آه لو توقف الزمان.. عند مغرب رمضان
هناك، وفي أروقة المسجد النبوي، وبعدما نُودي في سماء مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن: ((الله أكبر، الله أكبر)) ليفطر على إثرها الصائمون.. تجلت أسمى آيات الحب والإخاء.
الكل يدعوك لمائدته لتشاركه الإفطار، فهذا يدعوك بكلام طيب، وهذا يلح عليك في الطلب، وذاك ينتفض ليحتضنك، ويقبلك علَّك ترضى أن تشاركه، وهذا يعرض عليك شاياً، وذاك يحييك بقهوة.. حتى المناديل الورقية لم تُنس لتنظف يديك، ولا تتأفف: فالكل يدعوك، والكل يصر، والكل يلح، فتشعر بالحب يدفئك، وبالحضن يضمك.
الكل سواسية هنا: (مصري، تركي، إندونيسي، هندي… إلخ)، فأي جنسية تُطعِم، وأي جنسية تُطعَم.. شعرت أنه لا فرق بين عربي وأعجمي، أو بين أبيض وأسود، أو بين غني وفقير.. بل إن الغني صاحب المائدة يتذلل ليعطي الفقير الذي ربما كانت المرة الوحيدة التي يقول فيها لا، لأنه متأكد أن ذلك الغني الآن بالذات، وفي مثل هذه الظروف، سيعاود الإلحاح عليه، بل وسيدلله! وإنها لفرصة له أيَّمـا فرصة، فقد ذابت الفوارق المادية، والأدبية، والنفسية، وتحطمت الحدود الجغرافية، والعصبية، والعرقية، والبيئية، وتطايرت جوازات السفر، والإقامات، والتأشيرات، وخيَّم الحب، والإخاء بدلاً من الفرقة، والشحناء.. تمنيت ساعتها أن يتوقف الزمن عند أذان مغرب رمضان، وأن يتمدد المكان لتضم مدينة رسول الله ص كل مسلمي العالم، ليعيشوا في رخاء وعزة ومنعـة وحب وعطاء، وعندها ـ والله ـ سينام الحمل الوديع بجوار الذئب، وسيبحث صاحب المال عن محتاج للزكاة فلا يجده.
تذكرت تلك الأيام الخوالي عندما نزل بهذه المدينة أشرف خلق الله، ومعه أشرف الصحاب، وخير المهاجرين ضيوفاً على أشرف وأحب وأصدق الأنصار.. عندما شهدت هذه البقعة من العالم ما لم يشهده غيرُها من البقاع من أعظم وأصدق مثل، لأقوى وأنبل تجربة حية من التآخي والود والحب الصادق، عندما قال الأنصاري لأخيه المهاجر: هذه داري، وهذه أموالي لك نصفها، وهاتان زوجتاي اختر أجملهما لأطلقها لك فتتزوجها.. فيأتي أبلغُ ردٍ مناسباً لأسخى عرضٍ عرفه العالم قائلاً: بارك الله لك في بيتك ومالك وزوجك فلا حاجة لي في هذا، بل (دُلني على السوق) فقط دُلني على السوق.. ليس أجيراً ولا عبداً مملوكاً، بل حُراً تاجراً له كل الحقوق، وعليه كل الواجبات.. فلا غرو إذن أن نرى ما نراه الآن فهؤلاء الأشبال من تلكم الأسود، وما أشبه (الساعة) بالبارحــة.
انتشيت وأنا أرى هذه الصورة أمامي، وتمنيت ساعتها أن ترى الدنيا كلها هذا المشهد الرائع، ورجوت ـ من كل قلبي ـ أن يصبح العالم كله ((مغرب رمضان))، وتصبح الدنيا كلها مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم، عندها سترتجف قلوب أعداء الإسلام وينكمشون إلى حجمهم الطبيعي، ويسود العالم رحمة الإسلام، وحب وعطف المسلمين، بدلاً من حروب ومؤامرات أعداء الإسلام الطاغين المسيطرين والمتسلطين.
سبحتُ في دنيا الخيال، وبنيتُ أعظم الآمال!.
لكن إبليس اللعين ـ الذي يستكثر علينا السعادة حتى لو كانت مجرد أمنيات أو أحلام ـ وسوس إليَّ ليجذبني إلى خارج حدود الزمان ونطاق المكان لأرى الواقع المرير في غابة الأمة الإسلامية، فهؤلاء مُفتَّحةً لهم الأبواب، وأولئك تُوصد في وجوههم كل الأبواب.. فهذا عربي، وهذا أجنبي، وهذا يستغل هذا، وهذا يحقد على هذا، وهذا يتعالـى على هذا، وهذا يستحل دم هذا، وهذا يأكل حقوق هذا، وهذا يتخاذل عن نصرة هذا!.
فاجأني صوت المؤذن مقيماً لصلاة المغرب فأفقت من الأحلام، واستعذت بالله من وساوس الشيطان، وعدت مُحدِّقاً في قدسية المكان، وروحانية الزمان، حتى لا تضيع مني هذه اللحظات متمنياً من الله تعالى أن يتوقف الزمان فعلاً عند هذه اللحظات ليصبح العمر كله مغرب رمضان، ويتمدد المكان فعلاً ليضم كل المسلمين، وتصبح كل المدن مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم .. عندها فقط سنستحق أن ننتسب إلى هؤلاء المهاجرين، وأولئك الأنصار.
دمتم برعاية الله