– مفهوم التداولية:
يكتنف مفهوم التداولية كثيرا من الغموض، فهي محط اهتمام المناطقة والسيميائيين والفلاسفة والسوسيولوجيين والسيكولوجيين والبلاغيين وعلماء التواصل واللسانيين… وبذلك فهي على مستوى التحليل، لا يمكن أن نصنفها في أي من المستويات ولا تدرس جانبا محددا في اللغة بل تستوعبها جميعا.
يعود الفضل إلى إدخال مصطلح Pragmatique في معجم اللسانيات الحديثة إلى شارل موريس Charles Morris في سنة 1938 في كتابه أسس نظرية العلامات، حيث حدد ماهيتها كجزء من السيميائية وأحد مكوناتها، تهتم بدراسة العلاقة بين العلامات وبين مستعمليها أي مفسريها وتحديد ما يترتب عن هذه العلامات، ويعرفها فرانسواز ريكاناتي François Recanati بأنها بحث يهتم بدراسة استعمال اللغة داخل الخطاب وإبراز السمات التي تميزه، وتهتم ببعض الأشكال اللسانية التي لا يتحدد معناها إلا من خلال استخدامها.
ويمكن تصنيف مدونة تعريفاتها إلى حقول هي:
تعريفات ترتبط بحقل نشأة التفكير التداولي.
تعريفات ترتبط بحقل موضوع التداولية ووظيفتها.
تعريفات ترتبط بحقل التواصل والأداء.
تعريفات ترتبط بحقل علاقتها بعلوم أخرى.
تعددت المقابلات العربية للمصطلح الأجنبي Pragmatique ، فقيل براجماتيكا أو البراغماتية والبراغماتيك، البرجماتية والبراجماتيك كمصطلحات معربة له، كما نجد مقابلات عربية مترجمة للمصطلح مثل: التداوليات، التداولية، المقامية، الوظيفية، السياقية، الذرائعية، النفعية. غير أن المصطلح "التداولية" الذي وضعه أحمد المتوكل خلال 1985 في موضوع خاص حول الوظائف التداولية في اللغة العربية هو الذي صار شائعا بين المختصين ومستعملا بينهم.
لا توجد تداولية واحدة بل تداوليات متعددة يوحدها العنصر الشكلي لممارسة سلطة المعرفة في إطار استراتيجيات توجه النقاش والحوار، هده التداوليات هي:
– تداولية البلاغيين الجدد.
– تداولية السيكولوجيين.
– تداولية اللسانيين.
– تداولية المناطقة والفلاسفة.
بدأت التداولية بالظهور في فرنسا سنة 1980 بعدما تأسست على معرفة متشعبة ومسهبة آثرت الدراسات اللسانية، فأدخلت في حقل الدراسات الأدبية والعلوم الاجتماعية.
2- أشكال تطور التداولية:
توجد تصورات كثيرة لأشكال تطورها، ولعل من أبرزها ما وضعه كل من فرانسواز أرمينكو وهانسون وجان سرفوني وتتلخص هذه التصورات فيما يأتي:
Ý- تصور فرانسواز أرمينكو:
صنفها في اتجاهين في كتابه "المقاربة التداولية" هما:
تداولية اللغات الشكلية وتداولية اللغات الطبيعية:
قامت التداولية الشكلية بمعالجة العلاقة بين التلفظ وملفوظه وبين الجمل وسياقاتها واهتمت أيضا بدراسة شروط الحقيقة وقضايا الجمل والحدس بين المتخاطبين والاعتقادات المتقاسمة ، في حين اهتمت تداولية اللغات الطبيعية بدراسة اللغة بوصفها وسيلة فريدة للتعبير عن مشكلات الفلسفة والمجتمع.
تداولية التلفظ، وتشمل:
تداولية صنيعة التلفظ: تدرسه من حيث هوصناعة أي كيفية صياغته وتشكيله.
تداولية صيغ الملفوظ التي تهتم بشكل الملفوظ وعباراته: تعالج العلاقة بينه وبين الدلالة، وتحدد السياق المناسب له.
ب- تصور هانسون:
وضع هانسون تصورا جديدا لأقسام التداولية في سنة 1974، قصد من خلاله توحيد أجزائها على أساس درجة تعقد السياق من جزء إلى آخر، ففرق بين:
تداولية الدرجة الأولى:
تدرس رموز التعبيرات المبهمة خلال ظروف استعمالها، وتقوم بتناول السياق ومعطيات الزمان والمكان والرمز والإشارة.
تداولية الدرجة الثانية:
ترتكز على دراسة مدى ارتباط الموضوع المعبّر عنه بملفوظه؛ فتهتم بشروط التواصل والتمييز بين المعاني(الحرفي-السياقي)، (الحرفي-الموضوعي).
تداولية الدرجة الثالثة:
وتخص نظرية أقفال االكلام، مما قدمه أوستين وطوّره سورل.
جـ-تصور جان سرفوني:
ميز بين ثلاث وجهات نظر تتعلق بالتداولية بعد أوستين هي:
وجهة نظر اوزوالد ديكرو:
تدرس اللسان و العلاقات المتبادلة بين القول و اللاقول، و تتعرض أيضا إلي دراسة المضمون و الحجاج.
وجهة نظر آلان بيريندونيه:
إن أطروحته تناقض فكرة أوستين (القول هو الفعل)، فمفهومه للقول الفاعل هو مفهوم عالي الكلفة، والأفعال الإنجازية في نظره ليست مهمتها الإنجاز، بل عدم إنجاز فعل، فهي تستعمل لإحلال الكلام محل الفعل المادي.
وجهة نظر رمارتان:
يذهب إلي أن مجال البراغماتية ليس الجملة ، ولكنها تتداخل على مستوى الملفوظ ، وهي نتيجة للآلية الدلالية التي تشكل هذه الكلمة علامة لها.
3- شروط استعمال التداولية:
حاول ماس/ فوندرليش (1972) Maas.U/ Wunderlich.D. وصفا شروط استعمال التداولية، حيث اشترط أن يكون لدى كل متواصل قدرات من النوع الأتي:
أن يكون لديه مفهوم عن الواقع وعن العوالم الممكنة التي يمكنها استباطها منه، حتى يحصر ما يريد أن يتواصل حوله.
أن ينشئ اتصالا وأن يستطيع حصره.
أن يستطيع الإدراك، وأن يمتلك ذاكرة/ وقدرة على التوقع أيضا بالنسبة لسياق الكلام، وسياق الموقف المستمرين.
أن يستطيع الخوض في أدوار اجتماعية تجاه الآخرين.
أن يستطيع إعادة إنشاء شروط اجتماعية.
أن ينطق أبنية صوتية مناسبة، وأن يكوّن من خلال ذلك صيغا لغوية جديدة للبناء.
أن يدرك أبنية صوتية وأن يستطيع فهمها باعتبارها صيغا لغوية وتعبيرا عن مركب لفعل كلامي.
أن يستطيع استخدام وسائل لغوية مصاحبة ووسائل غير لغوية استخداما مناسبا وفهمها فهما ملائما.
يعد كل منطوق لغوي من وجهة نظر التداولية ليس منطوقا من مضامين فحسب، بل هو منطوق من المقاصد أيضا. فالمنطوق اللغوي هو إذن فعل داخل مجريات فعلية، ويغير كل فعل العلاقات القائمة بين شركاء التواصل ويوجد الشروط للأفعال التالية ذات الطبيعة اللغوية وغير اللغوية.
4- المفاهيم الأساسية والتصورات التداولية المحورية:
Ý- السلوك والفعل:
توظف في التداولية مصطلحات مثل: السلوك التواصلي والفعل (الحدث) التواصلي، والسلوك اللغوي والحدث(الفعل) اللغوي والكلامي والأفعال الكلامية أحيانا متجاورة بلا اختلاف، وأحيانا بوصفها مفاهيم متعددة؛ فيستخدم الفعل والسلوك بشكل لغوي مشترك، مترادفة أحيانا عندما تشير إلى عمل إنساني ويمكن أن يستعمل(الفعل) بشكل إجمالي حين ترى المبادرة مع الذي يفعل شيئا، بينما يفضل استعمال (السلوك) حين يطلب من آخرين أن يفعلوا شيئا، ولا يمكن أن تستخدم هذه المصطلحات استخداما ترادفيا في الخطاب العلمي، فللمفاهيم العملية مضامين مفهومية محددة، يرتبط بهذه المصطلحات مفاهيم جوهرية مثل: الحدث، القصد، المغزى، السلوك الإثاري والفعل القصدي.
ȝ- الكفاءة التواصلية:
توجد تحديدات مفهومية متباينة للكفاءة التواصلية خاصة بين المجالين التربوي والتداولي، ولكنها تشترك جميعها في المقصود انطلاقا من مفهوم تشومسكي للكفاءة(اللغوية)، وهو «قدرة إنسانية بالغة الشمول، تهدف إلى إدراك شركاء اتصال الموقف التواصلي بعوامل مثل المكان والزمان والعلاقات الاجتماعية إلى استخدام وسائل التواصل لتحقيق الأهداف».
جـ- الأفعال الكلامية:
يستخدم الفعل الكلامي غالبا لوصف التواصل بين الناس، وتستعمل في الأفعال المفردة والتواصلية الخاصة والممكنة بين اللغة مثل السؤال والطلب في الغالب مصطلح الأحداث اللغوية أو الأحداث الكلامية وتنطلق تحليلات الفعل الكلامي من فكرة أن شخصا ما عند الكلام:
* يعبر لغويا * أنه يقول شيئا * أنه موجود في موقف كلام
* أنه –عادة- يتحدث إلى شخص ما * أنه من خلال هذا الكلام –فعل الكلام- الفعل الكلامي- يتأثر بالموقف التواصلي ويؤثر في شريك الاتصال.
د-الأفعال اللغوية:
توجد مجموعة من الأفعال التي تنجز لغويا أو غير لغوي من خلال الحركات أو النشاطات الجسدية ،وقد قام اوستين بتجميع كل الأفعال اللغوية في خمس فصائل كبرى هي:
الأفعال اللغوية الدالة على الحكم (verdictifs) مثل: قدر-حكم على…
الأفعال اللغوية الدالة على الممارسة و التطبيق (exercitifs)مثل: عين-نضج- حذر
الأفعال اللغوية الدالة على الوعد (compartatifs)مثل: وعد-كفل-التزم
الأفعال اللغوية الدالة على السيرة (condutifs)مثل: شكر-هنأ
الأفعال اللغوية الدالة على العرض(expositifs) مثل: افترض-اعترف-رد
ه- الأفعال الأدائية:
هي أفعال لغوية تعرض وتعين في الوقت ذاته، وبعض هذه الأفعال الإجرائية ترمز إلى أفعال لا يمكن أن تنجز إلا من خلال نطق تواصلي للكلمات، وقد تصحب حركات معينة هذه الأفعال، وهي تختلف باختلاف الوسط الثقافي.
ويرتبط بمدونة اللسانيات التداولية أيضا موضوعات لا تقل أهمية عما ذكر، ويتعلق الأمر بما يأتي:
و- الملفوظية:
إن الملفوظية L’énonciation هي عملية إنتاج الملفوظ L’énoncé ويكتسي تعريفها الطابع العملي، حيث تقابل التوظيف الفعلي للغة، و تشكلها مجموعة العوامل والأفعال التي تسهل إنتاج الملفوظ –بما في ذلك التواصل ذاته- وهو حالة خاصة من حالاتها.
ي- الحِجاج:
يرتبط مفهوم الحجاج Argumentation بالفعل، وهو بحث من أجل ترجيح خيار من خيارات قائمة ممكنة، بهدف وضع فاعلين معينين في مقام خاص إلى القيام بأعمال إزاء الوضع الذي كان قائما.
ن- التفاعل والسياق:
يميز التفاعل سلوك الإنسان عن غيره فهو « سلسلة من الأحداث يكون فيها عدة أشخاص هم المعنيون بوصفهم فاعلين غير متزامنين»، ويشمل السياق المحيط اللساني (مستخدم اللغة، الحدث، النظام اللغوي، مواقع مستخدمي اللغة، أنظمة المعايير الاجتماعية والعادات والتقاليد). فقد عرف السياق بأنه «علامات شكلية في المحيط اللساني الفعلي».
ل- الوظائف التداولية:
تجاوز الدرس التداولي فكرة الوظيفة الوحيدة للغة وهي التواصل، ألي تعدد الوظائف، ولعل أهمها أن اللغة ذات وظيفة تأثيرية في السلوك الإنساني، وتبنى عليها تغيرات في المواقف والآراء، وتحدد الوظائف التداولية وضعية مكونات الجملة بالنظر إلى البنية الإخبارية والمعلوماتية، بعلاقة الجملة بالطبقات المقامية المحتمل أن تنجز فيها.
لقد أصبحت التداولية مشروعا هاما واسع الأفق في اللسانيات النصية يولي أهمية خاصة للأقطاب ومناحي النصية فيه، حيث أمكن من خلاله الإجابة عن كثير من الأسئلة التي تتعلق بالتواصل والتفاعل وشروط الأداء.
.5علاقة التداولية بالعلوم الأخرى:
Ý- علاقة التداولية باللسانيات:
أكد فرانسوا لاترافارس F.Latraverse في كتابه (البراغماتية، تاريخ ونقد) صعوبة التمييز بين هذين العلمين، فاللسانيات تشتمل على عدد كبير من النظريات والمذاهب المترابطة بما في ذلك التداولية، ثم يعترف بعد ذلك بأن التداولية تتموقع خارج النظرية اللسانية بناء على ما قدمه تشومسكي في مفهوم الكفاءة والأداء.
وقد أقر اللسانيون أهمية اللسانيات في دراسة نظام اللغة وطرق التنظيم بين مجموع الأصوات، ومجموع المعاني بين الشكل وبين المعنى بتعبير أوجز، غير أنهم لم يضبطوا مجال التداولية مقارنة بالعلوم الأخرى للسانيات ،فهي تتجاوز (الشكل، المعنى) إلى مجالات أخرى مثل الملفوظية ومظاهر الاستدلال في اللغة وغيرها…
ȝ- علاقة التداولية بالنحو الوظيفي:
يعد النحو الوظيفي من أهم روافد التداولية، وقد جعل بعض الدارسين الوظيفية في عموم معناها تقابل التداولية؛ فالنحو الوظيفي يقدم دعائم هامة للتفسير التداولي للخطاب، وهو في نظر سيمون ديك يجمع بين المقولات النحوية المعروفة، وبين ما عرضته نظرية أفعال الكلام، فهو يقترح أن يدرج النحو الوظيفي ضمن نظرية تداولية شاملة.
جـ- علاقة التداولية بعلم الدلالة:
تبحث كل من التداولية وعلم الدلالة في دراسة المعنى في اللغة ويجعل بعض الدارسين التداولية امتدادا للدرس الدلالي.
فيصنف علم الدلالة ضمن القدرة على معرفة اللغة، أما التداولية فتصنف ضمن الأداء والإنجاز واستخدام اللغة. كما أن "السيمانتيكية البراجماتية اللغوية تتولى المعنى ضمن إطار المقام المحدد المعالم والمقاصد" وهذا يعني أن أحدهما يكمل الآخر.
د- علاقة التداولية باللسانيات النفسية:
تعتمد التداولية في درسها على مقولات اللسانيات النفسية، فسرعة البديهة، وحدة الانتباه، وقوة الذاكرة والذكاء… كلها عناصر تشرح ملكة التبليغ الحاصلة في الموقف الكلامي.
هـ- علاقة التداولية باللسانيات الاجتماعية:
تتداخل التداولية واللسانيات الاجتماعية تداخلا كبيرا في بيان أثر العلاقات الاجتماعية بين المشاركين في الحديث على موضوعه، وبيان مراتبهم وأجناسهم وأثر السياق غير اللغوي في كلامهم.
و- علاقة التداولية باللسانيات التعليمية:
تستند التعليمية في الوقت الحاضر إلى مقولات البحوث التداولية التي أسهمت في مراجعة مناهج التعليم ونماذج الاختبارات والتمارين، وعدّت البعد التداولي للغة أحد أهداف العملية التعليمية، كما انتقدت طرق تدريس اللغات الأجنبية التي تتعامل مع لغات مثالية وأناس مثاليين في مواقف مثالية… بعيدا عن أي سياق اجتماعي ودعت إلى تجاوز تدريس أنماط الترميز إلى تدريس أنماط التأطير.
ز- علاقة التداولية باللسانيات النصية وتحليل الخطاب:
يتجاوز مجال اللسانيات النصية دراسة الخطاب بعدّه نصا إلى عدّه نشاطا فعليا يعتمد المعارف المقامية والسياقية، وذلك من المجالات الثرية للدرس التداولي.
إن التداولية تعنى بدراسة الكيفية التي يسلكها الناس لفهم الفعل الكلامي، وكيفية إنتاجهم له، فهي حقل واسع جدا يشمل كل جوانب اللغة إذ تعن بتتبع أثر القواعد المتعارف عليها من خلال العبارات الملفوظة وتأويلها، وتهتم بتحليل الشروط التي تجعل العبارات جائزة ومقبولة في موقف معين بالنسبة للمتكلمين بتلك اللغة،و تسعى التداولية لأن تجد مبادئ تشتمل على اتجاهات مجاري فعل الكلام المتشابك الإنجاز الذي يجب أن يوجد عند إنجاز العبارة كي تصير ناجحة ومفهومة، و تحاول التداولية أيضا البحث في كيفية تماسك ظروف نجاح العبارة كفعل إنجازي ، وأن تصوغ الشروط التي تعين أيَّ العبارات تكون ناجحة في موقف ما .
شكرا على الموضوع
التداولية كمصطلح فلسفي نشا على يد جون ستوارث ميل والذي يقابل البراغماتية في الفلسفة مفهوم
اما التداولية كمصطلح ادبي له علاقة بعلم الكلام فيبدوا غامضا كثيرا
فهل تقصد به العلاقة بين الملامح والسمات والكلام اثناء الحديث ام ماذا ؟ وهي لا تتعلق فقط بالمرسل بل ايضا بالمستقبل فهذا ما فهمته من خلال الفقرة الاخيرة
فارجوا التوضيح جزاك الله خيرا