التصنيفات
الأدب واللغة العربية

التّفكير اللّغوي التّداولي عندَ العرب مصادرُه و مجالاتُه

التّفكير اللّغوي التّداولي عندَ العرب مصادرُه و مجالاتُه


الونشريس

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

إليكم في هذا الموضوع المنقول

التّـفكير اللّـغوي التّـداولي عندَ العـرب

مصــادرُه ومـجـالاتُـه

د. خليـــفة بوجـــادي

إنّ الحديث عن موضوع اللسانيات التداولية في التراث العربي ليس تأصيلا للمفاهيم المعروضة في اللسانيات الحديثة، بقدر ما هو ضروري لبيان الامتدادات المعرفية للمدونة العربية، وتقديم جانب من الأفكار الرائدة التي عرضها علماء العربية قديما، وإن لم تكن تحظى بالاحتفاء أحيانا من لدن بعض الدارسين، احتفاءَهم بكل وافد حديث من المقولات الغربية.

والواقع، أن حاجة البحث اليوم إلى مقولات الدرس الغربي الحديث وكشوفاته، لا تلغي بأية حال حاجتَـه القائمةَ إلى التراث العربي والإنساني على اختلاف مشاربه، لتحديد رؤاه، وضبط أصول المعرفة الإنسانية، لئلا تكون مسايرة للفكر الحديث ومعزولة عن أي مرجعية أو هوية، كما هو واقع اليوم في كثير من المجالات.

1- في مصادر التفكير التداولي العربي:

لن يتناول هذا المقال جميع ما يرتبط بالدرس التداولي، بعدّه مفترقَ طرق الأبحاث الفلسفية واللسانية، ولكنه يعرض بعض قضايا (التداولية اللسانية) بشكل خاص، لحصر مجالها في كل ما يرتبط بالتواصل اللغوي من الاهتمام بالسامع واعتبار المخاطب، وبيان دور المتكلم في صياغة الخطاب وإنتاجه، والإلمام بالعناصر الفاعلة في الإبلاغ، ومعيار الصدق والكذب في الأساليب وفي الشعر، والمطابقة مع الواقع وعدمه؛ ذلك أن دراسة اللغة في التراث العربي، ميزتها بعض السمات التي هي من أهم المبادئ التداولية الحديثة؛ فقد تناول الدارسون القدماء مثلا (1):
– أن التكلم يتم لغايات وأهداف أو إشباع حاجات أو الحصول على فائدة.

1 تُستعمل اللغة للأغراض والمآرب ذاتها.
2 يُضفي المتحاورون على الملفوظات دلالات أخرى غير ظاهرة.
3 لم تُغفل البلاغة العربية ذلك، بل إنها تعتمد مبدأ: "لكل مقام مقال".

وقد تعددت أشكال الاهتمام بدراسة الخطاب والإقناع عند العرب, فتناولوا نص الخطاب في ذاته ودرسوا ما يرتبط بالمخاطِب وطريقة أدائه, والمخاطَب وطريقة تلقيه, ومطابقة الخطاب لمقتضى الظاهر ومخالفته… إلى غير ذلك من المسائل التي يمكن أن يجمعها موضوع التداولية اللسانية، والتي يمكن أن تمثل مبادئ رائدة للتفكير التداولي اللغوي عند العرب.

وعن أسبقية العرب لمعرفة أصول هذا الاتجاه, يقول(سويرتي): "إن النحاة والفلاسفة المسلمين, والبلاغين والمفكرين مارسوا المنهج التداولي قبل أن يَذيع صيتُه بصفته فلسفة وعلما, رؤية واتجاها أمريكيا وأوربيا, فقد وُظف المنهج التداولي بوعي في تحليل الظواهر والعلاقات المتنوعة." (2)

ومن أهم مصادر التفكير التداولي اللغوي عند العرب, علم البلاغة, علم النحو, والنقد, والخطابة, إضافة إلى ما قدمه علماء الأصول الذين يمثلون -إلى جانب البلاغيين- اتجاها فريدا في التراث العربي, يربط بين الخصائص الصورية للموضوع وخصائصه التداولية (3) … وغيرها من المجالات الأخرى التي تتعدى مجال التداولية المحدد في الجانب اللساني فقط في هذا المقال.

ولقد عدّ (أحمد المتوكل) الإنتاجَ اللغوي العربي القديم يؤول في مجموعه (نحوه وبلاغته وأصوله وتفسيره) إلى المبادئ الوظيفية (4), ومن أهم ملامح ذلك:

3 تـخص العلوم المذكورة سابقا القرآنَ الكريم, وهو موضوع دراستها. وبذلك فالوصف اللغوي آنذاك لم يكن منصبا على الجملة المجردة من مقامات إنجازها, بقدر ما نظر إلى النص بعدِّه خطابا متكاملا.

4 بالنظر إلى طبيعة الموضوع المتناول, كان الوصف اللغوي يربط بين المقام والمقال, وبين خصائص الجمل الصورية وخصائصها التداولية.

5 يـُميَّز في الدراسات القديمة بين قسمين من البحوث؛ قسم يعتمد على الاهتمام بالخصائص التداولية تأويليا؛ مطابقة المقال لمقتضى الحال, نحو (مفتاح العلوم) للسكاكي. والآخر يعتمد على الاهتمام به توليديا؛ بمعنى أن الخصائص التداولية ممثَّل لها في الأساس ذاته, نحو(دلائل الإعجاز) للجرجاني.

6 يبرز في هذا المجال اهتمام النحاة والبلاغيين بدراسة أغراض الأساليب, من الدلالة الحقيقية إلى دلالات أخرى يقتضيها المقام, وسيأتي بيان ذلك لاحقا.

ومن القضايا التي اهتم بها علماء الأصول, دراسة العلاقة بين اللفظ وما يحيل عليه (5) ؛ حيث نظروا إلى العبارات اللغوية مثلا: من حيث إفراد المحال عليه وتعدده, وميزوا بين عبارات عامة تحيل على معان متعددة, نحو (إنسان, كل، مَنْ الموصولة…)، وعبارات خاصة تحيل على معنى مفرد, نحو: (رجل, قلم…).

ونظروا إليها من حيث تعيين المحال عليه أو عدم تعيينه. وميزوا بين عبارات مطلقة لا يتعين فيها المحال عليه, وعبارات مقيدة تحيل على معنى معين, وهي الفكرة نفسها التي يعرضها اللغويون في باب إطلاق الألفاظ وتقييدها (6).

وهناك بعض نقاط التلاقي بين ما تناوله العلماء العرب القدامى وبين ما يقترحه الوظيفيون المحدثون وفلاسفة اللغة العادية, نحو:

7 دراسة ظواهر الإحالة, أو تحليل العبارات اللغوية حسب نوع إحالتها.

8 الاهتمام بدراسة أفعال الكلام.

9 تحدِّد الوظيفةُ -جزئيا على الأقل- البنيةَ، ممّا يستدعي ربط خصائص البنية بالأغراض المستهدف إنجازها باللغة.

10 دراسة مجالات الترابط بين البنية والوظيفة.

وأقل ما تعنيه مجالات اللقاء هذه بين الفكر العربي اللغوي القديم, وبين ما يقدَّم حديثا من بحوث في المجالات نفسها, أنه لا يمكن التأريخ لتطور الفكر اللغوي بإغفال حقبة من حقبه, ودون ذكر ما أسهم به اللغويون العرب في هذا التطور.

ويذكر (المتوكل) في موضوع آخر أهمّ المبادئ المنهجية في الفكر اللغوي العربي القديم, أهمها (7):

11 اللغة وسيلة تواصل للتعبير عن الأغراض. وبذلك عرّفها ابن جني:"أما حدّها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" (8) ، وهذا التعريف غني بالقيم التداولية, وأهمها: أن اللغة ذات قيمة نفعية, تعبيرية.

12 ربط البلاغيون والأصوليون بين البنية والوظيفة في دراسة اللغة، ودرسوا وظائف: التخصيص, التقييد, التوكيد.. وميزوا بين بنية جملة (في الدار رجل) وبنية (رجل في الدار), تمييزا وظيفيا.

13 يمكن استخلاص أن القدرة اللغوية لدى علماء العربية تحكمها ثلاث معارف:

معرفة لسانية (تقتضي معرفة الدلالات والمعاني)، معرفة لغوية (تقتضي امتلاك المتكلم لقواعد لغته)، ومعرفة خطابية (تقتضي أن يملك قواعد إنتاج الخطاب), وكل منها تقتضي الأخرى.

وهي لا تختلف عن شروط التداول اللغوي التي يقترحها (طه عبد الرحمن) للمحاورة بأبعادها التواصلية, حيث يجمعها في الشروط النطقية، الاجتماعية, الإقناعية والاعتقادية. (9)

ومما ينبغي الاحتفاءُ به في هذا المجال أن الأصوليين ميّزوا بين دلالة أصلية مطلقة تتقاسمها جميع اللغات, ودلالة تابعة، خاصة بلغة بعينها, (10) والأولى فقط هي التي تقبل النقل والترجمة. كما أن علماء الأصول والبلاغيين يُجمِعون على أن موضوع الدراسات اللغوية هو دراسة خصائص البنية وعلاقتها بالمقامات المنجزة فيها.

وعن قيمة المنهج التداولي عموما، يجعله (طه عبد الرحمن) أهمّ ما يُستند إليه في تقويم الدراسة التراثية, لما يتميز به من قواعد محددة, وشرائط مخصوصة وآليات صورية, (11) فيقول: "لا سبيل إلى معرفة الممارسة التراثية بغير الوقوف على التقريب التداولي الذي يتميز عن غيره من طرق معالجة المنقول، باستناده إلى شرائط مخصوصة, يفضي عدمُ استيفائها إلى الإضرار بوظائف المجال التداولي, فضلا عن استناده إلى آليات صورية محددة".(12)

هذا، وينبغي أن لا تُغفَل جهود المفسرين في كثير من المواضع؛ حيث قدموا وقفات أمام آيات قرآنية, عكست تصوراتهم اللغوية, والتي ما إن جُمعت مع أفكار البلاغيين واللغويين وغيرهم, تقترب بوضوح من رؤية اللسانيات التداولية الحديثة إلى اللغة بعدِّها نشاطا تداوليا.

ومن وقفاتهم تلك, نذكر ما أورده الزمخشري في تفسير قوله تعالى:"اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبّكَ بِالِحكمَةِ وَالموْعِظَةِ الحسَنةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتي هيَ أَحْسَن". (13) والدعاء (بالحكمة)؛ "بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضِّح للحق المزيل للشبهة، (الموعظة الحسنة) وهي التي لا يخفى عليهم أنك تُناصِحُهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها,؟… (وجادلهم بالتي هي أحسن) بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعسّف…" (14). فقد قدم وصفة شارحة لأحوال التواصل, وتوضيح مقامات الدعوة بالحكمة والموعظة, وفق أغراض الحديث ومقاصده, وذلك هو مجال اللسانيات التداولية الحديثة.

2- في المجال المفهومي لمصطلح (تداولية) في العربية:

لقد عدَل هذا المقال عن استخدام (تعريف) بمصطلح التداولية, إلى استخدام المجال المفهومي للمصطلح: لأن التداولية في ذاتها، لا تنحصر في مجال معين فتكتسب تعريفا محددا, ولكن بتعدد مجالاتها, وامتداد اهتماماتها, اكتسبت تعدد مفهوماتها. ولذلك فإن تعبير (المجال المفهومي) سيكون مقاربا بشكل ما لاتساع دلالتها, وموحيا, من ناحية أخرى بهذا الاتساع والامتداد. وسنقتصر هنا على دراسة المجال المفهومي للمصطلح من الناحية اللغوية, لأن الموضوع في مجموعه لا يتعدى التداولية اللغوية أو اللسانية.

أ- في المفهوم المعجمي لـ (التداولية):

يرجع المصطلح إلى مادة (دَوَل), وقد وردت في (مقاييس اللغة) على أصلين:"أحدهما يدل على تحوّل شيء من مكان إلى آخر, والآخر يدل على ضعف واسترخاء، فقال أهل اللغة: اِنْدَالَ القوم, إذا تحولوا من مكان إلى مكان. ومن هذا الباب، تداولَ القومُ الشيء بينهم: إذا صار من بعضهم إلى بعض. والدَّولة والدُّولة لغتان. ويقال بل الدُّولة في المال والدَّولة في الحرب, وإنما سميا بذلك من قياس الباب, لأنه أمر يتداولونه, فيتحول من هذا إلى ذاك, ومن ذاك إلى هذا" (15)

فمدار اللفظ لغةً هو التناقل والتحول، بعد أن كان مستقرا في موضع ومنسوبا إليه, وقد اكتسب مفهوم التحول والتناقل من الصيغة الصرفية (تفاعل) الدالة على تعدد حال الشيء، كما ينتقل المال من هذا إلى ذاك أو الغلبة في الحرب من هؤلاء إلى هؤلاء …

ولا تكاد المعاجم الأخرى تخرج عن هذه الدلالات: جاء في (أساس البلاغة): "دالتْ له الدولة, ودالت الأيام بكذا. وأدال الله بني فلان من عدوهم: جعل الكثرة لهم عليه. وعن الحَجّاج: إن الأرض ستُدال منا كما أدلنا منها (…) والله يداول الأيام بين الناس مرة لهم ومرة عليهم, والدهر دُوَل وعُقَب ونُوب. وتداولوا الشيء بينهم". (16) وفي معاجم أخرى، الدَّولة: انقلاب الزمان من حال إلى حال, الدُّولة: العقبة (النوبة) في المال. وتداولوه: أخذوه بالدول. (17) أي نُوبا, وتداولته الأيدي, أخذته هذه مرة, وهذه مرة. (18)

وخلاصة هذا المفهوم المعجمي, أن من مجالات لفظ (دول):

14 الاسترخاء للبطن بعد أن كان في حال أخرى غيرها (اندال البطن).
15 التحوّل من مكان إلى مكان (القوم).
16 التناقل من أيدي هؤلاء إلى أيدي هؤلاء (المال).
17 الانتقال من حال إلى حال(الحرب).

ومجموع هذه المعاني: التحول والتناقل الذي يقتضي وجود أكثر من حال, ينتقل بينها الشيء, وتلك حال اللغة؛ متحوِّلة من حالٍ لدى المتكلم إلى حال أخرى لدى السامع, ومتنقلة بين الناس يتداولونها بينهم. ولذلك كان مصطلح (تداولية) أكثر ثبوتا -بهذه الدلالة- من المصطلحات الأخرى الذرائعية, النفعية, السياقية…وغيرها.

ومن مجالاته المفهومية بالنسبة إلى اللغة:

– التناقل والتحول في المال أو الحرب بما يحقق الملكة أو الغلبة… وكذلك اللغة تظهر آثار مستخدميها وكأنهم مالكون لها, وتبدو الغلبة في الحديث بينهم, وكأن اللغة نوع من المساجلة.

18 الاشتراك في تحقيق الفعل: وكذلك اللغة بمعناها الاجتماعي؛ حين يستخدم الشيء الواحد من قِبل الجماعة.

ولقد تناول (طه عبد الرحمن) هذا المفهوم لتقديم منهج التقريب التداولي للتراث الإسلامي، باقتراحه مفهوم المجال التداولي، وممّا ذكره: "أن الفعل (تداول) في قولنا: (تداول الناس كذا بينهم)، يفيد معنى (تناقله الناس وأداروه بينهم" (19). وجعله قسيما للفعل (دار) الذي من دلالته نقل الشيء وجريانه، نحو قولنا: دار على الألسن؛ جرى عليها، ليخلُص إلى أن المعنى الذي يحمله الفعل هو "التواصل"، ومقتضى التداول -إذا- أن يكون القول موصولا بالفعل (20).

ومن شواهد استخدامه في القرآن الكريم، قوله تعالى: "مَا أفَاءَ اللهُ على رسولِهِ منَ اَهْلِ القُرى فلِلّه وللرّسُولِ ولذِي القُربى واليَتامَى والمسَاكين وابْنِ السّبيل كيْ لا يَكونَ دُولةً بينَ الأغنياءِ منكمْ" (21) وبيانها: "(كي لا يكون) ذلك الفيء (دولة) يتداوله الأغنياء منكم بينهم، يصرفه هذا مرة في حاجات نفسه، وهذا مرة في أبواب البر وسبل الخير." (22) ، وفصّل تفسيرَها الزمخشريّ، قائلا: "كي لا يكون الفيء الذي حقّه أن يُعطى الفقراءَ ليكون لهم بُلْغَة يعيشون بها… بين الأغنياء يتكاثرون به، أو كي لا يكون دولة جاهلية بينهم، ومعنى الدولة الجاهلية أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة…" (23).

وشرح في موضع آخر (الدُّولة) بـ "ما يتداول…"؛ يعني كي لا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء… والدَّولة بالفتح بمعنى التداول؛ أي كي لا يكون ذا تداول بينهم أو كي لا يكون إمساكُه تداولا بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء…" (24).

فمجال دلالة (الدُّولة) العام، هو التداول: أن يكون مرة لدى هؤلاء، ومرة لدى آخرين. ولعل أهم معنى يستأثر به هذا اللفظ هو معنى المشاركة، وتعدد مواضع التداول، وهو المعنى الذي تأخذه إحدى اشتقاقاته في قوله تعالى: "ولا تأكلوا أموالَكم بينَكُم بالباطل، وتُدْلوا بها إلى الحكّام…" (25) ؛ أي "ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام لتأكلوا بالتّحاكم" (26).
ومنه أيضا، قوله تعالى: "وتلكَ الأيّامُ نداوِلها بين النّاس…" (27) ، وما ذكره صاحب الكشاف بشأنها: " …نداولها: نُصرّفها بين الناس، نُديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء؛ كقوله: وهو من أبيات الكتاب: فيوما علينا ويوما لنا ويوما نُساء ويوما نُسرُّ
… يُقال داولتُ بينهم الشيء فتداولوه." (28)

ب- في المفهوم الاصطلاحي لـ(التداولية):

تأسيسا على المفهوم العام لـ (Pragmatique) في الدرس اللساني الغربي الحديث، وهو دراسة اللغة حالَ الاستعمال؛ أي حينما تكون متداولة بين مستخدميها، فقد اختار (طه عبد الرحمن) مصطلح (التداوليات) مقابلا لـ: (Pragmatique)؛ يقول: "وقد وقع اختيارنا منذ 1970 على مصطلح "التداوليات" مقابلا للمصطلح الغربي (براغماتيقا)، لأنه يوفي المطلوب حقه، باعتبار دلالته على معنيين "الاستعمال" و"التفاعل" معا، ولقي منذ ذلك الحين قَبولا من لدن الدارسين الذين أخذوا يدرجونه في أبحاثهم" (29) ، ثم يحدد المعنى الاصطلاحي "للتداول"، قائلا: "هو وصف لكلّ ما كان مظهرا من مظاهر التواصل والتفاعل بين صانعي التراث من عامة الناس وخاصتهم" (30).

وكثيرا ما يشكو الدارسون حديثا من قلة الاهتمامات بالدراسات التداولية في الثقافة العربية الحديثة بشكل عام (31) ، مع بروز جهود جادّة في هذا المجال، نحو جهود (طه عبد الرحمن)، لا سيما في كتابه (في أصول الحوار وتجديد علم الكلام)؛ حيث يستند إلى المنطق والفلسفة واللسانيات في دراسة التراث، وينطلق من أن الخطاب في حقيقته لغة تبليغية تدليلية توجيهية (32) ، واللسانيات في نظره ثلاثة مجالات (33):

– الدّاليات: تشمل الدراسات العاكفة على الدال الطبيعي، وتمثلها العلوم الثلاثة: الصوتيات الصرفيات والتركيبيات.
– الدلاليات: تشمل الدراسات الواصفة لعلاقات الدوال ومدلولاتها، سواء أكانت تصورات ذهنية أم أعيانا في الخارج.
– التداوليات: تشمل الدراسات الواصفة لعلاقة الدوال الطبيعية ومدلولاتها مع الدالين بها، وأبواب هذا القسم ثلاثة: أغراض الكلام ومقاصد المتكلمين وقواعد التخاطب.

إلى جانب ما قدّمه (أحمد المتوكل) في العديد من كتبه، وخلاصته أن التحليل التداولي للغة يقتضي الاهتمام بتحديد طبيعة الوظائف التداولية في اللغة العربية التي سبق ذكرها. وأهم ما يميز دراساته الوظيفية للغة أنها تستند إلى التركيب، الدلالة والتداولية (34).

وخلاصة ما تقدَّم أن أهم ما يميز الدرس اللغوي العربي القديم أنه يقوم على دراسة اللغة أثناء الاستعمال منذ بدايته؛ ومثال ذلك ما يذكره السيوطي في اللغة أنها تؤخذ استعمالا لا قاعدة، وجعل مخرج كتابه (الاقتراح في علم أصول النحو) هو ما نطقت به العرب بعدِّه الأصل في كل ظاهرة ؛ يقول: "إذا أتاك القياس إلى شيء ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه" (35). ويظهر من خلال ذلك قيمة الاستعمال وما تتداوله العرب في اللغة، وأهميته في تحديد أساليبها وطرق أدائها.

وإذا ما نظرنا إلى علوم تراثنا العربي من نحو، بلاغة، فقه وأصول، تفسير وقراءات، بعدِّها وحدة متكاملة في دراسة اللغة، يمكن أن نميز من اتجاهاتها ما يهتم بوجه استعمال اللغة، وما يتصل بها من قرائن غير لفظية، نحو: منزلة المتكلم وعلاقته بالسامع، وحالة كل منهما النفسية، الاجتماعية والأدائية (حركة، صمت، ظروف التواصل، الزمانية والمكانية…وغيرها)، مما يقدم دراسة تداولية شاملة عرفتها الدراسات اللغوية العربية القديمة، وهي جديرة ببحوث مستقلة تعرض الاهتمامات التداولية في مختلف علومها.

* قسم اللغة العربية/ جامعة سطيف
الإحــالات:
1- ينظر: محمد سويرتي: اللغة ودلالاتها، تقريب تداولي للمصطلح البلاغي (مقال)، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، مجـ 28، ع3 ،يناير/ مارس 2000، ص 30 .
2- المرجع نفسه، ص30-31.
3- ينظر: أحمد المتوكل: اللسانيات الوظيفية، مدخل نظري, منشورات عكاظ, المغرب, 1989, ص35.
4- المرجع نفسه، ص35.
5- ينظر: المرجع نفسه, ص 35 وما يليها.
6- ينظر مثلا: ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، حققه وقدّم له مصطفى الشويمي, مؤسسة .أ. بدران للطباعة والنشر, بيروت, لبنان, 1963، ص194.
7- أحمد المتوكل: اللسانيات الوظيفية, ص 84 وما يليها.
8- ابن جني: الخصائص، تحقيق عبد الحكيم بن محمد، المكتبة التوفيقية، سيدنا الحسين، 1418هـ، ج1 ص44
9 – طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, المغرب, ص2/2000, ص37-38
10- يُنظر: المتوكل: اللسانيات الوظيفية, ص 87.
11- طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث, المركز الثقافي في العربي, المغرب, 1993, ص 16 و 243.
12- المرجع نفسه, ص 16.
13- النحل/125.
14- الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التنزيل, دار المعارف للطباعة والنشر , بيروت لبنان, د-ت جـ 2ص 435.
15- ابن فارس معجم مقاييس اللغة, تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون, دار الجيل ط2, 1991 جـ 2ص314.
16- الزمخشري: أساس البلاغة, تحقيق عبد الرحيم محمود, عرف به أمين الخولي, دار المعرفة للطباعة والنشر, بيروت, لبنان, 1982, ص139.
17- ينظر مثلا الفيروز أبادي: القاموس: المحيط, دار الجبل, بيروت, لبنان,(د.ت), ج4, ص42.. و الرازي: مختار الصحاح, دار الجيل, بيروت, لبنان, 1987, ص 215. و الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت, لبنان, 1994, م-ج 14, باب اللام, ص 245. وابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، د.ت، مادة (دول)، مجـ11ص252-253.
18- الرازي: مختار الصحاح, ص 215.
19- طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص243.
20- ينظر المرجع نفسه، ص 243-244.
21- الحشر /07.
22- القرآن الكريم وبهامشه مختصر من تفسير الإمام الطبري، مذيّلا بأسباب النزول للنيسابوري، والمعجم المفهرس لمواضيع آيات القرآن الكريم لمروان العطية، قدّم له وراجعه مروان سوار، دار الفجر الإسلامي، ط7، 1995، ص 546.
23- الزمخشري: الكشاف، جـ4، ص82.
24- المرجع نفسه، جـ4، ص82.
25- البقرة / بعض الآية 188.
26- الزمخشري: الكشاف، جـ1، ص340.
27- آل عمران/ بعض الآية 140 .
28- الزمخشري: الكشاف، جـ1ص466.
29- طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، ص27.
30- طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص244.
31- ينظر مصطفى غلفان: اللسانيات العربية الحديثة، دراسة نقدية في المصادر والأسس النظرية والمنهجية, سلسلة رسائل وأطروحات رقم (04), جامعة الحسن الثاني, عين الشق, كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مطبعة فضالة المحمدية, المغرب, 1998، ص 249.
32- طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، ص27.
33- ينظر: المرجع نفسه، ص28.
34- ينظر مثلا: أحمد المتوكل: – الوظائف التداولية في اللغة العربية، منشورات الجمعية المغربية للتـأليف والتـرجمة والنشر, الدار البيضاء, المغرب, ط1, 1985. و – اللسانيات الوظيفية.
35- السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو، تحقيق محمد حسن إسماعيل الشافعي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1998، ص116.