عدم الجهر بالسوء من القول إلا في حالة الظلم
– لا يُحِبُّ الله أن يَجهر أحدٌ بقول السوء, لكن يُباح للمظلوم أن يَذكُر ظالمه بما فيه من السوء; ليبيِّن مَظْلمته. وكان الله سميعًا لما تجهرون به, عليمًا بما تخفون من ذلك.
يقول الله تعالى
– لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً{148}النساء
????????????????????????????
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على خاتم المرسلين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم … وبعد:
فلقد تعددت تصنيفات الأصوات،فمن العلماء من قسمها حسب المخرج،ومنهم من قسمها حسب طريقة خروج الهواء، ومنهم من قسمها حسب عملية الشهيق والزفير،ومنهم من قسمها حسب درجة الاحتكاك فى موضع النطق،ومنهم من قسمها حسب الجهر والهمس،وهذا التصنيف الأخير سوف يكون مناط البحث فيه إذ إن الجهر والهمس يشتملان على كل الاصوات اللغوية.
يهدف البحث إلى بيان كيفية التفريق بين الصوت المهموس والمجهور وذلك من منظور تاريخى.بداية بالخليل،وسيبويه،وغيرهما وذلك من خلال اعتمادهم على الوسائل البدائية ـ التى من خلالها صنفوا الأصوات ـ حيث كانت تعتمد بالدرجة الأولى على عملية الملاحظة والإحساس الذاتى. أيضا يهدف البحث إلى الاستفادة من العلم الحديث من خلال آراء المحدثين المبنية على أسس علمية متطورة بتطور الحياة،ومتجددة بتجدد العلوم.
دور البحث فى الأساس هو بيان وسائل التعرف على الجهر والهمس من حيث كونهما صفتين متقابلتين،بغض النظر عن الاختلاف الوارد فى توزيع الأصوات على الجهر والهمس، والاختلاف فى عددها أو تحديد مخارجها، فالنظرة منصبة على كيفية استخدام الوسائل لمعرفة صفة "الجهر"،ومقابلها"الهمس"،وذلك فيما اتفق عليه من الأصوات.
إذا كان هدف البحث الأساسى هو التمييز بين الاصوات المجهورة، والمهموسة من خلال آراء القدماء والمحدثين،فقد اتخذ منهج البحث عدة محاور للتمييز بين أصوات الجهر،والهمس.إذ "إن التمييز بين أصوات اللغة سواء منها الأنفى،أو الفموى يعتمد على استمرار الصوت ودرجة إسماعه، وقوة إنتاجه،وفوق كل هذا المخرج".([i])
وبالتالى فالنقاط الأساسية التى يعتمد عليها البحث هى التمييز بين الجهر والهمس وذلك من خلال العناصر الآتية:
أولاـ مفهوم الجهر والهمس وأصوات كل منهما من منظور تاريخى ،حيث نعرض لمفهوم الجهر والمحدثين من خلال وجهة نظر القدماء المنبثقة من الرؤية الذاتية التى تعتمد على الملاحظة الذاتية ،ومناقشة ذلك من خلال آراء المحدثين لبيان مدى التوافق والاختلاف بين رؤية كل منهما ، وذلك من خلال تعريف المصطلحين كذلك أصوات كل منهما.
ثانيا ـ رؤية القدماء فى التعرف على الجهر والهمس:حيث عرضت لبعض التجارب الذاتية التى أجراها القدماء على أنفسهم بشأن التعرف على الجهر والهمس.
ثالثا ـ وسائل التعرف على الجهر والهمس من خلال آراء المحدثين وعلم الاصوات المعملى : وفى هذا الجانب تم التعرض لثلاث مباحث حاولت من خلالها بيان أهم الفروق الجوهرية فى التعرف على الجهر والهمس ،والتى تتمثل فى الآتى:
المبحث الأول:علم الأصوات النطقى:حيث تم التعرف على الجهر والهمس من خلال بعض الوسائل منها:ميكانيكية النطق ، الجهد العضلى ، درجة انفتاح عضوى النطق ،وغيرها من الوسائل الأخرى.
المبحث الثانى:علم الأصوات الفيزيائى:وفى هذا المبحث تم التعرف على الجهر والهمس من خلال استعمال بعض الوسائل الذاتية التى لجأ إليها المحدثون ـ احيانا ـ ،كذلك استعمال الوسائل المعملية المتمثلة فى جهازى:السبكتروجراف، والأسيللوجراف،حيث تم التعرف على الجهر والهمس من خلال عدد من الأشكال الفيزيائية التى تلازم نطق الأصوات،منها:شكل الذبذبات،والزمن،ونسبة التردد ،وغيرها من الوسائل الأخرى.
المبحث الثالث:علم الأصوات السمعى:فى هذا الجانب تم التعرف على الجهر من خلال الحديث عن عناصر الصوت الاساسية،من وجهة النظر السمعية أو الإدراكيه المتمثلة فى:الوضوح السمعى أو قوة الإسماع أو الإحساس بالشدة،كذلك الحديث عن أثر النغمة فى التفريق بينهما،أيضا طول الصوت.
أود أن أشير إلى أن عناوين المباحث الثلاث السابقة تمثل آداء العملية النطقية بداية من مرحلة الإنتاج التى تمثل آداء العملية النطقية مرورا بالفراغ الهوائى الذى يمثل علم الأصوت الفيزيائى وصولا بالمرحلة النهائية وهى مرحلة الإدراك التى يصح أن نطلق عليها :علم الاصوات السمعى
أولا: مفهوم الجهر والهمس " تاريخياً " :
الجهر والهمس محوران أساسيان لا ثالث لهما فى التفريق بين الأصوات اللغوية فى كل اللغات الإنسانية،وهما أثران صوتيان اعتمد عليهما القدماء والمحدثون فى توزيع الأصوات العربية.
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم القدماء للجهر والهمس قد اختلف نسبياً عما فهمه المحدثون ، ويتضح ذلك فى الأقوال الآتية :
يقول سيبويه : "ويقصدون بالمجهورة : حرف أشبع الاعتماد من موضعه ، ومنع النفس أن يجرى معه حتى ينقضى الاعتماد عليه ويجرى الصوت"([ii] )
كما عرفه ابن جنى بقوله:"معنى المجهور"أنه حرف أشبع الاعتماد من موضعه،ومنع النفس أن يجرى معه حتى ينقضى الاعتماد،ويجرى الصوت،غير أن الميم والنون من جملة المجهورة قد يعتمد لهما فى الفم والخياشيم،فتصير فيهما غنة،فهذه صفة المجهور".([iii])
كذلك من صفات المجهور:عدم رفع الصوت وهى خصيصة ارتبط ذكرها بمفهوم الجهر عند شارح الشافية بقوله:" الجهر: رفع الصوت بالحرف: سواء جرى الصوت، أو لم يجر، وعلامته عدم حرى النفس".([iv])
كما عرفه ابن يعيش بقوله :"الجهر إشباع الاعتماد فى مخرج الحرف ومنع النفس أن يجرى معه".([v])
أما المهموس فقد عرفه الخليل بن أحمد بقوله :" الهَمْسُ : حسّ الصوت في الفم مما لا إشراب له من صوت الصدر ولا جهارة في النطق ولكنّه كلامٌ مَهْموسٌ في الفم كالسّرِّ".([vi])
كما عرفه سيبويه بقوله:"حرف أضعف الاعتماد عليه فى موضعه حتى جرى النفس معه"([vii])
وبنفس المفهوم السابق قال ابن جنى:"أما المهموس:فحرف أضعف الاعتماد من موضعه،حتى جرى معه النفس".([viii])
ومن خلال نظرة سيبويه للهمس فقد جاءت نظرة أصحاب المعاجم متفقة مع ما قرره.يقول الأزهرى:"الهمس:حس الصوت فى الفم مما لا إشراب له من صوت الصدر ولا جهارة فى النطق،ولكنه كلام مهموس فى الفم،…،…،والهمس من الصوت والكلام:مما لا غَوْر له فى الصدر،وهو ما همس فى الفم"([ix])
أما ابن يعيش فقد اكتفى بتعريف المهموس وذلك بعد أن عرف الجهر،بقوله:"والهمس بخلافه".([x])
أما عدد الأصوات المجهورة والمهموسة من خلال رؤية القدماء فلم يختلفوا فيها ولعل هذا يرجع إلى أن تحديد الاصوات كان منصبا على الرؤية الذاتية إذ لم يتوفر آنذاك أجهزة ومعامل صوتية ترصد مخرج الصوت بدقة.وقد حدد سيبويه أصوات الجهر بقوله:"وأصوات هذا المصطلح هى: الهمزة، والألف، العين، الغين، القاف، الجيم، الياء، الضاد، اللام، النون، الراء، الطاء، الدال،الزاى، الظاء، الذال، الباء، الميم، الواو. فذلك تسعة عشر حرفا"([xi])
وقد أقرَّ ابن جنى نفس هذا العدد من الأصوات بعد أن عَدّدَ الأصوات المهموسة بقوله:"وباقى الحروف ـ وهى تسعة عشر حرفا ـ مجهور".([xii])
من خلال تحديد القدماء للأصوات المجهورة يفهم أن ما عداها يعتبر من الأصوات المهموسة.يقول سيبويه:"الأصوات المهموسة: الهاء،والحاء،والخاء، والكاف، والشين، والسين، والتاء، والصاد، والثاء، والفاء، فذلك عشرة أحرف".([xiii])
ونفس هذا التحديد مع اختلاف بسيط فى الترتيب للأصوات حدثنا ابن جنى بقوله: "المهموس عشرة احرف، وهى: الهاء، والحاء، والخاء، والكاف، والشين، والصاد، والتاء، والسين، والثاء، والفاء، ويجمعها فى اللفظ قولك: سَتَشحَثُكَ خَصَفَة".([xiv])
أما مفهوم الجهر والهمس عند المحدثين فقد اتخذا مفهومين مختلفين ولكن اتفقا من حيث المضمون،إذ ارتبط مفهوم كل منهما بحركة الوترين الصوتيين من عدمهما نجمل اقوالهم فيما ذكره د:أنيس بقوله:"الصوت المجهور هو الذى يهتز معه الوتران الصوتيان. وعكس الجهر فى الاصطلاح الصوتى هو الهمس. فالصوت المهموس هو الذى لا يهتز معه الوتران الصوتيان.([xv])
ومن خلال التعريف السابق أجمع عليه جميع المحدثين خاصة وأنه يتاتى عن طريق وسيلة علمية بحتة. فالدكتور:بشر قد ذهب إلى نفس المعنى مستبدلا الاهتزاز بالتذبذب وذلك فى قوله:"الصوت المجهور هو الصوت الذى تتذبذب الأوتار الصوتية حال النطق.أما الصوت المهموس هو الذى لاتتذبذب الأوتار الصوتية حال النطق به".([xvi])
أما من حيث توزيع الأصوات على الجهر والهمس فقد شهدت خلافات بينهم،ومن حدة الخلاف ذهب بعضهم إلى جعل بعض الاصوات لا بالمجهورة ولا بالمهموسة.أما الاصوات المجهورة فقد حددها د:أنيس بقوله:"إن الاصوات الساكنة المجهورة فى اللغة العربية كما تبرهن عليها التجارب الحديثة هى ثلاثة عشر صوتا :ب، ج، د،ذ، ر، ز، ض، ظ، ع، غ،ل،م،ن.يضاف إليها كل أصوات اللين بما فيها الواو، والياء. فى حين الأصوات المهموسة هى اثنا عشر: ت، ث، ح، خ، س، ش، ص، ط، ف، ق، ك، هـ ".([xvii])
وهذا التوزيع السابق هو الشائع بين غالبية المحدثين،ويتضح من خلاله أنه لا خلاف مع القدماء إلا فى صوتى:الطاء،والقاف فى نطقنا الحديث حيث وصفا بالهمس. أما قديما فقد وصفا بالجهر.زيادة على ذلك صوت "الهمزة" فهو من منظور القدماء مجهور.أما من منظور المحدثين فدار جدل شديد حوله فمنهم من اعتبره مهموسا ومنهم من جعله مجهورا.([xviii])
ومنهم من وصفه بأنه لا مجهور ولا مهموس حيث وصف" بالصوامت التى لا توصف باهتزاز أو عدمه،وهى تنشأ نتيجة التقاء الوترين الصوتيين فيغلقان الفتحة بينهما غلقا محكما،ثم ابتعاد كل منهما عن الآخر فجأة وخروج الهواء فى صورة انفجار مسموع.وفى العربية من هذا الصنف صوت الهمزة والقدماء يصفون هذا الصوت مع ما يوصف عندهم بالجهر".([xix])
أشير إلى أنه تتوزع بعض الصوامت المجهورة والمهموسة على بعض الصفات الأخرى وذلك لاشتمال الجهر والهمس على كل أصوات العربية.يقول د:مصطفى حركات:"هناك أصناف من الأصوات كالشديدة والرخوة تكون مهموسة ومجهورة،وهناك أصناف لا يصلح فيها إلا الجهر مثل:الصوامت (أى الحركات) وأنصاف الصوائت (الواو،والياء)،والحروف الخيشومية (الميم،والنون) أو الجانبية (اللام).وهذا مما يجعل عدد الأصوات المجهورة أكبر من عدد المهموسة فى معظم اللغات".([xx])
وهذا ما أوضحه د:أنيس من قبل بقوله:"الكثرة الغالبة من الأصوات اللغوية فى كل كلام مجهورة،ومن الطبيعى أن تكون كذلك وإلا فقدت اللغة عنصرها الموسيقى ورنينها الخاص الذى نميز به الكلام من الصمت والجهر من الهمس والإسرار".([xxi])
[i] – ماريو باى: أسس علم اللغة، ترجمة وتعليق،د،أحمد مختار عمر:ص،78.
[ii] – سيبويه:الكتاب،تحقيق الشيخ عبد السلام هارون:/432.
[iii] – سر صناعة الإعراب،تحقيق:محمد حسن إسماعيل،أحمد رشدى عامر:/75.
[iv] – رضى الدين الأسترابازى: شرح الشافية:3/260.
[v] – شرح المفصل:10/128.
[vi]– كتاب العين،تحقيق،مهدى المخزومي،إبراهيم السامرائى، 4/10
[vii] – الكتاب،4/432.
[viii] – سر صناعة الإعراب،1/75.
[ix] – معحم تهذيب اللغة،تحقيق:د،رياض زكى قاسم، ص ،3793 .
[x] – شرح المفصل، 10/128.
[xi] – الكتاب،4/432
[xii] – سر صناعة الإعراب:1/75.
[xiii] – الكتاب،4/ 432
[xiv] – سر صناعة الإعراب:1/75.
[xv] – د:إبراهيم أنيس:الأصوات اللغوية، ص،21.
[xvi] – د:كمال بشر:علم الأصوات،ص،87-88.
[xvii] – الأصوات اللغوية،ص،21. وانظر:د:بشر،علم الأصوات،ص،87.،د:عبد الله ربيع،د.عبد العزيز علام:علم الصوتيات،ص،264.
[xviii] – انظر تفاصيل ذلك د:بشر،علم الأصوات،ص،288.،د:حسام النعيمى،الدراسات اللهحية والصوتية عند ابن جنى، ص،312 وما بعدها.
[xix] – د:عبد الله ربيع ،عبد العزيز علام:علم الصوتيات،ص،265.
[xx] – الصوتيات والفونولوجيا،ص،54.
[xxi] – الأصوات اللغوية،ص،21.