التصنيفات
النقاش التربوي و التعليمي

دور المتلقي في النقد الادبي

دور المتلقي في النقد الادبي


الونشريس

المحاولات الأولى للاهتمام بالقارئ :
إن مقولة القارئ كمكون أساسي في العملية الإبداعية ، أثير منذ القديم إذ نجد أصداءه في التداول الشعري القديم في الإنشاد ، فالشاعر وهو ينشد قصيدته يفترض قارئا إما أن يكون هو الممدوح أو المثقف الذي يحضر عملية الإنشاد والإلقاء ، وفي تلك الأفعال التي يبدأ بها العلماء والنقاد والفقهاء في كتاباتهم مثل " اعلم، فافهم ".
ونجد لذلك أمثلة في الكتابة الروائية ، فدنيـس ديــدور في روايـــــتــه " جاك القدري " يستحضر القارئ ويتحاور معه ويوجهه ويكشف له عن لعبة الكتابة. .
وقد بدا الاهتمام بالقارئ والقراءة قبل ظهور نظرية التلقي ، غير أن هذا الاهتمام لم يسفر عن تصور منهاجي نسقي لهذه العملية ، بحيث بقي في طور البدايات ، وإن الفصل الذي خصصه جون بول سارتر في كتابه " ما الأدب ؟ " تحت عنوان " لمن نكتب ؟ ". يبرز بجلاء الانشغال المبكر لدى هذا الفيلسوف الوجودي بمسألة القارئ والقراءة.
فهو يذهب في إطار التفاعل بين الكتابة والقراءة إلى " أن الكاتب إنما يكتب للقارئ من حيث هو فرد من أفراد الناس في العالم " وفي هذا السياق يحدد طبيعة القارئ المستهدف ، ففي تصوره " ليس القارئ الذي أتوجه إليه بالإنسان الذي جمع في نفسه بين معرفة العالم الأكبر والأصغر ، على غرار " ميكرو ميجاس " وليس هو نموذج " الساذج ". كما أنه ليس هو الله. فليس فيه جهل الساذج الوحشي الذي يجب أن يشرح له كل شيء حتى البدائيات ، وليس هو روحا ولا صفحة بيضاء. وليس عالما بكل شيء شأن الله … وإنما أكشف له بعض مظاهر العالم فاستفيد مما يعلم لأحاول تلقينه ما لا يعلم. وهو معلق بين الجهل المطلق والعلم التام. ولديه بضاعة محدودة تتغير من لحظة إلى أخرى. وهي كافية للإيماء بصفته التاريخية " . إن مواصفات القارئ التي يضعها جون بول سارتر تتحدد من خلال مفهوم الحرية والتاريخية، فالقارئ شخص منخرط في التاريخ ليس بالقارئ المثالي ولا بالقارئ الساذج. ومعالمه تتحدد أيضا في ثنايا العمل الأدبي ، إذ ما دامت " حرية المؤلف وحرية القارئ تبحث كل مها عن الأخرى، ويتبادلان التأثير فيما بينهما من ثنايا عالم واحد ، فمن الممكن أن يقال : إن ما يقوم به المؤلف من اختيار لبعض مظاهر العالم هو الذي يحدد القارئ ، كما يمكن أن يقال أيضا إن الكاتب – حينما يختار قارئه – يفصل بذلك في موضوع كتابه. ولذلك كانت كل الأعمال الفكرية محتوية في نفسها على صورة القارئ الذي كتبت لــــــه "
إن صورة القارئ المتضمنة في العمل هي ما سيصطلح عليها بالقارئ الضمني ينم تحليل جون بول سارتر ، عن وعي عميق بوظيفته القارئ في انفتاح العمل الأدبي على إمكانيات لا نهاية من التأويلات ، حيث انتقد التصور الذي يعلي من شأن المؤثرات الخارجية من جهة المؤلف يقول : " سيستهوي قوما القول بأن كل محاولة لتفسر عمل الفكر ، عن طريق الجمهور الذي يتوجه به إليه ، محاولة زائفة مفتعلة تتناول العمل تناولا غير مباشر . ألا يكون الأمر أيسر وأقوم وأدق إذا أخذنا ظروف الكاتب نفسه عاملا حاسما في إنتاجه ؟ ألا يكون من الأوفق القول بفكرة " تين " في تأثير البيئة ؟ غير أني أجيب هؤلاء بأن التفسير بالبيئة حاسم حقا من حيث إن البيئة تنتج الكاتب، ولذلك لا أعتقد في هذا التفسير. إذ الشأن في الجمهور أن يكون على النقيض من ذلك ، لأنه يهيب بالكاتب ، أن يضع أسئلة يتوجه بها إلى حريته. والبيئة قوة دافعة إلى الخلف ، ولكن الجمهور على النقيض انتظار ، وفراغ يملأ.
من خلال هذا النقد الذي يوجهه سارتر للمنهج الوضعي، الذي يحاول تفسير الإبداع بمقولات علية خارجية متحكمة ومقيدة للحرية ، تبرز الخلفية الفلسفية المتحكمة في تصوره للإشادة بمقولة القارئ باعتباره محررا للعمل الأدبي وضامنا لاستمراريته في الحاضر والمستقبل ، في حين أن كل تفسير يعطي الأولية للعلل المتحكمة يسقط في دفع العمل إلى الماضي وإلى الخلف.
تبقى هذه الأفكار حول مفهوم القراءة والقارئ لبنات أولية في بروز نظرية التلقي ، هذه النظرية
التي ستتخذ صيغتها النسقية في ألمانيا ، في مدرسة كونسطانس وقد كان من أبرز رواد هذه النظرية كل من هانس روبير ياوس وفولفغانغ آيزر. فكيف تمت بلورة هذه النظرية وما هي خلفياتها الفلسفية ومفاهيمها الأساسية ؟
نظرية التلقي : النشأة والأسس :
إن نشوء نظرية ما هو جواب عن سؤال ، واستجابة لحاجة ، بالإضافة إلى أن النظرية تحمل معها نموذجا استبداليا جديدا يتجاوز النماذج السابقة ، ولا تنشأ النظرية إلا إذا وقعت أزمة في الأسس ، وبذلك تكتسب النظرية الجديدة مشروعيتها. فما هي الأسئلة التي طرحت على نظرية التلقي ؟ وما هي طبيعة الأزمة التي سعت هذه النظرية إلى اقتراح حلول لها ؟
يذهب " فانسون يوف " في كتابة " ما القراءة ؟ " إلى أن السبب في الاهتمام بالقراءة والقارئ هو المأزق الذي عرفته الدراسات الشكلانية ، والتطور الذي حصل في ميدان اللسانيات ، لقد بدأ الاهتمام بالقراءة يتطور " في الوقت الذي عرفت فيه المقاربات البنيوية بعض الفتور ، إذ تبين أن اختزال النص الأدبي إلى مجموعة من الأشكال عديم الفائدة ، لقد أصبحت الشعرية في مأزق ـ إذ كل دراسة تعنى بالبنيات فقط تؤدي إلى نماذج عامة وناقصة جدا " أما السبب الثاني فهو الانطلاقة التي ستعرفها التداوليات بحيث أضافت للسانيات في وصفها لاشتغال اللغة فرعا ثالثا للفرعين المعهودين : " التركيب " الذي يعنى بدراسة العلاقة بين العلامات ، و " علم الدلالة " الذي يبحث في علاقة العلامات بما تدل عليه ، وهو التداوليات، أي البحث في علاقة العلامات بمستعمليها. وهكذا فالتداوليات ستركز على التفاعل داخل الخطاب، بين الإرسالية والمرسل إليه وبين النص والقارئ. ومن تم سيحدث تحول كبير في علاقة المكونات التي يتم بها التواصل ، وسيعاد النظر في تحديد الأدب وطريقة دراسة النصوص. فالسؤال ما الأدب ؟ يعني أن نتساءل لماذا نقرأ كتابا ما ؟ لقد " أصبحت أحسن وسيلة لفهم قوة واستمرارية بعض الأعمال هي أن نتساءل حول ما يجده القراء فيها .
أما روبير هولوب ، في كتابه نظرية التلقي ( مقدمة نقدية ) ، فإنه اعتمد مقالة لهانس روبير ياوس نشرت سنة 1969 تحت عنوان " التغيير في أنموذج الدراسات الأدبية ". حيث لخص فيها هذا الأخير تاريخ المناهج الأدبية مفترضا أن بداية ثورة ما في الدراسات المعاصرة كانت على وشك الحدوث. وقد أكد ياوس في هذه المقالة " أن دراسة الأدب ليست عملية تشتمل على التراكم التدريجي للوقائع والحجج التي من نشأتها أن تقرب أكثر ، كل جيل متعاقب ماهية الأدب في الواقع أو تقربه من فهم صحيح للأعمال الأدبية الفردية ، بل بالأحرى يتميز التطور الأدبي بالقفزات النوعية والانقطاعات ونقط الانطلاق الأصلية. ويتم إقصاء الأنموذج الذي سبق أن وجه البحث الأدبي في الوقت الذي لم يعد يستجيب للمتطلبات التي وضعتها له الدراسات الأدبية ، وهكذا فإن أنموذجا جديدا يكون ملائما أكثر لهذه المهمة ومستقلا عن النمط الأسبق ويحل هذا الأنموذج محل المقاربة المتقادمة إلى أن يصبح هو بدوره عاجزا على مسايرة وظيفته التي هي تفسير الأعمال الماضية للأجيال في الوقت الحاضر. يتبين من خلال هذا النص أن ياوس استفاد من بعض المفاهيم الأبستيمولوجية ، وهي مفهوم " الأنموذج paradigm " و " الثورة العلمية " محاولا بذلك إعادة تفسير طبيعة التطور الأدبي محتذيا في ذلك منهجية العلوم الطبيعية ، فمفهوم الأنموذج مكنه من رصد الانقطاعات الحاصلة في التطور الأدبي ؛ حيث أن كل أنموذج يحمل معه رؤية ترتبط بأسئلة معينة وتستجيب لحاجيات خاصة ؛ وحينما يعجز الأنموذج على مسايرة التطورات الحاصلة ولا يقدر على إيصال الأعمال القديمة للقارئ الحديث فإنه يخلي المكان لنموذج آخر ، قادر على خلق تقنيات تأويل جديدة وكذا الموضوعات التي ينبغي تأويلها.
ولكي يبرز ياوس جدة الأنموذج الذي سيطلق عليه نظرية التلقي ، سيصنف النماذج السابقة مبرزا طبيعتها وخلفياتها وحدودها وهي كالتالي :
أ/ أنموذج ما قبل المرحلة العملية : وهو أنموذج كلاسيكي ذو نزعة إنسانية يعتمد كمعيار مقارنة الأعمال الأدبية بالنماذج المتفق عليها لدى القدماء. فالأعمال التي قلدت الأعمال الكلاسيكية بنجاح كانت تعتبر جيدة أو مقبولة ، أما تلك التي خرجت عن أعراف النماذج العريقة فكانت تعتبر رديئة أو غير مرضية. وكانت مهمة الناقد هي قياس الأعمال الأدبية في الحاضر مقابل القواعد الثابتة.
ب/ أنموذج الثورة العلمية للنزعة التاريخية : ظهر هذا الأنموذج بعد انهيار النموذج الأول في القرنــــين 18 و 19 وقد ظهر عقب تأسيس الأمم والاتصالات من أجل الوحدة الوطنية في كل أرجاء أوربا . وكنتيجة للتغيرات السياسية والتخمينات الإيديولوجية ، فقد أصبح تاريخ الأدب لحظة مؤملة من لحظات الشرعية الوطنية وبالتالي ارتكز النشاط على دراسات المصادر وعلى محاولات إعادة بناء ما قبل التاريخ لنصوص القرون الوسطى المعيارية … وغالبا ما ارتبطت هذه المقاربة " التاريخانية " الوضعية من حيث المنهج بمقاربة آلية للنصوص وكذا برؤية ضيقة تكاد تكون شفينية.
ج/ النموذج " الجمالي-الشكلاني": داخل هذا الأنموذج مناهج متعددة كالأسلوبية وتاريخ الأفكار، والشكلانية الروسية ، والنقد الجديد ، وما يربط مختلف هؤلاء النقاد والمدارس هو التحول من التفسيرات التاريخية والسببية إلى التركيز على العمل نفسه.
إن الوقوف على محدوديته هذه الأنموذجات سيفسح المجال لظهور أنموذج رابع ، ولو أنه " لا يمكن تحديده بعد شكل دقيق 2 كما يذهب هيلوب ، غير أن ياوس يضع مجموعة من المقتضيات المنهجية تحدد طبيعة هذا النموذج وتميزه عن النماذج الأخرى. فبالإضافة إلى التأويل والتوسط وتحيين فن الماضي وهو شرط أساسي استوفته كل أنموذج سابق. هناك شروط أخرى وهي :
– الوساطة بين التحليل الجمالي ، والشكلي ، والتاريخي ، والتحليل المرتبط بالتلقي ، وكذا بين الفن والتاريخ والواقع الاجتماعي.
– ربط المناهج البنائية والمناهج التأويلية.
– سبر أعماق جمالية التأثير ( التي لم تعد ترتبط بالوصف وحده ) ، وبلاغة جديدة تستطيع فعلا تفسير الأدب " الراقي " وكذا الأدب الشعبي وظواهر وسائل الإعلام في آن واحد .
من خلال هذه المقتضيات يتضح لنا الطابع التركيبي لنظرية التلقي ؛ حيث أن هذه الأخيرة تسعى إلى تجاوز النزعة البنائية والشكلانية المعتمدة على الوصف وتجاوز النزعة التاريخانية التي تعتمد على تفسير الحدث محاولة بذلك تركيب هذين التوجيهين بفتحها على القارئ وعلى الهرمينوطيقا ، بغية إحداث بلاغة جديدة تكسر الحدود ما بين ما اصطلح عليه بالأدب الراقي والأدب الشعبي.