إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله_صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً_.
الايمان بالله
قال تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا [سور الإخلاص].
سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن – كيف لا وفيها صفة الرحمن – وسبب نزولها أن المشركين قالوا للنبي انسب لنا ربك فأنزل الله قل هو الله أحد([1]).
فما الإيمان بالله سبحانه؟ وما دلائل وجوده سبحانه؟ وما هي شبهات الملحدين وما الرد عليها؟ وما حق الله على عباده؟
أما الإيمان بالله: فهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه رب كل شيء ومليكه وخالقه – وأنه الذي يستحق وحده أن يفرد بالعبادة: من صلاة وصيام، ودعاء، ورجاء، وخوف، وذل وخضوع – وأنه المتصف بصفات الكمال كلها المنزه عن كل نقص.
وينبغي أن تعلم: أن أنواع التوحيد ثلاث – ولا يصح إيمان العبد إلا بها وهي:
توحيد الربوبية: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ولا رب غيره – تقول العرب: أنا رب الدار أي القائم بشؤونها – والله تعالى هو رب العالمين القائم بشؤون خلقه من خلق ورزق وإحياء وإماتة سبحانه.
توحيد الألوهية: الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه هو الإله الحق ولا إله غيره وإفراده سبحانه بالعبادة، والعرب تقول: أَلِهَ الفصيل إلى أمه من مفزع أفزعه والله تعالى هو الذي يخلص له المؤمن في تعبده وخوفه ورجائه وطاعته وتوكله واحتكامه ودعائه، وهذا هو التوحيد الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة فمن لم يأت به كان من المشركين. وهو التوحيد الذي جاء به الرسل من عند الله سبحانه: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25]. والمشركون كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد الألوهية، فأكثر العباد لا ينكرون الخالق وربوبيته على الخلق ولكن معظم كفره من عبادتهم غير الله عز وجل حيث يكون دعاؤهم واستعانتهم واحتكامهم وطاعتهم لغير الله سبحانه: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون [الزخرف:87]. قال ابن كثير رحمه الله: (أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعا وحده لا شريك له في ذلك ومع هذا يعبدون من لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل)([2]) .
ج- توحيد الأسماء والصفات: الاعتقاد الجازم بأن الله عز وجل متصف بجميع صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقص – من غير تشبيه فمن شبه الله بخلقه كفر – (فكل ما خطر ببالك فهو على خلاف ذلك) ليس كمثله شيء [الشورى:11].
ومن غير تعطيل أي جحود أو نفي لما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فمن فعل ذلك فقد كفر: وهو السميع البصير [الشورى:11] فلا يجوز السؤال عن كيفية الصفات لأن الله سبحانه لا يسأل عن كنهها فكذلك صفاته لا يصح السؤال عن كيفيتها. وعندما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله سبحانه: الرحمن على العرش استوى [طه:5]. قال: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) فلله سمع وبصر ويد وكلام ونزول واستواء يليق بجلاله وذاته العلية سبحانه.
وضرب العلماء لذلك مثالا: تقول للنملة عين ولي عين فلا يلزم أن تكون عيني كعين النملة فللنملة عين تليق بها ولي عين تليق بي ولله المثل الأعلى.
والصفات نوعين:
ذاتية: وهي التي لا تنفك عن الله سبحانه كالعلم والحياة والقدرة والسمع.
صفات العمل: فهي ما تعلق بمشيئة الله وقدرته كالنزول والاستواء والسخط والرضى.
وأما دلائل وجوده سبحانه:
الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها [الروم:3]. ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))([3]). فقد أودع الله معرفته في النفس الإنسانية بالعهد الذي أخذه على الأرواح قال تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى [الأعراف:172].
دقة المصنوع تدل على عظمة الصانع: وفي كتاب الله دعوة إلى النظر والتفكر في بدائع صنع الله سبحانه: وفي أنفسكم أفلا تبصرون [الذاريات:21]. إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [آل عمران:190]. وانظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه [الأنعام:99]. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [النحل:66].
ووضع العلماء فروضا ثلاث:
أ- أن الكون وجد مصادفة والعلماء يقولون: ما جرى مصادفة لا يتكرر حدوثه بانتظام انتظام الكون يدل على أن وراء هذا الكون خالق حكيم.
ب- أن يكون صدور هذا الكون من العدم: وفاقد الشيء لا يعطيه: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [الطور:35]. أي هل وجدوا من غير خالق؟ أم خلقوا أنفسهم بأنفسهم فلا يحتاجون إلى أحد يخلقهم وكل هذا مستحيل.
ج- أن يكون لهذا الكون خالق حكيم وهذا ما قال به العقلاء من قبل ومن بعد؛ يقول سقراط: أي الصناع أولى بالإعجاب، الذي خلق صورا بلا عقل ولا حراك، أم الذي يبدع كائنات ذات عقل وحياة.
انخلاع القلب إلى الله سبحانه عند الشدائد: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين [يونس:22]. وعندما سئل أحد العارفين عن دليل وجود الله قال: أرأيت لو كنت في صحراء فسقطت في بئر، ولا تجد من ينجدك فماذا تقول، قال: أقول يا الله يا الله، قال: هذا دليل وجوده، ولكنها مغالطة الملاحدة لفطرتهم وادعائهم للعقلانية ولا عقل.
التقدم في مجالات المعرفة والعلوم: حيث أدركنا أن هنالك عوالم كثيرة لا علم لنا بها وهي موجودة كالجراثيم والبكتريا ولكن قصورنا العلمي جعلنا في جهالة عن معرفتها قرون طوال. ثم المغناطيس والكهرباء حيث ننتفع بها ولا نعلم شيئا من حقيقتها فمعرفة حقائق الأشياء لا يفيدنا شيئا ويكفي أن نعرف من خواصها ما يعود بالفائدة علينا، فما بالك بذات الله سبحانه فهي أكبر من أن يحيط بها إنسان وصدق الله العظيم: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [الحاقة:38-39].
صدق المخبر يدل على صدق الخبر: فالذي أخبرنا عن الله سبحانه رسل وأنبياء كرام هم صفوة الخلق وأطهرهم قلوبا وأزكاهم نفوسا وأحسنهم خلقا .لذا عندما صدع الرسول بدعوته ووقف على الصفا ونادى القبائل بأسمائها، فلما اجتمعوا قال: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن وراء الجبل خيل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: بلى ما عرفنا منك كذبا، قال: فإني رسول الله بين يدي عذاب شديد)). فهم أمام الجبل لا يرون ولا يعرفون ما خلف الجبل، فثقتهم بالمخبر وصدقه وأمانته تلزمهم أن يؤمنوا ويصدقوا بالخبر، وكذا تواتر الخبر عبر أجيال مضت ولم يعرف عن أمة الإلحاد منذ بدء الخليقة وإنما كانت نشأته في أوربا بسبب موقف الكنيسة من العلماء التجريبيين والباحثين الذين اكتشفوا حقائق تخالف ما تبنته الكنيسة من خزعبلات فرضتها على الناس قسرا يوم كان للكنيسة سلطان. فصار الناس بين أمرين كلاهما شر. إما أن يؤمنوا بالكنيسة وخرافاتها وإما أن يؤمنوا بالعلم ويكفروا بالكنيسة والتي كانت تمثل الدين كذبا، فلما زال سلطان الكنيسة وجاءت الثورة الصناعية عمت الفوضى في عقائد الناس بل كان شعار المتظاهرين (ليشنق آخر دوق بأمعاء آخر قسيس) فالكنيسة كانت سيفا ظالما بيد الحكام على رقاب الناس فجمعت بين السوءتين الظلم والجهل، فكانت نشأة الإلحاد.
وأما شبهات الملحدين: فإن للملحدين شبهات نسجوها بجهلهم لصرف الأمة عن دينهم من ذلك:
أ- الصراع بين الكنيسة والعلماء.
ب- قصور العلم: فأصبحت المادة تمثل الوجود وما سواها لا رصيد له.
ج- وجود القاعدة والغالبية من الجهلة والأغبياء وأرباع العلماء يقول بيكون: القليل من الفلسفة يورث الإلحاد والكثير من الفلسفة يورث اليقين.
ولكن العلم الآن وصل إلى حد أن المادة ليس هي الشيء الملموس إنما هي غيب مثل: الالكترونات والجاذبية والكهرباء وكذلك خصائص النفس الإنسانية من عقل وضمير وروح وذاكرة وإرادة ويقول العلماء أيضا الكامل المطلق وهو الله سبحانه يُعرف ولا يحاط به فتوقف الإقرار على الرؤية والإحاطة ضلال فالصغير لا يحيط بالكبير والناقص لا يحيط بالكامل والمحدود لا يحيط بالانهائي وهكذا فلا يمكن للإنسان أن يحيط بالله لقصور الإنسان وكمال الله سبحانه ولذا قيل: العجز عن إدراك الذات إدراك([4]).
وعندما سأل موسى عليه السلام الرؤية قال تعالى: رب أرني أنظر إليك قال لن تراني [الأعراف:143]. وفيه إشارة إلى أن الخالق لم يحجب نفسه عن المخلوق، بل أن نقص المخلوق هو الذي حجبه عن الرؤية حيث لم يقل: لا تراني. ثم تأمل في تمام الآية: ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فالجبل في تركيبته أقوى وأصلب فإذا قوي على الرؤية فسوف تراني فإذا بالجبل يتهاوى وموسى أكرم على الله تعالى من الجبل – فكيف يتجلى للجبل وهو جماد ولا يتجلى لنبي كريم ويوم القيامة حيث تكون طبيعة العباد وخلقهم على سمت وبناء جديد لذا قال تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة:22-23]. وجاء في الحديث الشريف: ((إنكم سترون ربكم))([5]).
وأما حق الله على عباده :التوحيد الخالص لله سبحانه وحده: وذلك بأن تعتقد:
أنه الله وحده هو الخالق، وكل ما عداه فهو مخلوق: الله خالق كل شيء [الزمر:62]. وأن كل من عداه هو عبد له سبحانه: إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا [مريم:93].
وحدة الخالق سبحانه: وذلك بأن تعتقد أن لا إله إلا الله وحده، ولو كان وراء الكون أكثر من خالق لاضطرب نظامه، واختل ميزانه: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [الأنبياء:22].
يقول ابن كثير رحمه الله: لو قدر تعدد الإله لانفرد كل منهم بما خلق، فما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، غاية الكمال: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [تبارك:3]. ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض([6])، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [المؤمنون:91].
إفراد الله عز وجل وحده بالعبادة البدنية كالصلاة والصوم والذبح، والقولية كالنذر والدعاء والسؤال: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام:162]. وللحديث: ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك))([7])، ليس هناك حجاب بينه وبين خلقه، فعلاقة العبد بالله سبحانه وتعالى علاقة مباشرة، فإنه ليس أقرب إليه من الله سبحانه: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب [البقرة :186].
وجوب إخلاص المحبة لله عز وجل وحده: وذلك بأن تقدم محبة الله تعالى على محبة كل أحد، حتى تضحي بكل حب في سبيل الله إذا تعارض بينه وبين ما يقتضيه حبك لربك: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة:24].
فتفرد الله وحده بالمحبة والدعاء والتوكل والخوف والرجاء.
وجوب التلقي عن الله وحده في الشرائع القانونية بالمنهج الذي بلغنا عن رسول الله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7].
وأما موقف المسلم من ربه جل وعلا:
1- التنزه عن الشرك: والشرك شركان:
شرك أكبر: وهو أن يجعل العبد لله ندا ويعبده من حجر أو شمس أو شيخ: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:116]. والشرك في ربوبية الله وأسمائه وصفاته كفر وكذا الشرك في عبادته تعالى إن كان الفاعل عالما مصرا عليه.
الشرك الأصغر: وهو أن يبتغي العبد الدنيا بعمل الآخرة للحديث: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء))([8]).
وذلك لطلب المنافع الدنيوية من سمعة وثناء ورتبة وتقدم وجاه ومنصب ومال.
2- تعظيمه سبحانه والحياء منه: وقد ذكر رب العزة سبحانه علة الكفر، فقال: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر:67]. قال السعدي: ما عظموه حق تعظيمه([9])، واستشعار نظر الله إليك: ألم يعلم بأن الله يرى [العلق:14]. وللحديث: ((استحيوا من الله حق الحياء؟ قالوا: وكيف نستحي من الله حق الحياء؟ قال: أن تحفظ الرأس وما وعوى والبطن وما حوى وأن تذكر الموت والبلى فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء))([10]).
3- مخافة الله سبحانه والخشية منه: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون [الحج:35]، وللحديث: ((يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام))([11])، وأن يكون لهذا الخوف ثمرة وذلك باجتناب المعاصي والآثام للحديث: ((سبعة يظلّلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله … – وذكر منهم – ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله))([12]).
الإكثار من ذكره سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [الأحزاب:41-42].
والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب:35].
وللحديث: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))([13]).
أن تحسن الظن بالله سبحانه: للحديث: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني))([14])، (فينبغي للعبد أن يجتهد في طاعة ربه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعده بذلك، وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد خلاف ذلك فهو آيس من رحمة الله، وهو من الكبائر، وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغفلة)([15]). يقول ابن القيم رحمه الله: ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل على أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز([16])، للحديث: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله))([17]).
…………………………………………..
الايمان بالملايكة
جبريل( عليه السلام): إبلاغ الوحي
ميكائيل( عليه السلام): إنزال المطر وإنبات النبات
إسرافيل( عليه السلام): النفخ في الصور يوم القيامة
ملك الموت: قبض الأرواح وله أعوان من الملائكة
رضوان (عليه السلام): خازن باب الجنة
خدم الجنة: هم ملائكة لا يحصي عددهم إلا الله تعالى
الزبانية: هم تسعة عشر ملك وكّلهم الله تعالى بالنار فهم خزنتها يقومون بتعذيب أهلها
حملة العرش: يحمل عرش الرحمن أربعة وإذا جاء يوم القيامة أضيف إليهم أربعة آخرون
الحفظة: عملهم حفظ الانسان وحمايته من الجان والشيطان والعاهات والنوازل
الكرام الكاتبون: كتابة أعمال البشر وإحصاؤها عليهم فعلى يمين كل عبد مكلف ملك يكتب صالح أعماله وعن يساره ملك يكتب سيئات أعماله
ومن وظائف الملائكة أيضا العناية بشئون المؤمنين والنزول للنصر والتأييد
================================
بعض المعلومات عن الملائكه …
1- وجوب الإيمان بالملائكة عليهم السلام:
إن الإيمان بالملائكة من الواجبات الإعتقادية، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
فالمؤمن عليه أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله خلق عالماً سماه الملائكة.
وقال رسول الله في الحديث المشهور المتضمن أسئلة جبريل عليه السلام للرسول ما الإسلام والإيمان والإحسان: قال – أي جبريل عليه السلام – فأخبرني عن الإيمان، قال – أي رسول الله : "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال – أي جبريل عليه السلام -: صدقت.
ومن أنكر وجود الملائكة، كان إنكاره كفراً وضلالاً لأنه أنكر ما هو ثابت ثبوتاً صريحاً في القرآن الكريم والسنة الشريفة قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 136].
2- حقيقة الملائكة:
الملائكة عليهم السلام عالم خلقه الله من نور، لهم قدرة على التمثل بأمثال الأشياء بإذن الله تعالى، لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة.
قال رسول الله : "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم " رواه مسلم.
فالملائكة نوع من خلق الله تعالى مغاير لنوع الإنس والجن فالإنس والجن يتناسلون ويتناكحون ويوصفون بذكورة وأنوثة بخلاف الملائكة عليهم السلام لا يتناسلون ولا يتناكحون ولا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة.
قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19].
– حكمة وجود الملائكة عليهم السلام والإيمان بهم:
إن في وجود الملائكة والإيمان بهم حكماً متعددة منها:
أولاً: أن يعلم الإنسان سعة علم الله تعالى وعظم قدرته وبديع حكمته، وذلك أنه سبحانه خلق ملائكة كراماً لا يحصيهم الإنسان كثرة ولا يبلغهم قوة وأعطاهم قوة التشكل بأشكال مختلفة حسبما تقتضيه مناسبات الحال.
ثانياً: الإيمان بالملائكة عليهم السلام هو ابتلاء للإنسان بالإيمان بمخلوقات غيبية عنه، وفي ذلك تسليم مطلق لكتاب الله وسنة رسول الله .
ثالثاً: أن يعلم الإنسان أن الله تعالى خلق ملائكة أنقياء أقوياء لكلٍ منهم له وظيفة بأمر من الله تعالى إظهاراً لسلطان ربوبيته وعظمة ملكه، وأنه الملك المليك الذي تصدر عنه الأوامر، من الوظائف التي أمروا بها: نفخ الروح في الأجنة ومراقبة أعمال البشر، والمحافظة عليها وقبض الأرواح وغير ذلك… .
رابعاً: أن يعلم الإنسان ما يجب عليه تجاه مواقف الملائكة معه وعلاقة وظائفهم المتعلقة به، فيرعاها حق رعايتها ويعمل بمقتضاها وموجبها.
مثال ذلك: أن الإنسان إذا علم أن عليه ملكاً رقيباً يراقبه وعتيداً حاضراً لا يتركه، متلقياً عنه ما يصدر منه، فعليه أن يحسن الإلقاء والإملاء لهذا الملك المتلقي عنه والمستملي عنه الذي يدون على الإنسان كتابه ويجمعه ثم يبسطه له يوم القيامة وينشره ليقرأه قال الله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
خامساً: وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل ملائكة كراماً وسطاء سفرة بينه وبين أنبيائه ورسله عليهم السلام قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي} [النحل: 2].
وفي ذلك تنبيه إلى عظم النبوة والرسالة، ورفعة منزلة الشرائع الإلهية وشرف العلوم الربانية الموحاة إلى الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإن شرائع الله تعالى مجيدة كريمة، لأن الذي شرعها هو العليم الحكيم الذي أحكم للناس أحكامها ووضع لهم نظامها على وجه يضمن مصالح العباد وسعادتهم وعزتهم الإنسانية وكرامتهم الآدمية.
فالجدير بالشرائع الإلهية وحكمة أحكامها وبديع انتظامها أن تتنزل بها أشراف الملائكة وساداتها على أشراف الخليقة الإنسانية وساداتها ألا وهم الأنبياء عليهم السلام.
======================================
مرتبة الملائكة عند الله عزَّ وجلَّ:
قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
هذه الشهادة هي أعظم الشهادات وأقومها وأعلاها، إنها شهادة الله بأنه لا إله إلا هو عز وجل.
ففي هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قرن شهادة الملائكة وأولي العلم بشهادته سبحانه وتعالى التي سجلها في جميع كتبه.
وفي ذلك وجوه من العز والشرف والكرامة وعلو المكانة والمرتبة للملائكة الكرام والعلماء المخلصين الذين قرنهم الله تعالى بملائكته:
أولاً: إن الله تعالى استشهد بشهادة نفسه سبحانه وهو أجلُّ شاهد، وكفى بالله شهيداً، ثم بخيار خلقه وهم الملائكة وأولوا العلم، وحسبهم بذلك رتبة عالية وفضلاً عظيماً، وشرفاً كريماً على غيرهم من المخلوقات.
ثانياً: إنه تعالى لا يستشهد من خلقه إلا الشهود العدول المطيعين، فهذه الآية تدل على عدالتهم وثقتهم وأمانتهم وصونهم وتزكيتهم وتنقيتهم.
ثالثاً: إنه تعالى جعل شهادة الملائكة وأولي العلم حجة على المنكرين، فالملائكة وأولوا العلم عند الله بمنزلة براهينه الدالة على توحيده سبحانه.
وقال تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19، 20].
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء : 26-27- 28].
وقد وصفهم الله في هذه الآيات بأنهم مقربون يداومون على عبادة الله كما أمرهم تعالى ولا ينثنون ولا يكلون ولا يتعبون بل دأبهم الطاعة والاستمرار عليها، وحالهم التسبيح في الليل والنهار فلا يتوقف نشاطهم عن التسبيح والتمجيد لله تعالى.
ووصفهم بأنهم عباد لهم شأن كريم ومقام عظيم ونعتهم بكمال الطاعة، والانقياد لأمره تعالى،وأنهم بأمره يعملون لا من تلقاء أنفسهم، فهم على مراقبة دائمة في جميع تقلباتهم وحركاتهم وسكناتهم، لأنهم يوقنون أن علمه سبحانه محيط بهم، وهم لا يشفعون إلا لمن أرتضى الله تعالى أن يشفعوا له، وأنزلهم مقام الخوف والخشية منه وكفى هذا المقام رتبة.
وقال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19-20].
وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ } [فصلت: 37- 38].
– فالملائكة عليه السلام لا يصيبهم تعب من عبادة الله تعالى ولا فتور ولا كلل من تسبيحه سبحانه وتمجيده، بل حياتهم ودأبهم هي طاعة الله تعالى وعبادته وتسبيحه وتحميده.
وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [شورى: 5].
– فهم يستغفرون لمن أذن الله أن يستغفروا له، فيجيب الله استغفارهم لمن في الأرض، لأنه هو الغفور الرحيم.
وقد وصف الرسول مشهداً من مشاهد عبادتهم فقال: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أَطَّتْ السماء وحُقَّ لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى" رواه الترمذي وأحمد.
وقال تعالى: { والصَّافَّاتِ صَفّاً} [الصافات: 1].
فقد أقسم الله تعالى بطوائف من الملائكة الصافات للصلاة والعبادة بين يدي رب العالمين قال رسول الله : "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟" قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ فقال : " يقيمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف" رواه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم.
قال الله تعالى في خوف الملائكة:
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].
يصف الله ملائكته بأنهم يخافونه ويخشونه لأنه سبحانه مالك ذواتهم وبيده مقاليد أمورهم، وخوفهم، خوف إجلال وإعظام وإن كانوا آمنين من عذاب الله تعالى، وإن خوفهم من الله نشأ لعلمهم بالله عز وجل وبحقه.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
إن العلماء يخشون الله لأنهم أعلم بالله من غيرهم، فأعلم الناس بالله تعالى هم أخشاهم لله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: "أمَا والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" رواه البخاري.
ومع خوفهم وخشيتهم يعلمون أن أحداً لا يقدر الله حق قدره من الثناء عليه والحمد له وتسبيحه وتكبيره والعبادة له.
قال رسول الله : ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كفٍّ إلا وفيه ملك ساجد أو ملك راكع، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعاً: ما عبدناك حق عبادتك إلا أنّا لا نشرك بك شيئاً" رواه الطبراني وغيره.
أعداد الملائكة عليهم السلام:
إن عدد الملائكة لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ، فهم لا يحصون في علم المخلوقات لكثرتهم الكاثرة قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} [المدثر: 31].
وقال رسول الله : "أطت السماء، وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع".
………………………………………….. ….
الايمان بالكتب
الكتب في اللغة: جمع كتاب بمعنى مكتوب، مثل فراش بمعنى مفروش، وإله بمعنى مألوه، وغراس بمعنى مغروس.
ومادة (كتب) تدور حول الجمع والضم، وسمي الكاتب كاتباً؛ لأنه يجمع الحروف ويضم بعضها إلى بعض.
ومنه الكتيبة من الجيش سميت كتيبةً؛ لاجتماعها، وانضمام بعضها إلى بعض، ومنه تسمية الخياط كاتباً؛ لأنه يجمع أطراف الثوب إلى بعض، كما في مقامات الحريري([1])، حيث قال ملغزاً:
حرفاً ولا قرأوا ما خط في الكتب
ويَقْصدُ بهم الخياطين.
أما في الشرع: =فالمراد بها الكتب التي أنزلها الله_تعالى_على رسله؛ رحمة للخلق، وهداية لهم؛ ليصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة+([2]).
1_الإيمان بأنها أنزلت من عند الله حقَّاً.
2_الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الذي نُزِّل على محمد"والتوراة التي أُنزلت على موسى"والإنجيل الذي نزل على عيسى_عليه الصلاة والسلام_والزبور الذي أوتيه داود_عليه السلام_.
وأما ما لم نعلمه من الكتب المنزلة فنؤمن به إجمالاً.
3_تصديق ما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل، أو يحرف من الكتب السابقة.
4_العمل بما لم ينسخ منها، والرضا، والتسليم به، سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها.
وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم، قال_تعالى_: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ] (المائدة: 48).
أي حاكماً عليه، وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح وأقره القرآن.
الإيمان بالكتب أصل من أصول العقيدة، وركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلا إذا آمن بالكتب التي أنزلها الله على رسله_عليهم السلام_.
وقد أثنى الله_عز وجل_على الرسل الذين يبلغون عن الله رسالاته فقال_عز وجل_: [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ] (الأحزاب: 39).
كما أخبر_سبحانه_أن الرسول"والمؤمنون آمنوا بما أنزل من عند الله من كتب، قال_تعالى_[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ] (البقرة: 285).
ومما يدل على أهميته أن الله أمر المؤمنين بأن يؤمنوا بما أنزله كما في قوله_تعالى_: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (البقرة: 136).
ومما يدل على أهميته أن الله أهلك الأمم بسبب تكذيبهم برسالاته، كما أخبر الله عن صالح بقوله: [فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] (الأعراف: 79).
كذلك من أنكر شيئاً مما أنزل الله فهو كافر كما قال_تعالى_: [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً] (النساء:136).
لقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على الإيمان بالكتب فمن ذلك قوله_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ] (النساء: 136) وقوله_تعالى_: [وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ] (الشورى: 15).
وقال_عليه الصلاة والسلام_كما في حديث جبريل المشهور عندما سأله عن الإيمان قال:=أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله+الحديث([1]).
أنزلت الكتب السماوية كلُّها لغايةٍ واحدةٍ، وهدف واحد وهو أن يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له، ولتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض، تقودهم بما فيها من هداية إلى كل خير، ولتكون روحاً ونوراً تحيي نفوسهم، وتكشف ظلماتها، وتنير لهم دروب الحياة كلها.
تتفق الكتب السماوية في أمور عديدة منها:
1_وحدة المصدر: فمصدرها واحد؛ فهي منزلة من عند الله، قال_تعالى_: [الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ](آل عمران:1_4).
2_وحدة الغاية: فالكتب السماوية غايتها واحدة، فهي كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دين الإسلام؛ فالإسلام هو دين جميع الرسل، قال_تعالى_[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ](النحل: 36).
وقال_تعالى_: [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] (آل عمران: 19).
والإسلام هو الدين الذي أُمِر به إبراهيم_عليه السلام_[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ](البقرة: 131).
وقال موسى_عليه السلام_لقومه: [يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ](يونس: 84).
والحواريون قالوا لعيسى_عليه السلام_: [آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 52).
فالغاية_إذاً_هي الدعوة إلى دين الإسلام، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له.
3_مسائل العقيدة: فالكتب اشتملت على الإيمان بالغيب، ومسائل العقيدة، كالإيمان بالرسل، والبعث والنشور، والإيمان باليوم الآخر إلى غير ذلك.
فمسائل العقيدة من باب الأخبار التي لا تنسخ.
4_القواعد العامة: فالكتب السماوية تقرر القواعد العامة، التي لابد أن تعيها البشرية؛ كقاعدة الثواب والعقاب، وهي أن الإنسان يحاسب بعمله، فيعاقب بذنوبه وأوزاره، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، ويثاب بسعيه، وليس له سعي غيره كما قال_تعالى_[أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى] (النجم: 36_41).
ومن ذلك الحث على تزكية النفس، وبيان أن الفلاح الحقيقي لا يتحقق إلا بتزكية النفس بالطاعة لله، والعبودية له، وإيثار الآجل على العاجل.
قال_تعالى_: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى] (الأعلى: 14_19).
ومن تلك القواعد أن الذي يستحق وراثة الأرض هم عباد الله الصالحون؛ [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105).
ومن ذلك أن العاقبة للتقوى وللمتقين، كما قال_تعالى_: [وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] (طه: 132)، وقال: [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف: 128).
5_العدل والقسط: وهذا من مواطن الاتفاق؛ فجميع الأنبياء_عليهم السلام_حملوا ميزان العدل والقسط، قال_تعالى_: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ](الحديد: 25).
6_محاربة الفساد والانحراف: وهذا ما اتفقت عليه الرسالات؛ سواء كان الفساد عقدياً أو خلقياً، أو انحرافاً عن الفطرة، أو عدواناً على البشر، أو تطفيفاً في الكيل والميزان، أو غير ذلك.
7_الدعوة إلى مكارم الأخلاق: فالكتب كلها دعت إلى مكارم الأخلاق، كالعفو عن المسيء، وكالصبر على الأذى، وكالقول الحسن، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وإكرام الضيف، والتواضع، والعطف على المساكين، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق.
8_كثير من العبادات: فكثير من العبادات التي نقوم بها كانت معروفة عند الرسل وأتباعهم، كالصلاة، والزكاة، قال_تعالى_: [وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ] (الأنبياء: 73).
وإسماعيل_عليه السلام_[وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ] (مريم: 55)، وقال الله لموسى_عليه السلام_[فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي] (طه: 14)، وقال عيسى_عليه السلام_: [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً] (مريم: 31).
والصوم_كذلك_مفروض علينا كما هو مفروض على من قبلنا، قال_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] (البقرة: 183).
والحج كذلك، كما في قول الله_تعالى_لإبراهيم_عليه السلام_[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً] (الحج: 27).
وقد جعل الله لكل أمة مناسكها وعبادتها، قال_عز وجل_: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ](الحج: 34).
تختلف الكتب السماوية في الشرائع، فشريعة عيسى تخالف شريعة موسى_عليهما السلام_في بعض الأمور، وشريعة محمد"تخالف شريعة موسى وعيسى_عليهما السلام_في أمور.
قال_تعالى_:[لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً](المائدة: 48).
وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً؛ فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد مر بنا شيء من ذلك، فالاختلاف بينها إنما يكون في التفاصيل.
فعدد الصلوات، وأركانها، وشروطها، ومقادير الزكاة، ومواضع النسك، ونحو ذلك_قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يُحِل الله أمراً في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة يعلمها_عز وجل_ولا يلزم أن نعلمها، ومن الأمثلة على ذلك مايلي:
1_الصوم: فقد كان الصائم يفطر في غروب الشمس، ويباح له الطعام، والشراب، والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فخفف الله عن هذه الأمة، وأحله من الغروب إلى الفجر، سواءً نام أم لم ينم، قال_تعالى_: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ](البقرة: 187).
2_ستر العورة حال الاغتسال: لم يكن واجباً عند بني إسرائيل، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: =كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده+([5]).
3_الأمور المحرمة: فمما أحله الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم الله هذا بعد ذلك.
وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة.
وقد حرَّم الله مثل هذا على بني إسرائيل في التوراة.
وكذلك الجمع بين الأختين كان سائغاً، وقد فعله يعقوب فتزوج بابنتي خاله: ليَّا، وراحيل؛ وهما أختان ثم حُرِّمَ عليهم في التوراة.
ومما حرَّمه الله على اليهود ما قصه علينا في سورة الأنعام، قال_تعالى_: [وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ](الأنعام: 146).
ثم جاء عيسى_عليه السلام_فأحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم.
وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة: إحلال الطيبات وتحريم، الخبائث.
ومما تميزت به الشريعة الخاتمة أنها عامة لجميع الناس إلى قيام الساعة، بخلاف الشرائع الأخرى، فهي خاصة بقوم دون قوم، أو فترة دون فترة.
القرآن آخر الكتب السماوية وهو خاتمها، وهو أطولها، وأشملها، وهو الحاكم عليها.
قال الله_تعالى_: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ] (المائدة: 48).
وقال_تعالى_: [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (يونس: 37).
وقال: [مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (يوسف: 111).
قال أهل التفسير في قوله_تعالى_[وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ]: مهيمناً وشاهداً على ما قبله من الكتب، ومصدقاً لها؛ يعني يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف، وتبديل، وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.
ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال_تبارك وتعالى_: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ](القصص:52 ، 53 ).
فالقرآن هو رسالة الله لجميع الخلق، وقد تكفل_سبحانه_[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9).
ولا يقبل الله من أحد ديناً إلا ما جاء في هذا القرآن العظيم.
قال الشيخ ابن سعدي_رحمه الله_في قوله_تعالى_: [وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ]:=أي مشتملاً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية، والأخلاق النفسية؛ فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب، فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل، وإلا لو كان من عند الله لم يخالفه+([7]).
التوراة هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى_عليه السلام_والتوراة كتاب عظيم اشتمل على النور والهداية كما قال_تعالى_: [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ](المائدة: 44).
وقال_تعالى_: [ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ] (الأنعام: 154).
وكثيراً ما يقرن الله_عز وجل_في القرآن بين التوراة والقرآن؛ وذلك لأنهما أفضل كتابين أنزلهما الله على خلقه.
هذه باختصار هي حقيقة التوراة التي أنزلت على موسى_عليه السلام_.
التوراة الموجودة اليوم([8]):
أما التوراة الموجودة اليوم فهي ما يطلق على الشريعة المكتوبة، كما يطلق لفظ (التلمود) على الشريعة الشفهية.
والتوراة الموجودة اليوم تشتمل على خمسة أسفار وهي:
1_سفر التكوين: ويتحدث هذا السفر عن خلق العالم، وظهور الإنسان، وطوفان نوح، وولادة إبراهيم إلى موت يوسف_عليه الصلاة والسلام_.
2_سفر الخروج: ويتحدث عن حياة بني إسرائيل في مصر، منذ أيام يعقوب إلى خروجهم إلى أرض كنعان مع موسى ويوشع بن نون.
3_سفر اللاويين: نسبة إلى لاوي بن يعقوب، وفي هذا السفر حديث عن الطهارة، والنجاسة، وتقديم الذبائح، والنذر، وتعظيم هارون وبنيه.
4_سفر العدد: يحصي قبائل بني إسرائيل منذ يعقوب، وأفرادَهم ومواشيهم.
5_سفر التثنية: وفيه أحكام، وعبادات، وسياسة، واجتماع، واقتصاد، وثلاثة خطابات لموسى_عليه السلام_.
هذه هي التوراة الموجودة اليوم، وكل عاقل منصف_فضلاً عن المسلم المؤمن_يعلم براءة التوراة التي أنزلها الله على موسى_عليه السلام_مما هو موجود في التوراة اليوم، وذلك لأمور عديدة منها:
1_ما حصل للتوراة من الضياع والنسخ والتحريف والتدمير، فلقد حُرِّف فيها، وبُدِّل، وضاعت، وتعرضت لسبع تدميرات، منذ عهد سليمان_عليه السلام_(945) قبل الميلاد إلى أن حصل التدمير السابع عام 613م مما يدل على ضياعها وانقطاع سندها.
2_ما تشتمل عليه من عقائد باطلة لا تمت إلى ما جاء به المرسلون بأدنى صلة.
3_اشتمالها على تنقص الرب_جل وعلا_وتشبيهه بالمخلوقين، ومن ذلك قولهم:=إن الله تصارع مع يعقوب ليلة كاملة فصرعه يعقوب+.
ومن ذلك قولهم:=إن الله ندم على خلق البشر لما رأى من معاصيهم، وأنه بكى حتى رمد فعادته الملائكة+.
تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
4_اشتمالها على سب الأنبياء والطعن فيهم، ومن ذلك قولهم:=إن نبي الله هارون صنع عجلاً، وعبده مع بني إسرائيل+.
وقولهم:=إن لوطاً شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنى بهما الواحدة تلو الأخرى+.
وقولهم:=إن سليمان_عليه السلام_ارتد في آخر عمره، وعَبَدَ الأصنام، وبنى لها المعابد، إلى غير ذلك من مخازي إخوان القردة+([9]).
5_اشتمالها على المغالطات والمستحيلات والمتناقضات.
6_أن المعركة التي قامت بين التوراة وحقائق العلم الحديث أثبتت ما في التوراة من الأخطاء العلمية.
ومن تلك الكتب التي تكلمت على هذا الموضوع كتابان هما: (أصل الإنسان) و (التوراة والإنجيل والقرآن) لعالم فرنسي اسمه (موريس بوكاي) حيث أثبت وجود أخطاء علمية في التوراة والإنجيل، وأثبت في الوقت نفسه عدم تعارض القرآن مع العلم الحديث وحقائقه، بل سجل شهادات تفوق سبق القرآنُ فيها العلمَ بألف وأربعمائة عام([10]).
هو الكتاب العظيم الذي أنزله الله على عيسى_عليه السلام_متمماً للتوراة، ومؤيداً لها، وموافقاً لها في أكثر الأمور الشرعية، يهدي إلى الصراط المستقيم، ويبين الحق من الباطل، ويدعو إلى عبادة الله وحده دون من سواه.
هذا هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى_عليه السلام_.
وبعد موت عيسى_عليه السلام_دخل التحريف الإنجيل فَغُيِّر فيه، وبدِّل، وزيد فيه، ونقص.
الإنجيل بعد عيسى_عليه السلام_:
الكتاب المقدس لدى النصارى يشمل التوراة والأناجيل، ورسائل الرسل.
وتسمى التوراة العهد القديم، وتسمى الأناجيل، ورسائل الرسل العهد الجديد.
فالعهد الجديد_إذاً_هو الذي يشتمل على أناجيلهم، والأناجيل المعتبرة عند النصارى أربعة هي:
1_إنجيل يوحنَّا. 2_إنجيل مرقُس.
3_إنجيل مَتَّى. 4_إنجيل لُوقا.
وهناك أناجيل أخرى مثل إنجيل برنابا، وأناجيل أخرى أهملت.
هذا وقد بيَّن كثير من العلماء المسلمين قديماً وحديثاً ومن علماء النصارى الذين دخلوا في الإسلام، أو المتحررين منهم من ربقة التقليد_عدم صحة هذه الأناجيل الموجودة في أيدي النصارى، ووجهوا إليها انتقادات كثيرة، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله تعالى_في كتابه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وابن القيم_رحمه الله تعالى_في كتابه: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
ومن العلماء المحدثين الشيخ رحمة الله الهندي_رحمه الله تعالى_في كتابه: إظهار الحق، والشيخ محمد أبو زهرة_رحمه الله تعالى_في كتابه: محاضرات في النصرانية، ومن علماء النصارى الذين أسلموا إبراهيم خليل أحمد كما في كتابه: محاضرات في مقارنة الأديان.
وفيما يلي إجمال لبعض الأمور التي تبين بطلان الأناجيل الموجودة بأيدي النصارى اليوم وعدم صحتها:
1_أن هذه الأناجيل التي بأيدي النصارى لم يُمْلِها عيسى_عليه السلام_ولم تنزل عليه وحياً، ولكنها كتبت بعده.
2_ما وقع في الأناجيل من تلاعب النساخ، وتبديلهم وتحريفهم.
3_اشتمالها على المتناقضات، والاختلافات، وقد أحصى الشيخ رحمة الله الهندي_في آخر كتابه إظهار الحق_أكثر من مائة اختلاف بين هذه الأناجيل.
4_انقطاع السند في نسبتها لكتابها.
5_اشتمالها على تنقص الرب_جل وعلا_وعلى نسبة القبائح للأنبياء_عليهم السلام_.
6_اشتمالها على العقائد الباطلة المخالفة للنقل والعقل.
7_تعارضها مع الحقائق العلمية، كما أثبت ذلك عدد من العلماء؛ منهم موريس بوكاي وقد مر معنا ذلك قريباً.
8_زد على ذلك أن تلك الأناجيل_وبغض النظر عن كونها محرفة_تخلو من أي تصور محدد لنظام سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو علمي.
لا يسوغ لأحد ذلك؛ للاعتبارات السابقة، ولأنها_وعلى فرض صحتها_كانت خاصة لأمة معينة، ولفترة محددة، ولأنها نسخت بالقرآن الكريم.
ومن هنا يتبين بطلان هذه الكتب، وعدم جواز العمل بها إلا ما أقره القرآن، ويتبين لنا ضلال اليهود والنصارى وبطلان مزاعمهم، كيف وقد قال":=لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار+([11]).
الإيمان بالكتب يثمر ثمراتٍ جليلةً منها:
1_العلم بعناية الله؛ حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به.
2_العلم بحكمة الله؛ حيث شرع لكل قوم ما يناسبهم، ويلائم أحوالهم.
3_التحرر من زبالات أفكار البشر بهدي السماء.
4_السير على طريقٍ مستقيمةٍ واضحةٍ لا اضطراب فيها ولا اعوجاج.
5_الفرح بذلك الخير العظيم [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ](يونس: 58).
6_شكر الله على هذه النعمة العظيمة.
7_التحرر من التخبط الفكري والعقدي.
يضاد الإيمان بالكتب تكذيبها، والكفر بها، وتحريفها.
كما يضادها: الإعراضُ عن القرآن، وادعاء نسخه، والتحاكم إلى غيره، وادعاء نقصه، ومضاهاته، ومعارضته.
الطوائف التي ضلّت في باب الإيمان بالكتب
هناك طوائف كثيرة ضلت في هذا الباب منها:
1_اليهود: وذلك بتكذيبهم للقرآن، وتكذيبُهم للقرآن هو في الحقيقة تكذيب لجميع الكتب السماوية.
2_النصارى: يقال عنهم ما قيل عن اليهود، وقد مر الحديث عنهما.
3_الرافضة: وذلك بادعائها أن القرآن ناقص ومحرّف، وأن القرآن الكامل مع الغائب الذي سيخرج في آخر الزمان من سرداب سامراء. . !
ثم إنهم ضلوا في هذا الباب بسبب جعلهما في الجفر والجامعة مصدراً للتلقي عندهم.
وضلوا أيضاً في تأويل القرآن حيث أغرقوا في الباطنية في تأويله([13]).
4_البابية والبهائية: وذلك بادعائها نسخ القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية بشريعة الباب والبهاء([14]).
5_التيجانية: وذلك بتفضيلها أورادَها وأذكارَها_كصلاة الفاتح_على القرآن الكريم حيث قالوا: إن قراءة صلاة الفاتح مرة واحدة أفضل من قراءة القرآن ستة آلاف مرة([15]).
6_غلاة الصوفية عموماً: وذلك بادعائهم العلم اللَّدُنِّي الذي يوحى إليهم، ويغنيهم عن القرآن كما يزعمون.
ثم إن مصدر التلقي عندهم ليس القرآن والسنة بل يقوم على الرؤى والأحلام، والكشف، وغير ذلك([16]) مما يخالف ما جاء في القرآن.
7_النصيرية والدروز وسائر الفرق الباطنية: وذلك بانحرافهم في تأويل القرآن، وإغراقهم في التأويل الباطني، وإخراج القرآن عن معانيه وحقائقه الصحيحة، وكذلك ادعاء بعضهم نسخ الإسلام كما يقول علي ابن الفضل الباطني_قبحه الله_:
وهذا نبي بني يعرب
لكل نبي مضى شرعةٌ
وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة
وفرض الصيام فلم نتعب
إلى آخر ذلك الكفر الصراح البواح([17]).
8_المشرعون والقانونيون: الذين أعرضوا عن تحكيم القرآن، وعارضوه بزبالات أفكارهم، زاعمين أنه لا يناسب العصر الحديث، ولا يفي بحاجاته. ………………………………………….. ……….
الإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة، والرسل ينقسمون إلى قسمين رسل من البشر، ورسل من الملائكة قال الله تعالى:]إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ{19} ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ{20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ{21} والمراد بالرسول هنا جبريل وهو رسول ملكي، وقال تعالى:إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ{40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ{41} وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ{42} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{43} والمراد به محمد، صلى الله عليه وسلم ، وهو رسول بشري لكن المراد بقولنا: الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، المراد بالرسل هنا البشر لأن الرسول الملكي داخل في قولنا: ]وملائكته[.
الرسول البشري تعريفه عند جمهور أهل العلم: "أنه من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه" وأول الرسل نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ وآخرهم محمد ، صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }النساء163 والدليل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتمهم قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }الأحزاب40 فإن قلت: هل آدم رسولٌ أم لا؟
فالجواب: أنه ليس برسول لكنه نبي، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحة أن النبي، صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم: أنبي هو؟ قال: "نعم نبي مكلم". ولكنه ليس برسول والدليل قله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }البقرة213 وقوله، صلى الله عليه وسلم ، في حديث الشفاعة: "إن الناس يذهبون إلى نوح فيقولون: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض". وهذا نص صريح بأن نوحاً أول الرسل.
كيف نؤمن بالرسل؟
الإيمان بالرسل أن نؤمن بأسماء من علمنا اسمه منهم، وأن نؤمن بكل خبر أخبروا به، وأن نؤمن بأنهم صادقون فيما قالوه من الرسالة، أما من لم نعرف اسمه منهم فنؤمن به إجمالاً، فإننا لم نعرف أسماء جميع الرسل لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }غافر78
وأحكام الرسل السابقة من ناحية إلزامنا بها، أو لا، فالقول فيها كالقول في أحكام الكتب.
فإن قال قائل: كيف نجمع بين كون محمد، صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين وبين ما صح به الحديث من نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان؟
فالجواب: أن عيسى ـ عليه السلام لا ينزل على أنه رسول، لأن رسالته التي بعث بها كانت سابقة قبل رسالة النبي، صلى الله عليه وسلم ، ولأنه إذا نزل فلا يأتي بشرع من عنده، ولكنه يجدد شرع النبي، صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يزول الإشكال بين كون محمد، صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين وبين نزول عيسى بن مريم آخر الزمان.
………………………………………….. …………….
الإيمان بالقضاء و القدر
قام فرعون من نومه فزعًا؛ لأنه قد رأى في منامه ذهاب ملكه على يد مولود يولد من بني إسرائيل، وفي نفس اللحظة، أصدر فرعون أوامره بقتل كل مولود ذكر. علمت أم موسى بالخبر، فضمت ابنها (موسى) بين أحضانها، ودموعها تنساب على خديها، ماذا تفعل والموت يحيط بوليدها؟ لكن الله -عز وجل- قد تكفل برعايته، فأوحى إليها أن تضعه في صندوق وتلقيه في ماء النيل، وأوحى إلى الماء أن يحمل موسى إلى قصر فرعون. وعندما رآه جنود فرعون أخذوه، فألقى الله محبته في قلب امرأة فرعون، فصاحت في الجنود: لا تقتلوه. ونفذ قضاء الله وقدره، وكان بيت فرعون هو النجاة لموسى من خطر فرعون، قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يـس: 82].
الإيمان بالقدر:
الناس في الخلق متفاوتون، هذا طويل، وهذا قصير، وهذا جميل، وهذا قبيح، وهذا قدر الله -عز وجل- في خلقه. والمسلم يؤمن بقضاء الله وقدره، فلا يحتقر نعمة أنعم الله بها عليه، ولا يتمنى ما عند الآخرين، بل يكون راضيًا بقضاء الله وقدره، لأن هذا ركن من أركان إسلامه الذي لا يتحقق إلا به.
قال رسول الله (: (حاج (جادل) موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال: قال آدم: يا موسى، أنت اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله على قبل أن يخلقني، أو قدَّره على قبل أن يخلقني؟) قال رسول الله (: (فحج آدم موسى) [البخاري].
والمسلم يعلم أن القدر حق، والإيمان به واجب، بل هو ركن مهم من أركان العقيدة، ولا يكتمل إيمان المرء إلا به، فقد جاء في جواب الرسول ( على جبريل حينما سأله عن الإيمان: ( وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره) [متفق عليه].
والمسلم يؤمن أن القدر هو ما قدره الله -عز وجل-، فالله -عز وجل- خلق الناس وهو يعلم ما يعملون، قال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96]، والله -سبحانه- بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده ملكوت السموات والأرض. قال تعالى: {إن الأمر كله لله}
[آل عمران: 154]، وقال سبحانه: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 132].
والمسلم يعلم أن الإيمان بالقدر يربطه برب هذا الوجود وخالقه ومقدر أمره، فهذا الوجود يسير وفق حكمة عليا وإرادة مختارة، مما يعطي المسلم قوة باعثة على النشاط والعمل الإيجابي والتعامل مع هذا الكون بنفس راضية مطمئنة.
قال تعالى: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين. وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر: 19-21].
والمسلم يعلم أن إيمانه بقدر الله -تعالى- مستمد من إيمانه بصفات الله العلى، وأسمائه الحسنى، ومنها: العلم، والقدرة، والإرادة، فهو سبحانه: {بكل شيء عليم} [الحديد: 3] {وهو على كل شيء قدير} [الحديد: 2]، وهو سبحانه: {فعال لما يريد} [البروج: 16].
والمسلم يؤمن بقضاء الله -عز وجل-، وأنه إرادة الله -عز وجل- قضاها في الأزل (في القِدم)، بمعنى أن كل شيء يحدث الآن، إنما يقع ويحدث وفق إرادة الله -عز وجل- وقدره. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد: 22].
وقال: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [التوبة: 51].
والمسلم يؤمن أن وقوع الإرادة أو قضاء الله -عز وجل- وتحققها بالهيئة التي قضاها الله، هو قدر الله -عز وجل-، ونضرب على ذلك مثلا: الله سبحانه قضى أن البذرة إذا كانت صالحة، ووضعت في الأرض، ورويت بالماء، تنبت بإذن الله، فإذا وضعت في الأرض، ورويت بالماء، وأنبتت، فهذا قدر
الله -عز وجل- وكذلك قضى الله -عز وجل- أن النار تحرق ما يقع فيها، فهذا قضاء من الله -تعالى-، فإذا وقع فيها شيء واحترق، فهو قدر.
مراتب القدر:
والمسلم يؤمن أن للقدر مراتب هي:
* المرتبة الأولى:
مرتبة العلم والإرادة، فالمسلم يعلم أن الله بكل شيء عليم، فعلمه سبحانه أحاط بكل شيء، كل ما كان في الماضي، وكائن في الحاضر، أو ما سيكون في المستقبل، فعلم جميع أحوال العباد من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، يقول الله تعالى: {والله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا} [الطلاق: 12].
* المرتبة الثانية:
والمسلم يؤمن أن ما أراده الله وقدره وعلمه أزلا قد كتبه في اللوح المحفوظ؛ أي أن الله -عز وجل- علم ما يعمله العباد، ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، قال تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} [الحج: 70]، والرسول ( يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) [مسلم والترمذي].
*المرتبة الثالثة:
هي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد، فإذا قضى الله -عز وجل- اليسر لعبده، يسر له ذلك، قال تعالى: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى}
[الليل: 5-10].
فالمسلم يؤمن بمشيئة الله -عز وجل-، وكذا بمشيئة العبد، إلا أن مشيئة العبد مرتبطة بمشيئة الله، فالله -عز وجل- خلق العباد وأفعالهم، والعباد فاعلون حقيقة، ولهم القدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، قال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96].
والمسلم يعلم أن الله علم أعمال العباد بعلمه الأزلي، ثم كتب ذلك في كتاب عنده وهو اللوح المحفوظ لما شاء الله وأراد، ثم وقعت هذه الأفعال وفق قضاء الله وقدرته وخلقه وعلمه بهذه الأفعال.
حكمة القدر:
والمسلم لا يسأل عن الحكمة من القضاء والقدر، لأن ذلك من الأمور التي اختص الله بها نفسه، فهو سبحانه مالك هذا الكون وخالقه والمتصرف فيه، وله الحق -سبحانه- أن يفعل فيه ما يشاء، ولا يسأل سبحانه عن ذلك، قال تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23].
والمسلم لا يعترض على قضاء الله وقدره، إن كان فقيرًا أو ضعيفًا؛ لأنه يعلم أن الفقر والغني والقوة والضعف إنما هي من قضاء الله، يختص الله بها من يشاء من عباده، والمسلم يعلم أن إيمانه بالقدر يجعله ينطلق في الأرض؛ ليتعرف على سنن الله وقوانينه، ويعمل على تعمير الأرض وبنائها، فيكون إيمانه بالقدر باعثًا له على النشاط والعمل، فإن كان النجاح فهو بقدر الله -عز وجل-، وإن فشل لا يجزع، بل يصبر ويعلم أنه قدر الله، قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد: 22-23].
والمسلم يعلم أن ما قدر له يكون، وما لم يقدر له لا يكون أبدًا، قال رسول الله (: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) [مسلم].
والمسلم يؤمن أن ما يحدث له يقع بالكيفية التي قدرها الله -عز وجل-، فأمره سبحانه بين الكاف والنون. قال تعالى: {إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47].
لذلك يوصي الرسول ( ابن عباس -رضي الله عنهما- فيقول: (.. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [الترمذي].
إرادة الله وإرادة البشر:
والمسلم يؤمن أن الله -عز وجل- قدَّر أمورًا كثيرة تحدث للخلق حسب إرادة الله ومشيئته، وأنها تحدث لهم طوعًا أو كرهًا، رضوا بها أم لم يرضوا، كمولد الإنسان، وساعة وفاته، وجنسه، وذكائه وطوله وقصره، وجماله وقبحه، وأبيه وأمه، فهذه الأشياء لا دخل للإنسان في تقديرها، ولكنه يرضى بما اختاره الله سبحانه له، فقال تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} [القصص: 68].
وكذلك المؤمن يصبر على قضاء الله وقدره، إن كان في مصيبة كالموت أو المرض؛ لأنه يعلم أن ذلك تخفيف عنه يوم القيامة وتطهير له من السيئات. قال تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم} [يونس: 107].
وكذا يؤمن بما يحدث في الكون من حوله، وأنه لا دخل لإرادة الإنسان فيه، فتكوين السحاب، ونزول المطر، وحدوث البرق والرعد إلخ، هذا قدر لا دخل للإنسان فيه، فهذا النوع من القدر يجب على المسلم الإيمان والرضا به، لأنه يقع وفق إرادة الله ومشيئته. وهذا إبراهيم- عليه السلام- يؤمن بمشيئة الله الكونية، وكيف لا يؤمن بها وهو إمام الموحدين؟! فيلقي حجته قاطعة مبرهنة على صدقه أمام الملك الذي أنكر وجود الله، فقال إبراهيم: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} [البقرة: 258].
علم إبراهيم أنها إرادة الله وحده، وهذا الكافر ينكر وجود الله، فأمره
إبراهيم -عليه السلام- أن يأتي بالشمس من المغرب فماذا حدث؟ قال تعالى: {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} [البقرة: 258].
والمسلم يؤمن أن كل إنسان له إرادة، يفعل بها ما يشاء، ويترك ما يشاء، كالقيام والجلوس والكلام والأكل والشرب والحركة ونحوها، فكل هذه الأعمال من المشيئة التي جعلها الله في الإنسان، وإن كانت تابعة لمشيئة الله -عز وجل-، لأن الله خالق الإنسان وخالق مشيئته وقدرته. قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 29].
المسلم يعلم أنه لا يفهم من ذلك أن الله أجبر العباد على أفعالهم، ثم يحاسبهم عليها بعد ذلك؛ لأن هذا لا يستقيم مع ما يؤمن المسلم به من عدل
الله -سبحانه وتعالى-، الذي لا يظلم الناس شيئًا، فمن المعروف أن
الله -عز وجل- خلق طريقين، طريق الهداية وطريق الضلالة، وشاء -سبحانه- أن يختار الإنسان أحد الطريقين، بعد أن بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر، قال تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وأمر الناس أن يسيروا في الطريق المستقيم، ووعدهم الثواب العظيم إن ساروا على نهج الله، وحذرهم من الكفر والضلال، وأوعدهم بالعقاب الشديد على ذلك.
والله -سبحانه- يحب لعباده أن يسلكوا سبيل الخير والإيمان، ولا يرضى لعباده الغواية والضلال، قال تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7].
والمسلم يعلم أن الله قد بين للإنسان طريق الهدى، وأرسل له الرسل، وأنزل معهم الكتب ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله -عز وجل- وطاعته، ويحذرهم من الانحراف عن طريق الله المستقيم، قال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. وقال سبحانه: {إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا} [الإنسان: 3].
ويحكي القرآن ما كان من قوم ثمود الذين استحبوا طريق الضلال على طريق الله المستقيم، فيقول: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}
[فصلت: 17]. فقد بين الله لهم الطريق المستقيم، ولكنهم لم يسلكوه واتبعوا الشيطان.
والمسلم يؤمن بأن الله -عز وجل- قدَّر الأرزاق والآجال أزلا، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. قال الله تعالى:{وفي السماء رزقكم وما توعدون. فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} [الذاريات: 22-23].
وقال (: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها)
[الحاكم وابن أبي الدنيا]. والمسلم يطمئن قلبه عندما يعلم ذلك، ويقول كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي.
والمسلم لا يتواكل (يتكاسل وينتظر الرزق)، لكنه يأخذ بالأسباب التي تأتي بالرزق، فهذا من قدر الله -عز وجل- ولو أنه أخذ بالأسباب وتوكل على الله، لرزقه الله رزقًا كثيرًا، قال (: (لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا) [الترمذي].
والمسلم يؤمن أن أجله ونهاية عمره بيد الله -عز وجل-، لا يستطيع أحد أن يؤخر أو يقدم في ذلك شيئًا، وأنه لن تموت نفس قبل أن تستوفي أجلها، يقول الله -تعالى-: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلاً}
[آل عمران: 145].
وقالت السيدة أم حبيبة زوج رسول الله (: (اللهم أمتعني بزوجي رسول الله (، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية. (تقصد أن يطيل الله عمرها وأعمارهم حتى يتمتع كل بالآخر)، فقال رسول الله (: (قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حِلِّه، أو يؤخر شيئًا عن حِلِّه، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرًا وأفضل) [مسلم].
ترك التنازع في القدر:
والمسلم يؤمن أن القدر سر من أسرار الله -عز وجل-، فهو يؤمن بما ينجيه عند ملاقاة الله -عز وجل-، فهو يؤمن بأن الله عليم بكل شيء، منزه عن الظلم، فهو سبحانه عادل لا يظلم الناس شيئًا، وهو سبحانه منزه عن العبث، له حكمة في كل ما يفعل، وإن خفيت علينا هذه الحكمة، لذا فهو يؤمن بترك التنازع في القدر، بل يسلم بكل ما قدر له، ويتمثل حديث رسول الله (: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) [الطبراني].
ولقد حذرنا الرسول ( من التنازع والخوض في القدر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: خرج علينا رسول الله ( ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: (أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؟ عزمت عليكم أن لا تتنازعوا فيه) [الترمذي].
وفي رواية، فقال لهم: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم) [أحمد].
فالمسلم يترك التنازع في القدر، ويعلم أن كل شيء يحدث له إنما هو مقدر ومحسوب عند الله -تعالى-، كما قال (: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) [ابن ماجه].
المسلم لا يحتج بالقدر على فعل معصية، فقد أُتي بسارق إلى أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فسأله عمر: لم سرقت؟ فقال: قدر الله ذلك. فقال عمر -رضي الله عنه-: اضربوه ثلاثين سوطًا، ثم اقطعوا يده) فقيل له: ولِمَ؟ فقال: يقطع لسرقته، ويضرب لكذبه على الله.
فنجد أن هذا الرجل احتج بالقدر على معصية الله، فأمر أمير المؤمنين
عمر -رضي الله عنه- بجلده ثلاثين جلدة، بالإضافة إلى قطع يده تعذيرًا له، لأنه كذب على الله، فعلى الإنسان أن يؤمن أن كل شيء يحدث له أو منه إنما هو معلوم لله، ومسجل في كتاب القدر، ولابد أن يقع كما علمه الله تعالى وسجله في كتاب القدر من قبل، لكن الله لم يطلع الناس على كتاب القدر.
لذلك على الإنسان أن يتخذ قراراته بإرادة كاملة ومشيئة تامة بأن يفعل أو لا يفعل، وهو مسئول عن ذلك مسئولية كاملة، ولا يصح له أن يحتج بالقدر وإن احتج به يكون كاذبًا؛ لأنه حين اتخذ قراره بأن يفعل كذا أو أن يمتنع عن فعل كذا، لم يكن يعرف شيئًا عن قدر الله؛ لأنه لم يطلع على كتاب القدر، ومن هنا لا يصح لأحد أن يحتج بالقدر، والذي يحتج به يكون كاذبًا، ويستحق الجلد الذي أمر به عمر -رضي الله عنه-.
والمسلم لا يسلك ذلك المسلك ولا يحتج بالقدر على معصية الله؛ لأنه يعلم أن ذلك هو مسلك الكافرين في تبرير شركهم بالله، قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} [الأنعام: 148]. وقال: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} [الزخرف: 20].
دفع القدر بالقدر:
انتشر الطاعون في أرض الشام، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيها، فأراد أن يرجع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، أفر من قدر الله إلى قدر الله. فالطاعون مرض، والمرض قدر من أقدار الله -عز وجل-، فالفرار منه إلى الأرض الصحيحة التي ليس بها مرض هو فرار إلى قدر الله أيضًا، ثم يضرب عمر بن الخطاب لأبي عبيدة -رضي الله عنهما- مثلا بالأرض الخصبة، وأنه إذا كان يرعى في أرض جدباء لا كلأ فيها ولا خضرة، ثم انتقل إلى أرض خصبة مليئة بالعشب، فإنه ينتقل من قدر إلى قدر.
والمسلم يؤمن أن القدر يدفع بالقدر، فالمرض قدر من أقدار الله -عز وجل- لا يدفعه إلا قدر التداوي، ولما سئل النبي (: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال (: (هي من قدر الله) [ابن ماجه وأحمد].
والرسول ( يقول أيضًا: (تداووا عباد الله، فإن الله -تعالى- لم يضع داءً إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم (الشيخوخة)) [أحمد].
فإذا قعد الإنسان عن مدافعة الأقدار، مع القدرة على ذلك كان آثمًا، فإذا لم يدفع قدر الجوع مثلا بقدر الأكل، هلك ومات عاصيا لله.
إنما الأعمال بالخواتيم:
والمسلم يؤمن أن الأعمال بخواتيمها، فإن كان آخر عمل الإنسان خيرًا فإن هذا يبشر بالخير والثواب، ومن كان آخر عمله شرًا أخذ به، قال (: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه القول، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) [البخاري].
فالمسلم عليه أن يسارع إلى الخيرات، لأن الأجل غير معلوم، وهو يبذل ما في وسعه، ويترك النتائج على الله -عز وجل-، والله -عز وجل- لا يكلف الإنسان إلا بما يقدر عليه، ولا يجبره على فعل ما لا يستطيع.
والمسلم يعلم أن من لطف الله ورحمته بعباده، أنهم لو أساءوا طوال حياتهم، ثم تابوا إلى الله -عز وجل-، وعملوا بعمل أهل الجنة، فإنهم يعاملون بذلك، فعلى المسلم أن يستعين بالله على فعل الخير، وأن يدعو الله -عز وجل- أن يحسن خاتمته، فإن القدر لا يرده إلا الدعاء، قال (: (لا يرد القدر إلا الدعاء) [الترمذي والحاكم].
القدر والتواكل:
والمسلم لا يتخذ القدر حجة للتواكل، ومبررًا للمعاصي، وطريقًا إلى القول بالجبر، ولكنه يتخذ القدر سبيلا إلى تحقيق الأهداف السامية والغايات النبيلة، فينطلق إلى البناء والتعمير، واستخراج كنوز الأرض، والانتفاع بخيراتها التي أودعها الله في جوفها، وبذلك يربطه الإيمان بالقدر برب هذا الوجود وخالقه، وعلى المسلم ألا يتواكل، ولكن يكون فهمه للقدر كما فهمه الرسول ( وصحابته.
فقد كان الرسول ( جالسًا ذات يوم، وفي يده عود ينْكُتُ به (يخُطُّ به على الأرض). فرفع رأسه فقال: (ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار). قالوا: يا رسول الله! فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: (لا. اعملوا، فكل ميسر لما خلق له). ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى. وكذب الحسنى. فسنيسره للعسرى} [الليل: 5-10] [مسلم].
فالرسول ( وضح لنا أن الله -عز وجل- علم منذ الأزل أعمال العباد في الدنيا، وكتب ذلك عنده وعلم مستقرهم، وعندما يشعر المسلم بهذا فإنه لا يدعو إلى التواكل بل يدعو إلى الجد في العمل، ولو لم يفهم الصحابة ذلك لما وجدناهم بهذا النشاط وهذه القدوة في الأخذ بالأسباب، فلم يتكاسلوا عن طاعة الله أبدًا.
ثمرات الإيمان بالقدر:
غرس الرسول ( عقيدة القدر في نفوس أصحابه، فعلموا أن ما أصابهم فهو بقدر الله ولم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم فهو بقدر الله ولم يكن ليصيبهم، فانطلقوا بنفوس مطمئنة يدعون إلى دين الله -عز وجل-، وهم يحملون في قلوبهم عقيدة القدر كما علمهم إياها الرسول ( في شخص ابن عباس -رضي الله عنهما- حين قال له: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [الترمذي].
والمسلم نفسه مطمئنة يعلم أن الله هو الرءوف الرحيم، الذي قدر له الخير أو الشر، فلا يجزع من مصيبة ولا يجحد بنعمة، فهو شاكر في السراء، صابر في الضراء، قال (: (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له) [مسلم].
فالمسلم ينظر إلى المصيبة على أنها قدر من الله -تعالى- يجب عليه أن يقابلها بالصبر، فقد تكون وراءها حكمة عظيمة لا يعلمها إلا الله -عز وجل-، قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].
والمسلم يرجو أن تكون هذه المصيبة تخفيفًا له من عذاب يوم القيامة، كما قال ( حين سئل: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) [الترمذي].
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما-: أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر.
وما أجمل قول ابن القيم حين قال:
وإذا اعترتْكَ بليةٌ فاصبرْ لها
صــبرَ الكريمِ فإنَّه بكَ أكرمُ
وإذا شكوتَ إلى ابْنِ آدمَ إنما
تشكو الرَّحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
والمسلم بإيمانه بقضاء الله وقدره لا ينظر إلى ما فضل الله به بعض الناس على بعض؛ لأن هذا ملك الله -عز وجل-، فهو يعطي ويمنع بقدره سبحانه، قال تعالى: {قل الله مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير }
[آل عمران: 26].
والإيمان بالقدر يدفع المسلم إلى الأخذ بالأسباب، والعمل على اكتشاف ما في الكون، فإن أصابه الفشل لا ينزعج، وإن كان النجاح شكر الله على توفيقه.