مصر على فوهة بركان كبير، لا يعرف أحد طريقا لترويض هذا البركان و حممه التي تملأ المكان، ووسط هذا البركان الذي صنعه الشباب المطالبون بالتغيير ويحلمون بالإصلاح، يتجذر المحتجون والمتظاهرون بميدان التحرير أكبر ميادين القاهرة على الإطلاق، فتقف الأسرة المصرية في القلب من هذا الاحتجاج الشعبي الذي طال البعض شرقها وغربها. من أهم اللقطات التي بدت ظاهرة داخل هذا الميدان أنه أصبح مركزا مجمعا للأسرة المصرية، فتحول الاحتجاج لظاهرة عرفها كل المصريين.
تجولنا بميدان التحرير فوجدنا حياة كاملة، فهذه أسرة جاءت لتشارك في الاحتجاج أم بأبنائها الثلاثة، وآخري بطفلها البالغ من العمر ستة أشهر، وأسرة أخرى جاءت في صحبة الأبناء وكأنها تذهب إلى هايد بارك للتنزه متناسية تحول الميدان إلى ساحة كبيرة من العنف الموجه من رجال النظام في محاولة للالتفاف على مطالبة المشروعة في التغيير والإصلاح.
من أكثر المشاهد المؤثرة أسرة تتحرك إلى الميدان بعائلها الكفيف الذي لم يعط فرصة أو عذرا لمن كان بصيرا، وأخرى يتقدمها معاق، فيختلط عليك الأمر أكان المعاق هذا دافعا لأسرته إلى ميدان التحرير، أم أنهم هم الذين دفعوا العجلة التي يركبها نتيجة إعاقته نحو الميدان.
تطوف المظاهرات ميدان التحرير يوميا، فهذه مظاهرة لنساء جئن لعرض مطالبهن، فهن اللائي يهتفن، فهذه المظاهرة خصصت فقط للنساء، ومظاهرة أخرى خصصت للأطفال، شعارات رفعت هنا وهناك تطالب بالرحيل، فهذا طفل يرفع لافته كتب عليها “لازم ترحل يا جدو” وفتاه ترفع لافته كتب عليها،: “ارحمنا بقة لازم ترحل”.
في أغلب الثورات الشعبية تكون مشاركة الرجال أكبر وأكثر؛ لأنهم يتعرضون لمضايقات كثيرة بدءا من إلقاء القنابل المسيلة للدموع والضرب بالعصي وإلقاء الحجارة حتى القذف بالرصاص المطاطي و الحي وهو ما حدث فعلا، ولكن هذه التظاهرة كانت مختلفة بعض الشيء، فالنساء والفتيات كانت علامة بارزة للخروج الأكبر من نوعه “يوم الغضب” الموافق الجمعة الماضية 28 يناير ذلك اليوم المشهود، فشاركت المرأة بقدر كبير يوم التحرير يوم 25 يناير الذي توافق عيد الشرطة المصري.
لم تسلم الأسرة المصرية من الاعتداءات، فالفتيات اللائي تعرضن للاختناق بالمئات وهناك من أصيب بإصابات بالغة لم تمنعهن من استكمال الاحتجاج لليوم العاشر على التوالي بوسط الميدان، فضلا عن الفتيات اللائي لقين حتفهن في أول أيام الغضب.
من المواقف التي لمستها بنفسي فتاة في العقد الرابع من عمرها تصر على مقاومة السلطات الأمنية التي تحاول منعها من الوصول لميدان التحرير رغم الإلقاء الكثيف للقنابل المسلية للدموع، تتقدم الفتاة نحو الشرطة غير عابئة تصاب بحالة من الإغماء نحاول إفاقتها بكافة الوسائل وتصر العودة مرة ثانية، وأخرى جعلت مهمتها الوحيدة نهاية صفوف الاحتجاج عن طريق فهي تحمل الخل لإنعاش المختنقين والبصل بيدها الأخرى لتحقيق نفس الهدف لمن تملك الدخان من أنوفهم المتصاعد من القنابل المسيلة للدموع.
ووسط هذه المشاهد المبهرة، هناك طفلة ترقد على جانب من الشارع تقوم بغسل وجوه المتظاهرين بـ”الكوكاكولا” والبيبسي، فهي تدرك تماما الصورة التي يمكن من خلالها تطبيب المصابين ومعالجة الآثار المترتبة من إلقاء القنابل المسيلة للدموع، بعد ما ضربها الأمن على المتظاهرين.
وسط المظاهرة وفي قلبها امرأة عمرها حوالي 65 عاما، رفعت شعارا “لا لمبارك” فعمرها المديد لا يعطيها الفرصة للحركة وسط الميدان، ولكنها وجدت في اللوحة أو البوستر الصغير الذي كتبت عليه هاتين الكلمتين المعبرتين دورا كبيرا ربما لا يقم به بعض الرجال.
من أكثر المواقف التي تؤكد على حضارة هذا الشعب هو دور المرأة في الاحتجاج الأكبر من نوعه، حيث قامت الفتيات بدور الخدمة من خلال تنظيف الميدان تماما من كل ما فيه من مخلفات، وإلقائه في أكياس تم تجميعها في جانب بعيدا عن حركة هؤلاء المحتجين، كما أشرف فريق آخر من الفتيات على معالجة المصابين والجرحى من خلال مستشفى ثابت ومتنقل، حيث قامت هؤلاء الفتيات بالتجمع داخل أحد المساجد الموجودة بالميدان وتقديم خدمة الإسعافات الأولية.
من أهم المواقف الحية لدور المرأة داخل ساحة الاحتجاج الكبيرة هو تحطيم بعض النساء لبعض الأحجار الكبيرة من أجل أن يقوم فريق خصص للدفاع عن هؤلاء المحتجين ضد رجال النظام الذين انتشروا وسط التحرير ينشرون الذعر ويحاولون بكافة الصور صرف هؤلاء المحتجين وإعادة احتلال الميدان ليهتفوا “يحيا مبارك” يطالبون بترشيح الرئيس مبارك لفترة رئاسية جديدة.
السيدة المصرية كانت العنصر الأهم والأكبر في الاحتجاج الذي مازال يتصاعد لهيبه حتى هذه اللحظة، فالجميع شارك رغم صعوبة عمر بعض السيدات الذي تجاوز السبعين عاما في بعض الحالات، مطالبين جميعا برحيل النظام، و الإسراع في عدد من الإصلاحات منها، تعديل الدستور، وحل مجلسي الشعب والشورى وتشكيل حكومة إنقاذ وطني.