إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله و على صحبه ومن والاه، أما بعد:
فإنّ غاية العبّاد أن يتقبّل الله عزّ وجلّ منهم أعمالهم ،لأنّ ذلك دليل على تقوى صاحبه، إذ قال الله عزّ وجلّ: ***64831;إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ***64830;، والجنة لا يرثها إلاّ أهل التقوى كما قال الله عز وجل: ***64831;تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا***64830;، ولا يقبل عمل امرئ حتى يكون فيه مخلصًا لله، ومتّبعًا فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم لأنّ جميع الخلق يسألون يوم القيامة سؤالين:
الأول: عن الإخلاص لله وحده، قال الله تعالى: ***64831;وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُون***64830;.
والثاني: عن متابعة رسله، قال الله تعالى: ***64831;وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ***64830;، وفي صحيح مسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»، ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (ص452): «وهذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين اللّتين هما رأس الإسلام: شهادة أنّه لا إله إلا الله وشهادة أنّ محمّدا رسول الله».
وكما أنّه لا ينفع اتباع للرسول صلى الله عليه وسلَّم بلا إخلاص لله عز وجل، فلا ينفع أيضًا الإخلاص في العبادة إذا لم يصحبه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلَّم؛ لأنّه شرط في القبول كما سبق، وقد أخبر الله سبحانه عن فساد دين النصارى حين اخترعوا رهبانية من عند أنفسهم مع أنّهم أرادوا بها رضوان الله، فقال: ***64831;وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ***64830;، وقوله تعالى هنا: ***64831;إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ***64830; هو استثناء منصوب على الانقطاع، أي لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلاّ لطلب رضوان الله، دلّ عليه قوله: ***64831;ابْتَدَعُوهَا***64830;، ثمّ ذكر الحامل لهم على ابتداع هذه الرهبانية وأنّه طلب رضوان الله [انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/612].
ولذلك ضمن الله الهداية لأتباع نبيه صلى الله عليه وسلَّم، فقال: ***64831;وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا***64830;، وعلّق الفلاح على ذلك، فقال: ***64831;فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ***64830;.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَة مِنَ الْمَعِزِ؟ قَالَ: اذْبَحْهَا وَلاَ تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» متفق عليه.
قال ابن أبي جمرة: «وفيه أنّ العمل ـ وإن وافق نيّة حسنة ـ لم يصحّ إلاّ إذا وقع على وفق الشرع» [فتح الباري 10/17].
وقال سهل بن عبد الله التستري: «ما أحدث أحد في العلم شيئًا إلاّ سئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السنة سلم وإلاّ فلا» [الفتح 13/290].
وأخبر أنّ مخالفه وكاره سنته أبتر مقطوع النسل، لا يولد له خير، ولا يرفع له عمل صالح فقد قيل لأبي بكر بن عياش رحمه الله: «إنّ بالمسجد قومًا يجلسون و يجلس إليهم، فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأنّ أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلَّم فكان لهم نصيب من قوله تعالى: ***64831;وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ***64830;، وأهل البدعة شنأوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلَّم فكان لهم نصيب من قوله: ***64831;إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ***64830;»، نقله ابن تيمية كما في مجموع فتاواه (1/528)، وزاد عند تفسيره لهذه الآية فقال: «فالحذر الحذر أيّها الرجل من أن تكره شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلَّم، أو تردّه لأجل هواك أو انتصارًا لمذهبك أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو بالدنيا، فإنّ الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلاّ طاعة رسوله، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإنّ من يطيع أو يطاع إنما يطاع تبعًا للرسول، وإلاّ لو أمر بخلاف ما أمره به الرسول ما أطيع، فاعلم ذلك، واسمع وأطع، واتبع ولا تبتدع تكن أبتر مردودًا عليك عملك، بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع، ولا خير في عامله، والله أعلم».
معنى الاتباع:
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (2/172/173) ـ وما بين معقوفين زيادة مِنيِّ ـ : «وأمّا الرضى بنبيّه رسولاً فيتضمّن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، قال الله تعالى: ***64831;النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ***64830;، فلا يتلقى الهدى إلاّ من مواقع كلماته ولا يحكم إلاّ إليه، ولا يحكم عليه غيره، قال الله تعالى: ***64831;إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون***64830;.
ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الربّ وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه …، رضي كلّ الرضى، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلّم تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه وهواها، أو قول مقلّده وشيخه وطائفته، قال الله تعالى: ***64831;فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا***64830;».
وقال أيضًا (2/142): «فهذا العلم الصافي المتلقى من مشكاة الوحي والنبوة، يهدي صاحبه لسلوك طريق العبودية، وحقيقتها: التأدّب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم باطنًا وظاهرًا، والوقوف معه حيث وقف بك، والسير معه حيث سار بك، بحيث تجعله بمنزلة شيخك…
فتجيبه إذا دعاك وتقيل حيث قال، وتنزل إذا نزل، وتغضب لغضبه، وترضى لرضاه، وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك، وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزلة ما تسمعه عن الله بأذنك.
وبالجملة فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلّمك ومربّيك ومؤدّبك، وتسقط الوسائط بينك وبينه إلاّ في التبليغ، كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية، ولا تثبت وساطة إلاّ في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك، وهذان التجريدان هما حقيقة شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدًا عبده ورسوله.
والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحقّ العبادة سواه، ورسوله المطاع المتّبع المهتدى به الذي لا يستحقّ الطاعة سواه.
ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته فيطاع تبعًا للأصل.
وبالجملة فالطريق مسدودة إلاّ على من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلَّم، واقتدى به في ظاهره وباطنه».