إن الدستور باعتباره تجسيدا لإرادة الأمة في كيفية تنظيميها و تسير مؤسستها والمنظم للوفاق بين الحرية و السلطة داخل المجتمع من جهة، وبصفته القانون الأساسي في الدولة من جهة أخرى، فهو يحتل المرتبة الأولى في قوانين الدولة التي عليها الالتزام و التقيد بما ورد فيه من أحكام، وبذلك يتحقق تطبيق مبدأ الشرعية، الذي يعني خضوع الحكام و المحكومين لقواعد الدستور وهذا يعني التقيد بمبدأ تدرج القوانين، حيث يخضع التشريع الأدنى للتشريع الأعلى منه درجة، وبالتالي لا يجب أن يتعارض قانون عادي مع أحكام الدستور أي أن تكون القوانين الصادرة في الدولة منسجمة مع أحكامه.
فالدستور في صورته المبسطة هو اتفاق جماعة على تنظيم شؤونها وفق نمط معين في إطار الدولة، و القول بهذا التدرج يستتبع ضرورة التفرقة بين القانون الدستوري و القانون العادي سواء من ناحية الموضوع أو من ناحية الشكل.
فمن ناحية الموضوع نجد أن الدستور هو مصدر كل النشاطات القانونية في الدولة حيث تتحدد السلطات العمومية واختصاصاتها والتي عليها الالتزام بما هو وارد في الدستور.
أما من ناحية الشكل فإن الدستور لا يمكن تعديله إلا بإتباع إجراءات خاصة تختلف عن تلك الإجراءات المتبعة في تعديل القوانين العادية.
بالتالي فإن الدستور يسمو على جميع القوانين و التنظيمات داخل الدولة الواحدة، إذ أن المعاهدات و الاتفاقيات التي تصادق عليها الدولة يجب أن تنسجم مع أحكام الدستور و القوانين و التنظيمات التي تسنها مختلف أجهزة الدولة يجب أن لا تتعارض مع أحكام الدستور، وهذا ما يصطلح عليه بدستورية القوانين والمعاهدات فالرقابة على دستورية القوانين تعتبر إحدى الضمانات الأساسية لحماية الدستور وضمان احترام القوانين داخل نفس المجتمع.
فما هي أهم النتائج المترتبة عن سمو الدستور وماذا نعني بحماية الدستور؟ وما هي الآليات التي نراقب من خلالها دستورية القوانين أي الأدوات الضامنة لاحترام التفوق الدستوري على سائر النصوص القانونية الأخرى في الدولة.
إننا من خلال هذا المحور الدراسي سنحاول أن نوضح للأستاذ أن النظام القانوني في الدولة يأخذ شكل هرم حيث يخضع التشريع الأدنى للتشريع الأعلى منه درجة، وعلى قمة الهرم نجد الدستور الذي يتميز بالسمو، إذ أن جميع القوانين يجب أن تنسجم مع أحكامه، وهذا ما يكفل شرعيتها، كما ستوضح للأستاذ أن الرقابة على دستورية القوانين من أهم الوسائل التي تكفل ضمان احترام الدستور.
وقد اختلفت الدولة في تحديد وتشكيل الهيئات التي أسندت لها مهمة الرقابة على دستورية القوانين، و الصلاحيات المخولة لكل هيئة، فهناك من أنشأت أجهزة خاصة ومستقلة عن السلطات الثلاث مهمتها رقابة دستورية القوانين، وهناك من أوكلت هذه المهمة للسلطة التشريعية و البعض الآخر أوكلها للسلطة القضائية، أما الصنف الأخير فقد أو كلتها إلى مجموعة من الهيئات وليس إلى جهاز واحد فقط. وهذا ما انتهجته الجزائر حيث تتعدد الجهات التي تتولى مهمة رقابة دستورية القوانين وهي أساساً المجلس الدستوري، القضاء وقد امتنعت العديد من الدول إسناد هذه المهمة للمحاكم، إذ إن دور هذه الأخيرة هو تطبيق القوانين ولا يمتد للرقابة على أعمال الهيئات الأخرى، و الحكم على القوانين بأنها خاطئة أو صحيحة.
سنعالج هذا الموضوع في فصلين أساسين
الفصل الأول نتطرق فيه إلى مفهوم السمو الدستوري و النتائج المترتبة عنه و الفصل الثاني كيف نضمن ونحمي هذا السمو الدستوري أي ما هي الآليات المستعملة في الرقابة على دستورية القوانين.
الفصل الأول : مفهوم السمو الدستوري و النتائج المترتبة عن ذالك
المبحث الأول :أهمية توفر الدولة الحديثة على دستور
المطلب الأول : ظهور الدساتير
إن انهيار الحكم الملكي المطلق بعد الثورات الأوربية وسيطرة البرجوازية على السلطة إلى جانب ظهور فكرة القومية وانحسار الاستعمار كانت من الأسباب و الدوافع الرئيسية في دسترة أنظمة الحكم، وكان غرض شعوب تلك الأنظمة إثبات سيادتها الداخلية واستقلاليتها، وذلك بواسطة تنظيم الحياة السياسية بوضع دستور بين السلطات وعلاقاتها في الدولة الجديدة و علاقاتها بالمحكومين و الدول الأخرى.
و إن هذه الدول بوضع الدستور تؤهل نفسها لإقامة حوار بين السلطة و الحرية فكأنها تعلن للغير بأنها وصلت إلى مرحلة النضج السياسي و الذي لاشك فيه أن وضع الدستور يفيد كقاعدة عامة الرغبة في التنظيم العقلاني للدولة، لأن العملية الدستورية عندما تأخذ كامل معناها ومدها تبدو فعلاً وكأنها تجديد لتأسيس الدولة يجرى هذه المرة بمساهمة الأمة مساهمة ناشطة وواعية.
فكان إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الأمريكية لـ 1780 وتشكيل الاتحاد الفيدرالي هو أول دستور بالمفهوم الحديث الذي يعتمد على فكرة العقد الاجتماعي والفلسفة الحرة، و إقتداء بالولايات المتحدة الأمريكية توسعت الحركة الدستورية في أوروبا، وكان أولها الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان و المواطن لسنة 1789 إلى أن جاءت الثورة الروسية التي كان لها الدور في تغيير الفكرة الدستورية و القانونية إذ عكست النصوص ما هو قائم من صراع بين الطبقات في إطار علاقات الإنتاج، وإذا كان الفقه الحديث يرى أن أول دستور وضع بالمعايير الحديثة هو دستور الولايات المتحدة. إلا أن المسلمون يرون غير ذالك، فالدستور المكتوب الأول هو تلك الوثيقة التي أعدها محمد صلى الله عليه وسلم لتنظيم أحوال دولة المدينة بعد أن انتقل إليها من مكة، فقد تضمنت بنود تتحدث عن الوحدة الإسلامية، التكافل الاجتماعي وتنظيم القضاء ووضعية الأقليات الدينية، كما نصت على العديد من الحقوق والحريات ومنها حرية العقيدة والرأي وحق الملكية و الأمن والسكن، فكان بذالك أول الدساتير الذي اعترف بحقوق الإنسان.
المطلب الثاني :أهمية الدستور في الدولة الحديثة
يكفل الدستور في الدولة الحديثة كونه العقد الاجتماعي حماية حرية المواطنين وحقوقهم من اعتداءات الدولة لما تتمتع به من سلطة ونفوذ.
كما يهدف الدستور إلى ضمان المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع هذا من جهة، من جهة أخرى يعتبر الدستور بمثابة القانون الأساسي للدولة باعتبارها شخصاً معنويا من جهة. كما أن للدستور دوراً مهماً في تحديد من له الحق التصرف باسمها ولحسابها من جهة أخرى.
هذا وقد جرى الفقه التقليدي، من عهد مانتسكيو، على التميز بين وظائف الدولة الثلاث، التشريعية و التنفيذية و القضائية.
حيث يتكفل الدستور بتنظيم السلطات العمومية، فتسند مهمة سن القوانين إلى الوظيفة التشريعية، أما الوظيفة التنفيذية فتتحدد مهمتها في تطبيق القوانين موضحة أبعادها من خلال ما تصدر من لوائح، أما الوظيفة القضائية فدورها ينحصر في فض المنازعات معتمدة على القانون.
وهكذا فالدولة الحديثة تنبني على وجود قانون يسمو على وظيفة الحكم، يحدد سلطات الدولة ويسند لها اختصاصاتها ويرسى الضمانات الضرورية للمواطنين في مواجهة تعسف الحكام لهذا اعتبر الدستور بمثابة العمود الفقري للحياة السياسية وكسمة أساسية للدولة القانونية.
كما أن ممارسة وظائف في السلطة ليس امتياز و إنما يؤدون وظيفة حددها الدستور وبهذه الدستورية تنتقل آثار تصرفات الحكام إلى الدولة ولا تعتبر تلك الوظائف التي يمارسنها حقوقا شخصية، يمكن التنازل عنها أو التصرف فيها.
المبحث الثاني :أهمية سمو الدستور على باقي القوانين
المطلب الأول :السمو الموضوعي و الشكلي للدستور
كما ذكرنا في المبحث السابق أن الدستور هو الضامن لحرية المواطنين وحقوقهم من اعتداءات الدولة و لكفالة ذلك يجب اعتماد مبدأ سمو الدستور، الذي يضمن الفصل بين السلطات وشرعية الحكم. فاعتبار أن الدستور أسمى القوانين في الدولة يعني أنه لا يجوز لأية سلطة مهما كانت قوتها أن تتخطى أحكامه فهو المقيد الأعلى للسلطة السياسية وهو الضامن لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يراد به ما أثبته الواقع من أنه كلما ركزت السلطة في يد شخص إلا واستغلها بطريقة تؤدي إلى إلغاء حريات الغير، هذا ولما كانت قواعد الدستور تتضمن كل هذها المبادئ فإنه من الطبيعي أن يسمو محتواه على كل القواعد القانونية الأخرى فممارسة السلطة في الدولة المعاصرة من طرف الهيئات و الأشخاص لابد أن تستند إلى النصوص الدستورية التي تحدد الوظائف في الدولة وحدوها وكيفية ممارستها.
كما أن الدستور يتطلب إعداده وتعديله إجراءات استثنائية تختلف درجة تعقيدها بحسب مرونة أو جهاد الدستور، حيث تنتفي سيادة الدستور إذ تمكنت السلطة التشريعية أن تعدل النصوص الدستورية بنفس الإجراءات التي يعدل بها القانون العادي فتفقد قواعده الثبات والاستقرار.
في النظام الدستوري الجزائري يستوجب تعديل الدستور عرضه على الاستفتاء الشعبي، أما إذا كانت المسألة لا تمس ولا تغير من طبيعة النظام يستوجب تصويت بالقبول أعضاء غرفتي البرلمان مجتمعتين. كما أن هناك بعض القوانين لها علاقة وثيقة بالنظام الدستوري وتسمى في الجزائر بالقوانين العضوية وهي المتعلقة بالقضاء و الأحزاب والانتخابات جعل لها المشرع إجراءات خاصة في التحضير و المصادقة، فهذه القوانين تعالج موضوعات القانون الدستوري دون أن تدرج في مثن الدستور، ولكنها تعد قوانين أساسية مكملة للدستور.
المطلب الثاني : ضرورة حماية الدستور
نعني بحماية الدستور خضوع جميع النصوص و القواعد والأحكام له، والتي تقل عنه درجة، فهذه الحماية تجعل تصرفات السلطات منسجمة مع أحكام الدستور، وتدعيم المشروعية في الدولة بحيث أي تصرف مخالف للقانون صادر عن السلطات الحكومية يجب اعتباره مجرداً من القيمة القانونية.
بعبارة وجيزة يمكن القول أن حماية الدستور تتمثل في مجموعة من الوسائل القانونية الموجهة لضمان تطابق أحكام القانون العادي مع الدستور، فالواقع السياسي يبين أن أغلب دول العالم الثالث تتوفر على دساتير ديمقراطية إلى حد ما. لكن البحث في واقعها السياسي يسمح لنا بمعرفة أنها دول تقوم بسلوكات لا تمد بصلة بالممارسة الديمقراطية من تعسف في استعمال السلطة واحتكارها، وهذا أساساً ناتج إما عن عدم تطبيق الدستور أو عن وجود تشريعات مخالفة لهذا الدستور نتيجة لغياب الآليات التي تسمح بمراقبة مدى دستوريتها، أو وجود آليات تفتقر إلى عامل الفعالية، وهذا حال الكثير من دول المعمورة أين يبقى الدستور بما يحمله من مبادئ عليا للمساواة وحقوق الأفراد عبارة عن حبر على ورق.
فلا يكفي في أي دولة صيغة دستور جيد، إنما المهم هو أن تنسجم جميع التشريعات مع أحكام الدستور وتأتي مطبقة لأحكامه مجسدة لروحه.
المبحث الثالث : المبادئ المترتبة عن سمو الدستور وعلوه
المطلب الأول : ثبات القواعد الدستورية
إن من أهم ميزات القواعد الدستورية هو ثباتها، وهذا الثبات نسبي لأن إطلاقه يتجافى و المنطق و التطور، فهو يقتصر على ضرورة مراعاة إتباع إجراءات خاصة عند تعديلها، بما يكفل استقرار الدستور وعدم جعله وسيلة في يد الحكام يفسرنه حسب مقاسهم تبعاً لأهوائهم ونزواتهم الشخصية، إذن هذه النتيجة تعني أنه لا يمكن تعديل أو إلغاء القوانين الدستورية إلا بقوانين لها ذات الدرجة و المرتبة غير أن هذه القاعدة لا تطبق إلا في السلم.
أما في حالة الحرب فالرئيس الجمهورية بصفته قائد الأمة الحق في تجميد الدستور و العمل بالأحكام العرفية. كما أن طول ثبات القواعد الدستورية تعكس مدى تحضر الدولة و قدمها في الديمقراطية. فالولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا لم تعدل دستورهما إلا في مرات قليلة عكس العالم الثالث أين يتغير الدستور بقدوم رئيس جديد.
المطلب الثاني: تقرير مبدأ دستورية القوانين.
المتفق عليه أن المراحل التي تمر بها عملية التشريع حتى تكتسب صفة القانون يجب أن تكون متماشية مع أحكام الدستور، كما أن تطبيق هذا المبدأ يؤدي إلى تقرير مبدأ التزام السلطات العامة في الدولة و أعمالها بنصوص الدستور و السؤال الواجب طرحه: إذ حدث أن صدر قانون مخالف للدستور فكيف نكفل ضمان احترام أحكام الدستور و إلغاء هذا النص المخالف ، ومادامت السلطة التشريعية هي صاحبة الاختصاص في التشريع وفقا للدستور فلا يعقل أن تقوم بمراقبة نفسها، لذلك وجب وضع نظام مراقبة تتكفل به هيئة مستقلة إلا أن مراحل عملية التشريع يمكن أن تشوبها أما عيب شكلي أو موضوعي أو هما معا.
العيوب الشكلية: من العيوب الشكلية الأساسية عدم مراعاة مجال الاختصاص و الإجراءات التي يجب إتباعها لسن التشريع، ففيما يتعلق بعدم مراعاة قواعد الاختصاص يمكن القول بأن المؤسسة التشريعية في الدولة هي صاحبة الاختصاص في التشريع و إن إصدارها يعود إلى المؤسسة التنفيذية و رغم هذا للسلطة التنفيذية حق تشريع اللوائح الفرعية، فإن كان موضوع هذه اللوائح يمس إحدى مجالات القوانين فهذا يعتبر عيب اختصاص.
أما فيما يتعلق بعدم مراعاة الإجراءات المحددة من قبل الدستور فيمكن ذكر أهمها و المتمثلة في عدم توافر النصاب المحددة لصحة اجتماع البرلمان و عدم موافقة الأغلبية المطلوبة دستوريا.
العيوب الموضوعية:و هي خروج التشريع على روح ومحتوى الدستور أو إنكار حق من الحقوق المقررة فيه.
الفصل الثاني : أساليب الرقابة على دستورية القوانين
قد اختلفت الدول في تحديد أساليب الرقابة على دستورية القوانين رغم اجماعها جميعاً على أهمية الرقابة بما تكفل ضمان احترام الدستور والقوانين من قبل السلطات العمومية فهناك من أسندها إلى هيئة سياسية مستقلة تخلف تسميتها من دولة إلى أخرى، وهناك من أوكلها إلى الهيئات النيابية، وهناك من أوكلها إلى المحاكم، وسنتعرض إلى هذه الأساليب في ثلاثة مباحث أساسية.
المبحث الأول : رقابة المجلس الدستوري
المطلب الأول : كيفيات عمل المجلس الدستوري وطبيعة قراراته
لقد نشأت فكرة الرقابة السياسية على دستورية القوانين في فرنسا ويقصد بها إنشاء هيئة خاصة لغرض التحقق من مدى مطابقة القانون للدستور قبل صدوره فهي رقابة وقائية.
ويعود الفضل في ظهور هذه الفكرة عن الرقابة إلى الفقيه الفرنسي Sieyes الذي طالب بإنشاء هيئة سياسية تكون مهمتها إلغاء القوانين المخالفة للدستور وغرضه في ذالك هو حماية الدستور من الاعتداء على أحكامه من قبل السلطة وقد فضل Seiyes الرقابة السياسية على الرقابة القضائية للأسباب التالية:
1-أسباب تاريخية يمكن ردها إلى أعمال العرقلة في تنفيذ القوانين التي كانت تقوم بها المحاكم، بحيث توصلت إلى الحكم بإلغاء القانون وهو ما حدا برجال الثورة إلى تقيد سلطات المحاكم ومنعها من التدخل في اختصاصات السلطة التشريعية.
2-أسباب قانونية : نجد أصلها في مبدأ الفصل بين السلطات فقد اعتبر تصدي القضاء على دستورية القوانين تدخلاً في اختصاصات السلطة التشريعية و التنفيذية.
3-أسباب سياسية : إن القانون هو تعبير عن إرادة الأمة وأن هذه الإرادة أسمى من القضاء.
ورغم هذه الأسباب الوجيهة إلا أن هذه الأفكار لم تجد لها طريق للتنفيذ حتى سنة 1799 مع الدستور الثامن للثورة، وتجنبا لوقوع أعضاء المجلس تحت التأثير وجب إتباع أسلوب خاص في اختيار أعضائه، إلا أن هذا الأسلوب لم يمنع نابليون بالتحكم بالمجلس كما يشاء، لأن المجلس لا يمكن أن يراقب القوانين إلا بإخطار من الحكومة، وقد ظهر ثانية في دستور 1852 إلا أن عدم نجاعته أدت إلى غايبه حتى سنة 1946 و 1958 مع وضع الدستور الجديد.
فقد أسندت مهمة الرقابة على دستورية القوانين قبل إصدارها إلى هيئة سياسية تسمى المجلس الدستوري الذي يتألف من أعضاء بحكم القانون وهم رؤوساء الجمهورية السابقون وتسعة أعضاء لكل من رئيس الجمهورية و رئيس الجمعية الوطنية ورئس مجلس الشيوخ حق تعين ثلاثة أعضاء.
وقد تبنت الجزائر نفس التجربة الفرنسية إذ أوكلت مهمة مراقبة دستورية القوانين إلى هيئة تسمى المجلس الدستوري ويتكون من تسعة أعضاء.
ثلاثة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية من بينهم الرئيس، عضوان ينتخبان من بين أعضاء المجلس الشعبي الوطني، عضوان ينتخبان من بين أعضاء مجلس الأمة، عضو ينتخب من بين أعضاء المحكمة العليا و العضو التاسع ينتخب من طرف مجلس الدولة.
ويتمتع المجلس الدستوري الجزائري تقريباً بنفس الاختصاصات المجلس الدستوري الفرنسي وهي التحقق من مطابقة أو مخالفة القوانين التي يسنها البرلمان الجزائري طبقا للمادة 122 و 123 من الدستور لأحكام الدستور.
كما يسهر المجلس الدستوري طبقا للمادة 163 من الدستور على صحة عمليات الاستفتاء وإنتخاب رئيس الجمهورية والانتخابات التشريعية ويعلن نتائج ويعلن نتائج هذه العمليات كما يفصل المجلس الدستوري طبقا للمادة 165 من الدستور في دستورية المعاهدات والقوانين والتنظيمات إما برأي قبل أن تصبح واجبه التنفيذ أو بقرار في الحالة العكسية، كما يبدي المجلس الدستوري بعد أن يخطره رئيس الجمهورية رأيه وجوباً في دستورية القوانين العضوية بعد أن يصادق عليها البرلمان.
المطلب الثاني: نجاعة عمل المجلس الدستوري في الجزائر و الأنظمة المقارنة
كما سبق وذكرنا أن تجربة المجلس الدستوري الفرنسي في بداية عهده فشلت بسبب آليات عمله إذ أنه لا يمكن أن يتحرك إلا بإخطار من طرف الحكومة أو من هيئة TRIBUNAT إلى غاية تعديل 1974 الذي وسع مجال الإخطار حيث سمح لعدد من النواب يمكن أن يكونوا من المعارضة إلى جانب الهيئات الأخرى طرح مسألة دستورية قانون أمام المجلس مما يدعم هذا النوع من الرقابة وإن كان لا يمتد هذا الحق للمواطنين مثلما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة إذا علمنا بأن هذا المجلس كان قد أصدر حكما آخر في 16/07/1971 بعدم دستورية قانون لمخالفته لديباجة الدستورية وبالتالي جعل الدباجة ذات قيمة دستورية إذن فعالية المجلس الدستوري يمكن استنتاجها من ثلاثة عناصر :
1-الأعضاء المكونين له.
2-الطبيعة القانونية لقراراته.
3-مجال الإخطار.
فبعد أن أشرنا إلى الأعضاء المكونين له و المنصوص عليهم في المادة 164 من الدستور نجد أن المادة 168 و 169 تحدد مدى إلزامية قرارات المجلس الدستوري فتشير 168 أنه إذا إرتأى المجلس الدستوري عدم دستورية معاهدة أو اتفاق فلا يتم التصديق عليها، أما المادة 169 فتشير إلى أنه إذ إرتأى المجلس الدستوري أن نصا تشريعيا أو تنظيميا غير دستوري يفقد هذا النص أتره إبتداء من يوم قرار المجلس.
لكن الملاحظ أن مجال الإخطار جد ضيق مما يقلص من أهمية هذا المجلس ويحد من فعاليته إذ أن الأشخاص الذي يمتلكون حق الإخطار هم ثلاث رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس مجلس الأمة.
المبحث الثاني: الرقابة البرلمانية على دستورية القوانين
المطلب الأول : عمل البرلمان في مجال رقابة دستورية القوانين
إن هذا النوع من الرقابة غير معتمد في النظام الدستوري الجزائري، حيث منتشر بكثرة في الدول ذات الأنظمة الاشتراكية سابقاً، والغرض منه هو أن لا تعلو كلمة أية جهة على الهيئات المنتخبة الشعبية، كما أن الغرض، لا يهدف مثلما هو الحال في الدول اليبرالية إلى حماية الأفراد من اعتداءات السلطة التشريعية أو التنفيذية، فهي تهدف أول وقبل كل شيء إلى سيادة المجالس الشعبية المنتخبة وسموها على غيرها من الهيئات الأخرى مثل مجلس الوزراء في روسيا وفي الجمهورية التابعة للاتحاد السوفياتي سابقا.
ومن بين الأنظمة التي تأخذ بهذا النوع روسيا حيث أسندت تلك المهمة إلى هيئة رئاسة السوفيات الأعلى حيث ينص الدستور الروسي أن هيئة رئاسة السوفيات الأعلى تمارس الرقابة على التقيد بالدستور وتؤمن مطابقة دساتير وقوانين البلاد.
المطلب الثاني :نجاعة الرقابة النيابية على دستورية القوانين
تعتبر هذه الطريقة منتقدة لكونها لا تسند تلك المهمة إلى هيئة مستقلة عن البرلمان وإنما تسندها إلى نفس الهيئة التي تقوم بمهمة التشريع وهذا يعني المراقبة الذاتية، فالتساؤل الذي يطرح نفسه هو كيف أن هيئة تضع قانونا ما، بعد إقراره تقوم بمراقبته.
و لا يمكن إغفال تأثر الهيئة القائمة على الرقابة بأراء الجهات التي قامت باختيار أعضائها، وهو ما يؤدي إلى التقليل من شأنها وجعلها هيئة تابعه وبالتالي لا تمارس فعليا أية رقابة مما يسمح للبرلمان بالاعتداء على أحكام الدستور أو تفسيره بما يتماشى ورغبة الجهة التي تسيطر عليه، أي الحزب الذي يمتلك الأغلبية في البرلمان، وكذلك نجد أن هذا النوع من الرقابة يبعد القاضي عن الحدة والثقة، فضلا عن إقصار تدخل هذه الهيئة إلا في الحالات التي تطلب منها جهات معينة ذلك، مما يبعد الأفراد عن التظلم من احتمال اعتداء السلطة التشريعية على حرياتهم المحددة في الدستور.
وأخيرا فإن هذا النوع من الرقابة لا يحقق هدفه بالكامل نظرا لأن رفع قضيه مخالفة قانون للدستور من طرف الهيئات المختصة لا يكون إلا حين تمسى مصالحها مما يؤدي إلى الإمتناع عن القيام بذلك إذا كانت القوانين الصادرة لا تمس مصالحها رغم أنها مخالفة للدستور.
المبحث الثالث : الرقابة القضائية على دستورية القوانين
يقصد بالرقابة القضائية لدستورية القوانين تلك التي تتولى القيام بها هيئة قضائية لا تختص فقط بالنظر في مدى تطابق القرارات الإدارية للقانون وإنما تتعدى ذلك إلى مراقبة مدى مطابقة القانون للدستور.
ويمكن القول بأنه رغم تنوع صور الرقابة في الدول المختلفة إلا أنه يمكن حصرها في نوعين اثنين هما الرقابة القضائية عن طريق الدعوى الأصلية والرقابة القضائية عن طريق الدفع.
المطلب الأول :أليات الرقابة القضائية على دستورية القوانيين.
الفرع 1 : الرقابة القضائية لدستورية القوانين عن طريق الدعوى الأصلية.
إن هذه الرقابة ينص عليها الدستور صراحة وذلك بإسناد تلك المهمة إلى جهة قضائية يحددها في نصوصه، فتنظر في صحة القوانين إذا ما طعن أحد الأفراد في قانون معين عن طريق دعوى أصلية بعدم دستوريتة، فتصدر وفقا لدراستها للقانون حكما يثب القانون أو يلغي ما هو مخالف للدستور.
ونظرا لخطورة هذه الرقابة فإن الدساتير تحدد الجهة التي تختص بالنظر فيها، فلا تترك الأمر لكل المحاكم، بل تسنده إلى محكمة قضائية عليا مثل سويسرا في دستورها لسنة 1874 أو إلى محكمة دستورية خاصة كايطاليا في دستورها الصادر في 27 ديسمبر 1947 وألمانيا الاتحادية في دستورها الصادر سنة 1949 والتي أصدرت في 1956 عدم دستورية إنشاء الحزب الشيوعي الألماني (K.P.D) وإن كانت في سنة 1970 قد أقرت دستورية المعاهدات التي أبرمتها حكومة فيلي براندت مع الدول الشرقية الاشتراكية، ودستور الكويت لسنة 1962.
وتتميز هذه الطريقة عن الرقابة عن طريق الدفع بكونها تعتبر وسيلة هجومية يستخدمها الفرد القضاء على القانون قبل تطبيقه عليه، مستندا في ذلك على حقه المستمد من الدستور في رفع تلك الدعوى. على أن هذا الحق وإن كان مستمدا أو مقررا في الدستور إلا أنه مقيد بشرط يتمثل في أن تطبيق هذا القانون سيمس بمصلحته أو يحتمل ذلك.
وبناء على دعوى صاحب الشأن ينظر القاضي في الأمر قصد التحقق من مدى مطابقة أو مخالفة ذلك القانون، فإن اتضح له أنه مخالف حكم بإلغائه، هذا الإلغاء يعتبر نهائيا ولا يحق الطعن فيه، أي أنه ذو وحجية مطلقة في مواجهة الكافة مما يحقق توحيد الرأي القضائي في مجال دستورية القوانين.
الفرع 2 :الرقابة القضائية على دستورية القوانين عن طريق الدفع
إن هذا النوع من الرقابة لا ينص عليه الدستور، وإنما يستنتج من صفة الدستور فإذا كان جامدا ولم يمنع القضاء من ممارسة تلك الرقابة صراحة حق له ممارستها عن طريق الدفع.
والقول بغير ذلك يعني هدم فكرة مبدأ دستورية القوانين ووضع الدستور في نفس المرتبة مع القوانين الأخرى، مما يتنافى وجمود الدستور الذي يختلف عن القوانين الأخرى من حيث أنه المصدر الأساسي للقوانين.
والرقابة عن طريق الدفع أو الامتناع تقتصر عدم على تطبيق القانون المطعون فيه إذا كان مخالفا للدستور دون الغائه، وبذلك يكون القضاء في هذه الحالة مخيرا بين الدستور و القانون العادي، فيفضل الأول ويستبعد الثاني مما يحقق مبدأ الفصل بين السلطات، حيث لا يتدخل القضاء في اختصاص السلطة التشريعية بإلغاء القانون أو إصدار أمر إليها بذلك.
وقد ظهر هذا النوع من الرقابة في الولايات المتحدة الأمريكية على أثر صدور قانون من السلطة التشريعية بمقاطعة رود ايزلندا Rhode Island سنة 1787 وكان مخالفا للدستور فرفضت محكمة المقاطعة تطبيقه بعد فحصه استنادا إلى أنه مخالف للدستور، ونتج عن صدور ذلك الحكم عدم إعادة انتخاب أعضاء تلك المحكمة مما حدا بالمحاكم الأخرى إلى الأحجام عن النظر في دستورية القوانين.
وبعد إنشاء المحكمة الاتحادية العليا عرضت عليها قضية أثيرت فيها مسألة دستورية القوانين وكان ذلك سنة 1801 وهي قضية مار بوري ضد مادسون والتي لم تفصل فيها المحكمة نتيجة للصراع السياسي بين الاتحاديين و الجمهوريين إلا في مارس سنة 1803 حيث أقرت حق القضاء بحث دستورية القوانين مبررة حكمها بأن وظيفة القاضي هي تطبيق القانون، غير أنه في حالة تعارض قانونين أو عدة قوانين مع بعضها فإن مهمته أولا هي البحث وتحديد القانون الواجب التطبيق، وما دام الدستور هو القانون الأساسي المنظم للسلطات العامة الثلاث فإنه هو القانون الأسمى من تلك التي تسنها كل هيئة على حدة، نظرا لأن الدستور يلزم هذه الهيئات بالامتناع عن القيام بأي عمل لا يتفق ونصوصه، ومادام الأمر كذلك، فإن القاضي في هذه الحالة لا يكون أمامه وهو ينتمي إلى هيئة من الهيئات المنشأة بواسطة الدستور إلا أن يحترم النصوص الأساسية فيطبقها وبالتالي يكون ملزم بعدم تطبيق ما هو مخالف للدستور (أي استبعاده) أي الامتناع عن تطبيقه وهذا الامتناع بعكس الحال في الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية، يتماشى ومبدأ الفصل بين السلطات.
فالقاضي هنا لا يتدخل لإلغاء القانون المخالف للدستور وإنما يمتنع فقط عن تطبيقه دون الحكم بإلغاء.
وقد كان لقضية ماربوري ضد مادسون ودور القاضي مارشال في معالجة المشاكل القانونية التي انطوت عليها الدعوى عميق الأثر في اتجاه القضاء الأمريكي بحيث سارت المحاكم الأخرى على مسلك المحكمة الاتحادية العليا وأصبحت هي الأخرى تمارس الرقابة على دستورية القوانين.
بعد أن عرفنا باختصار، ما هي الرقابة القضائية عن طريق الامتناع أو الدفع نورد كيفية تدخل القضاء لبحث دستورية القوانين.
-إن الرقابة عن طريق الدفع لا تمارس إلا بناء على طلب من جهة، وأن حكمها لا يلغي القانون ولو كان مخالفا للدستور من جهة أخرى، فعند صدور القانون في هذه الحالة رغم أنه يمس مصلحة الأفراد لو طبق عليهم إلا أنهم لا يستطيعون مهاجمته طالبين إلغاءه، بل على كل شخص أن ينتظر إلى أن يراد تطبيق ذلك القانون عليه فيمتنع عن الخضوع له ثم يقدم إلى المحكمة متهما بعدم الخضوع للقانون، وهنا يدفع أمام القضاء بعدم دستورية ذلك القانون باعتباره مخالفا للدستور، ومن ثمة فإن من حقه عدم الخضوع له.
فالدعوى الأصلية هي أن الفرد خالف نصوص القانون فقدم للمحكمة عن فعله ذلك، ولكن الدفع الذي تقدم به يعد دعوى فرعية وليس أصلية.
وهنا تلتزم المحكمة بالبحث وفحص دعوى الشخص المقدم للمحاكمة، ومعناه بحث مدى دستورية ذلك القانون قبل أن تصدر حكمها عليه في الدعوى الأصلية فإذا بان لها أن ذلك القانون غير دستوري، فإنها تمتنع عن تطبيقه عليه في تلك الدعوى دون الحكم بإلغائه، فتبرئ المتهم.
و القول بهذا لا يعني أن تلك المحكمة ملزمة بالتقيد بأحكامها، بل لها الحرية في الحكم مرة أخرى بدستورية ذلك القانون الذي قضت بعدم دستوريته في حكمها الأول وكذلك الشأن بالنسبة للمحاكم الأخرى فإنها ليست مقيدة بأحكام المحاكم أو بأحكامها إلا إذا كان الحكم صادرا من المحكمة الاتحادية العليا.
وإذا كان مبدأ الفصل بين السلطات يتبدى في امتناع القضاء عن تطبيق القوانين المخالفة للدستور دون التدخل في اختصاص السلطة التشريعية بإلغاء ذلك النوع من القوانين، فإن المحكمة الاتحادية العليا لعبت دورا هاما في تفسير ورقابة دستورية القوانين تماشيا مع التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتداخل الاختصاصات وقد سارت على منوالها المحاكم الأخرى.
فبالنسبة لتفسير الدستور نلاحظ أن المحكمة لعبت دورا بالغ الأهمية في سد النقص الملاحظ على دستور البلاد الذي لم يكن يتضمن عند إصداره سنة 1787 سوى سبع مواد. غير أن تفسير هذا الدستور تماشيا مع العصر كان نتيجة للرقابة على دستورية القوانين التي مارستها المحكمة العليا وغيرها من المحاكم والتي توسعت فيها استجابة للتطور مما أدى بالعديد من الفقهاء إلى وصف حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بحكومة القضاة، وشنت حملة واسعة ضد القضاة بتهمة تدخلهم في اختصاصات الهيئات الأخرى مما حدا بالبعض من القضاة إلى اتخاذ موقف معارض من زملائهم ووقوفهم بجانب الهيئات الأخرى وبالخصوص الهيئة التشريعية، وقد احتدم الصراع وبلغ أوجه في عهد حكومة الرئيس فرانكين روزفلت عندما عرض هذا الأخير مشروع الإنعاش الاقتصادي لمواجهة الأزمة الاقتصادية فسن الكنجرس عدة قوانين سنة 1933 لتطبيق ذلك المشروع، لكن المحكمة العليا قضت بعدم دستوريتها، استنادا إلى أن الحرية الاقتصادية متروكة للأفراد ولا يحق للدولة التدخل لممارستها. لكن فوز روزفلت مرة أخرى في نوفمبر 1936 أكد تأييد الرأي العام للسياسة الجديدة التي يريد تطبيقها وبرامجه الإصلاحية، وهو ما شجعه على وضع مشروع لتعديل نظام المحكمة الاتحادية العليا يسمح فيه لنفسه بإحالة القضاة البالغين من العمر سبعين سنة على المعاش وتعيين موالين له دون أن يشير إلى المشكل الدستوري.
غير أن مشروعه رفض من طرف لجنة الشؤون القضائية ثم صوت عليه مجلس الشيوخ وكانت نتيجته 70 صوتا ضد المشروع وعشرين معه.
غير أن المحاكمة الاتحادية العليا لم تلبث أن تراجعت عن مواقفها ابتداء من سنة 1937 مسايرة للتطور ومطالب روزفلت والشعب الأمريكي، فحكمت بدستورية عدة قوانين من بينها قانون الضمان الاجتماعي المفروض على أرباب العمل لمواجهة البطالة.
إلا أن البعض من الكتاب يرون أن هذا التراجع ناتج من شغور مناصب ثلاثة قضاة من المحكمة، فعين روزفلت مكانهم ثلاثة موالين لسياسته مما أدى إلى تراجع المحكمة عن حكمها السابق وقضت بدستورية القوانين الخاصة بالإنعاش الاقتصادي.
من هنا يتضح لنا أن الرقابة عن طريق الدفع تختلف عن الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية في أمور عدة أهمها.
1-أن الشخص في حالة الدفع ينتظر إلى أن يراد تطبيق القانون عليه فيدفع بعدم دستوريته، أما في حالة الدعوى الأصلية فإنه لا ينتظر بل يطالب القضاء بإلغاء القانون بمجرد صدوره.
2-عند فحص القانون في الرقابة عن طريق الدفع إذا اتضح للقاضي أنه غير دستوري فإنه لا يلغيه لكن لا يطبقه أيضا على القضية المعروضة أمامه فيبقى القانون إلى حين صدور قانون آخر يلغيه، في حين أن القاضي في حالة الدعوى الأصلية إذا بأن له أن القانون مخالف للدستور فأنه لا يطبقه ويحكم بإلغائه.
3-الحكم الصادر من القاضي نتيجة الدفع من أحد الخصوم لا يحوز حجية مطلقة إذ يجوز تطبيق ذلك القانون مرة أخرى من قبل نفس المحكمة أو محكمة أخرى، بعكس الحال في الحكم الصادر نتيجة لدعوى أصلية فهنا يحوز حجية مطلقة وبالتالي تتقيد به كل المحاكم.
4-إن الأحكام الصادرة بالإمتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور لا تمتد إلى اختصاصات الهيئات الأخرى، بل تبقى منحصرة في مهمة القضاء، في حين أن الأحكام الصادرة نتيجة دعوة أصلية والقاضية بعدم تطبيق قانون وإلغائه تعد تدخلا في اختصاصات السلطة التشريعية المختصة بسن وإلغاء القوانين مما يتجافى و الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات.
وقد أخذت بهذه الطريقة في الرقابة العديد من الدول منها كندا واستراليا والبعض من دول أمريكا اللاتينية كالمكسيك في دستورها لسنة 1917 وبعض دول أوربا كالبرتغال في دستورها لسنة 1949.
والحقيقة أن طريقة الدفع بعدم دستورية القوانين ليست الإجراء الوحيد بل هناك وسيلتين أيضا يستطيع بموجبهما الأفراد الطعن في دستورية القوانين أمام المحاكم الأمريكية وهما.-الأمر القضائي، و الحكم التقريري.
أ-الرقابة عن طريق الأمر القضائي :
ساد هذا النظام في انجلترا وكانت تمارسه محكمة مستشار الملك لتصحيح أوضاع ظالمة، فيصدر المستشار أمرا قضائيا استنادا إلى مبادئ العدالة بتصليح ذلك الظلم، وامتد إلى الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الاستعمار. وبعد الاستقلال استمر العمل به، حيث اختصت المحكمة العليا و المحاكم الاتحادية بإصدار الأوامر القضائية عندما يتقدم أحد الأفراد إلى المحكمة طالبا منها وقف تنفيذ قانون من شأن تنفيذه المساس بمصلحته استنادا إلى أنه مخالف للدستور، عندها تنظر المحكمة في طلبه، فإن اتضح لها أن القانون غير دستوري أصدرت أمرا إلى الموظف المختص بعدم تطبيقه وهو ملزم بذلك الأمر وإلا عد مرتكبا لجريمة تدعى بجريمة احتقار المحكمة.
إلا أن النتائج التي تترتب عنها الأوامر القضائية وخاصة في مجال تطبيق القوانين والإسراف في الرقابة قد أدت إلى تقليص دورها. ويبدو ذلك في الآتي.
-فقدت قيمتها في مجال الرقابة على دستورية القوانين نتيجة تحول المحكمة العليا الاتحادية في اتجاهها منذ سنة 1937 مما أدى إلى قلة الالتجاء إلى الأوامر القضائية لا يقاف تطبيق القوانين.
-التجاء المحاكم إلى طرق ملتوية تجنيا لإصدار أوامر قضائية والالتجاء إلى تفسيرات ملتوية بما يحقق الأهداف السياسية والاقتصادية التي تؤيدها المحكمة العليا الاتحادية.
-أنه ابتداء من سنة 1910 لم يعد في وسع القاضي الاتحادي المنفرد في المحكمة الإقليمية أن يصدر أوامر لمنع تنفيذ القوانين الصادرة في الولايات بحجة عدم دستوريتها، فقد صدر قانون يشترط أن تجتمع المحكمة الإقليمية المكونة من ثلاثة قضاة لإصدار ذلك الأمر والتي يجوز الطعن في أحكامها أمام المحكمة الاتحادية العليا مباشرة، ثم صدر في سنة 1937 قانون آخر يتضمن ذات القاعدة ويشمل الأوامر التي تصدرها تلك المحاكم لمنع تنفيذ القوانين الاتحادية.
وهذا النوع من الرقابة موجود في الهند والمكسيك.
ب-الرقابة عن طريق الحكم التقريري:
ظهر هذا الأسلوب من الرقابة على دستورية القوانين أو الآمر سنة 1918. ومؤدى هذه الطريقة أن الفرد يلجأ للمحكمة طالبا منها إصدار حكم يقرر ما إذا كان القانون المراد تنفيذه عليه دستوري أم غير دستوري. و النتيجة الأولى الناجمة عن هذا الطلب هي توقيف الموظف المختص في تطبيق القانون إلى أن تصدر المحكمة حكمها، وعلى ضوئه يتخذ الموظف موقفه من القانون، فإن كان دستوريا نفذه، أما إذا كان مخالفا للدستور فإنه يمتنع عن تنفيذه.
وإذا كانت محاكم الولايات المتحدة قد اتبعت هذا الأسلوب منذ 1918 فإن المحكمة الاتحادية العليا لم تأخذ بهذه الطريقة استنادا إلى طلب إصدار حكم تقريري لا ينطوي على أية منازعة، إلا أنه فيما بعد تراجعت عن موقفها وأقرت استخدام هذه الطريقة حفاظا على ولايتها في حق استئناف الأحكام الصادرة من محاكم الولايات أمامها.
وفي سنة 1934 صدر القانون الاتحادي للأحكام التقريرية الذي يمنح لمحاكم الولايات سلطة إصدار أحكام تقريرية تتعلق بدستورية القوانين وعرض ذلك القانون أمام المحكمة الاتحادية العليا سنة 1937 في قضية شركة اتنا للتأمين Aetna life insurance co. فحكمت بدستوريته.
نخلص إلى أن الرقابة عن طريق الدفع تتميز بالمرونة من جهة ولا تخضع إلا نادرا للأهواء السياسية، كما أنها لا تتعدى على اختصاصات السلطة التشريعية كما هو الحال في الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية، إذ تتدخل المحكمة وتحكم بإلغاء القانون. فالرقابة عن طريق الدفع تقتصر على الامتناع عن تنفيذ الغير الدستوري دون الحكم بإلغائه.
المطلب الثاني : موقف الفقه من الرقابة القضائية على دستورية القوانين.
1-الآراء المؤيدة:
يرى الفقه المؤيد للرقابة أن هناك عددا من المبررات القانونية والسياسية التي تؤيد ضرورة وجود رقابة على دستورية القوانين، لعل أهمها الأتي.
-إن وظيفة القاضي تتمثل في تطبيق القانون الذي تختلف قواعده من حيث الدرجة مع إمكانية حدوث تضارب بينها، فيكون القاضي عندها مضطرا للبحث عن القانون الواجب التطبيق من حيث الدرجة، فيبعد القانون ويبقى الدستور.
-إذا كانت السلطة المؤسسة حددت وظائف كل الهيئات الأساسية في الدولة فإن مخالفة السلطة التشريعية لتلك الحدود لا يسمح لها بإجبار غيرها على الانقياد وراءها وإنما عليها احترام نصوص الدستور والامتناع عن تطبيق ما أصدرته السلطة التشريعية.
-إن قيام القضاء بالرقابة لا يتنافى ومبدأ الفصل بين السلطات ولا يعتبر اعتداءا على اختصاص السلطة التشريعية في الرقابة عن طريق الدفع لأن القاضي يمتنع فقط عن تنفيذ القانون دون الحكم بإلغائه. وحتى بالنسبة لطريقة الدعوى الأصلية فإن ما يجب على القاضي احترامه هو الاختصاصات التشريعية المطابقة للدستور، أما تلك المخالفة فإنها تجعل من تصرفها خارجا عن الدستور وبالتالي غير واجبة الاحترام، ولا يحق لها أن تدفع بمبدأ الفصل بين السلطات، لأن الأخذ بهذا المبدأ على علته معناه الانسياق وراء الفوضى مما يتجافى ومبدأ الفصل بين السلطات الذي يراد منه التنظيم أولا وأخيرا.
-أن ممارسة الرقابة من قبل القضاء لا يتعارض مع مبدأ السيادة الشعبية فإذا كانت السلطة التشريعية المعبر عن الإرادة الشعبية بواسطة القانون فإن ذلك لا يمنحها الحق في الاحتجاج بفكرة السيادة الشعبية عند إصدارها لقانون مخالف للدستور.
-إن سكوت المشرع عن النص على الرقابة عن طريق الامتناع أو الدفع يفيد الاعتراف بها فهو قادر على منع القضاء من ممارسة تلك الوظيفة.
2-الأراء المعارضة للرقابة على دستورية
يمكن تخليص الآراء التي قال بها الفقه المعارض لفكرة الرقابة على الدستورية القوانين فيما يلي :
-إن الرقابة على دستورية القوانين من قبل القضاء يتنافى ومبدأ الفصل بين السلطات خاصة وأن القضاة معينين من قبل السلطة التنفيذية باستثناء بعض الدول التي يتم تعيينهم فيها عن طريق الانتخاب كالولايات المتحدة الأمريكية، كما أن مهمتهم تنحصر في تطبيق وتفسير القوانين ولا تمتد لنصوص الدستور التي تحافظ على حصانتها وسموها السلطة التشريعية المعبرة عن ضمير الأمة.
-إن الاعتراف بالرقابة يعني السماح لقضاة معينين بمراقبة نواب منتخبين مما يجعل سلطة القضاء سياسية أسمى من سلطة ممثلي الإرادة الشعبية المنتخبين.
الخاتمة :
إننا من خلال هذا العمل المواجه للأستاذة التعليم الثانوي العام و التقني، إن الرقابة على دستورية القوانين من أهم الوسائل التي تكفل ضمان احترام الدستور والقوانين من قبل السلطات العمومية، فقد أجمعت جميع الدول على أهمية هذه الرقابة، لكن اختلفت في تحديد الهيئات التي أوكلت لها مهمة الرقابة، فهناك من أوكل هذه المهمة للبرلمان، علماً أنه هو من يقوم بسن التشريع، فلهذا أثبت هذه الطريقة عدم نجاعتها لكون الرقابة الذاتية لا تصل إلى مستوى الرقابة المستقلة، وهناك دول أوكلت مهمة الرقابة على دستورية القوانين للقضاء، لكنه يتنافى ومبدأ الفصل بين السلطات كما أن مهمتهم تنحصر في تطبيق وتفسير القانون ولا تمتد لنصوص الدستور لهذا لجأت غالبية دول العالم إلى إنشاء جهاز مستقل عن السلطات الثلاث يتكفل بمراقبة دستورية القوانين، وإن نجاح أو فشل مثل هذا الجهاز مرتبط بثلاث مسائل أولها أهمية الأعضاء المكونين له، الأمر الثاني صلاحيات المجلس و إلزامية قراراته و الأمر الأخير و المهم كيفيات تدخل المجلس و الأشخاص الذين لهم الحق بإخطاره و اللجوء إليه، فالعديد من الدول تحدد حق الإخطار إذ يشمل شخصين أو ثلاث فقط وهم في الغالب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان مما يسمح بوجود قوانين غير دستورية سارية المفعول لكن لا أحد يمكن أن يوقف سيرانها. وهذا ما حدث في الجزائر بخصوص القانون المنظم للمحافظة الكبرى لولاية الجزائر الذي سرى مفعوله مدة ثلاث سنوات إلى غاية 2000 أين قام رئيس الجمهورية بإخطار المجلس الدستوري ليرى في مدى دستورية هذا القانون، وليعلن المجلس الدستوري فيما بعد بعدم دستوريته لهذا فإنه من الواجب أن يوسع الدستور مجال الإخطار وصلاحيات المجلس الدستوري حتى نكفل ضمان تناسق القوانين و التنظيمات مع محتوى وروح الدستور.
الله يبارك فيك …… والله الموضوع جلي ومنظم …….. الله يفتح عليك