود قـال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}().
قال في اللسان قصصت الشيء إذا تتبعت آخره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}()، أي أتبعي أثره، والقصاص: القود وهو القتل بالقتل قال الشاعر:
حرمنا القصاص وكان القصاص
حكماً وعدلاً على المسلمينا()
ونخلص من ذلك أن معني القصاص في اللغة أن يفعل له مثل فعله، فيقتل المجرم كما قتل ويجرح كما جرح.
الفرع الثاني : تعريف القصاص في الاصطلاح
عقوبة الجاني المتعمد يمثل ما فعل بالمجني عليه().
وعرفه المالكية: هو معاقبة المتعمد إذا وقعت الجناية بمثل فعله().
وعرفه الشافعية بأنه "عقوبة مقدرة تجب حقاً للعبد بأن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه من قتل أو جرح"().
أما الحنابلة فقد عرفوا القصاص بأنه القود، بأن المقتص منه في الغالب بقاءه بشيء يربط فيه أو بيده إلى القتل، فسمي القتل قوداً لذلك().
والقصاص عند الظاهرية "هو معاقبة المسلم المتعمد بارتكاب جريمة على أخيه بمثل ما قتل به "().
فالقصاص يتلاقي معناه اللغوي مع معناه الشرعي، فهو في اللغة المساواة بإطلاق، وفي الشريعة المساواة بين الجريمة والعقوبة ومن معانيه اللغوية التتبع، ومنه قص أثره بمعني تتبعه، ومنه قصص السابقين بمعني أخبارهم، وبينه وبين المعني الشرعي تناسب لأن القصاص يتتبع فيه الجاني فلا يترك من غير عقاب رادع ولا يترك المجني عليه من غير أن يشفي غيظه، فهو تتبع للجاني بالعقاب، أو للمجني عليه بالشفاء().
ونخلص إن القصاص هو إتباع الشيء أو الفعل بمثله ويكون في النفس والأطراف وكذلك نجد أن كل التعريفات السابقة قد اشترطت في القصاص أن يكون قد أرتكب موجبه عمداً، وأنه أي القصاص يعني المساواة والمماثلة بين الجريمة الواقعة على المجني عليه والعقوبة التي توقع على الجاني، وان تكون العقوبة من جنس الجريمة.
الفرع الثالث : تعريف القصاص في القانون
عرف المشرع السوداني القصاص بأنه "معاقبة الجاني المتعمد بمثل فعله"()، وفي ضوء هذا التعريف نجد أن المشرع قد قيد القصاص بشرط وهذا الشرط هو "العمد" وذلك في قوله معاقبة الجاني المتعمد بمثل فعله، وبهذا قد أحسن المشرع بقوله المتعمد على اعتبار إذ الإصابة التي تحدث للمجني عليه خطأ فلا يسري على مرتكبها القصاص في حاله الإصابة خطأ.
وهذه ميزة في نظر الباحث تميز بها المشرع السوداني الذي أحسن صنعاً في تقييده للقصاص في التعريف الذي أوردته بقيد (التعمد).
ونحن بصدد التعريف لابد أن أشير إلى أن المشرع السوداني قد حدد لمن يكون له الحق في القصاص حيث نصَّ على مايلي:-
يثبت الحق في القصاص ابتداء للمجني عليه ثم ينتقل لأوليائه().
وعرف المشرع أولياء المجني عليه بقوله: "وأولياء المجني عليه الذين لهم الحق في القصاص هم ورثته وقت وفاته()، كذلك بين أن الدولة ولي من لا ولي له أو من كان وليه مجهول المكان أو غائباً لا ترجي عودته().
ومن خلال هذه النصوص يتضح أن صاحب الحق في القصاص إلى أوليائه الذين هم ورثته الشرعيون فإذا لم يكن له ولي فإن الدوله ولي من لا ولي له، وهنا يثور تساؤل يتمحور في حكم القصاص المتمثل في أن ورثة المجني عليه المتوفي لم يطلبوا القصاص ولم يعفوا؟، وهذا الفرض لم يعالجه المشرع السوداني، بيد أن العمل القضائي قد استقر على سؤال رأس الدولة عن العفو أو القصاص أو الدية عند عدم وجود ولي المجني عليه وبالتالي سد هذا القصور في التشريع.
المبحث الثاني
أثر البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص
إن إقامة الدليل على ارتكاب شخص معين لجريمة تستوجب القصاص يمثل عبئاً جسيماً على عاتق سلطات التحري والاتهام، ومن ثم يصبح عدم توافر الدليل مبرراً كافياً لصدور الأمر بحفظ الدعوى لعدم توافر الأدلة الكافية، أو قيد الجريمة ضد مجهول، إذ إنه لا دعوى بغير متهم و لا حكم بإدانة دون دليل قاطع وبما أنه لا يطل دم امريء في الإسلام، كان لزاماً الأخذ بالقرائن لإثبات جرائم القصاص حتي يتحقق هذا المبدأ، ومن هذه القرائن البصمة الوراثية DNA))، وقد كان اعتماد الإثبات الجنائي على تقديم أدلة ارتكاب مجرم ما لجريمة ما يعتمد على الوسائل التقليدية للبحث الجنائي ثم تطورت وسائل الإثبات وتم استخدام البصمات البيومترية كبصمة العين وبصمة الأذن وغيرها.
ولكن مع تقدم البيولوجيا الجزيئية وتكنولوجيا الحامض النووي بدأ العلماء يتعرفون على تتابعات النواة المميزة للفرد وهو ماعرف ببصمة الحامض النووي, وكان ذلك في بداية الثمانينيات عندما استطاع العالم البريطاني (اليك جيفيري) اكتشاف بصمة الحامض النووي ثم تتابعت تقنيات البصمة الوراثية باستخدام تكنيك تفاعل البلمرة المتسلسل, ثم استخدام الدنا الميتوكونديري, ثم استخدام تكنيك قراءة التتابعات().
إن عينة دم أو خصلة شعر أو بقعة بول أو قطعة عظم أو كشط جلدي أو عينة مخاط أنفي أو فموي أو سيجار أو حيوانات منوية…الخ تقودك إلى تحديد هوية الجاني من خلال عزل الحامض النووي بتلك العينة ثم يتم تحديد البصمة الوراثية له ويتم عزل الحامض النووي من المتهمين ومقارنة البصمات الوراثية للأحماض النووية المعزولة من المتهمين ليتم تحديد هوية الموجودين في مسرح الجريمة.
وهكذا يصبح من المحال على الجاني إن يدفن الدليل الذي يؤدي للتعرف عليه لأنه لابد أن تسقط عينة بيولوجية تدل عليه في مكان الجريمة. وسوف نتناول في هذا المبحث أثر البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص النحو التالي:
المطلب الأول : تعريف الأثر في اللغة والاصطلاح .
المطلب الثاني: تعريف البصمة الوراثية وبيان خصائصها .
المطلب الثالث: كيفية تحليل الحامض النووي.
المطلب الرابع: شروط قبول البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص .
المطلب الخامس: حجية البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص.
المطلب الأول
تعريف الأثر في اللغة والاصطلاح
سوف نتناول في هذا المطلب تعريف الأثر في اللغة والاصطلاح وذلك على النحو الآتي:-
الفرع الأول: تعريف الأثر في اللغة
الأثر بالفتح في لغة العرب يطلق على عدة معان منها بقية الشئ: كقولهم سمنت الناقة على أثاره أي بقية شحمه ومنه الآثار.
العلامة: ومنه قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}().
الخبر: ومنه قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}().
الأجل: ومنه قول الرسول r "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه"().
والأثر بفتح فسكون خلاصه السمن، وقيل هو اللبن إذا فارقه السمن.
والآثر بالمد وفتح الثاء فصله وقدمه، ومن قوله تعالى: {لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا}().
والتأثير: إبقاء الأثر في الشئ، يقال: أثر الشئ تأثيراً إذا ترك فيه أثراً().
وهكذا يتضح إن كلمه الأثر في اللغة لها معان كثيرةً منها الخبر والعلامة وبقية الشئ، والمعني المناسب فيها بقية الشئ وأثره.
الفرع الثاني : تعريف الأثر عند المحدثين:
يرى بعض المحدثين إن الأثر مرادف للحديث سواء أكان الحديث مرفوعاً آو موقوفاً، ومن العلماء من يقول: الأثر أعم من الحديث، فالحديث خاص بالرسول (ص)، والأثر ما جاء عن الرسول وغيره من الصحابة والتابعين.
وقيل: إن الحديث ما جاء عن الرسول (ص) والأثر ما جاء عن الصحابه إلى هذا ذهب فقهاء خراسان فيقولون: الخبر ما روى عن الرسول (ص) والأثر ما يروي عن الصحابة().
الفرع الثالث: تعريف الأثر في الفقه الإسلامي:
الأثر عند الفقهاء هو ما يترتب على الشئ وهو المسمى بالحكم().
فمثلا يقولون في تعريف العقد: ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يظهر أثره في المحل().
وهذا الأثر هو انتقال المعقود عليه إلى المشتري في عقد البيع مثلا – وانتقال الثمن إلى البائع وهذا في الواقع الحكم الذي نتج وترتب على ذلك العقد().
وبعد تعريف الأثر في اللغة وعند الفقهاء يمكن إن يقال في تعريف الأثر: هو حاصل الشئ ونتيجته المترتبة عليه، وبهذا يظهر الارتباط الواضح بين التعريف اللغوي والفقهي للأثر.
إما تعريف الأثر في القانون فان المشرع السوداني في قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م ومذكرته التفسيرية لم يتعرض فيها لبيان حقيقة الأثر وإن كان يفهم من نصوص القانون وخلال كتابات شراحه أنهم يقصدون بالأثر ما يترتب على الشئ من أحكام تتعلق بتنفيذه()، أما قانون الإثبات والقانون الجنائي فلم يعرفا الأثر وعلى هذا فالمقصود بأثر البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص, الأحكام والنتائج التي تترتب على قبول بينة البصمة الوراثية كدليل إثبات يرقى إلى ترتيب قرار الإدانة في جرائم القصاص.
المطلب الثاني
تعريف البصمة الوراثية وبيان خصائصها
سبق أن ذكرنا أن تطور وسائل الجريمة صاحبه تطور في وسائل اكتشافها، فلم تعد الطرق التقليدية القديمة في الكشف عن الجريمة هي المتبعة الآن، بل ظهرت عدة وسائل علمية حديثة تستخدم لمكافحة الجريمة ، وسوف نتناول أحدث الوسائل العلمية ألا وهي اختبار الحامض النووي DNA))، كوسيلة لإثبات جرائم القصاص وسوف نتناول أيضاً موقعها بين أدلة الإثبات الجنائي أو تأصيلها القانوني وتكييفها الفقهي ومدي حجيتها في الإثبات. وسوف نتناول ذلك على النحو التالي:
الفرع الأول: التعريف العلمي للبصمة الوراثية:
البصمة الوراثية عبارة عن عملية عزل للحامض النووي DNA عن مصادره الحيوية بواسطة إنزيمات خاصة تقسم هذا الحامض إلى مواقع قيد حيث يكون له تسلسل معين. ومن ثم يتم تصنيف أجزاء الحامض النووي التي يتم الحصول عليها بهذه الطريقة بواسطة الهجرة الكهربائية التي تتمثل في أن يوضع على أطراف هلامية تحت مجال كهربائي المحلول الذي يحمل أجزاء الحامض النووي، وبطريق خاصة يتم جعلها مرئية ويتم التمييز بين الأجزاء ووضع علامات على كل منها يمكن أن تظهر منه الركيزة (التصوير الإشعاعي الذاتي) وذلك يترك خطوط واضحة إلى حد ما والمقارنة من حيث العدد والمكان الخاص بصورتين إشعاعيتين يتيح الوصول إلى هوية مصدرها البيولوجي().
والحامض النووي عبارة عن مادة كيميائية تتحكم في تطوير شكل الخلايا والأنسجة في جسم الإنسان، فهو بمثابة خريطة خاصة بتطوير الجسم محفوظة في داخل كل خلية من خلاياه().
والحامض النووي يختصر بالأحرفDNA وهي الحروف الأولى لمصطلح Deory Nevulice Acid اي الحامض النووي وهي أيضاً عبارة عن مركب كيميائي معقد ذو وزن جزئي عالٍ لا يمكن للكائن الحي الاستغناء عنه يعرف DNA وهي اختصار لكلمة الحامض النووي الديوكسي منزوع الأكسجين والحمض النووي هو الذي يحمل المعلومات الوراثية ويكون من خيطين دائرين النيوكليوثيدات على شكل حلزون ويوجد هذا الحمض في أنوية الخلايا للكائنات الحية لذا يطلق عليه الحمض النووي وترجع أهمية الحمض النووي إلى أن الـ DNA في الخلية يشمل جميع الكروموسات بداخل نواة الخلية وتشكل كروموسات نظاماً، وهذا النظام أو الترتيب هو الذي يحدد خصائص كل فرد باعتبار أنها تختلف من شخص لآخر.
الفرع الثاني : التعريف الاصطلاحي للبصمة الوراثية :
أجتهد العلماء المعاصرون في وضع تعريف جامع مانع لبيان ماهية البصمة الوراثية إلا أن تعريفاتهم تباينت مبني ومعني وذلك على النحو التالي:
عرفها الدكتور سعد الدين هلالي بأنها: (العلامة أو الأثر الذي ينقل من الآباء إلى الأبناء أو من الأصول إلى الفروع)()، كما له تعريف أخر يقول فيه: (إنها تعيين هوية الإنسان عن طريق تحليل جزء أو أجزاء من حامض DNA المتركز في نواة أي خلية من خلايا جسمه)، وعرفها دكتور رمسيس بهنام بأنها: (المادة الحاملة للعوامل الوراثية والجينات في الكائنات الحية) وعرفها دكتور عبد الله غانم بأنها: (صورة لتركيب المادة الحاملة للعوامل الوراثية أي هي صورة الحمض النووي DNA الذي يحتوي على الصفات الوراثية للإنسان أو بمعنى أدق هي صورة تابع النيوكليوثيدات التي تكون جزء الحامض النووي الوراثي DNA، وقيل إنها وسيلة من وسائل التعرف على الشخص عن طريق مقارنة مقاطع الـ DNA)()، وقد قامت ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري للمنظمات الإسلامية للعلوم الطبية بوضع تعريف للشفرة الوراثية قالت فيها: (هي البنية الجينية نسبة إلى الجينات الموروثات التفصيلية التي تدل على هوية كل فرد بعينه وهي وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية والتحقق من الشخصية)()، وقد أقر المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة التعريف آنف الذكر إلا أنه أضاف إليه: (بأنها تدل على هوية كل إنسان بعينه وأنها وسيلة تمتاز بالدقة)().
ونستخلص من التعاريف السابقة للشفرة الوراثية أنها تدور حول معنيين جمعهما تعريف المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في عبارتين دقيقتين هما: التحقق من الوالدية، والتحقق من الشخصية .
وبما أن موضوع بحثنا يتناول إثبات جرائم القصاص سينصب الحديث عن المعنى الثاني وهو التحقق من الشخصية.
الفرع الثالث: خصائص البصمة الوراثية:
يعتبر تحليل الـDNA (البصمة الوراثية)، وسيلة فعالة في مجال البحث عن الحقيقة من حيث إثبات الجريمة أو نفيها بدقة تامة حيث توجد في كل خلية في جسم الإنسان بطاقة لا يمكن تزويرها فيمكن مقارنة منطقة الحامض النووي الذي يعتمد عليه في مكان وقوع الجريمة بمنطقة الحامض النووي للمادة أو الخلية المأخوذة من المتهم، ووجود منطقتين متطابقتين يعتبر دليلاً شبه مطلق على أن الخلية هي لنفس الشخص، فيما عدا حالة وجود توأم آحادي البويضة حيث لا يمكن الجزم بذلك.
وتعتبر البصمة الوراثية أدق وسيلة عرفت حتى الآن في تحديد هوية الإنسان، وذلك لأن نتائجها قطعية لا تقبل الشك والظن، وبهذا فإن اختيار الحامض النووي لتحديد الهوية بفضل نتائج الاختبارات التقليدية فيما يتعلق بتحديد هوية الأشخاص عن طريق الطب الشرعي، فإحدى المشاكل التي لم تجد حلاً في الطرق التقليدية هي فحص المادة الجسدية المختلطة مثل الحيوانات المنوية المخلوطة بالإفرازات المهبلية، أما بالنسبة لاختبار الحامض النووي فلا يشكل مثل هذا الاختلاط أية مشكلة في الكشف عن تركيب هذا الحامض، ولذلك أهميته في قضايا القتل الجنسي بصفة خاصة بحيث تختلط الحيوانات المنوية للجاني بالإفرازات المهبلية للمجني عليها.
يضاف إلى ذلك أن جزئى الحامض النووي شديد المقاومة وثابت في الجو الجاف وأن مادة هذا الحامض لا تتلف ويمكن حفظها واستخدامها لعدة سنوات إذا تم هذا الحفظ بطريقة صحيحة، كما أن تركيب جزئي الحامض النووي لا يختلف من خلية لأخرى، فالحامض النووي في أي خلية دموية يطابق تماماً الحامض الموجود في أي مادة حيوية، بمعنى أن الحامض النووي لدى الأفراد متطابق في كل خلايا الجسم ولا يتغير أثناء الحياة().
وبذلك يمكن مقارنة المادة الحيوية لإحدى الخلايا مثل الخلية الدموية، بمادة أخرى مثل الغشاء المخاطي لغدة الفم، وقد أثبتت بعد ذلك التجارب والاختبارات إن لكل مخلوق DNA منفرد في الشكل والطول والمميزات ومواقع الترسيب ماعدا التوأم الذي يأتي من بويضة واحدة.
ومن المعروف أن الـ DNA يوجد في أنويه جميع الخلايا باستثناء كريات الدم الحمراء حيث لا يوجد فيها نواة، ولذلك يمكن استخراج سائل النواة الـ DNA بسهولة من جذور الشعر وكرات الدم البيضاء والعظام وإفرازات الإنسان كالمني واللعاب والفضلات.
وعلى أثر نجاح البصمة الوراثية في تحديد هوية الأشخاص اعتمد مكتب التحقيقات الفيدرالية بالولايات المتحدة الأمريكية طريقة اختبار سائل نواة الخليةDNA كأحد الوسائل المعتمدة في إجراءات البحث الجنائي().
المطلب الثالث
كيفية تحليل الحامض النووي
قبل أن نتحدث عن البصمة الوراثية يجدر بنا أن نعطي فكرة مبسطة عن الخلية وصولاً لتفصيل الـ DNA واستخداماته الحديثة في إثبات جرائم القصاص.
تركيب الخلية:
تتكون الخلية من جسم بيضاوي الشكل وهي النواة التي تحتوي بداخلها على المادة الوراثية والتي تسمى كرومسومات، وتحتوي كل خلية بشرية على (23) زوجاً من الكرومسومات أي تحتوي كل خلية على (46)، من هذه الكرومسومات بإستثناء خلية الحيوان المنوي فتحتوي على (23)، كروموسوم وبويضة الأنثي على (23)، كروموسوم وبعد تخصيب البويضة يتكون الزايجوت Zygote (البويضة المخصبة) وتحمل (46)، كروموسوم (23)، من الأب و(23)، من الأم.
وعلى ذلك فإن الـ DNA في الخلية يشمل جميع الكروموسومات بداخل نواة الخلية وتشكل هذه الكروموسومات نظاما وهذا النظام أو الترتيب لهذه الجينات هو الذي يحدد خصائص كل فرد ويختلف هذا الترتيب من شخص لآخر.
وتحاط نواة الخلية بالسيتوبلازم الذي يحاط بغشاء دقيق يسمى الغشاء البلازمي وهو يعمل على حماية الخلية ويتحكم في مرور العناصر من الخلية وإليها.
ونواة الخلية تتكون بدورها من جزئيات صغيرة تعرف بالنويات وسائل حمضي تسبح فيه مادة تعرف بالكروميدات.
وعند انقسام الخلية انقساما بسيطا يحدث استطالة في النواة، ثم ينجذب نصف محتويات النواة إلى كل طرف وتعرف هذه الظاهرة بالانقسام البسيط، حيث تنقسم كل خلية إلى خليتين، تحتوي كل خلية على نصف محتويات الخلية الأم.
ويتضح من ذلك أن العوامل الوراثية تنقسم إلى نصفين يكمل كل منهما عند التلقيح، النصف الثاني أي الذي يأتي من الشريك في عملية التلقيح، وعلى ذلك تتكون الخلية وصفاتها الوراثية مناصفة بين الأب والام.
وتم اكتشاف إن الجينات والكر وموسومات العالقة بسائل حمض نواة الخلية هي عبارة عن مواد بروتينية التركيب وقد أجريت أبحاث كثيرة لدراسة هذه الجينات وكيفية انتقالها من الأب والأم إلى الجنين، وامتدت هذه الدراسة لسنوات طويلة حتي استطاع العالم جيفري Jeffrey عام (1985)، ترسيب حامض نواة الخلية على أشرطة جهاز ترسيب كهربائي، ولاحظ أن كل عينة من العينات التي تم الحصول عليها من أشخاص مختلفين تترسب في أماكن محددة على شريط الترسيب ولا يختلف مكانها أو عددها وهي ستة أماكن في كل عملية ترسيب مهما تكررت التجارب.
فإذا أجرينا تجربة بأخذ عينة من: (س، ص)، وتم ترقيم شريط الترسيب بأرقام متتالية وأجرينا عملية الترسيب، نجد أنه في كل مرة تعاد التجربة يترسب الحامض في أماكن محددة بالشريط وعددها ستة ولا يختلف الموقع أو العدد، وذلك لأن الإنسان يرث نصف صفاته من الأب والنصف الآخر من الأم، وقد أجري جيفري تجاربه على والدي (س)، ووالدي (ص)، ووجد أن أماكن الترسيب بالنسبة إلى (س) عبارة عن ثلاثة من والدته وثلاثة من والده وكرر نفس الشئ بالنسبة لـ(ص)، ووجد أن أماكن الترسيب الثلاثة الموروثة من الأب تترسب في عينة (س)، بنفس أماكن ترسبها عند الأب ونفس الشئ حدث تماماً بالنسبة للأم، وبذلك فإن (س)، يشترك مع والدته في ثلاثة مواقع أخرى وبالتالي يمكن الجزم ببنوة (س)، لأبويه فحسب.
طريقة استخلاص البصمة الوراثية:
بعد رفع العينة من مكان الحادث تعامل معملياً بحيث يتم التخلص من المواد المصاحبة للعينة مثل: كرات الدم الحمراء والمواد الصلبة بواسطة جهاز طرد مركزي ذي سرعة عالية حتى تستخلص كرات الدم البيضاء ويتم تكسير نواة خلية كرة الدم البيضاء بواسطة الإنزيمات، والمقصود بالتكسير قطع غلاف الخلية وصولاً إلى الشريط المزدوج الحلزوني في صورة راسب أبيض هلامي هو البصمة الوراثية.
وتعرف دراسة حمض نواة الخلية DNA حديثا بتكنولوجيا الهندسة الوراثية ويمكن بطريقة فنية معينة تحديد موقع الجينات (عنصر الوراثة)، على الكر وموسومات لرسم خريطة الجينات لكل إنسان.
وتطورت التجارب واستخدمت المجسمات المشعة وغير المشعة لمضاعفة كمية حمض النواة المستخلص من أي نسيج أو إفراز آدمي مهما صغرت كميته وتسمي هذه الطريقة PCR وهي المستعملة في العينات صغيرة الحجم().
وهناك نوعان متميزان من الحامض النووي هما: الحامض النووي الوظيفي، والحامض النووي غير الوظيفي، والنوع الأول يقوم بدور في انتقال الصفات الوراثية، فالذي يهمنا في مجال هذا البحث هو الحامض النووي غير الوظيفي كدليل علمي في إثبات جرائم القصاص.
استخدام الشفرة الوراثية في اكتشاف جريمة القتل:
يمكن بفحص الشفرة الوراثية واستخلاصها بالطريقة سالفة الذكر تحديد جنس صاحب هذه البصمة وهل ذكر أم أنثي وتحديد هل زنجي أو أصفر أو أبيض أم هندي، فقد أصبح تمييز ملامح الحامض النووي في الخلايا البيولوجية للإنسان حقيقة علمية وواقعاً ملموساً شأنها في ذلك شأن بصمات الأصابع ويمكن بواسطة التقنية الحديثة الكشف عن الجاني في جميع الجرائم المسرحية؛ ونقصد بذلك أنه إذا كان لكل جريمة مكان فليس من اللازم أن يكون لكل مسرح، فجريمة السلوك المجرد إيجابياً كان أم سلبياً لها مكان ولكن ليس لها مسرح بالمعني الفني الدقيق يجري عليه السلوك والحدث الضار أو الخطر الناشئ منه .
ونخلص مما تقدم إلى أن الجريمة ذات المسرح ركنها المادي حسب نموذجه المرسوم في نص التجريم يتمثل في عملية إجرامية ذات جزئيات وحركات عضلية مختلفة لا يميزها عن المسرحية سوى أنها حادثة واقعية، ذات فصول أو فصل أو جزء من فصل، ويخلف تنفيذ جزئياتها وحركاتها آثاراً مادية أما في المكان أو في الأشخاص ويمكن استخدام اختبار الحامض النووي في الكشف عن جميع أنواع هذه الجرائم الأخيرة وفي حوادث القتل يمكن بتحليل عينة الدم الملتقطة من مسرح الجريمة وعينة دم المشتبه فيه معرفة أنهما لشخص واحد، لوحدة الشفرة الوراثية، وكذلك قد يوجد الشعر نتيجة تشابك بين الجاني والمجني عليه في حوادث القتل فيمكن إجراء اختبار الشفرة الوراثية والتوصل إلى الجاني، وقد يلتصق جزء ولو بسيط من أنسجة الجاني في أظافر المجني عليه الذي انبشها فيه.
وبالتالي يمكن من خلال تحليل هذه الأنسجة واستخلاص الشفرة الوراثية منها إثبات الجريمة في حق المشتبه فيه الذي تؤخذ منه ذات الشفرة.
المطلب الرابع
شروط قبول البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص
إن الاعتماد على الدليل العلمي المستمد من تحليل الحامض النووي يتوقف على مراعاة الشروط التقنية لاستخدام البصمة الوراثية بمعني الاعتماد على الدليل العلمي في الإثبات الجنائي يقتضي توافر شرطيين: التأكد من مصداقية نتيجة التحليل، وأن يتم الحصول على العينة من المتهم بطريق مشروع.
الفرع الأول: التأكد من مصداقية نتيجة تحليل الحامض النووي:
يجب التأكد على إن قيمة اختبار الحامض النووي تعتمد كلية على جودة طريقة البحث والدقة في تفسير النتائج التي أسفر عنها، وهذا التحليل يحتاج إلى خبرة واسعة وتخصص رفيع ومعمل ذى كفاءة عالية، ولذلك فإنه من الضروري مراقبة الطريقة الفنية في المعمل الذي يقوم بالفحوص الجينية().
ويجب أن يتم أخذ العينة في حضور الأطراف حتى يتأكدوا من مصدر العينات وإلا فإن عمل الخبير يكون باطلاً لمخالفته لمبدأ المواجهة.
ولأن تحليل الحامض النووي هو طريقة فنية جديدة فإنه يجب وضع قواعد لحفظ العينات والمعلومات التي تنتج عن هذا التحليل، فقوة البصمة الوراثية في الإثبات تعتمد على طريقة جمع العينات وحالتها وكميتها وكفاءة المعامل وجودة الفحوص().
الفرع الثاني: ضرورة الحصول على العينة من المتهم بطريق مشروع:
لكي يكون الدليل المستمد من تحليل الحامض النووي مقبولاً يجب أن تكون وسيلة الحصول عليه مشروعة، بمعني أنه يجب أن تكون الإجراءات التي اتبعت للحصول على الدليل مطابقة للإجراءات المنصوص عليها قانوناً فإذا كان الدليل قد وصل إليه القضاء بوسيلة غير مشروعة انهار وأصبح لا قيمة له.
واستخدام الحامض النووي كدليل علمي في الإثبات الجنائي يثير بعض المشاكل فيما يتعلق بالمبادئ العامة للإجراءات الجنائية وحقوق المتهمين والضمانات المقررة لهم، حيث إن اختبار الحامض النووي يقتضي الحصول على خلية من جسم الإنسان، لأنه في ظل الوضع العلمي الحالي لا يمكن إجراء هذا البحث إلا على الدم والحيوانات المنوية والشعر أو أي نسيج خلوي. فاللعاب لا يحتوي على كمية كافية من الحامض النووي إلا أن مسحة من الغشاء المخاطي للفم، والذي يتكون من خلايا مدارية يحتوي على كمية كافية من هذا الحامض أما عن إمكانية استخدام مخلفات الجسم مثل البول فهي لا تزال تحت البحث العلمي ولم يتم التوصل إلى نتيجة فيها بعد.
وعلى ذلك فلابد من اقتطاع جزء من الجسم حتى يمكن إجراء اختبار الحامض النووي، مما يعتبر مساساً بالسلامة الجسدية للمتهم والتي يحميها القانون ومع ذلك فإن الحق في سلامة الجسد ليس حقاً مطلقاً؛ فكثيراً ما تقيد القوانين هذا الحق.
والتساؤل الذي يثور: ما هو الحال إذا رفض المتهم نزع عينة من جسمه في حالة إجراء مقارنة مع ما عثر عليه على جسم المجني عليه؟.
انتهت الأنظمة القانونية الأجنبية التي ناقشت فكرة تحليل الحامض النووي في المجال الجنائي إلى عدة خيارات لكن الراجح منها هو إكراه المتهم على الخضوع لتحليل الحامض النووي، وهو ما أخذ به المشرع في الدول الاسكندنافيه واسكتلندا وألمانيا والولايات المتحدة وبعض ولايات استراليا خاصة وأن التدخل يتمثل في مجرد شكة إبرة في طرف الأصبع للحصول على عينة.
إذا كانت القاعدة أنه لا يمكن إجبار المتهم على أن يقدم دليلاً ضد نفسه، فإن لهذه القاعدة استثناءات في حالة القبض على المتهم أو أخذ بصمته أو عينة منه أو تفتيشه أو عرضه عرضاً قانونياً على شهود الرؤية للتعرف عليه وإخضاعه للكشف الطبي والفحوص البيولوجية فلا شك في أن إجراء الفحوصات الطبية أو أخذ عينات من جسم المهتم وهو إجراء ضروري في بعض الجرائم من أجل مقارنتها بما يماثلها مما عثر عليه من بقع دم أو مخلفات أدمية على مسرح الجريمة، يعتبر اعتداء على حق المتهم في سلامته الجسدية إلا أن مثل هذه الإجراءات لا يمكن مقارنتها بالضرر الذي سببه الجاني بارتكابه الجريمة، ولذلك يسمح القانون بإخضاع المتهم لأعمال تمس سلامته الجسدية في سبيل رعاية مصلحة عامة جديرة بالاعتبار تحقيقا للآمن والعدالة.
وفي الواقع إن الحل الوحيد للوصول إلى الحقيقة هو إجبار المتهم في حالة رفضه على الخضوع لتحليل الحامض النووي، بشترط أن في ذلك بمعرفة طبيب مختص، وبناء على قرار بذلك من النيابة الجنائية أو من قاضي التحقيق – أي القاضي الذي أوكلت له سلطة التحري والضبط، وأن تتوافر دلائل كافية على ارتكاب جريمة().
ولا بد أن نشير في هذا الصدد إلى أن الدول الأوربية أكثر استخداماً للحامض النووي في الإثبات الجنائي وبالذات جرائم القتل ونظراً لاحتمال تعارض التشريعات الأوربية فيما يتعلق بإمكانية استخدام الحامض النووي في مجال الإثبات الجنائي فقد أصدر المجلس الأوربي شروطاً لاستخدام الحامض النووي ويمكن أن يستهدي بها المشرع السوداني في هذا المضمار وهذه الشروط هي:
[1] عدم استخدام تقنية تحليل الحامض النووي إلا في أغراض البحث الجنائي، أي لإثبات أو نفي الاتهام، وفي حدود الأشخاص المطلعين بأمر التحقيق فحسب، وبناء على ترخيص من المشرع الوطني ولا تستعمل العينات التي تؤخذ من جسد شخص المتهم في أي غرض آخر (علمي أو تجريبي) إلا بعد طمس كل المعلومات التي من شانها الكشف عن هوية صاحب العينة (المتهم).
[2] ألا يسمح بإجراء هذا التحليل إلا بإذن من السلطة المختصة بالتحقيق، وذلك في حالة رفض المتهم استقطاع هذه الأنسجة من جسمه أو الحصول على العينة.
[3] ألا يسمح بإجراء هذا التحليل إلا في نطاق الجرائم التي على درجة معينة من الخطورة الإجرامية، وأن ينص القانون على هذه الجرائم.
[4] يجب إجراء هذه التحاليل في معامل طبية لوزارة العدل أو حاصلة على ترخيص بذلك.
[5] فيما يتعلق بحفظ العينات والأنسجة المستقطعة والمعلومات المتحصلة منها فإنه يجب محوها والتخلص منها إذا لم تعد لها أهمية في الدعوى، ويمكن الاستمرار في حفظها إذا أظهرت النتائج إدانة المتهم صاحبها في جريمة خطيرة من جرائم الاعتداء على الأشخاص، ولكن يجب على المشرع الوطني – في جميع الأحوال – أن يحدد المدة القصوى لهذا الحفظ.
[6] على الدول الأعضاء ضمان استعمال نتائج هذه التحاليل كوسائل إثبات مقبولة، أمام القضاء سواء للادعاء أو للدفاع عن المتهم، وأن تمكن الدفاع بنفس الوسيلة من استعمال هذه النتائج سواء كان ذلك بإذن قضائي أو عن طريق وسيط (خبير مستقل)، مع التأكيد دائماً على السهر على عدم الإخلال بحقوق الدفاع، حتى ولو كانت النتائج المهيأة محدودة ومقيدة().
وبهذا نكون قد انتهينا من الشروط التي يجب توافرها لقبول البصمة الوراثية كدليل إثبات في المسائل الجنائية.
المطلب الخامس
حجية البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص
إذا كان المشرع السوداني لم ينص صراحة على القيمة الإثباتية للبصمات في مجال الإثبات الجنائي حيث يكون الإثبات بمقتضي أدلة تطرح في الدعوى تحقق قناعة القاضي يقينياً.
ونظراً لأن اعترافات المتهم وأقوال الشهود كانت تمثل مكان الصدارة بين أدلة الإثبات في الدعوى ربما لأن القوانين الوضعية والمناقشات الفقهية في كثير من دول العالم قد تناولتها بالإيضاح والتفسير، فإن الواقع العلمي قد أثبت ومن خلال التجربة أن الأدلة المادية تعتبر دليلاً لها من القناعة التي تجعلها أكثر قبولاً لما تتصف به من الثبات خلال مراحل الدعوى المختلفة.
ولقد أكدت الدراسات العلمية إن بصمات الأصابع: راحة اليد والأقدام تعتبر دليلاً علمياً قاطعاً لا يحتمل المنازعة في مجال تحقيق الشخصية، الأمر الذي جعل المشرع السوداني يفرد لها معالجة منفصلة تحت عنوان الأدلة المادية وذلك حينما نص على ما يلي: (يعتبر من القرائن وجود الأدلة المادية كالأثر والخط والبصمة ونحوها ….)().
ونظراً لأن الخبرة في البصمات من الأعمال الفنية البحتة التي لا يمكن لمحكمة أن تشق طريقها لإبداء الرأي فيها، فإن المحكمة ملزمة بالأخذ برأي الخبير في مجال بصمات أصابع اليدين والقدم وراحة اليد لما تستند إليه من أساس علمي مستقر غير قابل للطعن فيه، غير أن لمحكمة الموضوع أن تستجلي الرأي فيما يقرره الخبير، وذلك بالاستعانة بغيره من أهل الخبرة في مجال التخصص. وقد بين المشرع السوداني أنه: (إذا اقتضى الفصل في الدعوى استيعاب مسائل فنية كالطب والهندسة والمحاسبة والخطوط والأثر وغيرها من المسائل الفنية فيجوز للمحكمة الاستعانة برأي الخبراء فيها وتندب لذلك خبيراً أو أكثر ما لم يتفق الخصوم على اختيارهم)().
والخبرة في اللغة تعني العلم بالشئ واختياره، يقال خبر فلان الأمر إذ عرفه على حقيقته قال تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}().
أما في الاصطلاح القانوني فهي استشارة فنية تلجأ إليها المحكمة بقصد الحصول على معلومات وبيانات ضرورية عن طريق شهادة ذوي الاختصاص في أمور علمية أو فنية لا تدخل في العلم القضائي للمحكمة ومن ثم تستطيع الإلمام بها.
بهذا المعنى تدخل أعمال الخبرة في معنى الوقائع والأدلة المادية، هذا بالمعني الضيق لكن قد تكون الاستعانة بالخبير بالنسبة للقانون، ولا سيما القوانين الأجنبية إذ تحتاج المحكمة لإعانة أطراف الدعوى في تحديد مضمون أحكام هذه القوانين، وذلك بواسطة خبراء وفقهاء القانون الدولي الخاص وأساتذة الجامعات هذا المعن أثار اختلافاً حول طبيعة الخبرة، فذهب البعض إلى أن الخبرة بذاتها لا تعد دليلاً للإثبات، ولعل المشرع السوداني لا يميل لهذا الاتجاه حيث جعلها دليل إثبات جوَّز للمحكمة تأسيس حكمها على شهادته.
المهم أن الخبرة وأن كانت تعد دليلاً ووسيلة للإثبات، إلا أن اللجوء إليها يكون استثناء في مسائل معينة؛ وهي الفنية والعلمية لإعانة المحكمة، الأمر الذي يدعو إلى عدم التوسع في استعمالها لكي لا تسحب من القضاء الوظيفة الرئيسية وهي ولاية الفصل في الدعاوى، ومن ثم يتحول هؤلاء الخبراء إلى قضاء خاصة في ظل وجود سند قانوني يعطي للمحكمة أن تكتفي بتقرير الخبير دون استدعائه لمناقشته، بل يمكن للمحكمة أن تؤسس حكمها على شهادة الخبير بالرغم من أن المحكمة غير ملزمة بالأخذ برأي الخبير، لكن الأصل هو الأخذ به وبالتالي إذا قررت المحكمة عدم الأخذ به أن تضمن الأسباب المانعة على النحو الذي نص عليه القانون حيث جاء: (مع مراعاة بينة إثبات الحدود يجوز للمحكمة تأسيس حكمها على شهادة الخبير وعليها إذا قضت بخلاف رأيه إن تضمن حكمه للأسباب التي أوجبت عدم الأخذ برأي الخبير كله أو بعضه)().(2).
وجاء في قضاء محكمة النقض المصرية في هذا الخصوص: (إن تقرير الخبير لا يعدو أن يكون دليلاً في النزاع يخضع لمطلق تقرير قاضي الموضوع فله إن يأخذ منه ما شاء وله أن يخالفه إذا هو الخبير الأعلى في الدعوى ورأيه هو القول الفصل في الأمور التقديرية التي لا تستلزم بحثاً فنياً متعمقاً يقضي التخصيص ولا رقابة عليه في ذلك من محكمة النقض متى أقام قضاؤه على أسباب سائغة حمله لحكمه).
فالأصل كما أسلفنا القول الأخذ برأي الخبير لهذا إذا طرح رأي الخبير في دعوى وكان هذا الرأي في أمور فنية دقيقة يقتضي التخصص، على المحكمة أن تبين في حكمها الأسباب التي حدت بها إلى عدم الأخذ برأي الخبير، وإذا كانت شهادة الخبير حول البصمة العادية لا يجوز الحكم بخلاف الفحص دون بيان العلل والأسباب التي أدت إلى عدم الأخذ فهذا لا يسحب سلطة المحكمة الأصلية كما بينا في أن تبني حكمها على قناعتها وبالتالي تخضع أراء الخبير رغم التخصص في مطلق تقدير المحكمة.
وكانت إمكانية أخذ بصمات أصابع أي شخص أثناء محاكمته أو التحقيق معه أو التحري بشأنه أمراً جائزاً بمقتضى قانون الإجراءات الجنائية إذا رئى أن في ذلك مصلحة لإغراض المحاكمة أو التحقيق أو التحري، بيد أن المشرع السوداني في قانون الإجراءات الجنائية لسنة (1991م)، تعديل (2002م)، نص على أنه: "يجوز أن تؤخذ البصمات والصور لأي شخص أو أي شئ متي كان ذلك لازماً لأغراض التحري"()، فقد حصر المشرع أخذ البصمات والصور لأغراض التحري فقط مما يعني أنه لا يجوز أخذ هذه البصمات أثناء المحاكمة، كما نص على ذلك المشرع السوداني في قانون الإجراءات الجنائية لسنة (1983م)، الملغي، ولعل ذلك يعد قصوراً من المشرع الحالي حيث كان عليه أن لا يحصر أخذ البصمات والصور لأغراض التحري فقط بل يضيف إليها المحاكمة، ولكن الواقع التطبيقي يجد فيه أن البصمات تؤخذ لأغراض التحري والمحاكمة باعتبارها من القرائن ونجد قضاء المحكمة العليا أخذ بالقرائن بمعناها الواسع في إثبات جرائم القصاص وجاء في قضاء المحكمة العليا "أنه ليس هنالك ما يمنع من تأسيس الإدانة في جرائم القصاص على القرائن وحدها"()، وهذا يعني أنه يمكن لمحكمة الموضوع أن تقضي بالإدانة بناء على بينة البصمة وقد أخذت كبينة في قضايا عديدة منها سابقة حكومة السودان ضد الطيب محمد جمعة وآخرين، حيث ذكر القاضي أبو رنات "بأن التعرف بواسطة بصمة الأصبع من قبل شخص خبير في هذه البصمات مسموح به كما عليه إن يكون سبباً للإدانة وحده دون حاجة إلى تعضيد"().
ولقد أرست محكمة النقض المصرية أثر البصمة في الإثبات الجنائي، فقضت بان الدليل المستمد من تطابق البصمات دليل له قيمته وقوته الاستدلالية على أساس علمي دقيق لا يوهن منها ما يستنبطه الطاعن في طعنه من احتمال وجود تماثل غير تام بين بصمات شخص وآخر، أما تقنية البصمة الوراثية فأصبحت تلعب دوراً كبيراً في إثبات الاتهام الجنائي عن طريق الوصول إلى الجاني الحقيقي من خلال تحليل آثار الدماء أو السائل المنوي أو أي خلية بشرية يتم العثور عليها على مسرح الجريمة، فبفضل تحليل الحامض النووي أمكن التعرف على شخصية الجاني في كثير من الجرائم وخاصة الاغتصاب عن طريق فحص البصمة الجينية المستمدة من مني المتهم العالق بالمجني عليها، والبصمة الخاصة بالمشتبه فيه، وإثبات أنهما لشخص واحد هو الذي ارتكب الجريمة.
ولقد تم استخدام البصمة الوراثية للمرة الأولى في قضية Pitch Fark بالمملكة المتحدة فيفضل آثار لسوائل الجسم الحيوية المأخوذة من جسمي المجني عليهما قضي بإدانة المهتم().
وفي فرنسا تم التعرف على شخصية الجاني الذي اغتصب (طالبتين أمريكيتين)، عن طريق الجينات الوراثية، وذلك بعد أن أثبت التحليل الجيني للسائل المنوي المأخوذ من جسد المجني عليهما أنه يخص الجاني بالإضافة إلى تطابق تحليل آثار الدماء المأخوذة على مسرح الجريمة مع فصيلته(). ويمكن أن يؤدي استخدام البصمة الوراثية إلى البراءة ففي إحدى قضايا الاغتصاب تعرفت المجني عليها على المتهم من وسط طابور العرض القانوني، إلا أن تحليل البصمة الوراثية نفى أن يكون المشتبه فيه هو مرتكب الجريمة، ومن القضايا المهمة التي شغلت الرأي العام العالمي عام (1991م)، وكان لنتائج تحليل البصمة الوراثية صدى إعلامي وسياسي خطير ونقصد بها قضية (مونيكا ليؤو نسكي)، التي كانت تعمل في البيت الأبيض وقد اتهمت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بوجود علاقة جنسية معه وأقسم كلينتون بإنه لم يحدث، ثم قدمت المدعية (مونيكا)، للمحكمة فستانا أزرق اللون خاصاً بها عليه بقع منوية تبين به إثبات التهمة عليه، وأرسل الفستان إلى المختبر الجنائي لتحليل الحامض النووي في كل خلية في كل بقعة من البقع المنوية، وتم أخذ عينة دم الرئيس بل كلينتون لتحليل الحامض النووي وبالمقارنة وجد الحامض النووي مطابقاً مما يدل على أن السائل المتجمد بفستان يخص الرئيس كلينتون وبمواجهته اعترف بالواقعة واعتذر للشعب الأمريكي ولأسرته().
وهكذا أصبح للحمض النووي بصمة لأجل هذا استخدام الحامض النووي في جرائم القصاص (القتل والجرح)، إذا وجدت أي آثار من جسد الجاني على مسرح الجريمة، ففي حوادث القتل يمكن تحليل عينة الدم الملتقطة من مسرح الجريمة وعينة دم المشتبه فيه إثبات أنهما لشخص واحد لوحدة الجريمة الجينية.
ونجد أن المشرع المصري قد أدخل البصمة الوراثية دليلاً في تحديد هوية المجني عليه في جرائم القتل والجرح، وذلك في العام (1998)، في القضية التي تتخلص وقائعها في ارتكاب جريمة قتل شخص ثم إشعال النار فيه في إحدى المناطق الصحراوية، وقد دلت تحريات الشرطة إلى تحديد مكان الواقعة، إلا أنه لم يعثر فيه على عظام أو أشلاء لأنسجة آدمية، ومع ذلك تمكن خبراء الطب الشرعي من الحصول على كمية من الرمال التي توجد بها آثار دماء من محل الواقعة، وأجروا عليها تحليل الـ DNA بطريقة PCR بهدف التعرف عما إذا كانت هذه العينة من الدماء تخص المجني عليه من عدمه، وتم بالفعل استخراج الحامض ولكن نظراً إلى قلة كميته فقد تعذر فنياً استكمال باقي أبحاث الحامض النووي، وإن كانوا قد توصلوا بالفعل إلى أن الدماء من جسم آدمي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل أصبحت تستخدم البصمة الوراثية أمام القضاء الجنائي في السودان؟ وبسبب انتشار الإثبات بواسطة البصمة الوراثية في كثير من دول العالم منها كما ذكرنا مصر أصبح من الأهمية بمكان أن نبحث هذا الموضوع، فالعلم يقدم الوسائل الفنية ورجل القانون يقدم المسار الصحيح في إطار القانون حتى لا يقع استخدام هذه الوسائل تحت طائلة القانون، و حتى لا يكون التقدم العلمي على حساب إهدار حقوق الأفراد فإذا كان المشرع السوداني سبق إن أباح أخذ بصمات أصابع أي شخص أثناء محاكمته أو التحقيق معه أو التحري بشأنه وذلك بمقتضي قانون الإجراءات الجنائية لسنة (1991م)، حيث نص على أنه (لا يجوز أن تؤخذ البصمات والصور لأي شخص أو أي شئ متى كان ذلك لازما لاغراض التحري)()، وبما أن البصمات تنقسم إلى نوعين بصمات عادية وبصمات وراثية وبما أن المشرع أطلق لفظ (البصمات)، بصيغة الجمع فيدخل في نطاق التسمية البصمة الوراثية، ومن ثم فليس هناك أي مبرر لرفض الاعتماد على البصمة الوراثية في الإثبات الجنائي، حتي ولو تضمنت هذه الوسيلة مساساً بسلامة جسم الإنسان طالما أن هذا المساس تم بضوابط معينة وأسفر عن نتائج موثوق بها.
وبما أن البصمة الوراثية من أحدث وسائل الإثبات الحديثة حيث يتطلب إستيعابها وفهمها واستخلاص نتائجها خبرة ودراية، وذلك حتي تطمئن لها المحكمة وتركن إليها كدليل وبينة للفصل في الدعاوى وبالأخص جرائم القتل فإن على محكمة الموضوع أن تستعين بشهادة الخبير المتخصص في هذا المجال باعتبارها من المسائل الفنية المعقدة، فالخبرة تعد دليلاً ووسيلة للإثبات كما أسلفنا القول إلا أن اللجوء إليها يكون استثناء في مسائل معينة وهي الفنية والعلمية لإعانة المحكمة، وقد يقال إن التطور العلمي من شأنه أن يطغى على نظام الاقتناع القضائي، فيجعل للخبير القول الفصل ولا يبقي للقاضي بعد ذلك إلا الإذعان لرأي الخبير دون أي تقدير من جانبه وإن كان البعض يرى وبحق أن التطور العلمي لا يتعارض مع مبدأ حرية القاضي في تكوين اقتناعه، وأن الأمر لا يعدو أتساع مجال الاستفادة بالقرائن وإعمال الخبرة في إطار السلطة التقديرية للقاضي حسبما يستريح ضميره بمعني أن السمات التي تتميز بها الأدلة العلمية بمقدار اتساع مساحة الأدلة العلمية بمقدار ما يكون انكماش وتضاؤل دور القاضي الجنائي في التقدير إلا أن هذا التصور ليس في محله لأنه يجب التميز بين أمرين:
الأمر الاول: القيمة العلمية القاطعة للدليل.
الأمر الثاني: الظروف والملابسات التي وجد فيها هذا الدليل.
فتقدير القاضي لا يتناول الأمر الاول وذلك لأن قيمة الدليل تقوم على أسس علمية دقيقة، ولا حرية للقاضي في مناقشة الحقائق العلمية الثابتة، أما الظروف والملابسات التي وجد فيها هذا الدليل فإنها تدخل في نطاق التقدير الذاتي للقاضي، فهي من طبيعة عمله بحيث يكون في مقدوره أن يطرح مثل هذا الدليل رغم قطيعته من الناحية العلمية، وذلك عندما يجد أن وجوده لا يتسق منطقياً مع ظروف الواقعة وملابساتها، فمجرد توافر الدليل العلمي فإنه لا يعني ان القاضي ملزم بالحكم مباشرة، دون بحث للظروف والملابسات بالإدانة أو البراءة فالدليل العلمي ليس آلية معدة لتقرير اقتناع القاضي بخصوص مسألة غير مؤكدة.
وبالنسبة للدليل الناتج عن تحليل الحامض النووي في الإثبات من حيث قوته الإثباتية في القضايا الجنائية .
فإنه من واجب المحكمة عند العمل به الأخذ في الاعتبار أن الأصل هو الأخذ برأي الخبير حيث إن البصمة الوراثية من الأدلة العلمية الدقيقة التي تقتضي التخصص، ولاشك أن هذا الالزام من جانب المشرع له دلالته، فالقاضي لن يلجأ إلى الخبير لإمداده بالدليل الفني والعلمي ثم بعد ذلك يهمله إلا إذا كان قرار التخلي عن الدليل مسببا من جانب القاضي، كذلك لايجوز للقاضي تفنيد الدليل الفني الذي جاء في تقرير خبير البصمة الوراثية بشهادة الشهود وإلا كان ذلك إخلالاً بحق الدفاع. بل أن المحكمة نفسها لايجوز لها دحض ما قاله الخبير الفني وماجاء به الدليل العلمي استناداً على معلومات شخصية بل يتعين عليها إذا ماساورها الشك أن تستجلي الأمر بالاستعانة بخبير آخر من أهل الخبرة ما دام موضوع الدليل من المسائل الفنية البحتة التي لا يصح للمحكمة أن تحل فيها محل الخبير.
ولا شك أن كل هذه القواعد وغيرها إنما هي دلالة على الحماية والرعاية التشريعية لقيمة الدليل العلمي وقدراته الفعالة في صون الحقوق وإرساء العدالة في المجتمع.
وهذه الحماية التي أسبغها المشرع السوداني على الدليل العلمي تفرض على سلطات التحري وهم أول من ينتقل إلي مسرح الجريمة أو يتلقى بلاغ وقوعها بالمحافظة على كافة الأدلة مهما تضاءلت درجة أهميتها في نظره، وهو واجب وظيفي وقانوني كسلطة من سلطات العدالة الجنائية قبل أن يكون واجبا أخلاقيا. وفي محاكمة م- ز-ا، والذي أدانته محكمة جنايات الخرطوم شمال بتاريخ (16/12/2008م)، تحت المادة (130)، من القانون الجنائي لسنة (1991م)، وذلك بناء على القرائن ومن ضمن هذه القرائن بينة البصمة الوراثية حيث تم العثور على السكين أداة الجريمة مع المتهم وعليها فصيلة دم المجني عليه ومن ثم كانت الإدانة، و قد جاء في حيثيات محكمة الموضوع: (أن هذه الجريمة تعد أبشع الجرائم التي شهدتها البلاد وأن المتهم أرتكب جريمته بوحشية وأسلوب قاسٍ لم يراع فيه علاقة الصداقة التي تربطه بالمرحوم كما أشير بالمجهود المقدر الذي قامت به الشرطة ممثلة في الجهات التي أشرفت على التحري وهي تيم التحري في هذا البلاغ، والتحري الميداني ممثلاً في إدارة المباحث الجنائية ولاية الخرطوم حيث بذلت جهداً مقدراً في كشف الجريمة والوصول لأجزاء جسد المرحوم ومكان الجريمة والذهب الذي تم أخذه من المحل واستخدم التحري كل التقنيات الحديثة والمختبرات العلمية في الكشف عن الجريمة مما مكن المحكمة من الوصول إلى للحقيقة)().
ونخلص من ذلك إلى أن البصمة الوراثية تعتبر قرينة قضائية تصلح دليلاً كاملاً ويجوز أن يستمد منها القاضي اقتناعه الذي يعتمد عليه في حكمه، وهذا يعني أن الإدانة يمكن أن تبنى على القرائن وحدها وبمعنى أخر يمكن الإدانة بناء على دليل البصمة الوراثية، وتطبيقاً لذلك جاء في قضاء محكمة النقض المصرية بأن " القرائن من طرق الإثبات الأصلية في المواد الجنائية، فللقاضي أن يعتمد عليها دون غيرها، ولا يصح الاعتراض على الرأي المستخلص منها مادام سائغاً مقبولاً".
وبناء على ذلك فإن كل دليل يمكن أن يتولد منه اقتناع القاضي يكون من حيث المبدأ مقبولاً أمامه، وبالتالي فليس ثمة ما يمنع قبول الأدلة الناشئة عن البصمة الوراثية باعتبارها من الأساليب العلمية الحديثة في الإثبات الجنائي وترسخ لمبدأ لا يطل دم امرئ في الإسلام الذي يقوم عليه منهج المشرع السوداني المتوسع في إثبات جرائم القصاص.
الخاتمة
بعد أن انتهينا بعون الله تعالى من بحث أثر البصمة الوراثية في إثبات جرائم القصاص والذي خصصت فيه المبحث الأول لبيان مفهوم جرائم القصاص في الفقه الإسلامي والقانون ونخلص إلى إن القصاص هو اتباع الشيء أو الفعل بمثله ويكون في النفس والأطراف وكذلك نجد أن كل التعريفات السابقة قد اشترطت في القصاص أن يكون قد أرتكب موجبه عمداً ، وأنه أي القصاص يعني المساواة والمماثلة بين الجريمة الواقعة على المجني عليه والعقوبة التي توقع على الجاني، وأن تكون العقوبة من جنس الجريمة .
وانصب الحديث في المبحث الثاني على أثر البصمة الوراثية على إثبات جرائم القصاص والتي تنبع أهميتها في توصيل أجهزة العدالة بدقة إلى الحقيقة، ولم يعد المثل القديم إن الموتي لا يتكلمون قائما في عصرنا حيث أتاح التقدم العلمي للمحقق والقاضي أن يتيقن من شخصية الجاني وأسلوب ارتكاب الجريمة لمجرد توافر بصمته بمكان الحادث، فهي دليل قطعي على وجوده في المكان الذي وجد فيه، وخلصت من ذلك إلى أنه يجب على المحاكم أن تقبل الإثبات العلمي عندما يقدم إليها في إطار إثبات جرائم القصاص حتى لا يطل دم في الإسلام.
وانتهيت إلى أن استخدام البصمة الوراثية في مجال الإثبات الجنائي يجعل العملية الإثباتية غير جامدة ويتفق مع منهج المشرع السوداني المتوسع في إثبات جرائم القصاص حيث إن التجديد والتطور وفقا للإنجازات الإنسانية المستقرة في مجال العلوم الطبية والكيميائية وغيرها وهي مسألة لا يمكن مصادرتها ومن ثم يصبح لزاما على المجتمع أن يتطور ليتواءم من محدثات التطوير ، فيأخذ منها ما يفيده من نتائج ثبت بما لا يدع مجالا للشك استقرارها خاصة عندما لا يتعارض إعمال هذه النتائج العلمية الضمانات التشريعية والطبيعية للحقوق الإنسانية.
النتـــائج
بالنظر لكوني كنت أبلور الضروري ،وأشير في طي هذا البحث، لم أجد معاناة في اقتطاف أهم النتائج والمميزات من خلال ما علقت في سطوره وبيانها فيما يلي:
[1] توصل الباحث إلى أن الاعتداد بالبصمة الوراثية كدليل لتحديد هوية مرتكب الجريمة، يوجب أن يجري تحليل الحامض النووي في معامل معترف بها، كما يجب إتباع القواعد العلمية في أخذ العينة أو رفعها وحفظها وتحليلها، وأيضا يجب أن يراعي أن يكون اخذ العينة من المتهم وفقا للحدود والإجراءات المسموح بها قانونا.
[2] تعتبر البصمة الوراثية من اقوي طرق لإثبات التي عرفت حديثاً في الكشف عن الجريمة وتحديد مرتكبيها وذلك من خلال ما يعثر عليه على مسرح الجريمة من مخلفات أو بقايا أدمية.
[3] توصل الباحث إلى أن التطورات العلمية المتقدمة التي ظهرت على الساحة في العصر الحديث قد أحدثت متغيرات جذرية في وسائل إثبات جرائم القصاص لم تكن معروفة من قبل اعتماداً على النظريات العلمية والممارسات العملية الميدانية التي برزت معالمها واستقرت أصولها بما لا مجال للجدل في حقيقتها أو الطعن في صحتها وأصبحت الإدانة المستمدة منها حجة يعول عليها القضاء كأداة فنيه تؤسس عليها الأحكام بالإدانة أو البراءة.
[4] ألزم المشرع السوداني سلطات التحري والمحكمة بالرجوع إلى الأخصائيين والاستشاريين الفنيين لمساعدتهم في تقدير المسائل الفنية إذا لزم الأمر.
[5] لا يجوز للقاضي تفنيد الدليل الفني الذي جاء في تقرير الخبير بشهادة الشهود. بل إن المحكمة نفسها لا يجوز لها دحض ما قاله الخبير الفني وما جاء به الدليل العلمي استنادا على معلومات شخصية بل يتعين عليها إذا ما ساورها الشك أن تستجلي الأمر بالاستعانة بخبير آخر من أهل الخبرة مادام موضوع الدليل من المسائل الفنية البحتة التي لا يصح للمحكمة أن تحل فيها محل الخبير.
التوصيات
في ختام هذا البحث أورد أهم ما توصل إليه الباحث من توصيات:
[1] ضرورة النص على مبدأ {لا يطل دم امرئ في الإسلام} باعتباره احد أصول التشريع الجنائي أو أحد القواعد الدائرة في التشريع الجنائي، وان تستبعد أوامر الحفظ، والأوامر بان لأوجه لإقامة الدعوي الجنائية بسبب عدم معرفة الفاعل أو عدم كفاية الاستدلالات أو الأدلة الجنائية أو الأدلة وإيجاد بدائل لها للتضييق من أعمال هذه الأوامر.
[2] نوصي بقيام مؤتمر علمي متخصص يشارك فيه رجال القانون والطب الشرعي والأدلة الجنائية والعلماء المتخصصين في مجال تحليل الحامض النووي DNA لدراسة البصمة الوراثية كتقنيه علمية تستخدم في تحديد هوية الأشخاص وبصفة خاصة الجناة وأشلاء المفقودين.
[3] إيجاد قنوات للتعاون العلمي بين المعامل الجنائية والجهات البحثية المتخصصة في تحليل الحامض النووي.
[4] وضع إطار تشريعي للإثبات بالحامض النووي يتضمن تحديد شروط ممارسة المعامل تحليل البصمة الوراثية وشروط اخذ العينات والاحتفاظ بها ,حتى يمكن القطع بصحة النتائج التي تسفر عنها.
[5] الاهتمام بالجوانب الفنية لجمع الأدلة وذلك بعمل دورات تدريبية للقائمين على سلطات التحري والتحقيق والحكم, وتوعيتهم بالأساليب المتطورة والمستحدثة وهذا المجال أو بالأحرى إنشاء وسائل علمية متطورة.
[6] يوصي الباحث سلطات التحري باستخدام كل التقنيات الحديثة والمختبرات العلمية في الكشف عن جرائم القتل حتى لا يطل دم في الإسلام
قائمة المصادر والمراجع
القران الكريم
[1] القانون الجنائي السوداني, أسسه ومبادئه ونظرياته العامة، أ.د.محمد الفاتح إسماعيل، طبعة 2000.
[2] المفردات من غريب القرآن. للإمام الحسين بن المفضل -المعروف بالراغب النبهاني، طبعة دار المعرفة .
[3] بدائع الضائع للكاساني – علاء الدين ابوبكر بن مسعود الكاساني – مطبعة الجمالية بالقاهرة 1991.
[4] مواهب الجليل – شرح مختصر خليل محمد بن محمد المغربي المعروف بالخطاب 954هـ) – مطبعة السعادة بمصر 1329هـ.
[5] نهاية المحتاج لشرح المنهاج ــ نهاية المحتاج – محمد بن أحمد الرملي (1004هـ) مطبعة الحلبي.
[6] الأحكام العامة في القانون الجنائي لعلي بن بدوى – الموسوعة الجنائية.
[7] قانون العقوبات لسنة 1974.
[8] انظر القضية رقم: (12695)، لسنة 1998 جنايات النزهة – القاهرة.
[9] قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991 تعديل 2022.
[10] الوسائل العلمية الحديثة في الإثبات الجنائي: د. حسين المحمدي بوادي.
[11] الوسيط في شرح القانون المدني د. عبدا لرزاق السنهوري -طبعه دار النشر للجامعات المصرية 1952.
[12] الشفرة الوراثية للإنسان د. أحمد مستجير- سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت.
[13] قواعد الفقه للمفتي – دار الكتب الحديثة، الطبعة الثانية 1966.
[14] عقود المعاملات في الفقه الإسلامي د. محمد سيد أحمد الطبعة الثانية 1999.
[15] صحيح البخاري: أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري (256هـ)، مطبعة الشعب المصرية (1378هـ)، مطبعة علم الكتاب بيروت.
[16] الجوانب القانونية والشرعية للإثبات الجنائي بالشفرة الوراثية – د.محمد أحمد غانم – دار الجامعة الجديدة – طبعة 2022 م.
[17] حجية البصمات في الإثبات الجنائي- عادل غانم.
[18] القاموس المحيط، محي الدين بن يعقوب الفيروز أبادي (817هـ ) المطبعة الحسينية سنة (1330هـ).
[19] موسوعة تكنولوجيا الحامض النووي في مجل الجريمة –د.عبد الباسط محمد الجمل – مروان عادل عبده مطبعة الشرطة – القاهرة – الطبعة الأولي 2022.
[21] فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي، محمد أبو زهرة، الناشر معهد الدراسات العربية 1966م،
[21] توصية المجلس الأوربي: رقم 1-92-R بتاريخ 22-2-1991م.
[22] لسان العرب: جمال الدين بن محمد المعروف بابن منظور (711هـ) دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر (1375 هـ – 1956م).
[23] مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر الرازي (666هـ)، مطبعة عيسي الحلبي، القاهرة والمطبعة الأميرية، الطبعة السادسة.
[24] المصباح المنير: الشرح الكبير للرافعي أحمد بن محمد بن علي المغربي (770هـ)، مطبعة مصطفي الحلبي ودار العلم بيروت، لبنان.
[25] المبسوط، للسرخسى، للإمام محمد بن أحمد السرخسي (ت 483هـ) الطبعة الأولي (1993م).
[26] مغني المحتاج، إلى معرفة معني ألفاظ المنهاج: للخطيب الشربيني, شمس الدين محمد بن أحمد, (ت: 977هـ), وهو شرح منهاج الطالبين للنووي.
[27] المغني – عبد الله بن أحمد بن قدامة (620هـ) مطبعة الإمام القاهرة ومطبعة سيد طه.
[28] المحلى: أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (456هـ)، نشر مكتبة الجمهورية العربية القاهرة (1391م)، والمكتب التجاري للطباعة بيروت