بسم الله الرحمن الرحيم
العقيدة تعد من أصول الإسلام، والإسلام فيه أصول وفروع، فالفقه من الـفروع والعـقيدة من الأصول، فإذا صحت العقيدة صح العمل، وإذا فسدت العقيدة فسد العمل، فإذا اعتقدت مثلاً أن الله تعالى قبض قبضة، وقال: هذه إلى الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة: وقال هــذه إلـى النار ولا أبالي، والقضية انتهت، هذه العقيدة تثبط همة المؤمن فلهذا الحديث تفسير أيضاً.
فـالبحث في العقيدة مهم جداً، بل هو خطير جداً، وهذا لا يعني أنني لم أبحث موضوعات العقيدة خلال مدة طويلة، بـل بحثنـاها مئـات المرات، ولكن بمواضيع متفرقة في: الخطب، والتفسير، والحديث، والسيرة، وفي الدروس، أما بحثها على شكل موضوعات متكاملة ومتتابعة فستبدأ الآن أول مرة.
* أولاً : وهي عبارة عن موضوعات تمهيدية في مصطلحات علم العقيدة، وجاء في بعض الأحاديث الشريفة أنه من عرف نفسه عرف ربه، فلنبدأ بالحديث عن النفس:
1- النفس : هي التي بين جوانحنا، والتي في الصدور.
وعن هذه النفس التي هي ذات الإنسان نتعرف بها أن الإنسان مخلوق من نوع خاص، فالكون كـلـه، مــا فـي السماوات، ومـا في الأرض مسخرٌ له فإذا كان الكون كله مسـخراً له فأيهمـا أكـرم عنـد الله، الكـون بأكملـه أم هذا الإنسان الذي سّـخر لـه الكون بأكملـه؟ فـالعقل يقول: المسخرُ له أكرم من الشـيء المسـخر، فقال الله تعالى عن الإنسان:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) (سورة الإسراء)
وأيضاً : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) (سورة الأحزاب)
هذا الإنسان المكرم زوده الله بوسائل التكريم، ومنها:
2- القوة الإدراكية : فـللإنـسان قوة إدراكية، فالحائط، والطاولة، والأحجار، والأشـجار هـذه الأشياء لا تدرك، فالإنسان مميز، ومفضل، ومكرم بهذه القوة الإدراكية.
مثلاً : مجتمـع الـقرود منذ وجودهم على الأرض وحتى الآن، هل طرأ على حياتهم تطور؟ فهل سكنوا في البيوت؟ وهل اخترعـوا أجـهزة؟ وهل نظموا مجتمعهم؟ فالقرد هو القرد، لم يتغير ولم يتبدل، فالفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان هو القوة الإدراكية.
3- الإدراك : فـالإنسان إذا عـطل إدراكـه عطـل إنسـانيته، أي إذا عـطل إدراكـه جعل نفسـه فـي صف الحيوان، وهذا قول لا يحتمل المناقشة لشدة وضوحه، ولشدة تشعّب الموضوع، فلْنَبْقَ في القـوة الإدراكـية التـي خصـهـا الله للإنـسان، والتـي يتميز بها عن سائر المخلوقات، ولاسيمـا الحيوان، و لها مشكلة، أنها عالة على العالم الخارجي والعالم الداخلي، وهي مـن دون عالـم خـارجـي، ومن دون عالم داخلي لا قيمة لها، حيث تتعطل وظيفتها.
العـالم الخـارجي : الله تعالى جعـل لنـا نوافـذ تطل عليه، فالبصر نافذة، والشم، والسمع، والذوق، والإحسـاس بالحرارة والبرودة، وكذلك الضغط، وجميع الأعصاب والحواس هي نوافـذ القوة الإدراكية على العالم الخارجي، ولو تخيلنا أن إنساناً أوتي من الذكاء ما لم يؤت أحـد من العـالمين، وكان كفيف البصر، فهل يستطيع أن يعـرف الـلون الأحمر، وما الفرق بينه وبين اللون الأخضر؟ وأيهما أجمل الأزرق أم البنفسجي؟ – فنرى أن كـلمة أحمـر – وأخضـر – وأزرق – وبنفسـجي، وأبيـض وغيـره من هذه الكلمات لا معنى لـها إطلاقاً عندَ هذا الكفيف، فهذه القوة الإدراكيـة تستعين بهذه النوافذ، لذلك ربنا عز وجل قال:
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) (سورة البقرة)
إن القوة الإدراكية تحتاج إلى سمع، وبصر، وإلى نطق، فما دام أي كائن أصم، وأبكم، وأعمى فهو لا يعقل، وهنا نجد أن هذه الآية تشير إلى ذلك، قال تعالى :
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) (سورة الأنفال)
فهذا الذي خُلق أصـم اسـألـه؟ هل صـوت البلبل أعذب أم صوت الغراب؟ فيقول لك: لا أعلم، وما نوعه؟ فهو لا يدري، لأنه لم يسمع صوت البلبل، ولا صـوت الغراب، ولا الشلال، ولا الرعد، إذاً: مهما كان متميزاً بالذكاء، والنـوافذ المطلة على العالم الخارجي مغلقة فـالإدراك منعـدم.
وشـيء آخر مهم جداً: وهو أن هذه الحواس خلقها الله سبحانه وتعالى بقدَر، قال الله تعالى:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) (سورة القمر)
فإنـك عنـدمـا تريد شُـرب المـاء تـراه صـافياً نقيـاً، فلو وضعت منه قطرة تحت المجهر لرأيت آلافاً، بل مئات الألوف من الجراثيم والبكتريات والـعصيات، إنك لو نظرت إلى قطرة الماء تحت المجهر لاستحال عليك شرب الماء، فماذا تستنتج؟ إن هذه القوة الإبصارية محدودة، فإنك تستطيع أن ترى الأشياء على بُعد مائة متر، أو مائتين، ثم بعد ذلك لا ترى شيئاً، كذلك طبيب العيون، يضع لك لوحاً على بعد خمسة أمتار أو أكثر، فترى فتحـات الـدوائـر الكبيرة، حتى تصل إلى الـحلقات الصغيرة فتقول له : لا أعـرف، ويضـع لـك عـلامـة 8/10 – 5/10 – 3/10، حيث إنك لا ترى أصغر من ذلك، إذاً القوة الإبصارية لـها حدود قال تعالى:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) (سورة القمر)
وحدودها من تقدير عزيز، عليم، خبير، بصير، حكيم، ولو زادت قوة الإبصار أكثر من ذلك لما رأينا في الأرض جمالاً، ولا رأينا وجهاً صبوحاً، وبعـض الأمـاكـن في أنعـم جـلد بشـري تـرى جبـالاً ووديـاناً ونتوءات، وعندما تم تـكبير أنعـم جـلـد بشـري تحت مجهر يكبر 300000 مرة كان المنظر لا يُحتمل، فلو أن هذه العين كـانـت قـوة إبصـارهـا أكبـر ممـا هـي عليه لما كان في الأرض جمال، ولا أحبَّ أحد أحداً، فقوة الإبصار المحدودة تعتبر نعمة من نِعَم الله عز وجل .
الهواء مثلاً يحتوي على صور، ومن يرى تـلك الصـور؟ والـدليـل علـى ذلـك فـي أجهزة التلفزيون الذي يلتقط الصور التي لا تستطيع عيناك أن تراها. والفضـاء مملوء بالصور، فقوة الإبصار محدودة وكذلك الهواء مملوء بالأصوات. فالبث الإذاعي في العالم العربي متعدد، وكل هذه الإذاعات أمواجها الصوتية مبثوثة في الفضاء، فجهاز المذياع يلتقط هذه الأصـوات، أمـا الأذن فلا تستطيع ذلك، وهذه من نِعم الله عز وجل، فلو كان الـسمعُ غيرَ محـدود لسـمعت كـل الإذاعـات، دون أن تـدخل إرادتك في أن تسمع، أو لا تسمع أيَّ إذاعـة تبـث موجـاتـها الصـوتية، لذلك فإن الله عـز وجـل مـن حكمته جعلنا لا نستطيع أن نسمع تلك الأمواج الصوتية، فلنفرض مثلاً لـو كان هنـاك سـوق مليء بالضجيج، أو كان كل شيء على وجه الأرض يسمعه الإنسان لكانت حيـاته مـستحيلة، فتصـور أنـك تسمع أصوات أمواج البحر، وكل محرك يعمل، وكل انفجار، وكل صـوت فـي الـكرة الأرضيـة، مـن شمـالها إلى جنـوبها، ومن شـرقـها إلى غـربها، مهما دق ذلك الصوت !! ولـو تفكـرنا في ذلك لعرفنا حكمة الله، ولعرفنا نعمته في جعل السمع لدينا محدوداً، ولتبين لنا معنى الآية الكريمة :
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) (سورة القمر)
فالموجة الصوتية عندما تضعف وتتلاشى، هذه نعمة كبيرة لا تقدر بثمن. الدليل: هناك موجة لا تتلاشى فهم بعثـوا مـركبة إلـى المشـتري تسـير بسرعة 40000كم في الساعة، وهي أسرع مركبة صنعها الإنسـان، وبقيـت فـي مسـيرهـا إلـى المشتري ست سنوات، وهو أحد كواكب المجموعة الشمسية، ومـع ذلـك مِن هناك بثت صوراً إلـى الأرض، وهذه الصور بثت على شكل أمواج، وهذه الأمواج بقيت على حـالتـها، وسـعة المـوجـة لم تقل، إذاً فإنّ الله قادر على خلق موجات تحافظ على سعتها، ولـو أن المـوجـات الصـوتية التـي في الأرض بقيت محافظة على سعتها لأصبحت الحياة على وجه الأرض مستحيلة.
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) (سورة القمر)
وهـكذا الســمع، والبصـر، والشـم، فالشـم محـدود أيضـاً، فـلو أن الإنسـان يشـم الروائـح الكريـهة لمســـافـات بعيـدة كرائحـة دابـة ميتة فـي بلد آخر لأصبحت الحياة في بلدك مستحيلة، ولكن حكمة رب العالمين إذا كانت رائحة كريهة على بعد 200 م فإنها تنتهي، وتتلاشى، فـراكب السـيارة قد يشم رائحة كريهة في طريقه، وبعد لحظات يبتعد عنها، وتنتهي الرائحة، إذاً هنـاك محـدودية للحواس، فأول شيء للقوة الإدراكية تحتاج إلى نوافذ تطل على العالم الخارجي، وهـذه النـوافـذ لحكمـة بالغة، ولرحمة، وخبرة بالغة جعلها الله محدودة.
ولكن ما دامت الحواس محدودة – كما تبين سابقاً – فهل ننكر الأشياء الغير محسوسة فمثلاً هناك أجهزة تطرد البعوض والذباب بواسطة أصوات يصدرها الجهـاز تزعج البعوض والذباب، ولكن لا يسمعها الإنسان، وتكون هذه الأصوات – دون عتبة السمع – كمـا أن هنــاك أجهـزة حـديثـة لـلقوارض تصـدر أصـواتاً لا يسمعها الإنسان، ولكن القوارض تســمعها، فـإذا سـمعتْه هـربتْ، ويسـتخـدم فـي المستودعات، فهذه الأصوات التي هي دون عتبة السـمع، فهل يجـوز للعـاقل أن ينكـرهـا لعدم استماعه لها، فتقول: إذاً إن الحواس محدودة لدى الإنسان، وهـذه النقطـة هي التـي يجـب أن نصـل إليـها، وقد قال عـلماء التوحيد : " عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ".
وهنـاك أجهـزة تـلتقط الصور التي لا نراها، فهل تستطيع أن تنكر ذلك، فإذا قال أحد : إني لا أرى الله، فأيـن هو؟ فـتقول لـه: إنَّ هذا هو الغباء، والجهل بعينه، ذلـك لأن عـدم الوجـدان لا يعني عـدم الـوجود، ولأن حواسنا محدودة لحكمة بالغة، ونستنبط من ذلك أيضاً أن الشيء الذي لا نراه يمكن أن يكون موجوداً، ويمكن أن يكون وجوده أخطر من وجودك أنت، لكنك لا تراه.
ومـن ينكـر مثلاً أن هناك قوة جذب بيـن الأرض والشمس حسب قانون الجاذبية، فهناك تجاذب بين الكتل المادية بحسب حجم الكتلة، ومربع المسافة بينهما، فكلما كبرت الكتلة زاد الجذب، وكلما صغرت قلَّ الجذب .
فهل تسـتطيع أن ترى القوى التي تربط الأرض بالشمس؟ طبعاً لا تراها، إذاً فهل تنكرها أيضاً لا، " فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود " هذه إذاً حقيقة مسلَّم بها. مثال : معلم أراد أن يـبث الإلحـاد بينَ طلابه فقال: نحن لم نشاهد الخالق، فإذاً هو غير موجود، فقام طفل، وقال لهذا الأستاذ : نحن جميعاً لا نرى عقلك الذي تفكر به، فإذاً أنت لا عقل لك، إن قياساً على هذه القاعدة الواهية أن العقل لا يُرى، ولكن نرى آثاره، مثلاً إذا سار أحد الناس في الطريق بلا ثياب، فأين عقله؟ نقول : إنـه لا عقـل له، والدليل تصرفاته، فالعقل لا يُرى بالعين، وهذا شـيء آخـر فـي الـقوة الإدراكية.
4- الخيــال : ما هو الخيال؟ هو القدرة علـى التصور، أحياناً يتصور الإنسان أن له بيتاً يطل على حديقة، على جنبيها أشجار سرو، وأشجار مثمرة متنوعة، وهناك مسبح وورود، وفـي الـحقيقـة لا يـوجد عنده شيء من ذلك، فما هذا الخيال؟ الخيال كما قلنا: هو القدرة على التصـور، فـلو قلنـا لإنسـان: تخيـل أن لك بيتاً، فإنـه يتخيل مسكناً له سقف، وجدران، وأرض، فهل يسـتطيـع أن يتخيل غـير ذلـك، وكـذلـك لـو قلنـا لـه: تصور حورية، نصفها امرأة، ونصفها سـمكة، فـإنـه يسـتطيع تصور ذلـك، لأنه يعرف المرأة، ويعرف السمكة، فيتصور ذلك، فالسمكة موجودة، والمرأة موجودة، وحدد تصوره أنه جمع بين المرأة والسمكة، فالخيال البشري لا يستطيع أن يتصوَّر شيئاً من لا شيء، إنما يستطيـع أن يـتصوّر شيئاً من شيء، فمثلاً من الممكن أن نتخيل شجرة لها أوراق، وتحمل بدلَ الثمـار كـؤوساً من شراب التفاح مثلاً، فالكؤوس موجودة، وشراب التفاح مـوجود، وأيضـاً لو تخيل أن حيــواناً طـولـه 30 م، فهناك حيوانات طولها 30 م، مثل الحوت، والـخيـال فـي الـحقيقـة مـرتبط بالواقع، فأحياناً يتصورون إنسانَ المريخ، فلا يزيدون على أن له رأساً، وجـذعاً، ويديْن، ورِجلين، إلا أنـه قـد يغيـر مـوضع العينين، أو يكبر الرأس قليلاً، أو قد يغير في شكل الأيدي والأرجل، فهل يستطيـع الإنـسان أن يتصور رجـلَ المـريخ من دون رأس ورجليـن، وهنـا تبرز نقطة هامة أيضاً ، إذا كنت لا تستطيع أن توجد صورة خيالية من لا شيء، فكيف بإمكان الإنسان أن يتخيل الجنة، وهو لم يرها ، فالخوض في الغيبيات ليس من العقل.
فـالخيال يـجب ألاّ يجول في العالم الآخر، وذلك لأن الخيال لا يأتي إلا لشيء من شيء، أما من الجنة فلا نرى منها شيئاً، وقد قال العلماء: " نحن نكتفي بعالم الغيب بالخبر الصادق الذي ورد في كتاب الله "
لا أقل من ذلك ولا أكثر، فإذا كـنت عـاجـزاً عـن تخيـل الجنة فهل تستطيع أن تتخيل ذات الله عز وجل، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تفكروا في المخلوقات ولا تفكروا في الخالق فتهلكوا)).
فــعقلك مـربـوط بـحواسـك، وخيـالـك مرتبط بالواقع، ولن تستطيع التجاوز، وهذا الكلام يراد منه أن العقل أو الفكر البشري عندما يعجز عن الوصول إلى شيء فهذا لا يعني أن الشيء غير موجود، ولكن العقل الذي وهبنا الله إياه له طاقة محدودة، لحكمة بالغة أرادها الله عز وجل، مثلاً : ميزان يزن 30 كج، تضع عليه سـيارة، ينكسر، ويتحطم، فهل نقول: إن هذا الميزان ليس جيداً، لا بل هو ميزان جيد، ولكن مخَصَّص للأوزان التـي لا تـتجاوز 30 كج، وليس لسيارة، مِن هذا المثـل يتضـح لـنا أن الإنسـان عندمـا يكلف عقله فوق طاقته، ثم يخفق فالخطأ ليس في عقله، بل في سوء اسـتخدام العقل، لأن العقل مربوط بالواقع، والواقع فيه زمان ومكان، مثلاً يقال : إن هناك جريمة وقعت، فنقول مباشرة: متى، وأين، فالعقل البشري ليس عنده إمكانية أن يتصور حدثاً إلا ولـه زمـان ومكـان، ولـكـن الخـالـق ليـس كمثلـه شيء، ولا يسأل عنه أين هو، لأنه خالق المكان، ولا يسـأل عنه: متـى كـان، لأنه خـالق الـزمان، فكلمة (متى) و(أين) في حق الله مستحيلة، لأنه خالق الـزمان والـمكان، فعدد السـنين هـذه مـن اختصـاصنـا نحن البشر، أما بالنسبة لله فالزمان صفر، لا يقيده زمان ولا مكان.
وشيء آخر، فالكون غير محدود ولكن العقل لابد من أن يـكون محدوداً فأبعد مجرة توصلوا لها تبعد 18000 مليون ســنة ضوئية وقد يكـون هنـاك مـجرات أخـرى وبالنهايـة فالكـون غير محـدود ولكن العقل كيف يستطيع أن يدرك اللامحدود وهو الله عز وجل لذلك قال :
وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء (سورة البقرة : من الآية 255)
ويقول الإمام الشافعي: إن للعقل حداً ينتهي إليه ، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه ، والإمام الغزالي يقول : لا تستبعد أيها المتكلف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور قد يظهر فيه مالا يظهر في العقل. ولـذلك فالـكرامـات مـوجـودة، ولـكن الـعقل بصددها محدود الزمان والمكان، فلا يمكن للعقل إدراكه، ولكنه موجود، مثلاً قال الله تعالى في كتابه العزيز:
قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) (سورة النمل)
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، هـذا عـن عـرش بلقيس فكيف يتصور العقل ذلك، تصور أنك تريد أن تنقله، فكم تستغرق من الوقت والجهد ومقدار الإمكانيات اللازمة لذلك؟. فهنـاك أشـياء مـوجـودة، ولكـن العقـل محـدود، فـالإنسان العاقل يعقل الحقائق التي ذكرناها سابقاً: " عـدم الـوجدان لا يدل على عدم الوجود"، إذاً إن الفكـر البشـري محدود بالحواس، والحواس محـدودة، وخيـاله يمده من الواقع، والواقع محـدود، فـأنـَّى لـهذا الفكـر البشـري المـحـدود بالحواس، والحـواس يحـدُّهـا الواقـع، وأنـى لهذا الخيال البشري المحدود بالواقع، والواقع مـحدود أن يـدرك الـلامحـدود، إذاً معرفة الله لا تـكون إلا من معرفة آثاره فقط، أمَّا معرفة ذاته فمستحيلة، ومعرفة الذات كما لو وضعت ورقة رقيقة جداً في فرن لصهر الـحديد، وقلت: ماذا حل بها، فالإنسان عاجز عن معرفة ذات الله.
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ : ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أحـاديثه : ((إذا ذُكر القضاء والقدر فأمسكوا )). أي لا تبحثوا كثيراً في ذات الله عـز وجل وبعلمه فهو يعـلم بلا كيف وهذا اختصار للبحث فـي علـم الله الـذي لا يمكـن أن يدركه عقـل أي إن هنـاك أسئـلة خـطيرة فـي العـقيدة ينبغي أن نقف عندها ونقرأ :
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) (سورة الإخلاص)
فهنـاك مـوضـوعـات مـن اختصـاص الـفكر البشـري، وهناك موضوعات فوق الفكر البشري، يجب عدم الخوض فيها أولاً، وإذا عجز الفكر عن إدراكها فلا ينبغي أن ننكرها، لأنه كما قلنا : " عـدم الـوجدان لا يدل على عدم الوجود ". والخـلاصــــة: إن قوة الإدراك في الإنسان مما كرم الله الإنسان بها ؟.
والحمد لله رب العالمين .
منقول للامانة.
هل علاقتنا بالعالم الخارجيتتم عن طريق الإحساس أم الإدراك ؟ و هل كل معرفة ينطوي عليها الإدراك مصدرهاالإحساس ؟
ا– النظرية الحسيـــة/ معارفنا الإدراكية تنبع كلها منالإحساس وبه تتحدد علاقتنا بالعالم الخارجي . قد ذهب الرواقيون و على رأسهمزينونالى القول أنالعقل لا يمكن له أن يؤسس معرفة ان لم يستمدها من الحس
*الدليل / الحواس هي النافذة التي نطل بها علىالعالم الخارجي ، ومن فقد حاسة ، فقد المعاني المتعلقة بها ، فالبرتقالة مثلا ، يصلإلينا لونها عن طريق البصر ، و رائحتها عن طريق الشم ، و طعمها عن طريق الذوق ، وملمسها عن طريق اللمس ، فلو تناول هذه البرتقالة كفيف البصر يدرك كل صفاتها الالونها ، فالكفيف لا يدرك الألوان ، و الأصم لا يدرك الأصوات ، فلولا الحواس لما كانللأشياء الخارجية وجودا في العقل
إذن فكرتنا عن العالم الخارجي ليست سوى مجموعة من الإحساساتتحولت بحكم التجربة الى تصورات ،فالمعرفة تكتسب بالتدريج عن طريق الاحتكاك بالعالمالخارجي و ما تحدثه الأشياء من آثار حسية و بالتالي لا وجود لأفكار فطرية أو مبادئقبلية سابقة عن التجربة يقول جون لوك J.Loock (لنفرض أن النفس صفحة بيضاءفكيف تحصل على الأفكار ؟ إني أجيب من التجربة ، و منها تستمد كل مواد التفكير
النقد/ رغم أن الحواسضرورية للاتصال بالعالم الخارجي إلا أنها غير كافية للإطلاع على حقيقة هذا العالمفالكثير من الأمور تغيب عن شهادة الحواس و تحتاج الى إدراك عقليكالصورالمجردة والعلاقة الثابتة بين الأشياء ، بالإضافة إلى أن الحواس مصدر غير موثوق فيالمعرفة
ب- النظريةالعقليــة/ إن معارفنا الإدراكية لا تنبع من الإحساس بل منالعقل كما جاء في رأي العقلييـن
*الدليل / لان الحواس لا تدرك الحقيقة و لاتحقق معرفة مجردة التي يحتاجها التفكير ، التفكير يقوم على الكليات و هي صور مجردةتدرك بالعقل مثل صورة الإنسان و صورة الحيوان و صورة المعدن… .بينما الحواس لاتدرك الا الجزئيات و لا ينبغي أن نثق بالحواس لأنها مصدر غير موثوق و أحسن دليل علىذلك هو الخداع البصري ، ألا نرى البحر ملتصق بالسماء لما ننظر في الأفق ؟ ألا تبدوالعصا المغموسة في الماء منكسرة؟ ألا نرى الجسم يكبر كلما اقترب منا و يصغر كلماابتعد عنا فالمعرفة الحسية كثيرا ما تكون خاطئة .يقول الفيلسوف الفرنسي رينيهديكارت R.Descarte (أنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أن أراهبعيني) لذلك يميز العقليون بين الاحساس و الادراك على أساس أن الإحساس هوعملية أولية بسيطة تتعلق بنشاط الحواس ، أما الادراك هو عملية ذهنية مركبة تحللالمعطيات و تؤول بعضها حتى تعطي لها دلالة أو معنى . و من العوامل الذهنية المدعمةللإدراك الذاكرة حتي قيل " إننا ندرك بذاكرتنا " مثلا عندما ندخل قسما و نرىمعادلات في السبورة ندرك أنه درس رياضيات لمعرفتنا السابقة بهذه المادة ،أما الجاهلبهذه المادة يرى ما نرى لكنه لا يدرك ما ندرك . و العقل في نظر العقليين مزود منذالفطرة بشروط المعرفة و هي عبارة مبادئ قبلية سابقة عن كل تجربة كمبدأ الهوية والتناقض و الثالث المرفوع و السببية و غيرها ، تعمل على تحليل ما يأتينا من العالمالخارجي ، و إدراك حقيقته .(+ دليل المكعب + البعد الثالث + تجربة شزلندن و ادراكالمسافــة ) كلها أمثلة تدعم رأي العقليين .
النقد/ عندما نفكر لا نصيب دائما مما يعني أن الفكر غيرمعصوم من الخطأ ، و الحواس رغم أنها لا تقدم لنا معرفة يقينية أحيانا ، الا أنهاتبقى ضرورية من أجل الاتصال بالعالم الخارجي ، و لو كانت المعرفة فطرية لكانت واحدةعند الجميع لكن الواقع يثبت أنها متفاوتة
الخاتمة/ انطلاقا من التكاملالموجود بين الحواس و العقل يمكن القول أن علاقتنا بالعالم الخارجي تتوقف علىالاحساس و الادراك معا ، و أي خلل يحدث في احدى الوظيفتين يؤثر سلبا على هذهىالعلاقة .