قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41)
ثالثا: في قوله تعالى : ( إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت…)
هذا النص القرآني المعجز يشير إلي عدد من الحقائق المهمة التي منها:
(1)الوهن المادي: أن بيت العنكبوت هو من الناحية المادية البحتة أضعف بيت على الإطلاق, لأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة تتشابك, مع بعضها البعض تاركة مسافات بينية كبيرة في أغلب الأحيان, ولذلك فهي لا تقي حرارة شمس, ولا زمهرير برد, ولا تحدث ظلاً كافياً, ولا تقي من مطر هاطل, ولا من رياح عاصفة, ولا من أخطار المهاجمين, وذلك على الرغم من الإعجاز في بنائها.
(2)الوهن في بيت العنكبوت وليس في الخيوط:قوله تعالى ( إن أوهن البيوت ) وهنا إشارة صريحة إلى أن الوهن والضعف في بيت العنكبوت وليس في خيوط العنكبوت وهي إشارة دقيقة جداً فخيوط بيت العنكبوت حريرية دقيقة جداً, يبلغ سمك الواحدة منها في المتوسط واحداً من المليون من البوصة المربعة, أو جزءاً من أربعة آلاف جزء من سمك الشعرة العادية في رأس الإنسان, وهي على الرغم من دقتها الشديدة فهي أقوى مادة بيولوجية عرفها الإنسان حتى الآن، وتعتبر الخصلات الحريرية التي تكون نسيج العنكبوت أقوى من الفولاذ، ولا يفوقها قوة سوى الكوارتز المصهور، ويتمدد الخيط الرفيع منه إلى خمسة أضعاف طوله قبل أن ينقطع، ولذلك أطلق العلماء عليه اسم "الفولاذ الحيوي" أو "الفولاذ البيولوجي" أو "البيوصلب"، وهو أقوى من الفولاذ المعدني العادي بعشرين مرة، وتبلغ قوة احتماله 300.000 رطلا للبوصة المربعة، فإذا قدر جدلا وجود حبل سميك بحجم إصبع الإبهام من خيوط العنكبوت فيُمْكِنه حَمل طائرة "جامبو" بكل سهولة.
(3)الوهن المعنوي : أن بيت العنكبوت من الناحية المعنوية هو أوهن بيت على الإطلاق لأنه بيت محروم من معاني المودة والرحمة التي يقوم على أساسها كل بيت سعيد, وذلك لأن الأنثي في بعض أنواع العنكبوت تقضي على ذكرها بمجرد إتمام عملية الإخصاب وذلك بقتله وافتراس جسده لأنها أكبر حجما وأكثر شراسة منه, وفي بعض الحالات تلتهم الأنثي صغارها دون أدني رحمة, وفي بعض الأنواع تموت الأنثي بعد إتمام إخصاب بيضها الذي عادة ما تحتضنه في كيس من الحرير, وعندما يفقس البيض تخرجSpiderlings)) فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض, فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام أو من أجل المكان أو من أجلهما معا فيقتل الأخ أخاه وأخته, وتقتل الأخت أختها وأخاها حتي تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العنيكبات التي تنسلخ من جلدها, وتمزق جدار كيس البيض لتخرج الواحدة تلو الأخرى, والواحد تلو الآخر بذكريات تعيسه, لينتشر الجميع في البيئة المحيطة وتبدأ كل أنثي في بناء بيتها, ويهلك في الطريق إلي ذلك من يهلك من هذه العنيكبات. ويكرر من ينجو منها نفس المأساة التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية, وانعداما لأواصر القربى, ومن هنا ضرب الله تعالى به المثل في الوهن والضعف لافتقاره إلي أبسط معاني التراحم بين الزوج وزوجه, والأم وصغارها, والأخ وشقيقه وشقيقته, والأخت وأختها وأخيها..!!
رابعا: في قوله تعالى : (لو كانوا يعلمون*):
هذه الحقائق لم تكن معروفة لأحد من الخلق في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعده, حيث لم تكتشف إلا بعد دراسات مكثفة في علم سلوك حيوان العنكبوت استغرقت مئات من العلماء لعشرات من السنين حتى تبلورت في العقود المتأخرة من القرن العشرين, ولذلك ختم ربنا( تبارك وتعالى ) الآية الكريمة بقوله( لو كانوا يعلمون).
وعلى ذلك فإن الوصف القرآني لبيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت, هذا الوصف الذي أنزل على نبي أمي( صلي الله عليه وسلم), في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل ألف وأربعمائة سنة يعتبر سبقا علميا لا يمكن لعاقل أن يتصور له مصدرا غير الله الخالق الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه( اللغة العربية) على مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد, وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها حتى يبقي هذا الكتاب العزيز حجة على الناس كافة إلي يوم الدين, ويبقي ما فيه من الحق شاهدا على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, وشاهدا كذلك بالنبوة وبالرسالة للنبي الخاتم وللرسول الذي تلقاه( صلي الله عليه وسلم) الخاتمي والذي بلغ الرسالة, وأدي الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في سبيل الله حتي آتاه اليقين…!! فنسأل الله( سبحانه وتعالى ) أن يجزيه خير ما جازي به نبيا عن أمته, ورسوله على حسن أداء رسالته, وأن يؤتيه الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة, وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده إن ربي لا يخلف الميعاد, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.
بعض الإشارات القرآنية الخفية :
أ- ولا يقتصر بيت العنكبوت على أنه مأوى يسكن فيه، بل هو في نفس الوقت مصيدة تقع في بعض حبائلها اللزجة الحشرات الطائرة مثل الذباب و غيرها .. لتكون فريسة يتغذى عليها كذلك فإن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا أنداداً من دون الله تعالى ودعوا الناس إلى أندادهم إنما يدعونهم إلى مصيدة متقنة يكون في دخولها حتفهم وهلاكهم في الدنيا والآخرة قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء:48) .
ب- التحذير من أصحاب الدعوات الفاسدة الذين اتخذوا من دون الله أنداداً سواء كان هذا الندّ هو المال أو الهوى وذلك من خلال الإشارة إلى خيوطهم الخفية التي يصطادون من خلالها ضحاياهم سواء كانت هذه الخيوط هي المال أو الجنس أو المناصب أو غيرها من الخيوط الخفية والتي ما إن تمسك بالضحية حتى تقضي عليها وتهلكها .
المصدر : بحث للدكتور زغلول النجار تم نشره في جريدة الأهرام عدد (42749)
ششششششششششششششكككرا