بسم الله الرحمن الرحيم
تركب بعض العقول من الصغر على مقاسات محددة مقولبة مثلما يقولب الإسمنت والطين في مربعات حديدية ليخرج طوبا وبلوكا جامدا. وهذه العقول تبقى على التقليد والجمود والجهل فترفض الدليل وتعارض الحجة وتأبى الحق، يقول تعالى عن أهل هذه العقول: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا»، ولهذا جاء الإسلام لفتح العقول قبل فتح المعاقل وإنارة البصائر قبل إنارة الديار، قال تعالى: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»، فالنصر على الأعداء والفتح للبلدان والعقول والكنوز، وعظمة الإسلام في فتحه للعالم أنه لم يكن حركة استعمارية تريد الأرض وخيراتها فقط كما فعل الرومان والإنجليز والفرنسيون والإسبان وغيرهم من الأمم حينما توسعوا في الأرض وقهروا الشعوب، فإنهم استولوا على الثروات وهيمنوا على الخيرات ولكنهم لم يغيروا العقول والمعتقدات. فالشمال الأفريقي بقي مسلما قبل الاستعمار وبعده، واليابان بقيت على المذهب المانوي قبل احتلال الحلفاء وبعده، وبقية الدول المحتلة من قوة أجنبية أرضية لم تغير عقائد أهل تلك البلدان فبقيت على البوذية والزرادشتية والمزدكية والمانوية والمجوسية وغيرها من الديانات الباطلة. أما الإسلام فقد خالف هذه الطرق جميعها، فإنه فتح العقول أولا قبل فتح المدن وأولها مكة، فقبل أن يفتح الرسول – صلى الله عليه وسلم – مكة البلدة فتح عقول أهلها بالإيمان والعلم ثم سار أتباعه مشرقين ومغربين يفتحون العقول من السند إلى قرطبة، ومن طاشقند إلى نهر النيجر، أول ما يدخلون مدينة أو قرية يغسلون عقول أهلها بـ«لا إله إلا الله» ويزرعون في قلوب شعوبها شجرة الإيمان والأمن والسلام والعدل ويطهرون أخلاق سكانها بالفضائل والنبل قبل ما يطهرون شوارعها، ولذلك يجب علينا قبل أن نتوسع في العمران أن نوسع عقولنا بالعلم والمعرفة، وقبل أن نزرع حدائقنا بالأشجار نزرع في قلوبنا أشجار الإيمان والبر والرحمة، وقبل أن نغسل طرقاتنا بالماء نغسل أخلاقنا من الدنس والرجس والمنكر، لا تسأل عن مساحة الدولة واتساعها، لكن اسأل عن مساحة أفكار سكانها وسعة عقول شعبها، ولا تغتر بناطحات السحاب في مدينة حتى تفتش في همم الناس الذين يسكنونها ومعارفهم وأخلاقهم، ولا تعجب بخضرة الحدائق الغناء والبساتين الفيحاء في بلد حتى تتأكد من خضرة قلوب أهله في الصلاح والمحبة والتراحم والإنصاف. إن أكبر حركة دورية تحررية تنويرية تجديدية وقعت في الكون هي حركة الإسلام ودعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بشهادة أساطين التاريخ ولهذا اقتنع كثير من الشعوب بدخول المسلمين إليها بلا حرب ولا قتال بعدما فتحت عقول سكانها، فإندونيسيا وماليزيا وكثير من الدول الآسيوية والأفريقية لم تقع بينها وبين المسلمين حرب زمن الفتوح لأن قادة المسلمين فتحوا العقول بالإيمان والحكمة والدعوة الحسنة والسيرة الجميلة والأخلاق الفاضلة، فاعتنق الملايين الإسلام وبقي الإسلام إلى الآن في تلك البلدان يزداد قوة مع الزمن، لقد دخل التتار نصف الكرة الأرضية واجتاحوا العالم الإسلامي، ولكنهم لم يقنعوا فردا واحدا بمذهبهم الرخيص ولم يفتحوا عقلا واحدا بمنهجهم الباطل، ولقد اجتاحت العالم الإسلامي جيوش جرارة من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والهولنديين وغيرهم وبقوا سنوات فما كسبوا عقلا واحدا وقد كسبوا ثروات البلاد التي احتلوها، ولكن المسلمين دخلوا إسبانيا فتحول الشعب إلى الإسلام وبقوا عليه مئات السنين، وأكرر هنا قول الرئيس الأميركي نيكسون: أميركا قوية، لكن للأسف الأفكار العظيمة في الإسلام.
وأقول: بإمكان أميركا بسلاحها وعتادها وبارجاتها وصواريخها وقوتها النووية الهائلة أن تحتل العالم العربي، ولكنها لن تحتل العقول لأن الإسلام سبقها فاتحا لتلك العقول قبل البلدان، بل أقول: نحن الآن نؤذن ونصلي بجانب البيت الأبيض بواشنطن والإليزيه في باريس ومجلس العموم بلندن والكرملن في موسكو، لأن فكرة الإسلام ليست في صاروخ أو دبابة أو قنبلة، فهذه الآلات فتحها وقتي وطارئ، ولكن فتح الحجة والبرهان والدليل والإقلاع ثابت راسخ، ولهذا يقول تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».. فالحكمة للعلماء والرواد والموعظة للعوام والجماهير والجدل بالحسنى لأهل الشبهات والشكوك.
الحمد لله الذي اعز الاسلام والحمد لله على نعمة الاسلام