1- مقدمة
تتغير طرائق التفكير بتغير المجتمعات وبتغير مراحل التطور التي تمر بها، وتتغير أيضا بحسب كل مجال معرفي وبحسب الموضوعات التي يتم الشغل عليها علمياً. قد يطول بنا الوقت إذا حاولنا استعراض تاريخ جميع المناهج العلمية والمراحل التي مرت بها، المهم في هذا الموضع هو لفت الانتباه إلى أن بين العلم والمجتمع علاقات تفاعلية مستمرة، العلم فيها عامل تغيير فاعل في المجتمع، وما إن يتغير المجتمع حتى تتغير طرائق التفكير ويتغير العلم نفسه. وبطبيعة الحال لا يشذ عن ذلك علم التاريخ ومناهجه.
يهدف علم التاريخ كما هو معروف إلى الإخبار الصادق عن الماضي، والحصول على إفادات صحيحة عنه.غير أن تاريخ علم التاريخ يبن لنا أن طريقة الإخبار عن الماضي لم تكن واحدة ولم تكن جميعها على الدرجة ذاتها من المصداقية.
في مرحلة من التاريخ كان القص الأسطوري هو المنهج المتاح للإخبار عن الماضي، تغير في مرحلة لاحقة من التطور إلى منهج الوصف السردي لأحداث الماضي، بتأثير الأيديولوجية غالبا، و من مواقع المنتصر دائما. و تغيرت هذه المنهجية مع الزمن إلى منهجية الاستقصاء النظري التي تهدف إلى تكوين معرفة حقيقية بالماضي. ورغم التطور الكبير الذي طرأ على مناهج علم التاريخ لا يعني ذلك انه تخلص نهائيا من المناهج التقليدية الأخرى وخصوصا منهج الوصف السردي.
2- منطلقات علم التاريخ وميادينه.
ينطلق علم التاريخ من فرضية تقول أن لكل شيء أو ظاهرة امتدادا في الزمن، يتحرك فيه بكيفيات معينة، يدخل مع غيره بعلاقات تأثير متبادلة، تفضي في المحصلة إلى كيفيات وجودية أخرى. بكلام أخر لكل شيء أو ظاهرة قصة وجود تنطوي على حقيقة مطلقة أو موضوعية يحاول الباحث التاريخي الاقتراب منها من خلال البحث في الماضي عن مصادر إخبار ذات مصداقية عنها.
وبقدر ما تكون الحقيقة التي يحصل عليها الباحث التاريخي قريبة من الحقيقة الموضوعية، تكون معرفتنا عنها صادقة وتسمح بالتنبؤ بحقيقة أحداث تاريخية أخرى مشابهة. مثلا عندما نعلم بصورة جيدة وصحيحة قصة مرض معين، أو صيرورة ظاهرة معينة أو قصة حياة كائن حي معين نستطيع توقع مسارات الحالات المشابهة والتدخل للتأثير عليها. بهذا المعنى يتضح مدى أهمية المنهج التاريخي في التحصيل المعرفي العلمي سواء استخدم كمنهج مستقل أو كمنهج مساعد.
ثمة ثلاث ميادين تشكل محط اهتمام المنهج التاريخي وهي التالية:
أ-ميدان التأمل والإدراك في علم التاريخ باعتباره مهنة مستقلة.
ب- ميدان التأمل والإدراك بنتائج البحث التاريخي، أي باعتباره مجموعة إفادات تفسر الوقائع في الماضي.
ت- ميدان التأمل والإدراك بموضوع البحث التاريخي، أي بأحداث معينة وقعت في الماضي.
3- المعرفة بالماضي معيار صدقية الإخبار عنه.
لكي يمكن القيام بالبحث التاريخي ينبغي توفر مجموعة من الشروط الذاتية في الباحث ذاته بحسب خصائص مجال البحث. فلكي يتم الوصول إلى الإفادات الصحيحة عن وقائع الماضي لا بد من امتلاك منهج الوصول إليها أولا، ولا بد من امتلاك منهج التحقق من صحتها وصدقيتها ثانياً. وفي كلتا الحالتين لا بد من توفر الخبرة والمعرفة بالوقائع. عندما يقوم المؤرخ بالتحقق من صحة إفادة معينة فإنه يقوم بعملية مواجهة بين تلك الإفادة وما هو متوفر لديه من معرفة عن مجال الإفادة. وعندما يرفض الباحث التاريخي على سبيل المثال إفادة معينة فإنه يكون قد تمسك بما لديه من معرفة، لكنه أحيانا يميل إلى تعديل ما لديه في ضوء الإفادات الجديدة، خصوصا عندما يقوم بمواجهتها مع السلوك الفعلي في مرحلة لاحقة.
عند هذا المستوى من البحث التاريخي يكون الباحث عمليا قد استخدم منهجين مختلفين كمنهجين مساعدين للمنهج التاريخي: منهج وصفي، ومنهج معياري.
في المرحلة الأولى يكون قد تحقق من وصف الظاهرة وعمليات إدراكها والنتائج التي تم التوصل إليها. أما في المرحلة الثانية فإنه يصدر الأحكام العلمية العقلانية، وبالتالي ينتج معرفة علمية بها. إن كلا المرحلتين من البحث التاريخي مترابطتان لا يكتمل البحث التاريخي إلا بهما.
إن معرفة موضوع الدراسة يشكل معيارا لكشف الانحرافات أو التحريفات الممكنة خصوصا عندما يعيد الباحث التاريخي بناء موضوعه.
تختلف أحيانا كثيرة النظريات التاريخية حول موضوع معين باختلاف الباحث التاريخي ومصالحه وأهدافه من البحث. لكنه قد يختلف بحسب التقنيات البحثية المستخدمة. من هنا فإن امتلاك معرفة بتقنيات البحث التاريخي(الميدان الأول)، وطرقه وأساليبه يعد ضروريا للخوض في بحوث الميدان الثاني والثالث.
عندما يبدأ البحث التاريخي في موضوع لا تتوفر معلومات سابقة عنه، أي لا تتوفر مرجعية معيارية للتأكد من صدقية المعلومات الجديدة(الإفادات)، عندئذ يكون الباحث قد أنجز المرحلة الأولى الوصفية من البحث التاريخي.غير أنه بمجرد تشكل معرفة وصفية معينة لمسار تاريخي معين، حتى تتحول هذه المعرفة بالنسبة لبحوث أخرى مشابهة إلى مرجعية معيارية.
4- البحوث الاجتماعية والمنهج التاريخي.
يعرف المنهج التاريخي عادة بأنه استخلاص المبادئ عن طريق الماضي، بكلام أخر فهو يعنى بدراسة وتحليل العوامل والمشكلات التي أثرت في الحاضر وشكلته على ما هو عليه، من خلال ماضيها، من خلال كونها ممتدة في الماضي. فمن خلال دراسة سيرورة، وصيرورة الظاهرة الاجتماعية في مراحلها المختلفة يمكن التوصل إلى تفسيرها في حالتها الراهنة. بهذا المعنى فإن معرفة الماضي يساعد في تصور المستقبل وتوقع ما سيكون عليه.
غير أن استخدام المنهج التاريخي في الدراسات الاجتماعية يحتاج إلى ما يسانده ويدعمه من مناهج أخرى مساعدة كي يصل إلى حقائق أكثر مصداقية. من هذه المناهج المساعدة سوف نتوقف عند ما يلي:
أ-طريقة المقارنة.
تستخدم طريقة المقارن لاستخلاص تعميمات معينة من خلال مقارنة ظاهرتين متشابهتين، تتناول أوجه التشابه وأوجه الاختلاف، ومن ثم البحث عن العوامل المسببة لها.
تتناول المقارنة ثلاثة أبعاد للظواهر المقارنة:
-البعد التاريخي. من خلال هذا البعد يتم مقارنة المراحل المتعاقبة المختلفة لسيرورة وصيرورة الظاهرة في الماضي.
-البعد المكاني. من خلال البعد المكاني يقارن وجود الظاهرتين في أماكن مختلفة.
-البعد الزماني المكاني. هنا تتم مقارنة وجود الظاهرتين المقارنتين في أزمنة وأمكنة مختلفة من خلال هذا البعد.
تستخدم طريقة المقارنة أيضا للمقارنة بين مراحل مختلفة من وجود الظاهرة المدروسة للوصول إلى تعميمات معين. كما انه قد يستخدم لمقارنة وجود الظواهر المدروسة في مجتمعات متشابهة مثلا المجتمعات العربية. وفي خارج العلوم الاجتماعية يتسع نطاق استخدام طريقة المقارنة لدراسة ظواهر طبيعية، أو موضوعات تجريبية مختلفة للوصول إلى تعميمات نظرية معينة.
ب- طرقة تحليل المضمون.
يقصد بتحليل المضمون الوصول إلى وصف دقيق للظاهرة المدروسة، من اجل تحويله إلى معطيات علمية. وقد يستخدم الوصف الطرق الكمية بحسب قابلية الظاهرة المدروسة للتكميم.
تستخدم طريقة تحليل المضمون في جميع الدراسات التي تقبل التكميم، وتستجيب إلى القياس، لكنها واسعة الاستخدام أيضا في مجال تحليل الوثائق، وفي مجال الظواهر الاجتماعية التفاعلية( الاستجابة لدعاية معينة مثلا، أو لخطاب معين)، واستخدمت بنجاح في مجال الأدب( معرفة مؤلف مجهول كتاب معين، أو تصحيح نسب نص أدبي لصاحبة..) . من الناحية الفنية التقنية يمكن استخدام وسائل عديدة في تحليل المضمون بحسب طبيعة الظاهرة المدروسة، وبشكل خاص يمكن استخدام طرائق الإحصاء في جمع البيانات وتحليلها، أو طرائق الاستجواب والمقابلات، أو الاستبيانات، أو تفكيك النصوص الوثائقية ومقارنتها..الخ.
ت- طريقة المسح الاجتماعي.
تستخدم طريقة المسح الاجتماعي في جمع البيانات والملاحظات عن الظاهرة المدروسة ومن ثم تحليلها لمعرفة الحقيقة الكامنة وراءها. بهذا المعنى فإن طريقة المسح الاجتماعي مهمة جداً للتأسيس لاتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ث-دراسة الحالة.
قد يكون من الصعب في أحيان كثير دراسة جميع حالات الظاهرة المعنية، بل قد يكون من غير الضروري القيام بذلك، لذلك يمكن الاكتفاء بدراسة حالات معينة منها(نماذج) للوصول إلى تعميمات علمية. مثلا من خلال دراسة أوضاع عدد من الأسر يمكن التوصل إلى تعميم حول مستوى المعيشة.
ج- الطريقة التجريبية
ينطلق التجريب من الإقرار بوجود أشياء خارجية بالنسبة للعقل، يمكن تمثيلها تجريبيا للوصول إلى تحليلها وتفسيرها، وذلك بالاعتماد على مجموعة من القواعد. من المعروف أن الطريقة التجريبية هي جزء أساسي من المنهج الاستقرائي، مع ذلك يمكن استخدامها في المجالات غير المادية، خصوصا في مجال الظواهر الاجتماعية التي تقبل التجريب. هنا يبدأ الباحث بملاحظة الظاهرة ومن ثم يضع الفروض العلمية لتفسيرها، ليقوم في خطوة لاحقة ومن خلال مزيد الملاحظة الدقيقة أو التجريب إثبات صحة الفروض التي وضعها أو نفيها.
بطبيعة الحال الظواهر الاجتماعية على درجة عالية من التعقيد والتشابك بحيث يصعب التجريب عليها كما في حالة الموضوعات المادية الطبيعية. هنا لا يمكن إصدار الأحكام استنادا إلى عامل مدروس واحد، فغالبا ما تكون الظاهرة نتاج تفاعل عوامل عديدة لا تكون إلا بها. من هنا يرى البعض أن طريقة التجريب في مجال العلوم الاجتماعية غير ممكن ويتحفظون بالتالي على طريقة التجريب الاجتماعي. من جهة أخرى التجريب فيه نوع من التدخل من طرف الباحث في الظاهرة المدروسة مما يؤثر على طبيعتها العفوية، وبالتالي يصعب التوصل إلى تعميمات ذات مصداقية نتيجة لذلك