التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

اطلب تفسير اي سورة واي اية وانا في الخدمة

اطلب تفسير اي سورة واي اية وانا في الخدمة


الونشريس

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته :

اعضاء المنتدى الكرام وزواره الاحباب اذا اي واحد بدو تفسير لاي سورة او اي اية فانا في الخدمة …
ولكن اذا طلبت تفسير اية فاكتب الاية من سورة …..واكتب لنا الاية

اذا كنت تريد تفسير السورة اية بعد اية فاكتب اسم السورة واكتب امامها تفسير الجلالين

واذا كنت تريد تفسير السورة كاملة اي اياتها مع بعض فاكتب اسم السورة واكتب امامها تفسير ابن كثير

واذا اردتهما معا فاكتبهما معا .

انتظر طلباتكم وباذن الله ساكون على عهدي لكم
شكرا لكم
لا تتردوا في الطلب

اختكم مروة




رد: اطلب تفسير اي سورة واي اية وانا في الخدمة

ذ مثال:
رح احط تفسير لسورة الفاتحة مرة تفسير الجلالين ومرة تفسير ابن كثير حتى تفهموها اكثر

**تفسير ابن كثير: لسورة الفاتحة

الونشريس تفسير ابن كثير الونشريس
سورة الفاتحة يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطا وبها تفتح القراءة في الصلوات ويقال لها أيضا أم الكتاب عند الجمهور ذكره أنس والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك قال الحسن وابن سرين إنما ذلك اللوح المحفوظ وقال الحسن الآيات المحكمات هن أم الكتاب ولذا كرها أيضا أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم" ويقال لها "الحمد" ويقال لها "الصلاة" لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي" الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها "الشفاء" لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا "فاتحة الكتاب شفاء من كل سم" ويقال لها "الرقية" لحديث أبي سعيد فى الصحيح حين رقي بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما يدريك أنها رقية"؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها "أساس القرآن" قال وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها سفيان بن عيينة "بالواقية" وسماها يحيى بن أبي كثير "الكافية" لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة "أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها" ويقال لها سورة "الصلاة والكنز" ذكرهما الزمخشري في كشافه. وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت مرتين مرة بمكه ومرة بالمدينة. والأول أشبه لقوله تعالى: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني" والله تعالى أعلم وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة وهو غريب جدا نقله القرطبي عنه وهي سبع آيات بلا خلاف وقال عمرو بن عبيد ثمان وقال حسين الجعفي ستة وهذان القولان شاذان وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء؟ على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفا. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة وقيل إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع – أما فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أما واستشهد بقول ذي الرمة: على رأسه أم لنا نقتدي بها جماع أمور نعصي لها أمرا يعني الرمح – قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها. وقيل لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضا الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا لأنها تثنى فى الصلاة فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن "هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم" ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبدالأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني" وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث حدثنا إسحاق بن عبدالواحد الموصلي حدثنا المعافي بن عمران عن عبدالحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحمد لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي أم الكتاب وفاتحة الكتاب" وقد رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله وقال كلهم ثقات وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: "سبعا من المثاني" بالفاتحة وأن البسملة هي الآية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لم لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في الصلاة قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد فى حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل "يا أيها المدثر" كما في حديث جابر في الصحيح وقيل: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" وهذا هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان "ذكر ما ورد في فصل الفاتحة" قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبه حدثني حبيب بن عبدالرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت قال: فأتيته فقال "ما منعك أن تأتيني؟" قال قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" ثم قال "لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال "نعم "الحمد لله رب العالمين" هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به ورواه في موضع آخر من التفسير وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عن شعبة به ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبدالرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب الحرفي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلى الله عليه وسلم "إنى لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولافي القرآن مثلها" قال أبي رضي الله عنه فجعلت أبطيء في المشي رجاء ذلك ثم قلت يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال فقرأت عليه "الحمد لله رب العالمين" حتى أتيت على آخرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت" فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلي كما أعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري وهذا تابعي من موالي خزاعة وذاك الحديث متصل صحيح وهذا ظاهره أنه منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم على أنه قد روي عن أبى بن كعب من غير وجه كما قال الأمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم حدثنا العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو يصلي فقال "يا أبى" فالتفت ثم لم يجبه ثم قال أبي فخفف أبي ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك أي رسول الله فقال "وعليك السلام ما منعك أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني" فقال أي رسول الله إنى كنت في الصلاة قال "أولست تجد فيما أوحى الله إلي "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" قال بلى يا رسول الله لا أعود قال "أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها"؟ قلت نعم أي رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأرجو أن لا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها" قال فأخذ رسول الله بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث فلما دنونا من الباب قلت أي رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال "ما تقرأ في الصلاة"؟ قال فقرأت عليه أم القرآن قال "والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلائي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره وعنده "إنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته" ثم قال هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن أنس بن مالك ورواه عبدالله بن الإمام أحمد عن إسماعيل بن أبى معمر عن أبى أسامة عن عبدالحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب فذكره مطولا بنحوه أو قريبا منه وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن أبي عمار حسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عبدالحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين" هذا لفظ النسائي وقال الترمذي حديث حسن غريب وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا هاشم يعني بن البريد حدثنا عبدالله بن محمد بن عقيل عن [ابن] جابر قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء فقلت السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي قال فقلت السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي قال فقلت السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي قال فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا خلفه حتى دخل رحله ودخلت أنا المسجد فجلست كئيبا حزينا فخرج علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر فقال" عليك السلام ورحمة الله وبركاته وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وعليك السلام ورحمة الله" ثم قال "ألا أخبرك يا عبدالله بن جابر بأخير سورة في القرآن؟ قلت بلى يا رسول الله قال اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها" هذا إسناد جيد وابن عقيل هذا يحتج به الأئمة الكبار وعبدالله بن جابر هذا الصحابي ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي والله أعلم ويقال إنه عبدالله بن جابر الأنصاري البياضي فيما ذكره الحافظ ابن عساكر واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم إسحق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحفار من المالكية وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك لأن الجميع كلام الله ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه وإن كان الجميع فاضلا نقله القرطبي عن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي حاتم بن حبان البستي وأبي حيان ويحيى بن يحيى ورواية عن الإمام مالك أيضا حديث آخر قال البخاري في فضائل القرآن حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وهب حدثنا هشام عن محمد بن سعيد عن أبي سعيد الخدري قال: كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت إن سيد الحي سليم وإن نفرنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية فرقاه فبرأ فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا فلما رجع قلنا له أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال لا ما رقيت إلا بأم الكتاب قلنا لا تحدثوا شيئا حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم" وقال أبو معمر حدثنا عبدالوارث حدثنا هشام حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا وهكذا رواه مسلم وأبو داود من رواية هشام وهو ابن حسان عن ابن سيرين به وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم يعني اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلا. حديث آخر: روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن زريق عن عبدالله بن عيسى بن عبدالرحمن بن أبى ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبرائيل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال "هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط" قال فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفا منها إلا أوتيته" وهذا لفظ النسائي ولمسلم نحوه: حديث آخر قال مسلم حدثنا إسحق بن إبراهيم الحنظلي هو ابن راهويه حدثنا سفيان بن عيينة عن العلاء يعني ابن عبدالرحمن بن يعقوب الخرقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام" فقيل لأبي هريرة إنا نكون خلف الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: "الحمد لله رب العالمين" قال الله حمدني عبدي وإذا قال "الرحمن الرحيم" قال الله أثني علي عبدي فإذا قال: "مالك يوم الدين" قال الله مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال "إياك نعبد وإياك نستعين" قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" وهكذا رواه النسائي عن إسحق بن راهويه وقد روياه أيضا عن قتيبة عن مالك عن العلاء عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة وفي هذا السياق "فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" وهكذا رواه ابن إسحق عن العلاء وقد رواه مسلم من حديث ابن جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا ورواه أيضا من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه وأبي السائب كلاهما عن أبي هريرة وقال الترمذي هذا حديث حسن وسألت أبا زرعة عنه فقال كلا الحديثين صحيح من قال عن العلائي عن أبي وعن العلاء عن أبيه السائب وقد روى هذا الحديث عبدالله ابن الإمام أحمد من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب مطولا وقال ابن جرير حدثنا صالح بن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعيد بن إسحق عن كعب بن عجرة عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله مال سأل فإذا قال العبد "الحمد لله رب العالمين" قال حمدني عبدي وإذا قال "الرحمن الرحيم" قال أثنى علي عبدي ثم قال هذا لي وله ما بقي" وهذا غريب من هذا الوجه. "الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه" "أحدها" أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة والمراد القراءة كقوله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا" أي بقراءتك كما جاء مصرحا به في الصحيح عن ابن عباس وهكذا قال في هذا الحديث "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" ثم بين تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظمة القراءة في الصلاة وأنها من أكبر أركانها إذ أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منهـا وهو القراءة كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحا به في الصحيحين أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في الصلاة وهو اتفاق من العلماء ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة غير فاتحة الكتاب أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين فعند أبى حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم: أنها لا تتعين بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة واحتجوا بعموم قوله تعالى: "فاقرءوا ما تيسر من القرآن" وبما ثبت فى الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" قالوا فأمره بقراءة ما تيسر ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها فدل على ما قلنا. "والقول الثاني" أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ولا تجزئ الصلاة بدونها وهو قول بقية الأئمة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله وسلامه عليه "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث "غير تمام". واحتجوا أيضا بما ثبت فى الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" والأحاديث في هذا الباب كثيرة ووجه المناظرة ههنا يطول ذكره وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله. ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذا بمطلق الحديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها بل لو قرأ بغيرها أجزأه لقوله تعالى: "فاقرءوا ما تيسر من القرآن" والله أعلم. وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا "لا صلاة لمن لم يقرأ فى كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها" وفي صحة هذا نظر وموضع تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير والله أعلم. "الوجه الثالث" هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء "أحدها" أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه لعموم الأحاديث المتقدمة "والثاني" لا تجب على المأموم قراءة بالكلية للفاتحة ولا غيرها لا في صلاة الجهرية ولا في صلاة السرية لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" ولكن في إسناده ضعفا. ورواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر من كلامه وقد روى هذا الحديث من طرق ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم "والقول الثالث" أنه تجب القراءة على المأموم فى السرية لما تقدم ولا يجب ذلك في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا" وذكر بقية الحديث وهكذا رواه بقية أهل السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا قرأ فأنصتوا" وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضا فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي رحمه الله والله أعلم. ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى – والغرض من ذكر هذه المسائل ههنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور. وقال الحافظ أبو بكـر البزار حدثنا إبراهيم بن سعد الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت". "تفسير الاستعاذة وأحكامها" قال الله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" وقال تعالى "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون" وقال تعالى "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم" فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة" وقال تعالى "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وقال "أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا" وقد أقسم للوالد آدم عليه السلام إنه له لمن الناصحين وكذب فكيف معاملته لنا وقد قال "فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين" وقال تعالى "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون" قالت طائفة من القراء وغيرهم يتعوذ بعد القراءة واعتمدوا على ظاهر سياق الآية ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيمن نقله عنه ابن فلوفا وأبو حاتم السجستاني حكي ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة الهذلي المغربي في كتاب العيادة الكامل وروى عن أبي هريرة أيضا وهو غريب ونقله محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال: وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي عن المجموعة عن مالك رحمه الله: أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة واستغربه ابن العربي! وحكى قولا ثالثا وهو الاستعاذة أولا وآخرا جمعا بين الدليلين نقله الرازي. والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها ومعنى الآية عندهم "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" أي إذا أردت القراءة كقوله تعالى "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم" الآية أي إذا أردتم القيام والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي اليشكري عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك – ثم يقول-لا إله إلا الله ـ ثلاثا ثم يقول ـ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان عن علي بن علي وهو الرفاعي وقال الترمذي: هو أشهر شيء في هذا الباب وقد فسر الهمز بالموتة وهي الخنق والنفخ بالكبر والنفث بالشعر. كما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم الغزي عن نافع بن جبير المطعم عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم حين دخل في الصلاة قال "الله أكبر كبيرا ثلاثا الحمد لله كثيرا ثلاثا سبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه" قال عمر: وهمزه الموتة ونفخه الكبر ونفثه الشعر. وقال ابن ماجة: حدثنا علي بن المنذر حدثنا ابن فضيل حدثنا عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اللهم إنى أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه قال: همزه الموتة ونفخه الكبر ونفثه الشعر وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحق بن يوسف حدثنا شريك عن يعلي بن عطاء عن رجل حدثه أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاثا ثم قال "لا إله إلا الله ثلاث مرات وسبحان الله وبحمده ثلاث مرات" ثم قال "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده حدثنا عبدالله بن عمر بن أبان الكوفي حدثنا علي بن هشام بن البريد عن يزيد بن زياد عن عبدالملك بن عمير عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فتمزع أنف أحدهما غضبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم شيئا لو قاله لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وكذا رواه النسائي فى اليوم والليلة عن يوسف بن عيسى المروزي عن الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعدية وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل عن أبي سعيد عن زائدة وأبو داود عن يوسف بن موسى عن جرير بن عبدالحميد والترمذي والنسائي في اليوم والليلة عن بندار عن ابن مهدي عن الثوري والنسائي أيضا من حديث زائدة بن قدامة ثلاثتهم عن عبدالملك بن عمير عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضبا شديدا حتى يخيل إلي أن أحدهما يتمزع أنفه من شدة غضبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب" فقال: ما هي يا رسول الله؟ قال "يقول اللهم إنى أعوذ بك من الشيطان الرجيم" قال: فجعل معاذ يأمره فأبي وجعل يزداد غضبا وهذا لفظ أبي داود وقال الترمذي: مرسل يعنى أن عبدالرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل فإنه مات قبل سنة عشرين "قلت" وقد يكون عبدالرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبي بن كعب كما تقدم وبلغه عن معاذ بن جبل فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم. قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن عدي بن ثابت قال: قال سليمان بن صرد رضي الله عنه. استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس فأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم" إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنى لست بمجنون وقد رواه أيضا مع مسلم وأبي داود والنسائي من طرق متعددة عن الأعمش به. وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها ههنا وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال والله أعلم وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبدالله بن عباس قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال "يا محمد استعذ" قال "أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" ثم قال "قل بسم الله الرحمن الرحيم" ثم قال "اقرأ باسم ربك الذي خلق" قال عبدالله: وهى أول سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل. وهذا الأثر غريب وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفا وانقطاعا والله أعلم. "مسألة" وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب واحتج الرازي لعطاء بظاهر الآية "فاستعذ" وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ولأنها تدرأ شر الشيطان وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولأن الاستعادة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب وقال بعضهم: كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ لقيام رمضان في أول ليلة منه. "مسألة" وقال الشافعي في الإملاء يجهر بالتعوذ وإن أسر فلا يضر وقال في الأم بالتخبير لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها على قولين ورجح عدم الاستحباب والله أعلم فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وزاد بعضهم: أعوذ بالله السميع العليم وقال آخرون بل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم قاله الثوري والأوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور والأحاديث الصحيحة كما تقدم أولى بالاتباع من هذا والله أعلم. "مسألة" ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هى للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: بل للصلاة فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ ويتعوذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد والجمهور بعدها قبل القراءة ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطييب له وهو لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه ولا يقبل مصانعة ولا يدارى بالإحسان بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني وقال تعالى "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا" وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيدا ومن قتله العدو الباطني كان طريدا ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجورا ومن قهره العدو الباطني كان مفتونا أو موزورا ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان. "فصل" والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر والعياذة تكون لدفع الشر واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قاله المتنبي: يا من ألوذ به فيما أؤملـــه ومــن أعوذ به ممن أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به أو يحثني على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة قوله في الأعراف "خد العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشاطين وأعوذ بك رب أن يحضرون" وقال تعالى في سورة حم السجدة "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم". الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير وقيل مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار ومنهم من يقول كلاهما صحيح في المعنى ولكن الأول أصح وعليه يدل كلام العرب. قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام: أيما شاطن عصـــاه عكـــاه ثم يلقى في السجن والأغلال فقال أيما شاطن ولم يقل أيما شائط وقال النابغة الذبياني وهو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان: نأت بسعاد عنك نوى شطون فباتت والفؤاد بهـا رهين يقول بعدت بها طريق بعيدة وقال سيبويه العرب: تقول تشيطن فلان إذا فعل فعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا تشيط فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانا قال الله تعالى "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعضهم زخرف القول غرورا" وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن" فقلت أو للإنس شياطين؟ قال "نعم" وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود" فقلت: يا رسول الله ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان". وقال ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب برذونا فجعل يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال ما حملتموني إلا على شيطان ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي إسناده صحيح. والرجيم فعيل بمعنى مفعول أي أنه مرجوم مطرود عن الخير كله كما قال تعالى "ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين" وقال تعالى "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب" وقال تعالى "ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للنظارين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين" إلى غير ذلك من الآيات وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والخبائث والأول أشهر وأصح. "بسم الله الرحمن الرحيم" افتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل ثم اختلفوا: هل هي آية مستقلة في أول كل سورة أو من كل سورة كتبت في أولها أو أنها بعض آية من كل سورة أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها أو أنها إنما كتبت للفصل لا أنها آية على أقوال العلماء سلفا وخلفا وذلك مبسوط في غير هذا الموضع وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه "بسم الله الرحمن الرحيم" وأخرجه الحاكم أبو عبدالله النيسابوري في مستدركه أيضا وروي مرسلا عن سعيد بن جبير وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي وفيه ضعف عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنها وروى له الدارقطني متابعا عن أبي هريرة مرفوعا وروى مثله عن علي وابن عباس وغيرهما وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلى ومن التابعين عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري وبه يقول عبدالله بن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه وإسحق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام رحمهم الله وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور وقال الشافعي في قول في بعض طرق مذهبه هي آية من الفاتحة وليست من غيرها وعنه أنها بعض آية من أول كل سورة وهما غريبان وقال داود هي آية مستقلة فى أول كل سورة لا منها وهذا رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وحكاه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي وهما من أكابر أصحاب أبى حنيفة رحمهم الله. هذا ما يتعلق بكونها آية من الفاتحة أم لا. فأما الجهر بها ففرع على هذا فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها وكذا من قال إنها آية في أولها وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفا وخلفا فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية وحكاه ابن عبدالبر والبيهقي عن عمر وعلي ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهو غريب ومن التابعين عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري وعلي بن الحسن وابنه محمد وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد بن كعب القرظي وعبيد وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبدالله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وعمر بن عبدالعزيز والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وابن الشعثاء ومكحول وعبدالله بن مغفل بن مقرن زاد البيهقي وعبدالله بن صفوان ومحمد ابن الحنفية زاد ابن عبدالبر وعمرو بن دينار والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة فيجهر فيها كسائر أبعاضها وأيضا فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة وقال بعد أن فرغ إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال الترمذي وليس إسناده بذاك وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال صحيح. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمـد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم. وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين" وقال الدارقطني إسناد صحيح. وروى الإمام أبو عبدالله الشافعي والحاكم في مستدركه عن أنس بن معاوية صلى بالمدينة فترك البسملة فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك فلما صلى المرة الثانية بسمل. وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها. فأما المعارضات والروايات الغريبة وتطريقها وتعليلها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر. وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبدالله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف وهو مذهب أبى حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل. وعند الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهرا ولا سرا واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ "الحمد لله رب العالمين" وبما فى الصحيحين عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بـ "الحمد لله رب العالمين" ولمسلم لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها ونحوها في السنن عن عبدالله بن مغفل رضي الله عنه فهذه مآخذ الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر ولله الحمد والمنة فصل في فضلها قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم رحمه الله في تفسيره حدثنا أبي جعفر بن مسافر حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي حدثنا أبي عن طاوس عن ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "بسم الله الرحمن الرحيم"؟ فقال "هو اسم من أسماء الله وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد عن علي بن المبارك عن زيد بن المبارك به. وقد روى الحافظ ابن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن عيسى ابن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم: اكتب فقال: ما أكتب؟ قال: بسم الله قال له عيسى: وما بسم الله؟ قال المعلم: ما أدري؟ قال له عيسى: الباء بهاء الله والسين سناؤه والميم مملكته والله إله الآلهة والرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة" وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب بابن زبريق عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر عن عطية عن أبي سعيد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا غريب جدا وقد يكون صحيحا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات والله أعلم. وقد روى جويبر عن الضحاك نحوه من قبله وقد روى ابن مردويه من حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة وفي رواية عن عبدالكريم أبي أمية عن أبى بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري وهي "بسم الله الرحمن الرحيم" وروى بإسناده عن عبدالكريم الكبير بن المعافى بن عمران عن أبيه عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبدالله قال: لما نزل "بسم الله الرحمن الرحيم" هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح وهاج البحر وأصغت البهائم بآذانها ورجمت الشياطين من السماء وحلف الله تعالى بعزته وجلاله أن لا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه. وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" فيجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد ذكره ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها" لقول الرجل ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفا وغير ذلك. وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم: فقلت: تعس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال بقوتي صرعته وإذا قلت بسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب" هكذا وقع في رواية الإمام أحمد وقد روى النسائي في اليوم والليلة وابن مردويه في تفسيره من حديث خاله الحذاء عن أبي تميمة وهو الهجيمي عن أبي المليح بن أسامة بن عمير عن أبيه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال "لا تقل هكذا فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة" فهذا من تأثير بركة بسم الله ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول. فتستحب في أول الخطبة لما جاء "كل أمر لا يبدأ فيه بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" فهو أجذم وتستحب البسملة عند دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك. وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن من رواية أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبى سعيد مرفوعا "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" وهو حديث حسن. ومن العلماء من أوجبها عند الذكر ههنا ومنهم من قال بوجوبها مطلقا وكذا تستحب عند الذبيحة فى مذهب الشافعي وجماعة وأوجبها آخرون عند الذكر ومطلقا في قول بعضهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله وقد ذكر الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أتيت أهلك فسم الله فإنه إن ولد لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات" وهذا لا أصل له ولا رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ولا غيرها. وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة "قل بسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا ". ومن ههنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قوله بسم الله هل هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن أما من قدره باسم تقديره بسم الله ابتدائي فلقوله تعالى "وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم" ومن قدره بالفعل أمرا أو خبرا نحو أبدأ بسم الله فلقوله تعالى "اقرأ باسم ربك الذي خلق" وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بد له من مصدر فلك أن تقدر الفعل ومصدره وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله إن كان قياما أو قعودا أو أكلا أو شربا أو قراءة أو وضوءا أو صلاة فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله تبركا وتيمنا واستعانة على الإتمام والتقبل والله أعلم. ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال إن أول ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال "يا محمد قل أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: قال له جبريل باسم الله يا محمد يقول اقرأ بذكر الله ربك وقم واقعد بذكر الله تعالى" لفظ ابن جرير وأما مسألة الاسم هل هو المسمى أو غيره ففيها للناس ثلاثة أقوال أحدها أن الاسم هو المسمى وهو قول أبي عبيدة وسيبويه واختاره الباقلاني وابن فورك وقال الرازي وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري في مقدمات تفسيره: قالت الحشوية والكرامية والأشعرية الاسم نفس المسمى وغير نفس التسمية وقالت المعتزلة الاسم غير المسمى ونفس التسمية والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية ثم نقول إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات متقطعة وحروف مؤلفة فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث. ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى بأنه قد يكون الاسم موجودا والمسمى مفقودا كلفظة المعدوم وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون الاسم واحدا والمسميات متعددة كالمشترك وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى وأيضا فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها وأيضا فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك ولا يقوله عاقل وأيضا فقد قال الله تعالى "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما" فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى وأيضا فقوله "ولله الأسماء" أضافها إليه كما قال "فسبح باسم ربك العظيم" ونحو ذلك فالإضافة تقتضي المغايرة وقوله تعالى "فادعوه بها" أي فادعوا الله بأسمائه وذلك دليل على أنها غيره واحتج من قال الاسم هو المسمى بقوله تعالى "تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام" والمتبارك هو الله تعالى والجواب أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة وأيضا فإذا قال الرجل زينب طالق يعني امرأته طلقت ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق والجواب أن المراد أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق. قال الرازي: وأما التسمية فإنها جعل الاسم معينا لهذه الذات فهي غير الاسم أيضا والله أعلم "الله" علم على الرب تبارك وتعالى يقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى "هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم" فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له كما قال تعالى "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها" وقال تعالى "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة" وجاء تعدادها في رواية الترمذي وابن ماجه وبين الروايتين اختلاف زيادة ونقصان وقد ذكر الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم ألف في الكتاب والسنة الصحيحة وألف في التوراة وألف في الإنجيل وألف في الزبور وألف في اللوح المحفوظ. وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل يفعل فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم وروى عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة قال الخطابي ألا ترى أنك تقول يا الله ولا تقول يا الرحمن فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام وقيل إنه مشتق واستدلوا عليه بقول رؤبة بن العجاج: للــه در الغانيات المــده سبحن واسترجعن من تألهي فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر وهو التأله من أله يأله إلاهة وتألها كما روى عن ابن عباس أنه قرأ "ويذرك وإلاهتك" قال عبادتك أي أنه كان يعبد ولا يعبد وكذا قال مجاهد وغيره وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله تعالى "وهو الله في السموات وفي الأرض" كما قال تعالى "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" ونقل سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه مثل فعال فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة قال سيبويه مثل الناس أصله أناس وقيل أصل الكلمة لاه فدخلت الألف واللام للتعظيم وهذا اختيار سيبويه. قال الشاعر: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني قال القرطبي بالخاء المعجمة أي فتسوسني وقال الكسائي والفراء أصله الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية كما قال "لكنا هو الله ربي" أي لكن أنا وقد قرأها كذلك الحسن قال القرطبي ثم قيل هو مشتق من وله إذا تحير والوله ذهاب العقل يقال رجل واله وامرأة ولهى ومولوهة إذا أرسل في الصحراء فالله تعالى يحير أولئك في الفكر فى حقائق صفاته فعلى هذا يكون ولاه فأبدلت الواو همزة كما قالوا في وشاح أشاح ووسادة أسادة وقال الرازي وقيل إنه مشتق من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره قال الله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا" قال وقيل من لاه يلوه إذا احتجب وقيل اشتقاقه من أله الفصيل أولع بأمه والمعنى أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال قال: وقيل مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه لقوله تعالى "وهو يجير ولا يجار عليه" وهو المنعم لقوله تعالى "وما بكم من نعمة فمن الله" وهو المطعم لقوله تعالى "وهو يطعم ولا يطعم" وهو الموجد لقوله تعالى "قل كل من عند الله" وقد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق البتة قال وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه منها أنه لو كان مشتقا لاشترك في معناه كثيرون ومنها أن بقية الأسماء تذكر صفات له فتقول الله الرحمن الرحيم الملك القدوس فدل أنه ليس بمشتق قال: فأما قوله تعالى "العزيز الحميد الله" على قراءة الجر فجعل ذلك في باب عطف البيان ومنها قوله تعالى "هل تعلم له سميا" وفى الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامدا غير مشتق نظر والله أعلم. وحكى الرازي عن بعضهم أن اسم الله تعالى عبراني ثم ضعفه وهو حقيق بالتضعيف كما قال وقد حكى الرازي هذا القول ثم قال: واعلم أن الخلائق قسمان واصلون إلى ساحل بحر المعرفة ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهما قد فقدوا عقولهم وأرواحهم وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال فتاهوا في ميادين الصمدية وبادوا في عرصة الفردانية فثبت أن الخلائق كلهم والهون في معرفته وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال لأن الخلق يألهون إليه بفتح اللام وكسرها لغتان وقيل إنه مشتق من الارتفاع فكانت العرب تقول لكل شيء مرتقع لاها وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس لاهت وقيل إنه مشتق من أله الرجل إذا تعبد وتأله إذا تنسك. وقرأ ابن عباس "ويذرك وإلاهتك" وأصل ذلك الإله فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة وفخمت تعظيما فقيل الله. "الرحمن الرحيم" اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ورحمن أشد مبالغة من رحيم وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال: والرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة. زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم وقد قال "وكان بالمؤمنين رحيما" وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي وقال أبو إسحق الزجاج فى معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى الرحيم عربي والرحمن عربي فلهذا جمع بينهما قال أبو إسحق وهذا القول مرغوب عنه وقال القرطبي والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله تعالى أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعهما قطعته" قال وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق قال وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له. قال القرطبي: ثم قيل هما بمعني واحد كندمان ونديم. قاله أبو عبيد وقيل ليس بناء فعلان كفعيل فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك رجل غضبان للرجل الممتلئ غضبا وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول قال أبو علي الفارسي الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين. قال الله تعالى "وكان بالمؤمنين رحيما" وقال ابن عباس هما إسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أكثر رحمة ثم حُكي عن الخطابي وغيره أنهم استشكلوا هذه الصفة وقالوا لعله أرفق كما في الحديث "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وأنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" وقال ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لم يسأل الله يغضب عليه" وقال بعض الشعراء: الله يغضب إن تركت سؤاله وبنى آدم حين يسأل يغضب وقال ابن جرير حدثنا السرى بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العزرمي يقول الرحمن الرحيم قال الرحمن لجميع الخلق الرحيم قال بالمؤمنين قالوا ولهذا قال "ثم استوى على العرش الرحمن" وقال "الرحمن على العرش استوى" فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته وقال وكان بالمؤمنين رحيما فخصهم باسمه الرحيم قالوا فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاصة بالمؤمنين لكن جاء في الدعاء المأثور رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره كما قال تعالى "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" وقال تعالى "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر وهل الوبر من أهل البادية والأعراب. وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكد به والمؤكد لا يكون إلا أقوى من المؤكد. والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم فيه ما ذكروه وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره ووصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره كما قال تعالى "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم" كما وصف غيره بذلك من أسمائه كما قال تعالى "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا" والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك فلهذا بدأ باسم الله ووصفه بالرحمن لأنه أخص وأعرف من الرحيم لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص فإن قيل فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجهه بذلك والله أعلم. وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله "قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى" ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى "اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا لا نعرف الرحمن ولا الرحيم رواه البخاري وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة وقال تعالى "وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا" والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فإنه قد وجد في أشعارهم فى الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن قال ابن جرير: وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال: ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربي يمينها وقال سلامة بن جندب الطهوي: عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبدالله بن عباس قال الرحمن الفعلان من الرحمة هو كلام العرب وقال "الرحمن الرحيم" الرفيق الرقيق لمن أحب أن يرحمه والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه وكذلك أسماؤه كلها. وقال ابن جرير أيضا حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال الرحمن اسم ممنوع. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه تسمى به تبارك وتعالى. وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته حرفا حرفا "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين" فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة ومنهم من وصلها بقوله "الحمد لله رب العالمين" وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور وحكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين" فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قوله تعالى "الم الله لا إله إلا هو" قال ابن عطية ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت.الونشريس




رد: اطلب تفسير اي سورة واي اية وانا في الخدمة

الونشريس تفسير الجلالين الونشريس

1-سورة الفاتحة [مكية ، سبع آيات بالبسملة إن كانت منها ، والسابعة {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وإن لم تكن منها ، فالسابعة : {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ويقدر في أولها "قولوا" ليكون ما قبل "إياك نعبد" مناسباً له بكونها من مقول العباد]ـ 1 – بسم الله الرحمن الرحيم الونشريس

ب:الاية الثانية:

2 – (الحمد لله) جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها على أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق أو مستحق لأن يحمدوه ، والله علم على المعبود بحق (رب العالمين) أي مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم وكل منها يطلق عليه عالم ، يقال عالم الإنس وعالم الجن إلى غير ذلك ، وغلب في جمعه بالياء والنون أولي العلم على غيرهم وهو من العلامة لأنه علامة على موجده الونشريس

ج: الاية الثالثة:
3 – (الرحمن الرحيم) أي ذي الرحمة وهي إرادة الخير لأهله الونشريس

د: الاية الرابعة :
4 – (مَلِكِ يوم الدين) أي الجزاء وهو يوم القيامة ، وخُصَّ بالذكر لأنه لا ملك ظاهراً فيه لأحد إلا لله تعالى بدليل {لمن الملك اليوم لله} ومن قرأ {مالك} فمعناه مالك الأمر كله في يوم القيامة أو هو موصوف بذلك دائماً {كغافر الذنب} فصح وقوعه صفة لمعرفةالونشريس

ه: الاية الخامسة :
5 – (إياك نعبد وإياك نستعين) أي نخصك بالعبادة من توحيد وغيره ونطلب المعونة على العبادة وغيرها الونشريس

و: الاية السادسة:
6 – (اهدنا الصراط المستقيم) أي أرشدنا إليه الونشريس

ن: الاية السابعة /

7 – (صراط الذين أنعمت عليهم) بالهداية ويبدل من الذين بصلته (غير المغضوب عليهم) وهم اليهود (ولا) غير (الضالين) وهم النصارى ، ونكتة البدل إفادة أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . [وعن الشيخ محمود الرنكوسي تفسير ألطف ورد في مختصر تفسير ابن كثير مفاده أن المغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق وخالفوه أما الضالين فلم يهتدوا إلى الحق أصلاً . دار الحديث

ولكم حرية الاختيار




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

أخطاء يقع فيها بعض المرضى

أخطاء يقع فيها بعض المرضى


الونشريس

أخطاء يقع فيها بعض المرضى

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين… وبعد:

فهذه جملة من الأخطاء التي يقع فيها بعض المرضى أحببت التنبيه عليها رجاء أن ينتفع بها من وقف عليها، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم «الدين النصيحة».

ترك الصلاة:
من أعظم الأخطاء التي يقع فيها بعض المرضى ترك الصلاة.
قال عبدالله بن شقيق رضي الله عنه: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".


قال ابن القيم:

"لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من قتل النفس وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه، وخزيه في الدنيا والآخرة".

والمريض مادام عاقلاً لا يجوز له ترك الصلاة بل الواجب عليه أن يصلي بحسب استطاعته.

أخي المريض: تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم أيمن عند الإمام أحمد: «لا تترك الصلاة متعمدًا، فإنه من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله».

قال ابن الأثير رحمه الله: " قوله «فقد برئت منه ذمة الله»
أي: أن لكل أحد من الله عهدًا بالحفظ والكلاءة فإذا ألقى بيده إلى التهلكة، أو فعل ما حرم عليه، أو خالف ما أمر به خذلته ذمة الله تعالى".
ولا شك أن المريض أحوج الناس إلى حفظ الله ورعايته.

تأخير الصلاة عن وقتها:
يجب على المريض أن يصلي الصلاة في وقتها على حسب استطاعته، ولا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103]

وقد عد العلماء تأخير الصلاة عن وقتها من الكبائر، قال الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم: 59]

قال الإمام ابن القيم: "وقد فسر الصحابة والتابعون إضاعتها بتفويت وقتها".

قال الإمام ابن باز رحمه الله: "ولا يجوز ترك الصلاة بأي حال من الأحوال بل يجب على المكلف أن يحرص على الصلاة أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته، فلا يجوز ترك المفروضة حتى يفوت وقتها، ولو كان مريضًا مادام عقله ثابتًا، بل يؤديها في وقتها على حسب استطاعته".

وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير حسبما تيسر له.

ترك الطهارة مع القدرة عليها:
يجب على المريض أن يتطهر لكل صلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور».

فإن كان المريض لا يستطيع الوضوء، يتيمم بالتراب، فإن كان لا يستطيع صلى على حاله ولا شيء عليه، ولا يترك الصلاة.

الجزع والقنوط من رحمة الله تعالى:
بعض المرضى إذا استمر بهم المرض جزع وقنط من رحمة الله تعالى وفي هذا مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه عز وجل».

قال العلماء هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى حسن الظن بالله: أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه، فعلى المريض أن يحذر كل الحذر من القنوط واليأس من رحمة الله تعالى.

فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا تسأل عنهم، رجل نازع الله عز وجل بردائه، فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز، ورجل شك في أمر الله والقنوط من رحمة الله».

التسخط وعدم الصبر على أقدار الله المؤلمة:
إن الواجب على المريض تجاه ما أصابه من مرض هو الصبر على هذا البلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا».

وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «ما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر».

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الصبر على المصائب واجب باتفاق أئمة الدين".

وقال تلميذه ابن القيم: "وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر".

أخي المريض: عليك بالصبر فإن الله جل جلاله يحب الصابرين.

التعلق بغير الله تعالى من أطباء وغيرهم:
أخي المريض: لاشك أن المسلم مطالب بالأخذ بالأسباب وهذا لا ينافي الصبر والتوكل، قال الإمام ابن القيم: وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرره لم يقدح ذلك في العبد، كإخبار المريض الطبيب بشكايته.

فلا حرج أبدًا على المريض في التداوي وبذل الأسباب التي تؤدي إلى الشفاء بإذن الله من البحث عن الطبيب الماهر ونحو ذلك.

لكن يجب على المريض أن يعلق قلبه ورجاءه بالله تعالى وأن يعلم أن الطبيب والدواء مجرد سبب للشفاء، والشافي حقيقة هو الله جل جلاله، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]

قال الإمام ابن كثير في معنى الآية: "أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره، بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه".

اللجوء إلى السحرة والكهنة والمشعوذين:
إن من أخطر الأمور أخي المريض هو ذهابك إلى هؤلاء الطواغيت من أهل السحر والكهانة والشعوذة لأن هذا كفر والعياذ بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند والحاكم بسند صحيح: «من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم».

إهمال الدعاء:
أخي المريض: المرض نازل بالعبد بقدر الله تعالى، وهو القادر على رفعه، فعليك بالدعاء، فإنه سلاح المؤمن، روى الترمذي بسند حسنه الألباني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء».

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدفعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن وله مع البلاء ثلاثة مقامات.

أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.

الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوي عليه البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا.

الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه".

فإن كان هذا حال الدعاء مع البلاء، فكيف يغفل عنه المريض أو يهمله.

إهمال الرقية الشرعية:
قال ربنا تبارك وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]

وهدي النبي صلى الله عليه وسلم التداوي بالقرآن.

قال ابن القيم: "ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلاله، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]

وقال أيضًا: "واعلم أن الأدوية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعًا مضرًا، وإن كان مؤذيًا.

والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء، فالتعوذات والأذكار إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب، وإما أن تحول بينها وبين تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة وإزالة المرض.

أخي المريض: احرص شفاك الله على التمسك بهدي نبيك صلى الله عليه وسلم من الاستشفاء بالقرآن العظيم والأذكار والأدعية التي كان يحافظ النبي صلى الله عليه وسلم عليها عند المرض.

وإياك أن تكون من الغافلين فهناك من العبادات مالا يتم التعبد بها إلا في حال المرض والشدة.

إهمال أمر الوصية:
أخي المريض: إذا كان عليك حقوق للناس أو لك حقوق عندهم وليس فيها إثبات فيجب عليك أن توصي لئلا تضيع الحقوق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبين ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده».

إن المبادرة بكتابة الوصية سنة نبوية، وكتابة الوصية لا تدني أجل المريض، وعدم كتابتها لا تباعد الأجل كذلك، والمرء لا يدري متى يأتيه الموت.

أخي المريض: احذر من التعدي في الوصية، فالوصية للوارث حرام، والوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث كذلك، وإياك الإضرار بالوصية، فإنها من علامات سوء الخاتمة والعياذ بالله.

التساهل في كشف العورة وعدم حفظها:
ستر العورة واجب على كل مكلف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك».

ويلاحظ أن بعض المرضى يتهاون في أمر العورة ولاشك أن مجرد المرض ليس عذرًا في كشف العورة التي أمر الشرع بحفظها وسترها.

وهذا المنكر له صور:
أ-كشف المرأة لشيء من العورة أمام الطبيب بدون عذر شرعي، مع أن أكثر التخصصات اليوم يوجد فيها نساء.

قال الشيخ الفوزان: "تساهل بعض النساء وأولياؤهن بدخول المرأة على الطيب بحجة أنها بحاجة إلى العلاج، وهذا منكر عظيم وخطر كبير، لا يجوز إقراره، والسكوت عليه".

ب-كشف المريض عورته أمام الطبيب بدون مسوغ طبي يسلتزم كشفها.

ج-عدم ارتداء المريض الملابس الساترة أثناء المرض، إما لأنها قصيرة لا تستر، أو بها فتحات فتظهر العورة من خلالها.

د-ارتداء الملابس الخفيفة، والشفافة التي تصف العورة.

الغفلة وقضاء الأوقات فيما حرمه الله تعالى من سماع الأغاني أو مشاهدة القنوات الفضائية:
المريض غالبًا لديه من الوقت قد يتضايق من كثرته، فعليك أخي المريض أن تحرص على اغتنام هذه النعمة التي غبن فيها كثير من الناس، عليك بقراءة القرآن فإن بكل حرف حسنة، عليك بنوافل العبادات من صلاة، ودعاء، وتسبيح واستغفار، وقراءة وسماع ما ينفعك في دينك.

أقول: من المناسب جدًا للمريض أن يستفيد من وقته في مراجعة أو تعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المرض والبلاء، كما أن الناس إذا جاء رمضان بحثوا ما يتعلق بأحكام الصيام مثلاً، فكذلك إذا نزل بالمسلم المرض والبلاء فإن في ذلك مناسبة جيدة لمراجعة الهدي النبوي فيما يتعلق بالمرض.

وأخي المريض: احذر المحرمات، واحفظ جوارحك: السمع والبصر وإياك أن تعصي الله جل جلاله بنعمه فهذا لا يليق بالمؤمن.

وللأسف أن المسلم في هذا الوقت يرى من بعض المسلمين عجبًا إذا ما أنزل بهم المرض، سماع الأغاني وسهر على القنوات الفضائية التي تحارب الله ورسوله ليل نهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا شك أن من قضى وقته في سماع الأغاني، ومشاهدة القنوات الفضائية الماجنة قد أوقع نفسه في الموبقات التي ربما كانت سببًا في سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى.

أخي المريض: أي عافية يرجوها من غفل عن ربه تبارك وتعالى؟!
فالذي يسمع الغناء مثلاً توعده الله جل جلاله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان: 6]

وقال الإمام الطبري: "قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه".

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
المريض إذا كان عاقلاً بالغًا فإنه مكلف بالأوامر والنواهي، فيجب عليه طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده…».

وهذا هو الذي كان عليه عمل الصحابة الكرام، في صحيح البخاري في قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل عليه شاب، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، فقال عمر: ردوا عليَّ الغلام، وقال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوابك وأتقى لربك".

ومن المؤسف حقًا أنك ترى كثيرًا من المسلمين إذا نزل به مرض أو بلاء عطل هذه الشعيرة العظيمة، فيرى المعروف يترك فلا يأمر به، ويرى المنكر يفعل فلا ينهى عنه، ولاشك أن في هذا خطرًا عظيمًا على المريض، لأنه قد عرض نفسه لعقاب الله تعالى وعرض نفسه أيضًا لسبب من أسباب عدم قبول الدعاء فقد روى الترمذي في جامعه وحسنه من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».

الإقدام على بعض الإجراءات الطبية الممنوعة شرعًا:
يجب على المريض أن يعلم أنه ليس كل إجراء طبي مأذون به شرعًا، فهناك عمليات للتجميل وعمليات للتقويم وغيرها يجب على المسلم أن يسأل أهل العلم عن حكمها قبل إجرائها، ولا شك أن في سؤال أهل العلم عن ذلك صيانة من المسلم لدينه، وتجنبًا منه لأسباب سوء الخاتمة قال ربنا تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]

أسأل الله العظيم أن يجنبنا منكرات الأخلاق والأعمال، والأهواء والأدواء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

تفسير القرآن

تفسير القرآن


الونشريس

تفسير آيات القرآن الكريم في هذا الرابط
لجميع الطلاب
أرجوا الدعاء في ظهر الغيب لي ولجميع المتقدمين لاجتياز الشهادات
بالتوفيق لجميع مجتازي الشهادات
http://www.kl28.com/Quran.php?aea=2&sora=1




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُ

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُ


الونشريس


الونشريسيَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الونشريس



قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " رواه ابن أبي حاتم وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في الدنيا فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن عثمان يعني أبا سعد أخبرني عكرمة عن ابن عباس أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت إلى النساء وإني حرمت علي اللحم فنزلت" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعًا عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم النبيل به وقال حسن غريب وقد روي من وجه آخر مرسلًا وروي موقوفًا على ابن عباس فالله أعلم وقال سفيان الثوري ووكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا ألا نستخصي فنهانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية أخرجاه من حديث إسماعيل وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة والله أعلم وقال الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث عن عمرو بن شرحبيل قال جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله بن مسعود فقال إني حرمت فراشي فتلا هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق قال كنا عند عبد الله بن مسعود فجيء بضرعٍ فتنحى رجل فقال له عبد الملك ادن فقال إني حرمت أن آكله فقال عبد الله ادن فاطعم وكفر عن يمينك وتلا هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية رواهن ابن أبي حاتم وروى الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه من طريق إسحاق بن راهويه عن جرير عن منصور به ثم قال على شرط الشيخين ولم يخرجاه ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارًا له فقال لامرأته حبست ضيفي من أجلي هو علي حرام فقالت امرأته هو علي حرام وقال الضيف هو علي حرام فلما رأى ذلك وضع يده وقال كلوا بسم الله ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم ثم أنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " وهذا أثر منقطع . وفي صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه شبيهٌ بهذا وفيه وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلًا أو ملبسًا أو شيئًا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ولا كفارة عليه أيضًا ولقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ولأن الذي حرم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارةٍ . وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلًا أو مشربًا أو ملبسًا أو شيئًا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزامًا له بما التزمه كما أفتى بذلك ابن عباس وكما في قوله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم " ثم قال " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" الآية وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير والله أعلم وقال ابن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح فنزلت هذه الآية إلى قوله " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " قال ابن جريج عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " يقول لا تسيروا بغير سنة المسلمين يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار وما هموا به من الاختصاء فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله فقال " إن لأنفسكم حقًا وإن لأعينكم حقًا صوموا وأفطروا وصلوا وناموا فليس منا من ترك سنتنا " فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا بما أنزلت . وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين كما تقدم ذلك ولله الحمد والمنة وقال أسباط عن السدي في قوله " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخويف فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة منهم : علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون ما حقنا إن لم نحدث عملًا فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك وأن يأكل بالنهار وحرم بعضهم النوم وحرم بعضهم النساء فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها وكان يقال لها الحولاء فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين فقالت : وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي وما رفع عني ثوبًا منذ كذا وكذا قال فجعلن يضحكن من كلامها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن فقال ما يضحككن قالت : يا رسول الله إن الحولاء سألتها عن أمرها فقالت ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا فأرسل إليه فدعاه فقال : ما لك يا عثمان قال إني تركته لله لكي أتخلى للعبادات وقص عليه أمره وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك " فقال يا رسول الله إني صائم فقال : أفطر قال فأفطر وأتى أهله فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واغتسلت وتطيبت فضحكت عائشة وقالت : ما لك يا حولاء فقالت إنه آتاها أمس وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني فنزلت " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " يقول لعثمان لا تجب نفسك فإن هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم فقال " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" رواه ابن جرير وقوله تعالى " ولا تعتدوا " يحتمل أن يكون المراد منه ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم كما قاله من قاله من السلف ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه كما قال تعالى " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" الآية وقال " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا " فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه لا إفراط ولا تفريط ولهذا قال " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .

تفسير بن كثير للآيه رقم (87) من سورة " المائدة (5)"




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم


الونشريس

يأجوج مأجوج هاتان الكلمتان طالما سمعنا عنهما ولكن من هم ومن أين ينحدرون, وماهي صفاتهم, وماهي قصتهم ومتى سيخرجون؟ هذا كله سنعرفه في موضوعنا التالي:

معنى الأسمين:يأجوج مأجوج اسمان عربيان وقيل أعجميان..واشتقاق اسميهما من أجت النار أجيجا:والأجاج: هو الماء شـديد الملوحـة المحرق من ملوحتـه وقيل مـأجوج من مـاج إذا اضطرب.

*من السلالة البشرية ولايخرجون إلا لهلاكها.
*مكانهم معروف.. وخروجهم مجهول.
*صغار العيون ذلف الأنوف صهب الشعور.
*أهانهم الله بافتراس حشرة النغف أجسادهم.

اصل جنسهم

أصل يأجـوج مأجوج من البشر من ذرية آدم وحواء عليهمـا السلام وهمـا ذرية يافث أبي الترك ويافث من ولد نوح عليه السلام.

صفاتهم
هم صنف من الرجـال يشبهـون أبناء جنسهم من الترك المغول صغار العيـون ذلف الأنوف صهب الشعـور عـراض الوجوه كأن وجوهـهم المجان المـطرقة (الدروع المستديـرة) رجـال أقويـاء لاطاقة لأحد بقتالهم.

علامات خروجهم

خروجهم علامة على قـرب النفخ في الصور وخراب الدنيا وقيام الساعة.
قال تعـالى حتى إذا فتحت يأجوج مأجوج وهم من كل حدب ينسلون. واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا)الأنبياء:96-97.
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب بنت جحش قالت:دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يومـا من الأيام فزعا خائفا وهو يقـول: " لاإله إلا الله ويل للعرب من شـر قد اقترب قد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعلق بأصبعـه الإبهام والتي تليهـا: فقلت :يارسـول الله :أفنهلك وفيـنا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث".

افعالهم اذا خرجوا

إذا خرج المسيح الدجال وعاش في الأرض فـسادا فإن الله تعـالى ينزل المسيح ابن مريم ويقوم بقتل المسيح الدجال.
وفي هذه الأثناء يوحي الله تعالى إلى المسيح عيسى عليه السلام: أني قد أخرجت عبادا لايدان أحد بقتلهـم فحرز عبادي(لاتجعلهم يذهبون إلى ديارهم) وأن يذهبوا إلى الطور وهو جبل في فلسطين في بيت المقـدس, وبعد هذا الإيـحاء من الله عز وجل يدك الله سبحانه وتعالى السد الذي بنـاه ذو القرنين فيخرج يأجوج مأجوج فهم كما قال الله تعالى في كتابه:من كل حدب ينسلون , أناس أعـدادهم هائلة كـالنمل والجـراد إذا أتى لايستطيع أحد أن يحصيهم إلا الله. قال فـإذا خرجوا فيعيثون في الأرض فسادا. ويقتلون كل من يواجهـونه حتى أنهم إذا أتوا بحيرة طبرية في فلسطيـن قامـوا بشربـها الصفوف الأولى حتى إذا مدوا الصفوف الآخرة على هذه البحيرة قال بعضهم لبعض: لقد كان في هذا المـكان ماء, حتى ينتهـوا إلى جبل الخمـر وهو جبل قريب من بيت المقدس, فيصيبهم الغـرور والعجب في أنفسهم وفي قوتهم فيقول بعضهـم لبعض. قد قتلنا أهل الأرض, فهلم نقتل أهل السمـاء فيزيـدهم الله تعالـى فتنة وبلاء وضياعا فيرد الله عز وجل هذه السهام وهي مخضبة بالدماء ليزيد من فتنتهم وبلاءهم.

دعاء المسيح

عندها يتجه المسيح عيسى عليه السلام وأصحـابه إلى الله فيلجـؤون إليـه ويتضرعون إليه ويرجون منه أن ينقذهم مما وقع بهم من البـلاء العظيم فيستجيب لهم عز وجل
فيرسل على يأجوج ومأجوج النغف(وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم ) فهذه حكـمة من الله تعالـى أنه أهانهم بإبادة هذا الجبروت العظيم بحشرة صغيرة فيصبحون قتلى لأن هذا الدود يفترسهم بإذن الله تعالى فيـموتون ميتة واحـدة جماعية, وبنفس واحد, فتمتلئ الأرض بجثثهم ونتنهم حتى لايوجد موضع شبر إلا وقد امتلأ بجثثهم فيدعو عيسى عليه السلام وصحبه الله عز وجل أن يريح الأرض من أجسادهم ورائحتهم فيستجيب الله لدعواهم فيرسل على قوم يأجوج ومأجوج طيرا كأعناق البخت (الجمل) فتحمل هذه الجثث وتقوم بطرحها في مكان لايعلمه إلا الله تعالى.

سد يأجوج ومأجوج

بنـاه ذو القرنين رحمه الله وكان ملـكا صالحا أعطـاه الله القوة الخـارقة والمعجزات فكان يسعـى في الأرض ويساعد عباد الله المؤمنين وعنـدما وصل إلى هذه القرية التي كانت بجـوار يأجوج مأجوج شكوا إلى ذي القرنين مايجدونـه من بطشهـم وفسادهم فقالـوا: ياذا الـ قرنين إن يـأجوج ومـأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سـدا) أي إخراجا, أموالا, ذهبا, ولكن لتساعدنا على منع بطش هؤلاء المفـسديـن في الأرض فرفض أن يأخذ خراجا منهم, وبنى لهم هـذا السد العظيم.

مكان السد

مكانه في المشـرق قال تعـالى(حتى إذا بلغ مطلع الشمـس) فعندما بلغ مطـلع الشمس وجد هذه القرية ولكـن أين مكانها بالتحديد فهو من علم الله..

وصف السد

1-بين جبلـين قال تعالى(حتى إذا بلغ بين السدين) والسدان:جبلان عظيمان.
2-أنه من حديـد قال تعالى(اتوني زبر الحديد).
3-أنه قد طلي بالنحاس المذاب.
4-ارتفاع السد بلغ به ذو القرنين إلى رؤوس الجبلين قال تعالى(حتى إذا ساوى بين الصدفين) والصدفان رأسا الجبلين.
لذا هذا السد رحمة من الله إلى وقت محدد ومعلوم, فإذا جاء هذا الأجل دك هذا السد.

صفة خروجهم

قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: يحفرونـه كل يوم منذ أن بنى عليهم ذو القرنين هذا السد العظيم من الآف السنين إلى يومـنا هذا, وهم في كل يـوم يحفرونه حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليـهم رئيسهم: ارجعوا غدا. قال علـيه الصلاة والسلام:فيعيده الله كأشد مـاكان حـتى إذا بلغـوا مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على النـاس قال رئيـسهم ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله تعالى. قال رسول الله فيرجعون (الغد) فهو كهيـئته حين تركوه فيـخرقونه فيخرجون على النـاس فيفعلون مايفعـلون.

•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••

فسبحان الله ماأقسى تلك اللحظات وما أصعبها حين يظهرون ترتاب الأنفس ويزيد الخوف وترتعش القلوب ….فابدءو من الآن بالأعمال الصالحة التي كنتم تفتقرون لها والتي فاتتكم واجعلوا هذا اليوم بداية لكم لا عليكم

(( منقوووووول) تاكدو ان ردكم مهم لا تكن بخيلا




رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

بارك الله فيك عزيزتى ميسرة على المعلومات ننتظر جديدك فلا تبخلى علينا بمواضيعك
الونشريس




رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

ادا سمحتيلى عزيزتى ميسرة وجدت بعض المعلومات و حبيت نضيفها فى موضوعك

بحيرة طبريا تكشف لنا عدد شعب بأجوج ومأجوج
أكثر من كل شعب الكرة الارضية الحالي ب 250 مره تقريبا

بحيرة طبريا هي بحيرة حلوة المياه تقع بين منطقتي الجليل والجولان على الجزء الشمالي من مسار نهر الأردن. يبلغ طول سواحلها 53 كم وطولها 41 كم وعرضها 17 كم، ومساحتها تبلغ 166 كم2. أقصى عمق فيها يصل إلى 46 متر. تنحدر من قمة جبل الشيخ الثلجية البيضاء المياه الغزيرة لتشكل مجموعة من الينابيع التي تتجمع بدورها لتكون نهر الأردن.

تكون بحيرة طبريا مصدر مياه الشرب الرئيسي لإسرائيل والأراضي الفلسطينية. في 1964 انتهى بناء مسيل المياه الإسرائيلي الذي ينقل مياه البحيرة إلى جميع أنحاء إسرائيل. بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة من قبل إسرائيل في حرب 1967 ربطت شركة المياه الإسرائيلية ("ميكوروت") بعض المدن الفلسطينية إلى مسيل المياه ولكنها تقطع توفير المياه إليها في بعض الأحيان.

هذة البحيرة هي التي سوف يمر عليها قوم يأجوج وماجوج ويشربونها كاملة

وببحث بسيط من عندي قمت بتجربه علمية غير مسبوقه لمعرفة عدد سكان ياجوج وماجوج في ذلك اليوم العظيم والعلم عند الله لكن من باب التفكر والتمعن

وذلك بمعرفة المعطيات الآتية :

1- حجم بحيرة طبريا بالمتر المكعب حسب بيانات وزارة البيئة الاسرائيليه ( لعنهم الله )
هو

*

حجمالمياه المخزنة في أعلى منسوب =4,300 مليون متر مكعب
*


حجم المياه المخزنة في أدنى منسوب =3,600 مليون مترمكعب

2- عند العطش الشديد للأنسان العادي ممكن ان يشرب 1 لترماء.. في حالة قوم ياجوج وماجوج ..اثبت بالاحاديث الصحيحة انهم ناس عاديين من نسلآدم

لكنهم شديدي القوة والبائس لذلك

نفترض ان حجم كمية الماء ليرتوي شخص واحد ياجوجي ماجوجيتساوي 2 لتر ايالضعف
وبحسب الاحاديث الصحيحة ان كل شعب ياجوج وماجوج يشربون منها حتى اخرهم …


لذلك


——————–


اذا حسبنا عدد لترات بحيرة طبريا بأقل منسوب
فهو
1
متر مكعب = 1000 لترماء
3600000000
متر مكعب ضرب 1000 لتر = 3600000000000 لتر
3600000000000 /2 = 1800000000000 مليون

اي 1800 مليار نسمه أي اكثر من كل شعب الصين ب 1800 مرة

وأكثر من كل شعب الكرة الارضية الحالي ب 257

و الله اعلم -شكرا لك عزيزتى ميسرة.





رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

شكرا الاخت الحنونة فريال ربي يخليك للمنتدى بصح فريال كاينين معلومات مكررة لوكان تنحيها خير باه القارئ مايملش تعرفي يقرئ المعلومة ويزيد يعاودها بازاف الموضوع تاعي وتاعك طويل بزاف والاختيار لك ورجعيلي
الونشريس




رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

بــــــــــــــــــــــــــــــــارككما الله وجزاكما خير الجزاء على الموضوع الساخن جعله الله في موازين حسناتكما

أختاي : ميسرة ، فريال "




رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

شكرا الاخت حكمة قدر على الرد المميز بارك الله فيك اشرقت الصفحة بمرورك
الونشريس




رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

شكرا على معلومات مفيدة




رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

شكرا الاخ زاكي على الرد بارك الله فيك وربي يحفضك
الونشريس




رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

القضايا أنواع
أخبارها إن كانت غيبا فعلمها عند الله ,وكل محاولة اسقاط مادي علمي واقعي على الغيب هو تجاوز لمعيار الصدق(المبالغة في تفسير القرءان علميا),الذي يجب أن يكون عدم تناقض الفكر مع نفسه'(لكل حقيقته),إن كانت واقائع مادية زمانية مكانية ,فهي تجريبية معيار صدقها الواقع الملاحظ.(أين نجد ياجوج وماجوج لو حفرنا …)
وإذا اجتمع الغيب مع الواقع ,ينبغي التأويل حتى لانتناقض.
ياجوج وماجوج,ألايمكن اعتبارهم جنس بشري غاب عن الحضارة الإنسانية لمدة طويلة يعودون في زمان التطور العلمي التقني(المسيح الدجال).؟
السد هو عجز ذاتي في الإبداع والعلم…؟
فليس كل مايذكر من أحادبث الترهيب والترغيب حول علامات الساعة الصغرى والكبرى صحيحا,ويفهم بمدلوله المباشر.
مدلول اللفظ يتغير بتغير الثقافة السائدة.
لكل زمان فهمه الخاص
ودام الجميع بكل خير.




رد: ياجوج وماجوج مكانهم معروف وخروجهم مجهول ادخل لن تندم

جزاك الله خير على الموضوع…
وجعله لك في ميزان حسناتك…
ننتظر جديدك…




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

آية وتفسيرها أرجو التثبيت

آية وتفسيرها…. أرجو التثبيت


الونشريس

الونشريس
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، فله الحمد أنا جعلنا مسلمين ، وله

الحمد أن أكرمنا بقراءة كلامه ، اللهم لك الحمد يا الله أن جعلت القرآن بِلغتنا حيث يسهل فهمها ..

ولك الحمد أن جعلت القرآن هداية للناس ، ونبراساً يضيء لنا الطريق وصلي اللهم وسلم على

نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

الونشريس

ف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أيها الأحبة من إخوة / وأخوات .. من أحب الله وصدق في حبه وجدته من أحرص الناس على فهم القرآن

وتدبره ، كيف لا وهو كلام الله ! قال تعالى : " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى

النُّورِ "، لذا حري بنا أن نفهم معانيه ونكرر قراءة تفسيره فكلام ربنا لا يستطيع فهمه إلا الربانين

من أهل العلم الذين صدقوا واخلصوا وتركوا الدنيا رغبة في الآخرة فأكرمهم الفتاح بفتح من عنده

حتى فهموه ، فالقرآن منهج وقد قال أحد أهل العلم عن القرآن :

وقد أودع الله فيه علم كل شىء ، ففيه الأحكام والشرائع ، والأمثال والحكم ، والمواعظ والتأريخ ،

والقصص ونظام الأفلاك ، فما ترك شيئا من الأمور إلا وبينها ، وما أغفل من نظام في الحياة إلا

أوضحه ..

لذلك سيكون هذا الموضوع (( آية وتفسير )) .. فكل عضو

أحب الله وكلامه سيفيد نفسه وغيره بوضع آية أثرت

فيه سواء أكانت تفسيراً أو تدبر أو تفسير سورةً بكاملها .. وأحياناً تكون قرآءة التفسير
كاملاً عليك شاقة ، لذا هنا سنضع الآيات وما يدريكم لعلنا نختم القرآن في هذا
الموضوع ، ولن يجدي ولن ينفع إلا بتفاعلكم ..

ومن أراد أن يضع تفسير آية ( صوتية أو مرئية ) فلا بأس شريطة أن الا يزيد المقطع عن 5 1 دقيقة ..

إليكم موقع يعينك لتفسير آيات القرآن الكريم :

http://quran.muslim-web.com/sura.htm?aya=002

معاني كلمات القرآن الكريم :

http://www.sattarsite.com/qword.asp

***********************

أرجو من الجميع عدم الإكتفاء بكلمة الشكر ، كي يكون الموضوع متسلسل ومنظم ، كما أنني

أذكر نفسي وإياكم بالتفسير الصحيح وأخذها من المواقع التي تثقون بها كي لا ندخل

في محذور شرعي ..

الونشريس

اللهم أجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلا ءهمنا وطريقنا الذى نمشى عليه اللهم آمين ياله

وفق من كتب معنا وأثراه ونشره وقرأه وكتبه اللهم آمي واسألك ياكريم أن تجعل هذا الموضوع

بميزان من اقترح علي كتابه علمه ربي ولم يعلم به غيره سبحانه ..

وأختم بقول الله :

(( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ))

لكم جزيل الشكر .. أخوووكم شااعر المشاااعر
أرجو التثبيت

الونشريس

الونشريس




رد: آية وتفسيرها…. أرجو التثبيت

شكرا على المجهود الذى اتمنى ان يفيد الجميع ويعود علينا بالفهم الجيد

جزاك الله خيرا




رد: آية وتفسيرها…. أرجو التثبيت

بارك الله فيــــــــــــــــــــــــــــــــــك ياخي الكريم




رد: آية وتفسيرها…. أرجو التثبيت

بارك الله فيــــــــــــــــــــــــــــــــــك اخي فعلا ايه رائعةالونشريس




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

تفسير سورة الكهف

تفسير سورة الكهف


الونشريس

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
سورة الكهف مكيَّة واستثنى بعض المفسرين بعض الآيات: أولها (1 – 8)، وآية رقم (28) ومن
(107 – 110) على أنها مدنية، ولكن هذا الاستثناء يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل أن السُّور المكيَّة مكيَّةٌ كلها وأن المدنيَّة مدنيَّةٌ كُلُّها، فإذا رأيت استثناءً فلا بد من دليل.
والمَكِّي ما نزل قبل الهجرة والمدنِيُّ ما نزَل بعد الهجرة حتى وإن نزل بغير المدينة مثل قوله تعالى:
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينا)(المائدة: الآية3) فقد نزلت بعرفة عام حجة الوداع.

* * *

***64831; الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حسنا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ***64830; (الكهف:3)
قوله تعالىالْحَمْدُ ) هو وصفُ المحمود بالكمال محبة وتعظيماً، وبقولنا محبةً وتعظيماً خرج المدح؛ لأن المدح لا يستلزم المحبة والتعظيم، بل قد يَمدح الإنسان شخصاً لا يساوي فلساً ولكن لرجاء منفعة أو دفع مضرة، أما الحمد فإنه وصف بالكمال مع المحبة والتعظيم.
( لِلَّهِ) هذا اسمٌ عَلَمٌ على الله مُختَصٌّ به لا يوصف به غيره، وهو عَلَمٌ على الذات المقدَّسة تبارك وتعالى.
(الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) جملة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ } هل هي خَبَرٌ، أراد الله أن يُخبر عباده بأنه محمود، أو هي إنشاءٌ وتوجيهٌ على أنَّنا نحمدُ الله على هذا، أو الجميع؟
الجواب: الجميع، فهو خبرٌ من الله عن نفسه، وهو إرشادٌ لنا أن نَحمدَ الله على ذلك.
(عَبْدِهِ) يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم، وَصَفَهُ تعالى بالعبودية؛ لأنه أعبَدُ البَشَر لله . وقد وصَفَه تعالى بالعبودية في حالات ثلاث:
1 -حالِ إنزال القرآن عليه كما في هذه الآية.
2 -في حالِ الدفاعِ عنهُ صلى الله عليه وسلم، قال تعالىوَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)
3 -وفي حالِ الإسراءِ به، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1)
{يعني في أشرف مقاماتِ النبي صلى الله عليه وسلم وَصفهُ الله بأنه عبدٌ، ونِعمَ الوصفُ أن يكون الإنسانُ عبداً لله، حتى قال العاشق في معشوقته:

لا تدعُني إلاَّ بيا عَبدَها فإنه أشرف أسمائي

{ الكتاب} أي: القرآن، سُمِّي كتاباً؛ لأنه يُكتب، أو لأنهُ جامع، لأن الكَتْب بمعنى الجَمْع، ولهذا يقالُ: الكتيبةُ يعني المجموعةُ من الخيل، والقرآن صالح لهذا وهذا فهو مكتوبٌ وهو أيضاً جامع.
(لم يجعل له عوجا)لم يجعل لهذا القرآن عوجاً بل هو مستقيم؛ ولهذا قال:
( قـَيـِّما)وقيماً حال من قوله: {الكتاب)، يعني: حالَ كونه قَيِّماً. فإن قال قائل: "لماذا لم نجعلها صفة، لأن الكتابَ منصوبٌ وَقَيِّماً منصوب؟".
فالجواب: أن قيماً نَكِرة والكتاب معرفة ولا يمكن أن توصف المعرفة بالنَّكِرَة، ومعنى {قيما} أي: مستقيماً غايةَ الاستقامة، وهنا ذَكَرَ نَفْيَ العيبِ أولاً ثم إثباتَ الكمال ثانياً. وهكذا ينبغي أن تُخلي المكان من الأذى ثم تَضع الكمال؛ ولهذا يقال: "التخلية قبل التحلية"، يعني قبل أن تُحلِّي الشيء أخلِ المكان عمَّا ينافي التحلي ثم حَلِّه، وفي قوله تعالى: { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قيما). تنبيه. وهو أنه يجب الوقوف على قوله: { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } لأنك لو وصلت لصار في الكلام تناقضٌ، إذ يوهمُ أن المعنى لم يكن له عوج قَيِّم.
ثم بيَّن تعالى الحكمة من إنْزال القرآن في قولهلِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حسنا)
الضمير في قوله: {لينذر } يحتملُ أن يكون عائداً على {عبده } ويحتملُ أن يكون عائداً على { الكتاب} وكلاهما صحيح، فالكتاب نَزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل أن يُنذِر به، والكتاب نفسُه مُنذِر، ينذر الناس.
( بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) أي من قِبَلِ الله عز وجل ، والبأس هو العذاب، كما قال تعالىفَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً)(الأعراف: الآية4)، يعني عذابنا، والإنذار: هو الإخبار بما يُخَوِّف.
( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ )التبشير: الإخبار بما يسر، وهنا نجد أنه حُذِف المَفعول في قوله:{لِيُنْذِر} وذكر المفعول في قوله: { وَيُبَشِّر}، فكيف نقدر المفعول بـ"ينذر"؟
الجواب: نُقدِّرُه في مقابل من يُبَشَّر وهم المؤمنون فيكون تقديره "الكافرين"، وهذه فائدة من فوائد علم التفسير: أنّ الشيء يعرَف بذكر قبيله المقابل له، ومنه قوله تعالى: { فانفروا ثباتا أو انفروا جميعاً} [النساء: 71] . {ثبات } : يعني "متفرقين" والدليل ذكر المقابل له(أو انفروا جميعاً)
وقوله تعالى: { الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } يفيد أنه لا بدَّ مع الإيمان من العمل الصالح، فلا يكفي الإيمان وحده بل لا بد من عمل صالح.؛ ولهذا قيل لبعض السلف: "أليس مِفتاحُ الجنَّة لا إله إلاَّ الله؟" يعني فمن أتى به فُتح له! قال: بلى، ولكن هل يفتحُ المفتاحُ بلا أسنان؟
(الْمُؤْمِنِين) الذين آمنوا بما يجب الإيمان به، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ما يجب الإيمان به لجبريل حين سأله عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه" [1]
( الذين يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) يعني يعملون الأعمال الصالحات، ومتى يكون العمل صالحاً؟
الجواب: لا يمكن أن يكون صالحاً إلاَّ إذا تضمن شيئين:
1 -الإخلاص لله تعالى: بألا يقصد الإنسان في عمله سوى وجه الله والدار الآخرة.
2 -المتابعة لشريعة الله: ألاّ يخرج عن شريعة الله سواء شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره.
ومن المعلوم أن الشرائع بعد بِعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها منسوخة بشريعته صلى الله عليه وسلم.
وضد الإخلاص: الشرك، والإتباع ضد الابتداع، إذاً البدعة لا تقبل مهما ازدانت في قلب صاحبها ومهما كان فيها من الخشوع ومهما كان فيها من ترقيق القلب لأنها ليست موافقة للشرع؛ ولهذا نقول: كُل بدعة مهما استحسنها مبتدعها فإنها غير مقبولة، بل هي ضلالة كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عمل عملاً على وفق الشريعة ظاهراً لكن القلب فيه رياء فإنه لا يقبل لفقد الإخلاص، ومن عمل عملاً خالصاً على غير وفق الشريعة فإنه لا يقبل، إذاً لا بد من أمرين: إخلاصٍ لله ، واتباعٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلاَّ لم يكن صالحاً، ثم بيَّن تعالى ما يُبَشَّر به المؤمنون فقال:
(أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حسنا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (الكهف:3) (أجرا) أي ثواباً، وسمى الله عز وجل ثواب الأعمال أجراً لأنها في مقابلة العمل، وهذا من عدله جلَّ وعلا أن يسمي الثواب الذي يثيب به الطائعَ أجراً حتى يطمئن الإنسان لضمان هذا الثواب؛ لأنه معروف أن الأجير إذا قام بعمله فإنه يستحق الأجر.
وقوله: {حسنا } جاء في آية أخرى ما هو أعلى من هذا الوصف وهو قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة)(يونس: الآية26) وجاء في آية أخرى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] فهل نأخذ بما يقتضي التساوي أو بما يقتضي الأكمل؟
الجواب: بما يقتضي الأكمل، فنقول:{حسنا} أي هو أحسن شيء ولا شك في هذا، فإن ثواب الجنة لا يعادله ثواب.
وقوله: ( مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ) أي باقين فيه أبداً، إلى ما لا نهاية، فلا مرض ولا موت ولا جوع ولا عطش ولا حر ولا برد، كل شيء كامل من جميع الوجوه.
واعلم أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الجنَّة موجودة الآن وأنها مؤبدة، وأن النار موجودة الآن وأنها مؤبدة، وقد جاء هذا في القرآن، فآيات التأبيد بالنسبة لأصحاب اليمين كثيرة، أما بالنسبة لأصحاب الشمال فقد ذُكر التأبيد في آيات ثلاث:
1 -في سورة النساء، قال تعالىإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (النساء:168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) (النساء:169)
2 -في سورة الأحزاب، قال تعالىإِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (الأحزاب:64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (الأحزاب:65)
3 -في سورة الجن في قوله تعالىوَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)(الجـن: الآية23)
وإذا كانت ثلاثُ آيات من كتاب الله صريحة في التأبيد فلا ينبغي أن يكون هناك خلاف، كما قيل:
{وليس كل خلاف جاء معتبراً إلاَّ خلافاً له حظٌّ من النَّظرِ} وما ذكر من الخلاف في أبدية النار لا حظَّ له، كيف يقول الخالق العليم: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } ثم يقال: لا أبدية؟ هذا غريب، من أغرب ما يكون، فانتبهوا للقاعدة في مذهب أهل السنّة والجماعة: أن الجنَّة والنار مخلوقتان الآن لأن الله ذكر في الجنة {أعدت } وفي النار (أعدت). وثانياً: أنهما مؤبدتان لا تفنَيان لا هما ولا من فيهما كما سمعتم.

* * *

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً(4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) (الكهف:5)
قوله تعالى: { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } كالإيضاح لما أبهم في الآية السابقة، فيه إنذار لمثل النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، ولليهود الذين قالوا: العُزير ابن الله، وللمشركين الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله.
والعزير ليس بنبي ولكنه رجل صالح.
( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي بالولد أو بالقول، { مَا لَهُمْ بِهِ } أي بهذا القول، أو { مَا لَهُمْ بِهِ } أي بالولد (مِنْ عِلْمٍ ) فإذا انتفى العلم ما بقي إلاَّ الجهل.
(وَلا لآبَائِهِمْ) الذين قالوا مثل قولهم، ليس لهم في ذلك علم، ليسَ هناك ألاّ أوهام ظنوها حقائق وهي ليست علوماً.
(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) قد يُشكل على طالب العلم نَصْبُ(كَلِمَة)
والجواب(كَلِمَة)تمييز والفاعل محذوف والتقدير "كبرت مقالتهم كلمةً" تخرج من أفواههم: أي عَظُمت لأنها عظيمة والعياذ بالله، كما قال تعالىتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً(90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً(91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ ولداً(92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93) . يعني: مستحيل غاية الاستحالة أن يكون له ولد.
فإن قال قائل: "أليس الله يقول: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف:81)
الجواب: نعم. ولكن التعليق بالشرط لا يدل على إمكان المشروط، لأننا نفهم من آيات أخرى أنه لا يمكن أن يكون وهذا كقوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يقرؤون الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)(يونس: الآية94)وهو صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يَشك، ولكن على فرض الأمر الذي لا يقع، كقوله تعالىلَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء:22) . فإنه لا يمكن أن يكون فيهما آلهة سوى الله عز وجل ، فتبين بهذا أن التعليق بالشرط لا يدل على إمكان المشروط، بل قد يكون مستحيلاً غاية الاستحالة.
قولهتَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) هل لنا أن نستفيد من قوله: (ُمِنْ أَفْوَاهِهِمْ) أن هؤلاء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وأنهم لا يستيقنون أن لله ولداً؛ لأن أي عاقل لا يمكن أن يقول إن لله ولداً، فكيف يمكن أن يكون لله ولدٌ، وهذا الولد من البشر نراه مثلنا يأكل ويشرب ويلبس، ويلحقه الجوع والعطش والحر والبرد، كيف يكون ولدٌ لله تعالى؟ هذا غير ممكن؛ ولذلك قال إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) "إن" بمعنى "ما" ومن علامات "إن" النافية أن يقع بعدها "إلاَّ" {إن أنت إلا نذير } [فاطر: 23] ، { إن هذا إلا سحر مبين} [المائدة: 110] .
(إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) أي ما يقول هؤلاء إلاَّ كذباً. والكذب: هو الخبر المخالف للواقع، والصدق: هو الخبر المطابق للواقع، فإذا قال قائل: "قدِم فلانٌ اليوم" وهو لم يَقدُم، فهذا كذب سَواءٌ علم أم لم يعلم، ودليل ذلك قصة سُبَيْعةَ الأسلمِيَّةِ رضي الله عنها حينما مات عنها زوجها وهي حامل فوضعت بعد موته بليالٍ ثم خلعت ثياب الحداد، ولبست الثياب الجميلة تريد أن تُخطَب، فدخل عليها أبو السنابل فقال لها: "ما أنت بناكح حتى يأتي عليك أربعةُ أشهر وعشر"، لأنها وضعت بعد موت زوجها بنحو أربعين ليلة أو أقل أو أكثر، فلبست ثياب الإحداد ثم أتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالخبر فقال لها: "كذب أبو السنابل"[2] ، مع أن الرجل ما تعمد الكذب، يظن أنها تعتدُ بأطول الأجلين، فإن بقيت حاملاً بعد أربعةِ أشهر وعشر بقيت في الإحداد حتى تضع، وإن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر بقيت في الإحداد حتى تتم لها أربعةُ أشهر وعشر، تعتد أطول الأجلين، ولكن السنَّة بينت أن الحامل عِدَّتُها وضع الحمل ولو دون أربعةِ أشهر، فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق على قول أبي السنابل "كَذب" مع أنه لم يتعمد.

* * *

(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف:6)
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ } الخِطاب للرسول صلى الله عليه وسلم { بَاخِعٌ نَفْسَكَ } مهلكٌ نفسَك، لأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا لم يجيبوه حَزِنَ حَزناً شديداً، وضاق صدره حتى يكادَ يَهلك، فسلَّاه الله وبيّن له أنه ليس عليه من عدم استجابتهم من شيء، وإنما عليه البلاغ وقد بلَّغ.
( عَلَى آثَارِهِمْ) أي باتباع آثارهم، لعلَّهم يرجعون بعد عدم إجابتهم وإعراضهم.
( إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيث)ِ أي إن لم يؤمنوا بهذا القرآن.
(أَسَفاً)مفعول من أجله، العامل فيه: { بَاخِعٌ } المعنى أنه لعلك باخع نفسك من الأسف إذا لم يؤمنوا بهذا مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عليه من عدم استجابتهم من شيء، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ،. قال تعالى: { فإنما عليك البلاغ } [الرعد: 40] ، وهكذا ورثته من بعده: العلماء، وظيفتهم البلاغ وأما الهداية فبيد الله، ومن المعلوم أن الإنسان المؤمن يحزن إذا لم يستجب الناس للحق، لكنَّ الحازنَ إذا لم يقبل الناس الحق على نوعين:
1 – نوع يحزن لأنه لم يُقبل.
2 – ونوع يحزن لأن الحق لم يُقبل.
والثاني هو الممدوح لأن الأول إذا دعا فإنما يدعو لنفسه، والثاني إذا دعا فإنما يدعو إلى الله عز وجل ، ولهذا قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك } [النحل: 125 .
لكن إذا قال الإنسان أنا أحزن؛ لأنه لم يُقبل قولي؛ لأنه الحق ولذلك لو تبين لي الحق على خلاف قولي أخذت به فهل يكون محموداً أو يكونُ غير محمود؟
الجواب: يكون محموداً لكنه ليس كالآخرِ الذي ليس له همٌّ إلاَّ قَبول الحق سَواء جاء من قِبَله أو جاء من قبل غيره.

* * *




رد: تفسير سورة الكهف

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7)
إذا تأملت القرآن تجد أنه غالباً يقدم الشرع على الخلق، قال الله تعالى: {الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان(3) ( الرحمن) ، وتأمل الآيات في هذا المعنى تجد أن الله يبدأ بالشرائع قبل ذكر الخلق وما يتعلق به؛ لأن المخلوقات إنما سُخِّرت للقيام بطاعة الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالىوَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56) ، وقال )هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(البقرة: الآية29)إذاً المهم القيام بطاعة الله ، وتأمل هذه النكتة حتى يتبين لك أن أصل الدنيا وإيجاد الدنيا، إنما هو للقيام بشريعة الله عز وجل.
قوله تعالى: { إنا جعلنا} أي صَيَّرنا، وجعل تأتي بمعنى: خلق وبمعنى صيَّر، فإن تعدَّت لمفعولٍ واحدٍ فإنها بمعنى "خلق"، مثل قوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)(الأنعام: الآية1)وإن تعدَّت لمفعولين فهي بمعنى صَيَّر، مثل قوله تعالى: )إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3) : أي صيَّرناه بلغة العرب،وإنما نبَّهتُ على ذلك؛ لأن الجهمية يقولون: إنَّ الجعلَ بمعنى الخلق في جميع المواضع، ويقولون: معنى قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّا } : أي خلقناه، ولكن هذا غلط على اللغة العربية.
( جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ) هنا جعل بمعنى صَيَّر فالمفعول الأول "ما" والمفعول الثاني "زينة" أي أنَّ ما على الأرض جعله الله زينة للأرض وذلك لاختبار الناس. هل يتعلقون بهذه الزينة أم يتعلقون بالخالق؟ الناس ينقسمون إلى قسمين، منهم من يتعلق بالزينة ومنهم من يتعلق بالخالق، واسمع إلى قوله تعالى مبيناً هذا الأمر.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الأعراف:175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف:176)
إذاً جعل الله الزينة لاختبار العباد، سَواءٌ أكانت هذه الزينة فيما خلقه الله عز وجل وأوجده، أم مما صنعه الآدمي، فالقصور الفخمة المزخرفة زينة ولا شك، ولكنها من صنع الآدمي، والأرض بجبالها وأنهارها ونباتها وإذا أنزل الله الماء عليها اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، هذه زينة من عند الله تعالى.
قوله تعالى: { لِنَبْلُوَهُمْ } أي نختبرهم.
وقوله تعالى: { أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } الضمير يعود للخلق، وتأمل قوله تعالى: {ْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولم يقل: "أكثر عملاً"؛ لأن العبرة بالأحسن لا بالأكثر ، وعلى هذا لو صلى الإنسان أربع ركعات لكنْ على يقين ضعيف أو على إخلال باتباع الشرع، وصلى آخر ركعتين بيقين قوي ومتابعةٍ قوية فأيهما أحسن؟ الثاني؛ بلا شك أحسن وأفضل، لأن العبرة بإحسان العمل وإتقانه إخلاصاً ومتابعة.
في بعض العبادات الأفضل التخفيف كركعتي الفجر مثلاً، لو قال إنسان: أنا أحب أن أطيل فيها في قراءة القرآن وفي الركوع والسجود والقيام، وآخر قال: أنا أريد أن أخفف، فالثاني أفضل؛ ولهذا ينبغي لنا إذا رأينا عامِّيَّاً يطيل في ركعتي الفجر أن نسأله: "هل هاتان الركعتان ركعتا الفجر أو تحية المسجد؟". فإن كانت تحية المسجد فشأنه، وإن كانت ركعتي الفجر قلنا: لا، الأفضل أن تخفف، وفي الصيام رخَّص صلى الله عليه وسلم لأمته أن يواصلوا إلى السَّحَر، وندبهم إلى أن يفطروا من حين غروب الشمس، فصام رجلان أحدهما امتد صومه إلى السحور والثاني أفطر من حين غابت الشمس، فأيهما أفضل؟ الثاني أفضل بلا شك، والأول وإن كان لا ينهى عنه فإنه جائز ولكنه غير مشروع، فانتبه لهذا { أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولذلك تجد النبي صلى الله عليه وسلم يفعل من العبادات ما كان أحسن: يحث على اتباع الجنائز وتمر به الجنائز ولا يتبعها، يحث على أن نصوم يوماً ونُفطِر يوماً ومع ذلك هو لا يفعل هذا، بل كان أحياناً يطيل الصوم حتى يقال: لا يفطر، وبالعكس يفطر حتى يقال: لا يصوم، كل هذا يتبع ما كان أرضى لله عز وجل وأصلح لقلبه.

***

(وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) (الكهف:8)
قوله تعالى: { صَعِيداً } هذه الأرض بزينتها، بقصورها وأشجارها ونباتها، سوف يجعلها الله تعالى { صَعِيداً جُرُزاً } أي خالياً، كما قال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً) (طـه:105)
، أي نسفاً عظيماً ولهذا جاء مُنَكَّراً: أي نسفاً عظيماً، قال تعالىفَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً) (طـه:106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (طـه:107) وبلحظة: كن فيكون! إذاً هذه الأرض يا أخي لا يَتعلَّق قلبك بها فهي زائلة، هي ستصير كأن لم تكن كما قال : ) كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(يونس: الآية24).
وتأمل الجملة الآن: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ } فيها مُؤكِّدان، "إنَّ" و"اللام"، ثم إنها جاءت بالجملة الإسمية الدالة على القدرة المستمرة، إذا قامت القيامة أين القصور؟ لا قصور، لا جبال، لا أشجار، الأرض كأنها حجر واحد أملس، ما فيها نبات ولا بناء ولا أشجار ولا غير ذلك، سيحولها الله تعالى { جُرُزاً } خالية من زينتها التي كانت عليها.

* * *

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) (الكهف:9)
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ} "أم" هنا منقطعة، فهي بمعنى "بل"، و{حَسِبْتَ } بمعنى ظننتَ، هنا أتى بـ"أم" المنقطعة التي تتضمن الاستفهام من أجل شد النَّفس إلى الاستماع إلى القصة لأنها حقيقة عَجب، هذه القصة عجب.
( الْكَهْفِ) الغار في الجبل.
(وَالرَّقِيم) بمعنى المرقوم: أي المكتوب لأنه كتب في حجر على هذا الكهف قصتُهم من أولها إلى آخرها.
( كَانُوا ) أي أصحاب الكهف والرقيم.
( مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) من آيات الله الكونية.
(عَجَبا) أي محل تعجُّب واستغراب لأن هؤلاء سبعةٌ معهم كلب كرهوا ما عليه أهل بلدهم من الشرك فخرجوا متَّجهين إلى الله يريدون أن ينجوا بأنفسهم مما كان عليه أهل بلدهم، فلجأوا إلى هذا الغار، وكان من حسن حظهم أن هذا الغار له باب لا يتَّجه للمشرق ولا للمغرب، سبحان الله! توفيق؛ لأنه لو اتجه إلى المشرق لأكلتهم الشمس عند الشروق، ولو اتجه إلى المغرب لأكلتهم عند الغروب. كما قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ)(الكهف: الآية17) وسيأتينا إن شاء الله تعالى.

* * *




رد: تفسير سورة الكهف

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10)
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ)من هنا بدأت القصة، وعلى هذا يكون (إِذْ أَوَى) متعلق بمحذوف تقديره: "اذكر إذ أوى الفتية" وكان كفار قريش قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصتهم وهو عليه الصلاة والسلام لم يقرأ الكتب، قال تعالى عنه: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48). فوعدهم فأنجز الله له الوعد.
و{الْفِتْيَة } جمع فتى، وهو الشاب الكامل القوة والعزيمة.
( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي لجأوا إليه من قومهم فارين منهم خوفاً أن يصيبهم ما أصاب قومهم من الشرك والكفر بالبعث، فقالوا: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَة)ً لجأوا إلى الله.
( آتِنَا ) أعطنا.
( من لَدُنْكَ ) أي من عندك.
(رحمة)أي رحمة ترحمنا بها، وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر – رضي الله عنه – حين قال أبو بكر لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي قَالَ: قُلِ "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"[3] .
(وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (وَهَيِّئْ ) اجعل لنا، وتهيئة الشيء أن يُعد ليكون صالحاً للعمل به.
(مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) الرشد: ضد الغَيّ، أي اجعل شأننا موافقاً للصواب.

* * *

(فضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف:11)
قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ } أي أنمناهم نومة عميقة. والنوم نوعان:
1 -خفيف: وهذا لا يمنع السماع ولهذا إذا نمت فأول ما يأتيك النوم تسمع مَن حولك.
2 -عميق: إذا نمت النوم العميق لا تسمع مَن حولك.
ولهذا قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ } أي بحيث لا يسمعون.
) فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي معدودة، وسيأتي بيانها في قوله تعالى: )وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (الكهف:25)

* * *

(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً) (الكهف:12)
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } وذلك بإيقاظهم من النوم. وسمى الله الاستيقاظ من النوم بعثاً لأن النوم وفاةٌ، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) وقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الزمر42) فالنوم وفاة.
وقوله: { بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ }، قد يقع فيه إشكال؟ هو: هل الله عز وجل لا يعلم قبل ذلك؟
الجواب: لا، واعلم أن هذه العبارة يراد بها شيئان:
1 – علم رؤية وظهور ومشاهدة، أي لنرى، ومعلوم أن علم ما سيكون ليس كعلم ما كان؛ لأن علم الله عز وجل بالشيء قبل وقوعه علمٌ بأنه سيقع، ولكن بعد وقوعه علمٌ بأنه وقع.
2- أن العلم الذي يترتب عليه الجزاء هو المراد، أي لنعلم علماً يترتب عليه الجزاء وذلك كقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)(محمد: الآية31) . قبل أن يبتلينا قد علم من هو المطيع ومن هو العاصي، ولكن هذا لا يترتب عليه لا الجزاء ولا الثواب، فصار المعنى لنعلم علم ظهور ومشاهدة وليس علم الظهور والمشاهدة كعلم ما سيكون، والثاني علماً يترتب عليه الجزاء.
أما تحقق وقوع المعلوم بالنسبة لله فلا فرق بين ما علم أنه يقع وما علم أنه وقع، كلٌّ سواء، وأما بالنسبة لنا صحيح أنَّا نعلم ما سيقع في خبر الصادق لكن ليس علمنا بذلك كعلمنا به إذا شاهدناه بأعيننا، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: "ليس الخبر كالمعاينة"[4] .
( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ) قوله: { الْحِزْبَيْنِ } يعني الطائفتين.
وقوله: { أَحْصَى } يعني أبلغ إحصاءً، وليست فعلاً ماضياً بل اسم تفضيل فصار المعنى: أي الحزبين أضبط لما لبثوا أمداً، أي: المدة التي لبثوها؛ لأنهم تنازعوا أمرهم فقالوا: (لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ )(الكهف: الآية19)وقال آخرون(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُم)(الكهف: الآية19). ثم الناس من بعدهم اختلفوا كم لبثوا.

***

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف:13)
نِعمَ القائل صدقاً وعلماً وبياناً وإيضاحاً؛ لأن كلام الله تبارك وتعالى متضمن للعلم والصدق والفصاحة والإرادة، أربعة أشياء. كلامه عز وجل عن علم وكلامه أيضاً عن صدق، وكلامه في غاية الفصاحة وإرادته في هذا الكلام خير إرادة، يريد بما يتكلم به أن يهدي عباده.
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ) قصُّ الله عز وجل أكمل القصص وأحسن القصص؛ لأنه صادر عن:
1 -علم.
2 -عن صدق.
3 -صادر بأفصح عبارة وأبينها وأوضحها ولا كلامَ أوضح من كلام الله ، إلاَّ من أضل الله قلبه وقال: هذا أساطير الأولين.
4 -وبأحسن إرادة لم يرد الله تعالى بما يقص علينا أن نضل ولا بما حكم علينا أن نجور، بل أراد أن نهتدي ونقوم بالعدل.
وقوله: {نَحْنُ} إذا قال قائل أليس الله واحداً؟
فالجواب: نعم واحد لا شك، لكن لا شك أنه جلَّ وعلا أعظم العظماء، والأسلوب العربي إذا أسند الواحدُ إلى نفسه صيغة الجمع فهو يعني أنه عظيم، ومعلوم أنه لا أحد أعظم من الله تعالى؛ ولهذا تجد الملوك أو الرؤساء إذا أرادوا أن يُصدروا المراسم يقولون: "نحن فلان بن فلان نأمر بكذا وكذا". إذاً كل ضمائر الجمع المنسوبة إلى الله تعالى المراد بها التعظيم.
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ)أي نقرأه عليك ونحدثك به {نَبَأَهُم} أي خبرهم { بِالْحَقِّ } أي بالصدق المطابق للواقع.
( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) فتية شباب ولكن عندهم قوة العزيمة وقوة البدن وقوة الإيمان.
( وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) زادهم الله عز وجل هدى لأن الله تعالى يزيد الذين يهتدون هدى، وكلما ازددت عملاً بعلمك زادك الله هدى أي زادك الله علماً.

* * *

(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف:14)
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي ثبتناها وقويناها وجعلنا لها رِباطاً، لأن جميع قومهم على ضدهم، ومخالفة القوم تحتاج إلى تثبيت لا سيما أنهم شباب والشاب ربما يؤثر فيه أبوه ويقول له "اكفر"، ولكن الله ربط على قلوبهم فثبتهم، اللهم ثبتنا يا رب.
( إِذْ قَامُوا) يعني في قومهم معلنين بالتوحيد متبرئين مما كان عليه هؤلاء الأقوام. { فقالوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ } وليس رب فلان وفلان بل هو رب السموات والأرض فهو سبحانه وتعالى مالك وخالق ومدبِّر السموات والأرض. لأن الرَّب الذي هو اسم من أسماء الله معناه الخالق المالك المدبر ولم يبالوا بأحد فهم كسحرة فرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طـه:72)
والدنيا كلها قاضية منتهية طالت بك أم قصرت، ولا بد لكل إنسان من أحد أمرين: إما الهَرَم وإما الموت، ونهاية الهرم الموت أيضاً؛ ولهذا يقول الشاعر:

{ لا طِيب للعيش ما دامت مُنغَّصةً لذَّاتُه بادِّكار الموت والهرم }

الإنسان كلما تذكر أنه سيموت طالت حياته أم قصرت فإنه لا يطيب العيش له، ولكن من نعمة الله أن الناس ينسَون هذا الأمر، ولكنَّ هؤلاء الناسين منهم من ينسى هذا الأمر باشتغاله بطاعة الله، ومنهم من ينساه بانشغاله بالدنيا.
( السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) السمواتِ السبعِ والأرضُ كذلك سبعٌ كما جاءت بذلك النصوص، ولا حاجة لذكرها؛ لأنها معلومة والحمد لله.
( لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِه إِلَها)لن ندعو دعاء مسألة ولا دعاء عبادة إلهاً سواه، فأقروا بالربوبيَّة وأقرُّوا بالألوهية، الربوبية قالوا: { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } والألوهية قالوا: { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً } أي سواه.
(لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) الجملة هذه مؤكدة بثلاثة مؤكدات وهي: "اللام" و"قد" و"القسم الذي دلَّت عليه اللام".
وقوله: { إِذاً } أي لو دعونا إلهاً سواه {لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي: قولاً مائلاً وموغلاً بالكفر، وصدقوا، لو أنهم دعوا غير الله إلهاً لقالوا هذا القول المائل الموغل بالكفر والعياذ بالله.

* * *

(هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) (الكهف:15)
قوله تعالى: { هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً } يشيرون إلى وجهة نظرهم في انعزالهم عن قومهم، قالوا: { هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا } أي صيَّروا آلهة من دون الله، عبدوها من دون الله.
( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يعني هلاَّ { يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ } أي على هذه الآلهة، أي: على كونها آلهة وكونهم يعبدونها. فالمطلوب منهم شيئان:
1 – أن يثبتوا أن هذه آلهة.
2 – أن يثبتوا أن عبادتَهم لها حق، وكلا الأمرين مستحيل.
( بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ) السلطان كلُّ ما للإنسان به سُلطة، قد يكون المراد به الدليل مثل قوله تعالىإِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا)(يونس: الآية68)، وقد يكون المراد به القوة والغلبة مثل قوله تعالى عن الشيطان: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل:100) وقد يكون الحجة والبرهان كما في قوله تعالى: { بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي بحجة ظاهرة يكون لهم بها سُلطة؛ ولهذا قالوا:
( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) الفاء للتفريع، مَن: استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، واعلم أن الاستفهام إذا ضُمِّن معنى النفي صار فيه زيادة فائدة، وهي أنه يكون مُشْرَباً معنى التحدي لأن النفي المجرد لا يدل على التحدي، لو قلت: "ما قام زيد"، ما فيه تحدي، لكن لو قلت: "من أظلم ممن افترى على الله كذباً" فهذا تحدي، كأنك تقول: أخبرني أو أوجد لي أحداً أظلم ممن افترى على الله كذباً.
فقوله: { فَمَنْ أَظْلَمُ } أي من أشد ظلماً ممن افترى على الله كذباً في نسبة الشريك إليه وغير ذلك، كل من افترى على الله كذباً فلا أحد أظلم منه، أنت لو كذبت على شخص لكان هذا ظلماً، وعلى شخص أعلى منه لكان هذا ظلماً أعلى من الأول، فإذا افتريت كذباً على اللهِ صار لا ظلم فوق هذا، ولهذا قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً }، فإن قال قائل: "نجد أن الله تعالى يقول: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ويقول: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(البقرة: الآية114). وأظلم تدل على اسم التفضيل، فكيف الجمع؟". نقول: إن الجمع هو أنها اسم تفضيل في نفس المعنى الذي وردت به، فمثلاً)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: أي لا أحد أظلم منعاً ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وفي الكذب، أي الكذب أظلم؟ الكذب على الله، فتكون الأظلمية هنا بالنسبة للمعنى الذي سيقت فيه، ليست أظلمية مطلقة لأنها لو كانت أظلمية مُطلَقاً لكان فيه نوع من التناقض، لكن لو قال قائل: "ألا يمكن أن تقول إنها اشتركت في الأظلمية؟ يعني هذا أظلم شيء وهذه أظلم شيء"؟.
فالجواب: لا يمكن، لأنه لا يمكن أن تقرن بين من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وبين من افترى على الله كذباً، فإن الثاني أعظم، فلا يمكن أن يشتركا في الأظلمية، وحينئذٍ يتعين المعنى الأول، أن تكون الأظلمية بالنسبة للمعنى الذي سيقت فيه.
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16)
قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } هذا من قول الفتية، يعني: قال بعضهم لبعض: ما دمتم اعتزلتم قومكم وما يعبدون إلاَّ الله.
وقوله: { إِلاَّ اللَّهَ } يحتمل أن تكون استثناء من قوله: {يَعْبُدُون} وعلى هذا يكون هؤلاء القوم يعبدون الله ويعبدون غيره، والفتية اعتزلوهم وما يعبدون إلاَّ الله، ويحتمل أن تكون "إلاَّ" منقطعة فيكون المعنى أن هؤلاء القوم لا يعبدون الله. ويكون المعنى: "وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون مطلقاً" { إِلاَّ اللَّهَ} أي لكنِ الله لم تعتزلوه ولكنكم آمنتم به، ويحتمل أن تكون استثناء متصلاً على سبيل الاحتياط، يعني: أن هؤلاء الفتية قالوا: {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} يخشون أن يكون أحد من أقوامهم يعبد الله. و "ال" في الكهف تحتمل أن تكون للعهد، وكأنه كهف ألفوا أن يأووا، إليه أو أن المراد بها الكمال، أي إلى الكهف الكامل الذي يمنعكم من قومكم، أما الأول فيحتاج إلى دليل أن هؤلاء الفتية كانوا يذهبون إلى كهف معين يأوون فيه، وأما الثاني فوجهه أنه إنما يطلبون كهفاً يمنعهم ويحميهم فتكون "ال" لبيان الكمال، أي إلى كهف يمنعكم ويحميكم من عدوكم.
( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ) يعني أنكم إذا فعلتم ذلك فإن الله سييسر لكم الأمر؛ لأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وهنا سؤال في قوله: { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } الفاء، يتبادر للذهن أنها في جواب الشرط، والمعروف أن "إذ" ليست للشرط وإنما الذي للشرط هو "إذا" أو "إذ" إذا اقترنت بـ"ما"، فإذا لم تقترن بـ"ما" فليست للشرط؟
والجواب عن ذلك أن يقال: إما أنها ضُمِّنت معنى الشرط فجاءت الفاء في جوابها { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } أو أن "الفاء" للتفريع وليست واقعة في جواب الشرط، والمعنى: فحينئذ {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } فأووا إلى الكهف.
(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)أي يهيّئ لكم من شأنكم {مِرْفَقا} أي مكاناً ترتفقون به.

* * *




رد: تفسير سورة الكهف

* * *

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) (الكهف:17)
قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ } في قوله: { تَزَاوَرُ } قراءتان {تَزَّاور} بتشديد الزاي وأصلها تَتَزاور، و{تزَاور} بتخفيف الزاي، والمراد بذلك أنها تميل: { عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ } تصور كيف يكون الكهف الآن إذا كانت تزاور عنه ذات اليمين؟ يكون وجه الكهف إلى الشمال. ولهذا قال بعضهم: إن وجه الكهف إلى "بنات نعش" النجوم المعروفة في السماء، يعرفها أهل البر.
(وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) تكون على شمال الغار.
وقوله: { تَقْرِضُهُم } قيل: المعنى تتركهم وقيل: تصيب منهم، وهو الأقرب أنها تصيب منهم، وفائدة هذه الإصابة أن تمنع أجسامَهم من التغيُّر لأن الشمس كما يقول الناس: إنها صحة وفائدة للأجسام.
(وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) الضمير يعود على هؤلاء الفتية، هذه الفجوة يعني الشيء الداخل، يعني ليسوا على باب الكهف مباشرة، بل في مكان داخل، لأن ذلك أحفظ لهم.
وفي قوله تعالى: { إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ } { وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُم} دليل على أن الشمس هي التي تتحرك وهي التي بتحركها يكون الطلوع والغروب خلافاً لما يقوله الناس اليوم من أن الذي يدور هو الأرض، وأما الشمس فهي ثابتة، فنحن لدينا شيء من كلام الله، الواجب علينا أن نجريه على ظاهره وألا نتزحزح عن هذا الظاهر إلاَّ بدليل بَيِّن، فإذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أن اختلاف الليل والنهار بسبب دوران الأرض فحينئذ يجب أن نؤول الآيات إلى المعنى المطابق للواقع، فنقول: إذا طلعت في رأي العين وإذا غربت في رأي العين، تزاور في رأي العين، تقرض في رأي العين، أما قبل أن يتبين لنا بالدليل القاطع أن الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور وبدورانها يختلف الليل والنهار فإننا لا نقبل هذا أبداً، علينا أن نقول: إنَّ الشمس هي التي بدورانها يكون الليل والنهار، لأن الله أضاف الأفعال إليها والنبي صلى الله عليه وسلم حينما غربت الشمس قال لأبي ذر: "أتدري أين تذهب؟"[5] فأسند الذَّهاب إليها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله تعالى أعلم بخلقه ولا نقبل حدْساً ولا ظناً، ولكن لو تيقنا يقيناً أن الشمس ثابتة في مكانها وأن الأرض تدور حولها، ويكون الليل والنهار، فحينئذ تأويل الآيات واجب حتى لا يخالف القرآن الشيء المقطوع به.
قال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } الضمير يعود على حال هؤلاء الفتية:
1 -خروجهم من قومهم.
2 -إيواؤهم لهذا الغار.
3 -تيسير الله لهم غاراً مناسباً.
لا شك أن هذا من آيات الله الدالة على حكمته ورحمته ، هل نعتبر أن هذا كرامة؟
الجواب: نعم نعتبره كرامة ولا شك.
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) (مَنْ يَهْدِ) من" شرطية والدليل على أنها شرطية حذف الياء مِن يهدي، والجواب: "فهو المهتدِ" و"المهتد" أصلها "المهتدي" بالياء لكن حذفت الياء تخفيفاً كما حذفت في قوله تعالى: {الكبير المتعال } (الرعد: 9)
( وَمَنْ يُضْلِلْ) أي يُقدِّر أن يكون ضالاً.
( فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) أي من يتولاه ويرشده إلى الصواب، وفي هذا الخبر من الله تنبيه إلى أننا لا نسألُ الهداية إلاَّ من الله، وأننا لا نجزع إذا رأينا من هو ضال لأن الإضلال بيد الله، فنحن نؤمن بالقدر ولا نَسخطُ الإضلال الواقع من الله لكن يجب علينا أن نُرشد هؤلاء الضالين، فهنا شرع وقدَر، القدر يجب عليك أن ترضى به على كل حال، والمقدور فيه تفصيل. والمشروع يجب أن ترضى به على كل حال، فنحن نرضى أن الله جعل الناس على قسمين مهتد وضال، ولكن يجب علينا مع ذلك أن نسعى في هداية الخلق.

* * *

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (الكهف:18)
قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ } أيها الرائي: إذا رأيتهم { أَيْقَاظاً } لأنه ليس عليهم علامة النوم، فالنائم يكون مسترخياً، وهؤلاء كأنهم أيقاظ، ولذلك يُفرِّق الإنسان بين رجل نائم ورجل مضطجع لمَّا يراه، حتى لو أن المضطجع أراد أن يتناوم ويخدع صاحبه لعرف أنه ليس بنائم.
( وَهُمْ رُقُودٌ ) جمع راقد.
( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) يعني مرة يكونوا على اليمين ومرة على الشمال، ولم يذكر الله الظهر ولا البطن، لأن النوم على اليمين وعلى الشمال هو الأكمل.
(وَنُقَلِّبُهُم ) فيه دليل على أن فعل النائم لا ينسب إليه، ووجه الدلالة أن الله أضاف تقلبهم إليه، فلو أنّ النائم قال في نومه: "امرأتي طالق" أو "في ذمتي لفلان ألف ريال" لم يثبت لأنه لا قصد له ولا إرادة له؛ لا في القول؛ ولا في الفعل، والحكمة من تقليبهم ذات اليمين وذات الشمال: بعض العلماء قال لئلاَّ تأكل الأرض الجانب الذي يكون ملاصقاً لها، ولكن الصحيح أن الحكمة ليست هذه، الحكمة من أجل توازن الدم في الجسد لأن الدم يسير في الجسد، فإذا كان في جانب واحد أوشك أن ينحَرِم منه الجانب الأعلى، ولكن الله بحكمته جعلهم يتقلبون.
قوله تعالى: { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } يعني كأنه، والله أعلم، لم ينم.
( بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ )أي جالس على بطنه وقد مدَّ ذراعيه.
( بِالْوَصِيدِ ) وهو فتحة الكهف أو فِناء الكهف يعني: إما أن يكون على الفتحة، وإما أن يكون إلى جنب الكهف في فِنائه ليحرسهم، وفي هذا دليل على جواز اتخاذ الكلب للحراسة، حراسة الآدميين، أما حراسة الماشية فقد جاءت به السنّة، وحراسة الحرث جاءت به السنة كذلك.[6] حراسة الآدمي من باب أولى لأنه إذا جاز اتخاذ الكلب لحراسة الماشية والحرث أو للصيد الذي هو كمال فاتخاذه لحراسة البيت من باب أولى.
قال الله تعالى: { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } أي لو اطَّلعت أيها الرائي عليهم لولَّيت منهم فراراً، رهبة ينْزِلها الله في قلب من يراهم، حتى لا يحاول أحد أن يدنو منهم، ولهذا قال: { لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً } مع أنهم لم يلحقوه، لكنه خائف منهم.
وملئت: لم يُملأ قلبُه فقط، بل كلُّه، وهذا يدل على شدة الخوف الذي يحصل لمن رآهم

***

(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف:19)
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم } أي كما فعلنا بهم من هذه العناية من تيسير الكهف لهم، وإنامتهم هذه المدة الطويلة، بعثهم الله، أي مثل هذا الفعل بعثناهم، فعلنا بهم فعلاً آخر، { لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم } كما جرت به العادة أن الناس إذا ناموا يتساءلون إذا قاموا، من الناس من يقول: ماذا رأيت في منامك ومن الناس من يقول: لعلَّ نومك لذيذ أو ما أشبه ذلك {بعثناهم لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُم } ليس المعنى أنهم بعثوا للتساؤل ولكن بعثوا فتساءلوا. فاللام جاءت للعاقبة لا للتعليل، كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)(القصص: الآية8)، اللام ليست للتعليل أبداً، ولا يمكن أن تكون للتعليل لأن آل فرعون لم يلتقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً، ولكنهم التقطوه فكان لهم عدواً وحزناً.
( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ) كما جرت العادة، أي كم مدة لبثتم؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } { لَبِثْنَا يَوْماً } أي كاملاً.
( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) أي بعض اليوم، ذلك لأنهم دخلوا في أول النهار وبُعثوا من النوم في آخر النهار، فقالوا: { لَبِثْنَا يَوْماً } إن كان هذا هو اليوم الثاني أو { بَعْضَ يَوْمٍ } إن كان هذا هو اليوم الأول، وهذا مما يدل على عمق نومهم.
( قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) أي قال بعضهم لبعض، وكأن هؤلاء القائلين قد شعروا بأن النومة طويلة ولكن لا يستطيعون أن يُحدِّدوا، أمَّا الأولون فحددوا بناءً على الظاهر، وأما الآخرون فلم يحددوا بناء على الواقع، لأن الإنسان يفرق بين النوم اليسير والنوم الكثير، ثم قال بعضهم لبعض:
( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) الوَرِق: هو الفضة كما جاء في الحديث: "وفي الرِّقةِ رُبْع العُشْرِ"[7] كان معهم دراهم من الفضة.
( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) تضمن هذا:
أولاً: جواز التوكيل في الشراء، والتوكيل في الشراء جائز، وفي البيع جائز أيضاً، فإن الرسول وكَّل أحد أصحابه أن يشتري له أضحية وأعطاه ديناراً، وقال: اشتر أضحية، فاشترى شاتين بالدينار ثم باع إحداهما بدينار فرجع بشاة ودينار، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك الله له في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه [8].
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أنه يجوز تصرف الفضولي، أي يجوز للإنسان أن يتصرف بمال غيره إذا علم أن غيره يرضى بذلك، فهؤلاء وكلوا أحدهم أن يذهب إلى المدينة ويأتي برزق.

ثانياً: في هذا أيضاً دليل أنه لا بأس على الإنسان أن يطلب أطيب الطعام لقولهم( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً)
ثالثاً: فيه دليل أيضاً على ضعف قول الفقهاء: إنه لا يصح الوصف بالأفعل، أي لا يجوز أن أصف المبيع بأنه أطيب كل شيء، فلا تقول: "أبيع عليك برَّاً أفضل ما يكون" لأنه ما من طَيِّب إلاَّ وفوقه أطيب منه، ولكن يقال: هذا يرجع إلى العرف، فأطيب: يعني في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، وهل من السنّة ما يشهد لطلب الأزكى من الطعام؟ نعم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة الذين باعوا التمر الرديء بتمر جيد ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم منه،[9] ولم ينههم عن هذا، وما قال: هذا تَرَفُّه، اتركوا طلب الأطيب، فالإنسان قد فتح الله له في أن يختار الأطيب من الطعام أو الشراب أو المساكن أو الثياب أو المراكب، ما دام الله قد أعطاه القدرة على ذلك فلا يُلام.
( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) يعني يشتري ويأتي به، فجمعوا بالتوكيل بين الشراء والإحضار.
( وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) أي يتعامل بخفية لئلاَّ يُشْعَر بهم فيؤذَون، وهذا يعني أنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلاَّ قليلاً. ثم علَّلوا هذا؛ أي الأمر بالتطلف والنهي عن الإشعار بقولهم:
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:20)

أي أنهم لا بد أنهم يقتلونكم أو يردونكم على أعقابكم بعد إيمانكم { وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً } أي إذا عدتم في ملَّتهم أبداً، وفي هذا دليل على أخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة إلاَّ الوسائل المحرمة؛ فإنها محرمة لا يجوز أن يقع الإنسان فيها.




رد: تفسير سورة الكهف

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (الكهف:21)
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } يعني مثل بعثهم من نومهم، فإن الله أعثر عليهم يعني أطلع عليهم قومهم
( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) أطلع الله عليهم قومهم { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } إما أن المعنى بقيام الساعة الذي كان ينكره هؤلاء أو لأن الله تعالى يُنجي المؤمنين من الكفار، لأن هؤلاء السبعة نجوا من أمة عظيمة تقاتلهم وتنهاهم عن التوحيد.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ) الساعة: أي قيام الساعة. { لا ريب فيها } أي لا شك، واقعة لا محالة.
(إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) متعلقة بأعثرنا، أعثرنا عليهم حتى تنازعوا أمرهم بينهم، تنازعوا فيما بينهم ماذا نفعل بهم؟ أنتركهم أم ماذا نصنع بهم؟
(فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً) يعني ابنوا عليهم بنياناً حتى يكون أثراً من الآثار وحماية لهم.
(رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يعني توقفوا في أمرهم كيف يَبقَونَ ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغيرون أيضاً.
(قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) وهم أمراؤهم { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } بدل من أن نبني بنياناً نحوطهم به ونسترهم به ولا يكون لهم أثر أي لنجعلن عليهم مسجداً نتخذه مصلى، والظاهر أنهم فعلوا لأن القائل هم الأمراء الذين لهم الغلبة.
هذا الفعل، اتخاذ المساجد على القبور، من وسائل الشرك وقد جاءت شريعتنا بمحاربته حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في سياق الموت: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحذِّر ما صنعوا"[10] .
ثم قال مبيناً اختلاف الناس في عددهم:

***

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22)
سيقولون ثلاثة، أربعة، خمسة، كيف يمكن أن يكون قولان لغائب واحد؟ هذا يخرج على وجهين:
الوجه الأول: أن المعنى سيقول بعضهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول البعض الآخر: خمسة سادسهم كلبهم، ويقول البعض الثالث: سبعة وثامنهم كلبهم.
والوجه الثاني: أن المعنى أنهم سيترددون؛ مرة يقولون: ثلاثة، ومرة يقولون: خمسة، ومرة يقولون: سبعة. وكلاهما محتمل ولا يتنافيان، فتَجدُهم أحياناً يقولون كذا، وأحياناً يقولون كذا؛ حسب ما يكون في أذهانهم.
قال الله تعالى: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } قاله في الذين قالوا: { ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } و{ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ}، كلا القولين قال الله تعالى إنهم قالوه: {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أي راجمين بالغيب، وليس عندهم يقين.
( سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) ولم يقل: رجماً بالغيب، بل سكت ، وهذا يدل على أن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم، لأن الله عندما أبطل القولين الأولين، وسكت عن الثالث صار الثالث صواباً، نظيره قول الله تبارك وتعالى في المشركين إذا فعلوا فاحشة: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} هذا واحد، { والله أمرنا بها} هذا اثنان، قال الله تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون } [الأعراف: 28] ، فأبطل قولهم: { والله أمرنا بها } وسكت عن الأول؛ فدل على أن الأول: { وجدنا عليها آباءنا } صحيح، وهنا لما قال: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } في القولين الأولين، وسكت عن الثالث دل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ ) يعني إذا حصل نزاع فقل للناس: { رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ } وهل أعلمنا الله بعدتهم؟
الجواب: نعم؛ أعلمنا بأنهم سبعة وثامنهم كلبهم، يعني فإذا كان الله أعلم بعدتهم فالواجب أن نرجع إلى ما أعلمنا الله به، ونقول جازمين بأن عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم.
( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ) أي ما يعلمهم قبل إعلام الله أنهم سبعة وثامنهم كلبهم إلاَّ قليل.
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) أي في شأنهم، في زمانهم، في مكانهم، في مآلهم.
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً ) أي لا يصل إلى القلب لأنه إذا وصل الجدال إلى القلب اشتد المجادل، وغضب وانتفخت أوداجه وتأثر، لكن لما لم يكن للجدال فيهم كبير فائدة قال الله تعالى: { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً } يعني إلاَّ مراءً على اللسان لا يصل إلى القلب، ويؤخذ من هذا أن ما لا فائدة للجدال فيه لا ينبغي للإنسان أن يتعب قلبه في الجدال به، وهذا يقع كثيراً؛ أحياناً يحتمي بعض الناس إذا جودل في شيء لا فائدة فيه، فنقول: "يا أخي لا تتعب، اجعل جدالك ظاهراً على اللسان فقط لا يصل إلى القلب فتحتمي وتغضب"، وهذا يدل على أن ما لا خير فيه فلا ينبغي التعمق فيه، وهذا كثير، وأكثر ما يوجد في علم الكلام، فإن علماء الكلام الذين خاضوا في التوحيد وفي العقيدة يأتون بأشياء لا فائدة منها، مثل قولهم: "تسلسل الحوادث في الأزل وفي المستقبل" وما شابه ذلك من الكلام الفارغ الذي لا داعيَ له، وهم يكتبون الصفحات في تحرير هذه المسألة نفياً أو إثباتاً مع أنه لا طائل تحتها، فالشيء الذي ليس فيه فائدة لا تتعب نفسك فيه، وإذا رأيت من صاحبك المجادلة فقل له: "تأمل الموضوع" وسدَّ الباب.
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) أي ولا تستفت في أهل الكهف { مِنْهُمْ } أي من الناس سواءٌ من أهل الكتاب أم من غيرهم أحداً عن حالهم وزمانهم ومكانهم، وفيه إشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يستفتي من ليس أهلاً للإفتاء، حتى وإن زعم أن عنده علماً فلا تَسْتَفْتِهِ إذا لم يكن أهلاً.

***

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً(23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) (الكهف:24)
قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ } الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم كالخطاب الذي قبله { لِشَيْءٍ } أي في شيء { إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } ذكروا[11] أن قريشاً أرسلت إلى اليهود في المدينة وقالوا: إن رجلاً بعث فينا يقول: إنه نبي، فقالوا: اسألوه عن ثلاثة أشياء:

1 – عن فتية خرجوا من مدينتهم ولجأوا إلى غار، ما شأنهم.
2 – وعن رجل مَلَكَ مشارق الأرض ومغاربها.
3 – وعن الروح، ثلاثة أشياء؛ فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف، فقال: "أخبركم غداً"، فتوقف الوحي نحو خمسة عشر يوماً، لم ينْزل عليه الوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يدري عن قصص السابقين كما قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48). ولكن الله اختبره، فأمسك الوحي خمسة عشر يوماً، كما ابتلى سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله"، فقال له الملك: "قل إن شاء الله". فلم يقل وطاف على تسعين امرأة يجامعهن، وما الذي حصل؟ أتت واحدة منهن بشق إنسان[12] ، حتى يُري الله عباده أن الأمر أمره وأن الإنسان مهما بلغ في المرتبة عند الله تعالى والوجاهة؛ فإنه لا مفر له من أمر الله.
مكث الوحي خمسة عشر يوماً، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيلحقه الغم والهم لئلَّا يتخذ هؤلاء القوم مِن تأخرِ إخباره بذلك وسيلةً إلى تكذيبه، والحقيقة أن هذا ليس وسيلة للتكذيب، يعني قد يقولون وعدَنا محمد بأن يخبرنا غداً ولم يفعل فأين الوحي الذي يدّعي أنه ينْزِل عليه؟ ولكن نقول: إنَّ تأخر الوحي وتأخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على صدقه، لأنه لو كان كاذباً لصنع قصة فيما بين ليلة وضحاها، وقال: هذه قصتهم، فتأخر الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم يدل على كمال صدقه عليه الصلاة والسلام.
(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً) إلاَّ قولاً مقروناً بمشيئة الله، فقرْنُ ذلك بمشيئة الله يستفيد منه الإنسان فائدتين عظيمتين:
إحداهما: أن الله ييسر الأمر له حيث فوضه إليه جلَّ وعلا.
والثانية: إن لم يفعل لم يحنث.
فيستفاد من قوله: { إِنِّي فَاعِلٌ } أنه لو قال: سأفعل هذا على سبيل الخبر لا على سبيل الجزم بوقوع الفعل، فإن ذلك لا يلزمه أن يأتي بالمشيئة، يعني لو قال لك صاحبك: "هل تمر عليَّ غداً؟" فقلت: "نعم" ولم تقل: إن شاء الله فلا بأس لأن هذا خبر عما في نفسكَ، وما كان في نفسك فقد شاءه الله فلا داعي لتعليقه بالمشيئة، أما إن أردت أنه سيقع ولا بد فقل: إن شاء الله، وجه ذلك أن الأول خبر عمَّا في قلبك، والذي في قلبك حاضر الآن، وأما أنك ستفعل في المستقبل فهذا خبر عن شيء لم يكن ولا تدري هل يكون أو لا يكون، انتبهوا لهذا الفرق؛ إذا قال الإنسان: سأسافر غداً، فإن كان يخبر عمَّا في قلبه فلا يحتاج أن يقول: إن شاء الله، لماذا؟ لأنه خبر عن شيء واقع، أما إذا كان يريد بقوله: سأسافر، أنني سأنشئ السفر وأسافر فعلاً، فهنا لا بد أن يقول: إن شاء الله، ولهذا كانت الآية الكريمة: { إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } ولم تكن إني سأفعل، بل قال: { إِنِّي فَاعِلٌ }، فلا تقل لشيء مستقبل إني فاعله إلاَّ أن يكون مقروناً بمشيئة الله.
( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) يعني اذكر أمر ربِّك بأن تقول: "إن شاء الله" إذا نسيت أن تقولها، لأن الإنسان قد ينسى وإذا نسي فقد قال الله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)(البقرة: الآية286)وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"[13] .
فالمشيئة إذا نسيها الإنسان فإنه يقولها إذا ذكرها، ولكن هل تنفعه، بمعنى أنه لو حنِث في يمينه فهل تسقط عنه الكفارة إذا كان قالها متأخراً؟ من العلماء من قال: إنها تنفعه حتى لو لم يذكر الله إلاَّ بعد يوم أو يومين أو سنة أو سنتين، لأن الله أطلق: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }، ومن العلماء من قال: لا تنفعه إلاَّ إذا ذكر في زمن قريب بحيث ينبني الاستثناء على المستثنى منه، وهذا الذي عليه جمهور العلماء، فمثلاً إذا قلت: والله لأفعلن هذا ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم ذكرت بعد عشرة أيام فقلت: إن شاء الله، ثم لم تفعل بناء على أن من قال: إن شاء الله لم يحنَث، فمن العلماء من قال: ينفعه لأن الله تعالى قال: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }، ومنهم من قال: لا ينفعه لأن الكلام لم ينبنِ بعضه على بعض، إذاً ما الفائدة من أمر الله أن نذكره إذا نسينا؟ قال: الفائدة هو ارتفاع الإثم، لأن الله قال: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فإذا نسيت، فقلها إذا ذكرت، لكن هل تنفعك فلا تحنث أم يرتفع عنك الإثم دون حكم اليمين؟ الظاهر: الثاني؛ أن يرتفع الإثم، وأما الحنْث فإنه يحنَث لو خالف لأن الاستثناء بالنسبة للحِنْث لا ينبغي إلاَّ أن يكون متصلاً، ثم الاتصال هل يقال: إن الاتصال معناه أن يكون الكلام متواصلاً بعضه مع بعض أو أن الاتصال ما دام بالمجلس؟
الجواب: فيه خلاف، بعضهم يقول: ما دام في المجلس فهو متصل، وإذا قام عن المجلس فقد انقطع، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"[14] فجعل التفرق فاصلاً، ومنهم من قال: العبرة باتصال الكلام بعضه مع بعض، والظاهر والله أعلم أنه إذا كان في مجلسه، ولم يذكر كلاماً يقطع ما بين الكلاميْن، فإنه ينفعه الاستثناء؛ فلا يحنث.
(وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) عسى" بمعنى الرجاء إذا وقعت من المخلوق، فإن كانت من الخالق فهي للوقوع، فقول الله تبارك وتعالىإِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:99) ، نقول: عسى هنا واقعة، وقال الله إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) . أما من الإنسان فهي للرجاء، كقوله:
{ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي } هذه للرجاء.
( أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) أي يدلني إلى الطريق، ولهذا قال: { لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } أي هداية وتوفيقاً، وقد فعل الله، فهداه في شأن أصحاب الكهف للرشد.

***

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (الكهف:25)
قوله تعالى: {لَبِثُوا } يعني أصحاب الكهف { فِي كَهْفِهِمْ } الذي اختاروه لأنفسهم وناموا فيه.
( ثَلاثَ مِائَةٍ ) تكتب اصطلاحاً ثلاثمائة مربوطة: ثلاث مربوطة بمائة، وتكتب مائة بالألف، لكن هذه الألف لا يُنطَق بها، وبعضهم يكتب ثلاث وحدها ومئة وحدها، وهذه قاعدة صحيحة.
وقوله: { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ } {مِائَة } بالتنوين و{ سِنِينَ } تمييز مبين لثلاث مائة لأنه لولا كلمة سنين لكنا لا ندري هل ثلاث مائة يوم أو ثلاث مائة أسبوع أو ثلاث مائة سنة؟، فلما قال: { سِنِينَ } بيَّن ذلك.
( وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ازدادوا على الثلاث مائة تسع سنين فكان مكثُهم ثلاث مائة وتسع سنين، قد يقول قائل: "لماذا لم يقل ثلاثمائة وتسع سنين؟".
فالجواب: هذا بمعنى هذا، لكن القرآن العظيم أبلغ كتاب، فمن أجل تناسب رؤوس الآيات قال: { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً }، وليس كما قال بعضهم بأن السنين الثلاثمائة بالشمسية وازدادوا تسعاً بالقمرية، فإنه لا يمكن أن نشهد على الله بأنه أراد هذا، من الذي يشهد على الله أنه أراد هذا المعنى؟ حتى لو وافق أن ثلاث مائة سنين شمسية هي ثلاث مائة وتسع سنين بالقمرية فلا يمكن أن نشهد على الله بهذا، لأن الحساب عند الله تعالى واحد، وما هي العلامات التي يكون بها الحساب عند الله؟
الجواب: هي الأهلَّة، ولهذا نقول: إن القول بأن "ثلاث مائة سنين" شمسية، "وازدادوا تسعاً" قمرية قول ضعيف.
أولاً: لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا.
ثانياً: أن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } [يونس: 5] وقال تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) [البقرة: 189].

***

(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (الكهف:26)
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } قوله(قُل) أي قل يا محمد: { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا }، وهذه الجملة تمسك بها من يقول: إنَّ قوله: { ولبثوا فى كهفهم} [الكهف: 25] هي من قول الذين يتحدثون عن مكث أهل الكهف بالكهف وهم اليهود الذين يَدَّعون أن التوراة تدل على هذا، وعلى هذا القول يكون قوله: { ولبثوا} مفعولاً لقول محذوف والتقدير: "وقالوا: لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً"، ثم قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } ولكن هذا القول وإن قال به بعض المفسرين فالصواب خلافه وأن قوله: {ولبثوا } من قول الله، ويكون قوله: { الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } من باب التوكيد أي: توكيد الجملة أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً، والمعنى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } وقد أعلَمَنا أنهم لبثوا { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } وما دام الله أعلم بما لبثوا فلا قول لأحد بعده.
قال الله عز وجل : { له غيب السماوات والأرض } أي له ما غاب في السموات والأرض، أو له علم غيب السموات والأرض، وكلا المعنيين حق، والسموات جمع سماء وهي سبع كما هو معروف، والأرض هي أيضاً سبع أرَضين[15] ، فلا يعلم الغيب – علم غيب السموات والأرض – إلاَّ الله، فلهذا من ادعى علم الغيب فهو كافر، والمراد بالغيب المستقبل، أما الموجود أو الماضي فمن ادعى علمهما فليس بكافر؛ لأن هذا الشيء قد حصل وعلمه من علمه من الناس، لكن غيب المستقبل لا يكون إلاَّ لله وحده، ولهذا من أتى كاهناً يخبره عن المستقبل وصدَّقه فهو كافر بالله عز وجل ؛ لأنه مكذب لقوله تعالى: )قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ)(النمل: الآية65)، أما ما كان واقعاً؛ فإنه من المعلوم أنه غيب بالنسبة لقوم وشهادة بالنسبة لآخرين.
( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) هذا يسميه النحويون فعل تعَجُّب.
( أَبْصِرْ بِهِ ) بمعنى ما أبصره.
( وَأَسْمِعْ ) بمعنى ما أسمعه، وهو أعلى ما يكون من الوصف، والله تبارك وتعالى يبصر كل شيء، يبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، ويبصر ما لا تدركه أعين الناس مما هو أخفى وأدق، وكذلك في السمع، يسمع كل شيء، يعلم السر وأخفى من السر ويعلم الجهر (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طـه:7) . تقول عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة التي ظاهر منها زوجها، وجاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت عائشة في الحجرة، والحجرة صغيرة كما هو معروف، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاور المرأة وعائشة يخفى عليها بعض الحديث، والله يقول: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1) . تقول عائشة رضي الله عنها "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها"[16] ، والله عز وجل فوق كل شيء، ومع ذلك سمع قولها ومحاورتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه الإيمان بأن الله تعالى ذو بصر نافذ لا يغيب عنه شيء وذو سمع ثاقب لا يخفى عليه شيء ، والإيمان بذلك يقتضي للإنسان ألا يُري ربَّه ما يكرهه ولا يُسمعه ما يكرهه؛ لأنك إن عملت أي عمل رآه وإن قلت أي قول سمعه، وهذا يوجب أن تخشى الله عز وجل وألا تفعل فعلاً يكرهه ولا تقول قولاً يكرهه الله عز وجل ، لكن الإيمان ضعيف، فتجد الإنسان عندما يريد أن يقول أو أن يفعل؛ لا يخطر بباله أن الله يسمعه أو يراه إلاَّ إذا نُبِّه، والغفلة كثيرة، فيجب علينا جميعاً أن ننتبه لهذه القضية العظيمة.
( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) قوله: {مَا لَهُمْ } هل الضمير يعود على أصحاب الكهف أو على من هم في السموات والأرض؟
الجواب: الثاني هو المتعين، يعني ليس لأحد ولي من دون الله، حتى الكفار وليهم الله وحتى المؤمنون وليهم الله عز وجل قال الله تعالىحَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: الآية61) (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )(الأنعام: الآية62). والله ولي كُلِّ أحد، وهذه هي الولاية العامة ، أليس الله تعالى يرزق الكافرين وينمي أجسامهم وييسر لهم ما في السموات والأرض، وسخر الشمس والقمر والنجوم والأمطار؟! هذه ولاية، ويتولى المؤمنين أيضاً بذلك؛ لكن هذه ولاية عامة.
أما الولاية الخاصة، فهي للمؤمنين. قال تعالىاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)(البقرة: الآية257)، والولاية الخاصة تستلزم عناية خاصة، أن الله يسدد العبد فيفتح له أبواب العلم النافع والعمل الصالح، ولهذا قال: { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }. يخرجهم بالعلم، فيعلمهم أولاً ويخرجهم ثانياً بالتوفيق.
إعراب الجملة هذه: {ما } نافية، و {لهم } خبر مقدم، و {من ولى } مبتدأ مؤخر دخل على هذه الكلمة حرف الجر الزائد لأنك لو حذفت {من } وقلت: "ما لهم من دونه وليٌّ" لاستقام الكلام، لكن جاءت {من } من أجل التوكيد والتنصيص على العموم، يعني: لا يمكن أن يوجد لأهل السموات والأرض ولي سوى الله.
قوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } هذه كقوله تعالى: { إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] ، وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)(الشورى: الآية10)، والحكم كوني وشرعي، فالخلق والتدبير حكم كوني، والحكم بين الناس بالأوامر والنواهي حكم شرعي، وقوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا} يشمل النوعين. فلا أحد يشرك الله في حكمه لا الكوني ولا الشرعي، وفيه دليل على وجوب الرجوع إلى حكم الله الشرعي، وأنه ليس لنا أن نُشَرِّع في دين الله ما ليس منه، لا في العبادات ولا في المعاملات، وأما من قال: إن لنا أن نُشَرِّع في المعاملات ما يناسب الوقت، فهذا قول باطل: لأنه على قولهم لنا أن نجوز الربا ولنا أن نجوز الميسر وأن نجوز كل ما فيه الكسب ولو كان باطلا، فالشرع صالح في كل زمان ومكان ولن يُصلحَ آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها،[17] الحكم الكوني لا أحد يُشرك الله فيه ولا أحد يدعي هذا، هل يستطيع أحد أن يُنَزِّل الغيث؟! وهل يستطيع أحد أن يُمسك السموات والأرض أن تزولا؟! ولكن الحكم الشرعي هو محل اختلاف البشر ودعوى بعضهم أن لهم أن يشرعوا للناس ما يرون أنه مناسب.

***

(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الكهف:27)
قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } هذا كالنتيجة لقوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً } يعني إذا كان لا يشرك في حكمه أحداً فاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ)
فقوله: { وَاتْلُ } يشمل التلاوة اللفظية والتلاوة العملية، أمّا التلاوة اللفظية فظاهر، تقول: "فلان تلا علي سورة الفاتحة"، والتلاوة الحكمية العملية أن تعمل بالقرآن، فإذا عملت به فقد تلوتَه أي تَبعتَه، ولهذا نقول في قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)(فاطر: الآية29)يشمل التلاوة اللفظية والحكمية، والخطاب في قوله: { وَاتْلُ } للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن اعلم أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دلَّ الدليل على أنه خاص به، فهو خاص به.
الثاني: ما دلَّ الدليل أنه للعموم، فهو للعموم.
الثالث: ما يحتمل الأمرين، فقيل: إنه عام، وقيل: إنه خاص، وتتبعه الأمة لا بمقتضى هذا الخطاب، ولكن بمقتضى أنه أسوتها وقدوتها.
فمثال الأول الذي دلَّ الدليل على أنه خاص به، قوله تبارك وتعالىأَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1)
فهذا لا شك أنه خاص به، وكذلك قوله تعالىأَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) (الضحى:6) ، فهو خاص به صلى الله عليه وسلم.
ومثال الثاني الذي دلَّ الدليل على أنه عام، قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)(الطلاق: الآية1)، فقوله: { طَلَّقْتُمُ } للجماعة؛ وهم الأمة، لكن الله سبحانه وتعالى نادى زعيمها ورسولها لأنهم تابعون له فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ }، إذاً الخطاب يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة، ومثال ما يحتمل الأمرين هذه الآية: { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}، لكن قد يقول قائل: إن هذه الآية فيها قرينة قد تدل على أنه خاص به كما سنذكره إن شاء الله، ولكن الأمثلة على هذا كثيرة، والصواب أن الخطاب للأمة ولكن وُجِّه لزعيمها وأسوتها؛ لأن الخطابات إنما توجه للرؤساء والمتبوعين.
وقوله: ( مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ) هو القرآن، وفي إضافة الرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دليل على أن ما أوحاه الله إلى رسوله من تمام عنايته به.
وقوله: { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } يعني لا أحد يستطيع أن يبدل كلماته، لا الكونية ولا الشرعية، أما الكونية فواضح، لا أحد يستطيع أن يُبَدِّلها، فإذا قال الله تعالى: { كن} في أمر كوني فلا يستطيع أحد أن يبدله، أما الشرعية فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدلها. والنفي هنا ليس نفياً للوجود، ولكن النفي هنا للإمكان الشرعي، فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدل كلمات الله الشرعية، فالواجب على الجميع أن يستسلموا لله، فلو قال قائل: وجدنا من يبدل كلام الله! فإن الله أشار إلى هذا في قوله في الأعراب، قال تعالى: ) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه)(الفتح: الآية15). قلنا: هذا تبديل شرعي، والتبديل الشرعي قد يقع من البشر فيحرفون الكلام عن مواضعه، ويفسرون كلام الله بما لا يريده الله، ومن ذلك جميع المعطِّلة لصفات الله ، أو لبعضها ممن بدلوا كلام الله.
( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ) يعني لن تجد أيها النبي من دون الله ملتحداً، أي أحداً تميل إليه أو تلجأ إليه لأن الالتحاد من اللحد وهو الميل، يعني لو أرادك أحد بسوء ما وجدت أحداً يمنعك دون الله ، إذاً عندما يصيب الإنسان شيء يتضرر به أو يخاف منه، يلتجئ إلى من؟ إلى الله، ونظير هذه الآية قوله تعالىقُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً(21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجـن:22)
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28)
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة، اجلس إليهم وقوِّ عزائمهم.
وقوله: { بِالْغَدَاةِ } أي أول النهار.
وقوله: { وَالْعَشِيِّ } آخر النهار.
قوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } مخلصين لله عز وجل يريدون وجهه ولا يريدون شيئاً من الدنيا، يعني أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحدٍ سواه.
وفي الآية إثبات الوجه لله تعالى ، وقد أجمع علماء أهل السنة على ثبوت الوجه لله تعالى بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تعالى: )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن:27) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك"[18] ، وأجمع سلف الأمة وأئمتُها على ثبوت الوجه لله عز وجل .
ولكن هل يكون هذا الوجه مماثلاً لأوجه المخلوقين؟
الجواب: لا يمكن أن يكون وجه الله مماثلاً لأوجه المخلوقين لقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11). وقوله تعالى: )رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم:65) ، أي شبيهاً ونظيراً، وقال الله تبارك وتعالى: ) فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: الآية22).وهكذا كل ما وصف الله به نَفْسَهُ فالواجب علينا أن نجريه على ظاهره، ولكن بدون تمثيل، فإن قال قائل: إذا أثبتّ لله وجهاً لزم من ذلك التمثيل، ونحمل قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] ، يعني إلاَّ في ما أثبته كالوجه واليدين؟
فالجواب: أن هذا مكابرة؛ لأننا نعلم حساً وعقلاً أن كل مضاف إلى شيء فإنه يناسب ذلك الشيء، أليس للإنسان وجه، وللجَمَلِ وجه، وللحصان وجه وللفيل وجه؟ بلى، وهل هذه الأوجه متماثلة؟ لا؛ أبداً! بل تناسب ما أضيفت إليه، بل إن الوقت والزمن له وجه، كما في قوله تعالى: ( آمَنُوا بالذي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)(آل عمران: الآية72) ، فأثبت أن للزمن وجهاً، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن وجه النهار مثل وجه الإنسان؟.
الجواب: لا يمكن، إذاً ما أضافه الله لنفسه من الوجه لا يمكن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين؛ لأن كل صفة تناسب الموصوف . فإن قال قائل: إنه قد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته"[19] ، فما الجواب؟
فالجواب: من أحد وجهين:
الوجه الأول: إما أن يقال: لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلاً له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أوَّل زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر[20] ، ونحن نعلم أنه ليس هناك مماثلة بين هؤلاء والقمر، لكن على صورة القمر من حيث العموم إضاءةً وابتهاجاً ونوراً. الوجه الثاني: أن يقال: "على صورته" أي على الصورة التي اختارها الله عز وجل ، فإضافة صورة الآدمي إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم كما في قوله تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه)(البقرة: الآية114)، ومن المعلوم أن الله ليس يصلي في المساجد، لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم وعلى أنها إنما بنيت لطاعة الله، وكقول صالح عليه السلام لقومه: { ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13] ، ومن المعلوم أن هذه الناقة ليست لله كما تكون للآدمي يركبها؛ لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم، فيكون "خلق آدم على صورته" أو "على صورة الرحمن"[21] ، يعني على الصورة التي اختارها من بين سائر المخلوقات، قال الله تعالى في سورة الانفطار: )يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:7
أي الذي جعلك جعلا كهذا وهذا يشمل اعتدال القامة واعتدال الخلقة، ففهمنا الآن والحمد لله أن الله تعالى له وجه حقيقي وأنه لا يشبه أوجه المخلوقين . وقوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } إشارة للإخلاص، فعليك أخي المسلم بالإخلاص حتى تنتفع بالعمل.
وقوله: { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني لا تتجاوز عيناك عن هؤلاء السادة الكرام تريد زينة الحياة الدنيا، بل اجعل نظرك إليهم دائماً وصحبتك لهم دائماً، وفي قوله: { تريد زينة الحياة الدنيا} إشارة إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو فارقهم لمصلحة دينية لم يدخل هذا في النهي.
قال تعالى: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } يعني عن ذكره إيَّانا أو عن الذكر الذي أنزلناه، فعلى الأول يكون المراد الإنسان الذي يذكر الله بلسانه دون قلبه، وعلى الثاني يكون المراد الرجل الذي أغفل الله قلبه عن القرآن، فلم يرفع به رأساً ولم ير في مخالفته بأساً.
قوله تعالى: { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي ما تهواه نفسه.
( وَكَانَ أَمْرُهُ) أي شأنه { فُرُطاً } أي منفرطاً عليه، ضائعاً، تمضي الأيام والليالي ولا ينتفع بشيء، وفي هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنْزَع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فُرطا عليه ، تجده يبقى الساعات الطويلة ولم يحصل شيئاً، ولكن لو كان أمره مع الله لحصلت له البركة في جميع أعماله.

***

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29)
قوله تعالى: {وَقُلِ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. أي قلها معلنا {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } لا من غيره، فلا تطلبوا الحق من طريق غير طريق الله ، لأن الحق من عند الله.
( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)والأمر في قوله: { فَلْيَكْفُرْ)} للتهديد وليس للإباحة بل هو للتهديد كما يهدد الإنسان غيره فيقول: "إن كنت صادقاً فافعل كذا"، ويدل عليه قوله تعالى بعده: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }، يعني من كفر فله النار قد أعدت، وقوله: { لِلظَّالِمِينَ } المراد به الكافرون، والدليل على هذا قوله: { فَلْيَكْفُرْ }، فإن قال قائل: "هل الكفر يسمى ظلماً؟".
فالجواب: نعم، كما قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون } [البقرة: 254] ، ولا أحد أظلم ممن كفر بالله أو جعل معه شريكاً، وهو الذي خلقه وأمده وأعده.
قوله: { أَحَاطَ بِهِمْ } أي بأهل النار { سُرَادِقُهَا } أي ما حولها، يعني أن النار قد أحاطت بهم فلا يمكن أن يفروا عنها يميناً ولا شمالاً.
وقوله: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } يعني أن أهل النار إذا عَطشوا عَطشاً شديداً وذلك بأكل الزَّقوم أو بغير ذلك أغيثوا بهذا الماء { بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } يكون كعَكَر الزيت يعني تَفَلَهُ الخاثر في أسفله أو ما أشبه ذلك مما هو منظر كريه، ولا تقبله النفوس كما قال تعالىوَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ)(إبراهيم: الآية17)، أي كالصديد يتجرعه ولا يكاد يُسيغه.
( يَشْوِي الْوُجُوهَ ) إذا قَرُبَ منها شَواها وتساقطت والعياذ بالله من شدة فيح هذا الماء، وإذا وصل إلى أمعائهم قطعها كما قال جلَّ وعلا: ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)(محمد: الآية15)، وما أعظم الوجع والألم فيمن تقطع أمعاؤه من الداخل، لكن مع ذلك تقطع وتعاد كالجلود ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب)(النساء: الآية56)، الله أكبر، سبحان القادر على كل شيء، وبلحظة يكون هذا الشيء متتابعاً، كلما نَضَجت بُدِّلوا، وكلما تقطَّعت الأمعاء فإنها توصل بسرعة.
قوله: { بِئْسَ الشَّرَابُ } هذا قدح وذم لهذا الشراب، و"بئس" فعل ماضٍ لإنشاء الذم.
قوله: { وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } أي وقبح مرتفقها والارتفاق بها. والمرتفق ما يرتفق به الإنسان، قد يكون حسناً وقد يكون سيئاً، ففي الجنة (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: الآية31))، وفي النار) وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: الآية29)،.

***

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30)
هذا من أسلوب القرآن، فإن الله إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة، وهذا من معنى قوله مَثَانِيَ)(الزمر: الآية23)أي تثنى فيه المعاني والأحوال والأوصاف ليكون الإنسان جامعاً بين الخوف والرجاء في سيره إلى ربه.
قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قد سبق الكلام في معنى هذه الآية، قال تعالى: { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ولم يقل "إنَّا لا نضيع أجرهم"، ولكن قال تعالى: { أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } وذلك لبيان العلة في ثواب هؤلاء وهو أنهم أحسنوا العمل، و { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] ، هذا من الوجه المعنوي، ومن الوجه اللفظي أن تكون رؤوس الآية متوافقة ومتطابقة، لأنه لو قال: "إنَّا لا نضيع أجرهم" لاختلفت رؤوس الآيات.
وبماذا يكون الإحسان في العمل؟ يكون بأمرين:
1 – الإخلاص لله 2 – المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى ما في الآية الكريمة من الحث على إحسان العمل.

***




رد: تفسير سورة الكهف

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (الكهف:21)
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } يعني مثل بعثهم من نومهم، فإن الله أعثر عليهم يعني أطلع عليهم قومهم
( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) أطلع الله عليهم قومهم { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } إما أن المعنى بقيام الساعة الذي كان ينكره هؤلاء أو لأن الله تعالى يُنجي المؤمنين من الكفار، لأن هؤلاء السبعة نجوا من أمة عظيمة تقاتلهم وتنهاهم عن التوحيد.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ) الساعة: أي قيام الساعة. { لا ريب فيها } أي لا شك، واقعة لا محالة.
(إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) متعلقة بأعثرنا، أعثرنا عليهم حتى تنازعوا أمرهم بينهم، تنازعوا فيما بينهم ماذا نفعل بهم؟ أنتركهم أم ماذا نصنع بهم؟
(فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً) يعني ابنوا عليهم بنياناً حتى يكون أثراً من الآثار وحماية لهم.
(رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يعني توقفوا في أمرهم كيف يَبقَونَ ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغيرون أيضاً.
(قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) وهم أمراؤهم { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } بدل من أن نبني بنياناً نحوطهم به ونسترهم به ولا يكون لهم أثر أي لنجعلن عليهم مسجداً نتخذه مصلى، والظاهر أنهم فعلوا لأن القائل هم الأمراء الذين لهم الغلبة.
هذا الفعل، اتخاذ المساجد على القبور، من وسائل الشرك وقد جاءت شريعتنا بمحاربته حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في سياق الموت: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحذِّر ما صنعوا"[10] .
ثم قال مبيناً اختلاف الناس في عددهم:

***

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22)
سيقولون ثلاثة، أربعة، خمسة، كيف يمكن أن يكون قولان لغائب واحد؟ هذا يخرج على وجهين:
الوجه الأول: أن المعنى سيقول بعضهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول البعض الآخر: خمسة سادسهم كلبهم، ويقول البعض الثالث: سبعة وثامنهم كلبهم.
والوجه الثاني: أن المعنى أنهم سيترددون؛ مرة يقولون: ثلاثة، ومرة يقولون: خمسة، ومرة يقولون: سبعة. وكلاهما محتمل ولا يتنافيان، فتَجدُهم أحياناً يقولون كذا، وأحياناً يقولون كذا؛ حسب ما يكون في أذهانهم.
قال الله تعالى: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } قاله في الذين قالوا: { ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } و{ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ}، كلا القولين قال الله تعالى إنهم قالوه: {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أي راجمين بالغيب، وليس عندهم يقين.
( سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) ولم يقل: رجماً بالغيب، بل سكت ، وهذا يدل على أن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم، لأن الله عندما أبطل القولين الأولين، وسكت عن الثالث صار الثالث صواباً، نظيره قول الله تبارك وتعالى في المشركين إذا فعلوا فاحشة: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} هذا واحد، { والله أمرنا بها} هذا اثنان، قال الله تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون } [الأعراف: 28] ، فأبطل قولهم: { والله أمرنا بها } وسكت عن الأول؛ فدل على أن الأول: { وجدنا عليها آباءنا } صحيح، وهنا لما قال: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } في القولين الأولين، وسكت عن الثالث دل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ ) يعني إذا حصل نزاع فقل للناس: { رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ } وهل أعلمنا الله بعدتهم؟
الجواب: نعم؛ أعلمنا بأنهم سبعة وثامنهم كلبهم، يعني فإذا كان الله أعلم بعدتهم فالواجب أن نرجع إلى ما أعلمنا الله به، ونقول جازمين بأن عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم.
( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ) أي ما يعلمهم قبل إعلام الله أنهم سبعة وثامنهم كلبهم إلاَّ قليل.
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) أي في شأنهم، في زمانهم، في مكانهم، في مآلهم.
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً ) أي لا يصل إلى القلب لأنه إذا وصل الجدال إلى القلب اشتد المجادل، وغضب وانتفخت أوداجه وتأثر، لكن لما لم يكن للجدال فيهم كبير فائدة قال الله تعالى: { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً } يعني إلاَّ مراءً على اللسان لا يصل إلى القلب، ويؤخذ من هذا أن ما لا فائدة للجدال فيه لا ينبغي للإنسان أن يتعب قلبه في الجدال به، وهذا يقع كثيراً؛ أحياناً يحتمي بعض الناس إذا جودل في شيء لا فائدة فيه، فنقول: "يا أخي لا تتعب، اجعل جدالك ظاهراً على اللسان فقط لا يصل إلى القلب فتحتمي وتغضب"، وهذا يدل على أن ما لا خير فيه فلا ينبغي التعمق فيه، وهذا كثير، وأكثر ما يوجد في علم الكلام، فإن علماء الكلام الذين خاضوا في التوحيد وفي العقيدة يأتون بأشياء لا فائدة منها، مثل قولهم: "تسلسل الحوادث في الأزل وفي المستقبل" وما شابه ذلك من الكلام الفارغ الذي لا داعيَ له، وهم يكتبون الصفحات في تحرير هذه المسألة نفياً أو إثباتاً مع أنه لا طائل تحتها، فالشيء الذي ليس فيه فائدة لا تتعب نفسك فيه، وإذا رأيت من صاحبك المجادلة فقل له: "تأمل الموضوع" وسدَّ الباب.
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) أي ولا تستفت في أهل الكهف { مِنْهُمْ } أي من الناس سواءٌ من أهل الكتاب أم من غيرهم أحداً عن حالهم وزمانهم ومكانهم، وفيه إشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يستفتي من ليس أهلاً للإفتاء، حتى وإن زعم أن عنده علماً فلا تَسْتَفْتِهِ إذا لم يكن أهلاً.

***

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً(23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) (الكهف:24)
قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ } الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم كالخطاب الذي قبله { لِشَيْءٍ } أي في شيء { إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } ذكروا[11] أن قريشاً أرسلت إلى اليهود في المدينة وقالوا: إن رجلاً بعث فينا يقول: إنه نبي، فقالوا: اسألوه عن ثلاثة أشياء:

1 – عن فتية خرجوا من مدينتهم ولجأوا إلى غار، ما شأنهم.
2 – وعن رجل مَلَكَ مشارق الأرض ومغاربها.
3 – وعن الروح، ثلاثة أشياء؛ فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف، فقال: "أخبركم غداً"، فتوقف الوحي نحو خمسة عشر يوماً، لم ينْزل عليه الوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يدري عن قصص السابقين كما قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48). ولكن الله اختبره، فأمسك الوحي خمسة عشر يوماً، كما ابتلى سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله"، فقال له الملك: "قل إن شاء الله". فلم يقل وطاف على تسعين امرأة يجامعهن، وما الذي حصل؟ أتت واحدة منهن بشق إنسان[12] ، حتى يُري الله عباده أن الأمر أمره وأن الإنسان مهما بلغ في المرتبة عند الله تعالى والوجاهة؛ فإنه لا مفر له من أمر الله.
مكث الوحي خمسة عشر يوماً، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيلحقه الغم والهم لئلَّا يتخذ هؤلاء القوم مِن تأخرِ إخباره بذلك وسيلةً إلى تكذيبه، والحقيقة أن هذا ليس وسيلة للتكذيب، يعني قد يقولون وعدَنا محمد بأن يخبرنا غداً ولم يفعل فأين الوحي الذي يدّعي أنه ينْزِل عليه؟ ولكن نقول: إنَّ تأخر الوحي وتأخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على صدقه، لأنه لو كان كاذباً لصنع قصة فيما بين ليلة وضحاها، وقال: هذه قصتهم، فتأخر الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم يدل على كمال صدقه عليه الصلاة والسلام.
(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً) إلاَّ قولاً مقروناً بمشيئة الله، فقرْنُ ذلك بمشيئة الله يستفيد منه الإنسان فائدتين عظيمتين:
إحداهما: أن الله ييسر الأمر له حيث فوضه إليه جلَّ وعلا.
والثانية: إن لم يفعل لم يحنث.
فيستفاد من قوله: { إِنِّي فَاعِلٌ } أنه لو قال: سأفعل هذا على سبيل الخبر لا على سبيل الجزم بوقوع الفعل، فإن ذلك لا يلزمه أن يأتي بالمشيئة، يعني لو قال لك صاحبك: "هل تمر عليَّ غداً؟" فقلت: "نعم" ولم تقل: إن شاء الله فلا بأس لأن هذا خبر عما في نفسكَ، وما كان في نفسك فقد شاءه الله فلا داعي لتعليقه بالمشيئة، أما إن أردت أنه سيقع ولا بد فقل: إن شاء الله، وجه ذلك أن الأول خبر عمَّا في قلبك، والذي في قلبك حاضر الآن، وأما أنك ستفعل في المستقبل فهذا خبر عن شيء لم يكن ولا تدري هل يكون أو لا يكون، انتبهوا لهذا الفرق؛ إذا قال الإنسان: سأسافر غداً، فإن كان يخبر عمَّا في قلبه فلا يحتاج أن يقول: إن شاء الله، لماذا؟ لأنه خبر عن شيء واقع، أما إذا كان يريد بقوله: سأسافر، أنني سأنشئ السفر وأسافر فعلاً، فهنا لا بد أن يقول: إن شاء الله، ولهذا كانت الآية الكريمة: { إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } ولم تكن إني سأفعل، بل قال: { إِنِّي فَاعِلٌ }، فلا تقل لشيء مستقبل إني فاعله إلاَّ أن يكون مقروناً بمشيئة الله.
( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) يعني اذكر أمر ربِّك بأن تقول: "إن شاء الله" إذا نسيت أن تقولها، لأن الإنسان قد ينسى وإذا نسي فقد قال الله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)(البقرة: الآية286)وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"[13] .
فالمشيئة إذا نسيها الإنسان فإنه يقولها إذا ذكرها، ولكن هل تنفعه، بمعنى أنه لو حنِث في يمينه فهل تسقط عنه الكفارة إذا كان قالها متأخراً؟ من العلماء من قال: إنها تنفعه حتى لو لم يذكر الله إلاَّ بعد يوم أو يومين أو سنة أو سنتين، لأن الله أطلق: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }، ومن العلماء من قال: لا تنفعه إلاَّ إذا ذكر في زمن قريب بحيث ينبني الاستثناء على المستثنى منه، وهذا الذي عليه جمهور العلماء، فمثلاً إذا قلت: والله لأفعلن هذا ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم ذكرت بعد عشرة أيام فقلت: إن شاء الله، ثم لم تفعل بناء على أن من قال: إن شاء الله لم يحنَث، فمن العلماء من قال: ينفعه لأن الله تعالى قال: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }، ومنهم من قال: لا ينفعه لأن الكلام لم ينبنِ بعضه على بعض، إذاً ما الفائدة من أمر الله أن نذكره إذا نسينا؟ قال: الفائدة هو ارتفاع الإثم، لأن الله قال: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فإذا نسيت، فقلها إذا ذكرت، لكن هل تنفعك فلا تحنث أم يرتفع عنك الإثم دون حكم اليمين؟ الظاهر: الثاني؛ أن يرتفع الإثم، وأما الحنْث فإنه يحنَث لو خالف لأن الاستثناء بالنسبة للحِنْث لا ينبغي إلاَّ أن يكون متصلاً، ثم الاتصال هل يقال: إن الاتصال معناه أن يكون الكلام متواصلاً بعضه مع بعض أو أن الاتصال ما دام بالمجلس؟
الجواب: فيه خلاف، بعضهم يقول: ما دام في المجلس فهو متصل، وإذا قام عن المجلس فقد انقطع، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"[14] فجعل التفرق فاصلاً، ومنهم من قال: العبرة باتصال الكلام بعضه مع بعض، والظاهر والله أعلم أنه إذا كان في مجلسه، ولم يذكر كلاماً يقطع ما بين الكلاميْن، فإنه ينفعه الاستثناء؛ فلا يحنث.
(وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) عسى" بمعنى الرجاء إذا وقعت من المخلوق، فإن كانت من الخالق فهي للوقوع، فقول الله تبارك وتعالىإِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:99) ، نقول: عسى هنا واقعة، وقال الله إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) . أما من الإنسان فهي للرجاء، كقوله:
{ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي } هذه للرجاء.
( أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) أي يدلني إلى الطريق، ولهذا قال: { لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } أي هداية وتوفيقاً، وقد فعل الله، فهداه في شأن أصحاب الكهف للرشد.

***

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (الكهف:25)
قوله تعالى: {لَبِثُوا } يعني أصحاب الكهف { فِي كَهْفِهِمْ } الذي اختاروه لأنفسهم وناموا فيه.
( ثَلاثَ مِائَةٍ ) تكتب اصطلاحاً ثلاثمائة مربوطة: ثلاث مربوطة بمائة، وتكتب مائة بالألف، لكن هذه الألف لا يُنطَق بها، وبعضهم يكتب ثلاث وحدها ومئة وحدها، وهذه قاعدة صحيحة.
وقوله: { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ } {مِائَة } بالتنوين و{ سِنِينَ } تمييز مبين لثلاث مائة لأنه لولا كلمة سنين لكنا لا ندري هل ثلاث مائة يوم أو ثلاث مائة أسبوع أو ثلاث مائة سنة؟، فلما قال: { سِنِينَ } بيَّن ذلك.
( وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ازدادوا على الثلاث مائة تسع سنين فكان مكثُهم ثلاث مائة وتسع سنين، قد يقول قائل: "لماذا لم يقل ثلاثمائة وتسع سنين؟".
فالجواب: هذا بمعنى هذا، لكن القرآن العظيم أبلغ كتاب، فمن أجل تناسب رؤوس الآيات قال: { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً }، وليس كما قال بعضهم بأن السنين الثلاثمائة بالشمسية وازدادوا تسعاً بالقمرية، فإنه لا يمكن أن نشهد على الله بأنه أراد هذا، من الذي يشهد على الله أنه أراد هذا المعنى؟ حتى لو وافق أن ثلاث مائة سنين شمسية هي ثلاث مائة وتسع سنين بالقمرية فلا يمكن أن نشهد على الله بهذا، لأن الحساب عند الله تعالى واحد، وما هي العلامات التي يكون بها الحساب عند الله؟
الجواب: هي الأهلَّة، ولهذا نقول: إن القول بأن "ثلاث مائة سنين" شمسية، "وازدادوا تسعاً" قمرية قول ضعيف.
أولاً: لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا.
ثانياً: أن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } [يونس: 5] وقال تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) [البقرة: 189].

***

(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (الكهف:26)
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } قوله(قُل) أي قل يا محمد: { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا }، وهذه الجملة تمسك بها من يقول: إنَّ قوله: { ولبثوا فى كهفهم} [الكهف: 25] هي من قول الذين يتحدثون عن مكث أهل الكهف بالكهف وهم اليهود الذين يَدَّعون أن التوراة تدل على هذا، وعلى هذا القول يكون قوله: { ولبثوا} مفعولاً لقول محذوف والتقدير: "وقالوا: لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً"، ثم قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } ولكن هذا القول وإن قال به بعض المفسرين فالصواب خلافه وأن قوله: {ولبثوا } من قول الله، ويكون قوله: { الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } من باب التوكيد أي: توكيد الجملة أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً، والمعنى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } وقد أعلَمَنا أنهم لبثوا { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } وما دام الله أعلم بما لبثوا فلا قول لأحد بعده.
قال الله عز وجل : { له غيب السماوات والأرض } أي له ما غاب في السموات والأرض، أو له علم غيب السموات والأرض، وكلا المعنيين حق، والسموات جمع سماء وهي سبع كما هو معروف، والأرض هي أيضاً سبع أرَضين[15] ، فلا يعلم الغيب – علم غيب السموات والأرض – إلاَّ الله، فلهذا من ادعى علم الغيب فهو كافر، والمراد بالغيب المستقبل، أما الموجود أو الماضي فمن ادعى علمهما فليس بكافر؛ لأن هذا الشيء قد حصل وعلمه من علمه من الناس، لكن غيب المستقبل لا يكون إلاَّ لله وحده، ولهذا من أتى كاهناً يخبره عن المستقبل وصدَّقه فهو كافر بالله عز وجل ؛ لأنه مكذب لقوله تعالى: )قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ)(النمل: الآية65)، أما ما كان واقعاً؛ فإنه من المعلوم أنه غيب بالنسبة لقوم وشهادة بالنسبة لآخرين.
( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) هذا يسميه النحويون فعل تعَجُّب.
( أَبْصِرْ بِهِ ) بمعنى ما أبصره.
( وَأَسْمِعْ ) بمعنى ما أسمعه، وهو أعلى ما يكون من الوصف، والله تبارك وتعالى يبصر كل شيء، يبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، ويبصر ما لا تدركه أعين الناس مما هو أخفى وأدق، وكذلك في السمع، يسمع كل شيء، يعلم السر وأخفى من السر ويعلم الجهر (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طـه:7) . تقول عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة التي ظاهر منها زوجها، وجاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت عائشة في الحجرة، والحجرة صغيرة كما هو معروف، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاور المرأة وعائشة يخفى عليها بعض الحديث، والله يقول: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1) . تقول عائشة رضي الله عنها "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها"[16] ، والله عز وجل فوق كل شيء، ومع ذلك سمع قولها ومحاورتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه الإيمان بأن الله تعالى ذو بصر نافذ لا يغيب عنه شيء وذو سمع ثاقب لا يخفى عليه شيء ، والإيمان بذلك يقتضي للإنسان ألا يُري ربَّه ما يكرهه ولا يُسمعه ما يكرهه؛ لأنك إن عملت أي عمل رآه وإن قلت أي قول سمعه، وهذا يوجب أن تخشى الله عز وجل وألا تفعل فعلاً يكرهه ولا تقول قولاً يكرهه الله عز وجل ، لكن الإيمان ضعيف، فتجد الإنسان عندما يريد أن يقول أو أن يفعل؛ لا يخطر بباله أن الله يسمعه أو يراه إلاَّ إذا نُبِّه، والغفلة كثيرة، فيجب علينا جميعاً أن ننتبه لهذه القضية العظيمة.
( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) قوله: {مَا لَهُمْ } هل الضمير يعود على أصحاب الكهف أو على من هم في السموات والأرض؟
الجواب: الثاني هو المتعين، يعني ليس لأحد ولي من دون الله، حتى الكفار وليهم الله وحتى المؤمنون وليهم الله عز وجل قال الله تعالىحَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: الآية61) (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )(الأنعام: الآية62). والله ولي كُلِّ أحد، وهذه هي الولاية العامة ، أليس الله تعالى يرزق الكافرين وينمي أجسامهم وييسر لهم ما في السموات والأرض، وسخر الشمس والقمر والنجوم والأمطار؟! هذه ولاية، ويتولى المؤمنين أيضاً بذلك؛ لكن هذه ولاية عامة.
أما الولاية الخاصة، فهي للمؤمنين. قال تعالىاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)(البقرة: الآية257)، والولاية الخاصة تستلزم عناية خاصة، أن الله يسدد العبد فيفتح له أبواب العلم النافع والعمل الصالح، ولهذا قال: { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }. يخرجهم بالعلم، فيعلمهم أولاً ويخرجهم ثانياً بالتوفيق.
إعراب الجملة هذه: {ما } نافية، و {لهم } خبر مقدم، و {من ولى } مبتدأ مؤخر دخل على هذه الكلمة حرف الجر الزائد لأنك لو حذفت {من } وقلت: "ما لهم من دونه وليٌّ" لاستقام الكلام، لكن جاءت {من } من أجل التوكيد والتنصيص على العموم، يعني: لا يمكن أن يوجد لأهل السموات والأرض ولي سوى الله.
قوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } هذه كقوله تعالى: { إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] ، وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)(الشورى: الآية10)، والحكم كوني وشرعي، فالخلق والتدبير حكم كوني، والحكم بين الناس بالأوامر والنواهي حكم شرعي، وقوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا} يشمل النوعين. فلا أحد يشرك الله في حكمه لا الكوني ولا الشرعي، وفيه دليل على وجوب الرجوع إلى حكم الله الشرعي، وأنه ليس لنا أن نُشَرِّع في دين الله ما ليس منه، لا في العبادات ولا في المعاملات، وأما من قال: إن لنا أن نُشَرِّع في المعاملات ما يناسب الوقت، فهذا قول باطل: لأنه على قولهم لنا أن نجوز الربا ولنا أن نجوز الميسر وأن نجوز كل ما فيه الكسب ولو كان باطلا، فالشرع صالح في كل زمان ومكان ولن يُصلحَ آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها،[17] الحكم الكوني لا أحد يُشرك الله فيه ولا أحد يدعي هذا، هل يستطيع أحد أن يُنَزِّل الغيث؟! وهل يستطيع أحد أن يُمسك السموات والأرض أن تزولا؟! ولكن الحكم الشرعي هو محل اختلاف البشر ودعوى بعضهم أن لهم أن يشرعوا للناس ما يرون أنه مناسب.

***

(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الكهف:27)
قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } هذا كالنتيجة لقوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً } يعني إذا كان لا يشرك في حكمه أحداً فاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ)
فقوله: { وَاتْلُ } يشمل التلاوة اللفظية والتلاوة العملية، أمّا التلاوة اللفظية فظاهر، تقول: "فلان تلا علي سورة الفاتحة"، والتلاوة الحكمية العملية أن تعمل بالقرآن، فإذا عملت به فقد تلوتَه أي تَبعتَه، ولهذا نقول في قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)(فاطر: الآية29)يشمل التلاوة اللفظية والحكمية، والخطاب في قوله: { وَاتْلُ } للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن اعلم أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دلَّ الدليل على أنه خاص به، فهو خاص به.
الثاني: ما دلَّ الدليل أنه للعموم، فهو للعموم.
الثالث: ما يحتمل الأمرين، فقيل: إنه عام، وقيل: إنه خاص، وتتبعه الأمة لا بمقتضى هذا الخطاب، ولكن بمقتضى أنه أسوتها وقدوتها.
فمثال الأول الذي دلَّ الدليل على أنه خاص به، قوله تبارك وتعالىأَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1)
فهذا لا شك أنه خاص به، وكذلك قوله تعالىأَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) (الضحى:6) ، فهو خاص به صلى الله عليه وسلم.
ومثال الثاني الذي دلَّ الدليل على أنه عام، قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)(الطلاق: الآية1)، فقوله: { طَلَّقْتُمُ } للجماعة؛ وهم الأمة، لكن الله سبحانه وتعالى نادى زعيمها ورسولها لأنهم تابعون له فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ }، إذاً الخطاب يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة، ومثال ما يحتمل الأمرين هذه الآية: { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}، لكن قد يقول قائل: إن هذه الآية فيها قرينة قد تدل على أنه خاص به كما سنذكره إن شاء الله، ولكن الأمثلة على هذا كثيرة، والصواب أن الخطاب للأمة ولكن وُجِّه لزعيمها وأسوتها؛ لأن الخطابات إنما توجه للرؤساء والمتبوعين.
وقوله: ( مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ) هو القرآن، وفي إضافة الرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دليل على أن ما أوحاه الله إلى رسوله من تمام عنايته به.
وقوله: { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } يعني لا أحد يستطيع أن يبدل كلماته، لا الكونية ولا الشرعية، أما الكونية فواضح، لا أحد يستطيع أن يُبَدِّلها، فإذا قال الله تعالى: { كن} في أمر كوني فلا يستطيع أحد أن يبدله، أما الشرعية فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدلها. والنفي هنا ليس نفياً للوجود، ولكن النفي هنا للإمكان الشرعي، فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدل كلمات الله الشرعية، فالواجب على الجميع أن يستسلموا لله، فلو قال قائل: وجدنا من يبدل كلام الله! فإن الله أشار إلى هذا في قوله في الأعراب، قال تعالى: ) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه)(الفتح: الآية15). قلنا: هذا تبديل شرعي، والتبديل الشرعي قد يقع من البشر فيحرفون الكلام عن مواضعه، ويفسرون كلام الله بما لا يريده الله، ومن ذلك جميع المعطِّلة لصفات الله ، أو لبعضها ممن بدلوا كلام الله.
( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ) يعني لن تجد أيها النبي من دون الله ملتحداً، أي أحداً تميل إليه أو تلجأ إليه لأن الالتحاد من اللحد وهو الميل، يعني لو أرادك أحد بسوء ما وجدت أحداً يمنعك دون الله ، إذاً عندما يصيب الإنسان شيء يتضرر به أو يخاف منه، يلتجئ إلى من؟ إلى الله، ونظير هذه الآية قوله تعالىقُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً(21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجـن:22)
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28)
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة، اجلس إليهم وقوِّ عزائمهم.
وقوله: { بِالْغَدَاةِ } أي أول النهار.
وقوله: { وَالْعَشِيِّ } آخر النهار.
قوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } مخلصين لله عز وجل يريدون وجهه ولا يريدون شيئاً من الدنيا، يعني أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحدٍ سواه.
وفي الآية إثبات الوجه لله تعالى ، وقد أجمع علماء أهل السنة على ثبوت الوجه لله تعالى بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تعالى: )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن:27) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك"[18] ، وأجمع سلف الأمة وأئمتُها على ثبوت الوجه لله عز وجل .
ولكن هل يكون هذا الوجه مماثلاً لأوجه المخلوقين؟
الجواب: لا يمكن أن يكون وجه الله مماثلاً لأوجه المخلوقين لقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11). وقوله تعالى: )رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم:65) ، أي شبيهاً ونظيراً، وقال الله تبارك وتعالى: ) فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: الآية22).وهكذا كل ما وصف الله به نَفْسَهُ فالواجب علينا أن نجريه على ظاهره، ولكن بدون تمثيل، فإن قال قائل: إذا أثبتّ لله وجهاً لزم من ذلك التمثيل، ونحمل قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] ، يعني إلاَّ في ما أثبته كالوجه واليدين؟
فالجواب: أن هذا مكابرة؛ لأننا نعلم حساً وعقلاً أن كل مضاف إلى شيء فإنه يناسب ذلك الشيء، أليس للإنسان وجه، وللجَمَلِ وجه، وللحصان وجه وللفيل وجه؟ بلى، وهل هذه الأوجه متماثلة؟ لا؛ أبداً! بل تناسب ما أضيفت إليه، بل إن الوقت والزمن له وجه، كما في قوله تعالى: ( آمَنُوا بالذي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)(آل عمران: الآية72) ، فأثبت أن للزمن وجهاً، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن وجه النهار مثل وجه الإنسان؟.
الجواب: لا يمكن، إذاً ما أضافه الله لنفسه من الوجه لا يمكن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين؛ لأن كل صفة تناسب الموصوف . فإن قال قائل: إنه قد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته"[19] ، فما الجواب؟
فالجواب: من أحد وجهين:
الوجه الأول: إما أن يقال: لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلاً له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أوَّل زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر[20] ، ونحن نعلم أنه ليس هناك مماثلة بين هؤلاء والقمر، لكن على صورة القمر من حيث العموم إضاءةً وابتهاجاً ونوراً. الوجه الثاني: أن يقال: "على صورته" أي على الصورة التي اختارها الله عز وجل ، فإضافة صورة الآدمي إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم كما في قوله تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه)(البقرة: الآية114)، ومن المعلوم أن الله ليس يصلي في المساجد، لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم وعلى أنها إنما بنيت لطاعة الله، وكقول صالح عليه السلام لقومه: { ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13] ، ومن المعلوم أن هذه الناقة ليست لله كما تكون للآدمي يركبها؛ لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم، فيكون "خلق آدم على صورته" أو "على صورة الرحمن"[21] ، يعني على الصورة التي اختارها من بين سائر المخلوقات، قال الله تعالى في سورة الانفطار: )يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:7
أي الذي جعلك جعلا كهذا وهذا يشمل اعتدال القامة واعتدال الخلقة، ففهمنا الآن والحمد لله أن الله تعالى له وجه حقيقي وأنه لا يشبه أوجه المخلوقين . وقوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } إشارة للإخلاص، فعليك أخي المسلم بالإخلاص حتى تنتفع بالعمل.
وقوله: { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني لا تتجاوز عيناك عن هؤلاء السادة الكرام تريد زينة الحياة الدنيا، بل اجعل نظرك إليهم دائماً وصحبتك لهم دائماً، وفي قوله: { تريد زينة الحياة الدنيا} إشارة إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو فارقهم لمصلحة دينية لم يدخل هذا في النهي.
قال تعالى: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } يعني عن ذكره إيَّانا أو عن الذكر الذي أنزلناه، فعلى الأول يكون المراد الإنسان الذي يذكر الله بلسانه دون قلبه، وعلى الثاني يكون المراد الرجل الذي أغفل الله قلبه عن القرآن، فلم يرفع به رأساً ولم ير في مخالفته بأساً.
قوله تعالى: { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي ما تهواه نفسه.
( وَكَانَ أَمْرُهُ) أي شأنه { فُرُطاً } أي منفرطاً عليه، ضائعاً، تمضي الأيام والليالي ولا ينتفع بشيء، وفي هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنْزَع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فُرطا عليه ، تجده يبقى الساعات الطويلة ولم يحصل شيئاً، ولكن لو كان أمره مع الله لحصلت له البركة في جميع أعماله.

***

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29)
قوله تعالى: {وَقُلِ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. أي قلها معلنا {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } لا من غيره، فلا تطلبوا الحق من طريق غير طريق الله ، لأن الحق من عند الله.
( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)والأمر في قوله: { فَلْيَكْفُرْ)} للتهديد وليس للإباحة بل هو للتهديد كما يهدد الإنسان غيره فيقول: "إن كنت صادقاً فافعل كذا"، ويدل عليه قوله تعالى بعده: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }، يعني من كفر فله النار قد أعدت، وقوله: { لِلظَّالِمِينَ } المراد به الكافرون، والدليل على هذا قوله: { فَلْيَكْفُرْ }، فإن قال قائل: "هل الكفر يسمى ظلماً؟".
فالجواب: نعم، كما قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون } [البقرة: 254] ، ولا أحد أظلم ممن كفر بالله أو جعل معه شريكاً، وهو الذي خلقه وأمده وأعده.
قوله: { أَحَاطَ بِهِمْ } أي بأهل النار { سُرَادِقُهَا } أي ما حولها، يعني أن النار قد أحاطت بهم فلا يمكن أن يفروا عنها يميناً ولا شمالاً.
وقوله: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } يعني أن أهل النار إذا عَطشوا عَطشاً شديداً وذلك بأكل الزَّقوم أو بغير ذلك أغيثوا بهذا الماء { بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } يكون كعَكَر الزيت يعني تَفَلَهُ الخاثر في أسفله أو ما أشبه ذلك مما هو منظر كريه، ولا تقبله النفوس كما قال تعالىوَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ)(إبراهيم: الآية17)، أي كالصديد يتجرعه ولا يكاد يُسيغه.
( يَشْوِي الْوُجُوهَ ) إذا قَرُبَ منها شَواها وتساقطت والعياذ بالله من شدة فيح هذا الماء، وإذا وصل إلى أمعائهم قطعها كما قال جلَّ وعلا: ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)(محمد: الآية15)، وما أعظم الوجع والألم فيمن تقطع أمعاؤه من الداخل، لكن مع ذلك تقطع وتعاد كالجلود ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب)(النساء: الآية56)، الله أكبر، سبحان القادر على كل شيء، وبلحظة يكون هذا الشيء متتابعاً، كلما نَضَجت بُدِّلوا، وكلما تقطَّعت الأمعاء فإنها توصل بسرعة.
قوله: { بِئْسَ الشَّرَابُ } هذا قدح وذم لهذا الشراب، و"بئس" فعل ماضٍ لإنشاء الذم.
قوله: { وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } أي وقبح مرتفقها والارتفاق بها. والمرتفق ما يرتفق به الإنسان، قد يكون حسناً وقد يكون سيئاً، ففي الجنة (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: الآية31))، وفي النار) وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: الآية29)،.

***

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30)
هذا من أسلوب القرآن، فإن الله إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة، وهذا من معنى قوله مَثَانِيَ)(الزمر: الآية23)أي تثنى فيه المعاني والأحوال والأوصاف ليكون الإنسان جامعاً بين الخوف والرجاء في سيره إلى ربه.
قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قد سبق الكلام في معنى هذه الآية، قال تعالى: { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ولم يقل "إنَّا لا نضيع أجرهم"، ولكن قال تعالى: { أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } وذلك لبيان العلة في ثواب هؤلاء وهو أنهم أحسنوا العمل، و { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] ، هذا من الوجه المعنوي، ومن الوجه اللفظي أن تكون رؤوس الآية متوافقة ومتطابقة، لأنه لو قال: "إنَّا لا نضيع أجرهم" لاختلفت رؤوس الآيات.
وبماذا يكون الإحسان في العمل؟ يكون بأمرين:
1 – الإخلاص لله 2 – المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى ما في الآية الكريمة من الحث على إحسان العمل.

***




رد: تفسير سورة الكهف

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (الكهف:21)
قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } يعني مثل بعثهم من نومهم، فإن الله أعثر عليهم يعني أطلع عليهم قومهم
( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) أطلع الله عليهم قومهم { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } إما أن المعنى بقيام الساعة الذي كان ينكره هؤلاء أو لأن الله تعالى يُنجي المؤمنين من الكفار، لأن هؤلاء السبعة نجوا من أمة عظيمة تقاتلهم وتنهاهم عن التوحيد.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ) الساعة: أي قيام الساعة. { لا ريب فيها } أي لا شك، واقعة لا محالة.
(إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) متعلقة بأعثرنا، أعثرنا عليهم حتى تنازعوا أمرهم بينهم، تنازعوا فيما بينهم ماذا نفعل بهم؟ أنتركهم أم ماذا نصنع بهم؟
(فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً) يعني ابنوا عليهم بنياناً حتى يكون أثراً من الآثار وحماية لهم.
(رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يعني توقفوا في أمرهم كيف يَبقَونَ ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتغيرون أيضاً.
(قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) وهم أمراؤهم { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } بدل من أن نبني بنياناً نحوطهم به ونسترهم به ولا يكون لهم أثر أي لنجعلن عليهم مسجداً نتخذه مصلى، والظاهر أنهم فعلوا لأن القائل هم الأمراء الذين لهم الغلبة.
هذا الفعل، اتخاذ المساجد على القبور، من وسائل الشرك وقد جاءت شريعتنا بمحاربته حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في سياق الموت: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحذِّر ما صنعوا"[10] .
ثم قال مبيناً اختلاف الناس في عددهم:

***

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22)
سيقولون ثلاثة، أربعة، خمسة، كيف يمكن أن يكون قولان لغائب واحد؟ هذا يخرج على وجهين:
الوجه الأول: أن المعنى سيقول بعضهم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول البعض الآخر: خمسة سادسهم كلبهم، ويقول البعض الثالث: سبعة وثامنهم كلبهم.
والوجه الثاني: أن المعنى أنهم سيترددون؛ مرة يقولون: ثلاثة، ومرة يقولون: خمسة، ومرة يقولون: سبعة. وكلاهما محتمل ولا يتنافيان، فتَجدُهم أحياناً يقولون كذا، وأحياناً يقولون كذا؛ حسب ما يكون في أذهانهم.
قال الله تعالى: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } قاله في الذين قالوا: { ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } و{ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ}، كلا القولين قال الله تعالى إنهم قالوه: {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أي راجمين بالغيب، وليس عندهم يقين.
( سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) ولم يقل: رجماً بالغيب، بل سكت ، وهذا يدل على أن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم، لأن الله عندما أبطل القولين الأولين، وسكت عن الثالث صار الثالث صواباً، نظيره قول الله تبارك وتعالى في المشركين إذا فعلوا فاحشة: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} هذا واحد، { والله أمرنا بها} هذا اثنان، قال الله تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون } [الأعراف: 28] ، فأبطل قولهم: { والله أمرنا بها } وسكت عن الأول؛ فدل على أن الأول: { وجدنا عليها آباءنا } صحيح، وهنا لما قال: { رَجْماً بِالْغَيْبِ } في القولين الأولين، وسكت عن الثالث دل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ ) يعني إذا حصل نزاع فقل للناس: { رَبِّي أَعْلَم بِعِدَّتِهِمْ } وهل أعلمنا الله بعدتهم؟
الجواب: نعم؛ أعلمنا بأنهم سبعة وثامنهم كلبهم، يعني فإذا كان الله أعلم بعدتهم فالواجب أن نرجع إلى ما أعلمنا الله به، ونقول جازمين بأن عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم.
( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ) أي ما يعلمهم قبل إعلام الله أنهم سبعة وثامنهم كلبهم إلاَّ قليل.
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) أي في شأنهم، في زمانهم، في مكانهم، في مآلهم.
( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً ) أي لا يصل إلى القلب لأنه إذا وصل الجدال إلى القلب اشتد المجادل، وغضب وانتفخت أوداجه وتأثر، لكن لما لم يكن للجدال فيهم كبير فائدة قال الله تعالى: { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً } يعني إلاَّ مراءً على اللسان لا يصل إلى القلب، ويؤخذ من هذا أن ما لا فائدة للجدال فيه لا ينبغي للإنسان أن يتعب قلبه في الجدال به، وهذا يقع كثيراً؛ أحياناً يحتمي بعض الناس إذا جودل في شيء لا فائدة فيه، فنقول: "يا أخي لا تتعب، اجعل جدالك ظاهراً على اللسان فقط لا يصل إلى القلب فتحتمي وتغضب"، وهذا يدل على أن ما لا خير فيه فلا ينبغي التعمق فيه، وهذا كثير، وأكثر ما يوجد في علم الكلام، فإن علماء الكلام الذين خاضوا في التوحيد وفي العقيدة يأتون بأشياء لا فائدة منها، مثل قولهم: "تسلسل الحوادث في الأزل وفي المستقبل" وما شابه ذلك من الكلام الفارغ الذي لا داعيَ له، وهم يكتبون الصفحات في تحرير هذه المسألة نفياً أو إثباتاً مع أنه لا طائل تحتها، فالشيء الذي ليس فيه فائدة لا تتعب نفسك فيه، وإذا رأيت من صاحبك المجادلة فقل له: "تأمل الموضوع" وسدَّ الباب.
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) أي ولا تستفت في أهل الكهف { مِنْهُمْ } أي من الناس سواءٌ من أهل الكتاب أم من غيرهم أحداً عن حالهم وزمانهم ومكانهم، وفيه إشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يستفتي من ليس أهلاً للإفتاء، حتى وإن زعم أن عنده علماً فلا تَسْتَفْتِهِ إذا لم يكن أهلاً.

***

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً(23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) (الكهف:24)
قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ } الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم كالخطاب الذي قبله { لِشَيْءٍ } أي في شيء { إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } ذكروا[11] أن قريشاً أرسلت إلى اليهود في المدينة وقالوا: إن رجلاً بعث فينا يقول: إنه نبي، فقالوا: اسألوه عن ثلاثة أشياء:

1 – عن فتية خرجوا من مدينتهم ولجأوا إلى غار، ما شأنهم.
2 – وعن رجل مَلَكَ مشارق الأرض ومغاربها.
3 – وعن الروح، ثلاثة أشياء؛ فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف، فقال: "أخبركم غداً"، فتوقف الوحي نحو خمسة عشر يوماً، لم ينْزل عليه الوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يدري عن قصص السابقين كما قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48). ولكن الله اختبره، فأمسك الوحي خمسة عشر يوماً، كما ابتلى سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله"، فقال له الملك: "قل إن شاء الله". فلم يقل وطاف على تسعين امرأة يجامعهن، وما الذي حصل؟ أتت واحدة منهن بشق إنسان[12] ، حتى يُري الله عباده أن الأمر أمره وأن الإنسان مهما بلغ في المرتبة عند الله تعالى والوجاهة؛ فإنه لا مفر له من أمر الله.
مكث الوحي خمسة عشر يوماً، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيلحقه الغم والهم لئلَّا يتخذ هؤلاء القوم مِن تأخرِ إخباره بذلك وسيلةً إلى تكذيبه، والحقيقة أن هذا ليس وسيلة للتكذيب، يعني قد يقولون وعدَنا محمد بأن يخبرنا غداً ولم يفعل فأين الوحي الذي يدّعي أنه ينْزِل عليه؟ ولكن نقول: إنَّ تأخر الوحي وتأخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على صدقه، لأنه لو كان كاذباً لصنع قصة فيما بين ليلة وضحاها، وقال: هذه قصتهم، فتأخر الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم يدل على كمال صدقه عليه الصلاة والسلام.
(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً) إلاَّ قولاً مقروناً بمشيئة الله، فقرْنُ ذلك بمشيئة الله يستفيد منه الإنسان فائدتين عظيمتين:
إحداهما: أن الله ييسر الأمر له حيث فوضه إليه جلَّ وعلا.
والثانية: إن لم يفعل لم يحنث.
فيستفاد من قوله: { إِنِّي فَاعِلٌ } أنه لو قال: سأفعل هذا على سبيل الخبر لا على سبيل الجزم بوقوع الفعل، فإن ذلك لا يلزمه أن يأتي بالمشيئة، يعني لو قال لك صاحبك: "هل تمر عليَّ غداً؟" فقلت: "نعم" ولم تقل: إن شاء الله فلا بأس لأن هذا خبر عما في نفسكَ، وما كان في نفسك فقد شاءه الله فلا داعي لتعليقه بالمشيئة، أما إن أردت أنه سيقع ولا بد فقل: إن شاء الله، وجه ذلك أن الأول خبر عمَّا في قلبك، والذي في قلبك حاضر الآن، وأما أنك ستفعل في المستقبل فهذا خبر عن شيء لم يكن ولا تدري هل يكون أو لا يكون، انتبهوا لهذا الفرق؛ إذا قال الإنسان: سأسافر غداً، فإن كان يخبر عمَّا في قلبه فلا يحتاج أن يقول: إن شاء الله، لماذا؟ لأنه خبر عن شيء واقع، أما إذا كان يريد بقوله: سأسافر، أنني سأنشئ السفر وأسافر فعلاً، فهنا لا بد أن يقول: إن شاء الله، ولهذا كانت الآية الكريمة: { إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً } ولم تكن إني سأفعل، بل قال: { إِنِّي فَاعِلٌ }، فلا تقل لشيء مستقبل إني فاعله إلاَّ أن يكون مقروناً بمشيئة الله.
( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) يعني اذكر أمر ربِّك بأن تقول: "إن شاء الله" إذا نسيت أن تقولها، لأن الإنسان قد ينسى وإذا نسي فقد قال الله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)(البقرة: الآية286)وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"[13] .
فالمشيئة إذا نسيها الإنسان فإنه يقولها إذا ذكرها، ولكن هل تنفعه، بمعنى أنه لو حنِث في يمينه فهل تسقط عنه الكفارة إذا كان قالها متأخراً؟ من العلماء من قال: إنها تنفعه حتى لو لم يذكر الله إلاَّ بعد يوم أو يومين أو سنة أو سنتين، لأن الله أطلق: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }، ومن العلماء من قال: لا تنفعه إلاَّ إذا ذكر في زمن قريب بحيث ينبني الاستثناء على المستثنى منه، وهذا الذي عليه جمهور العلماء، فمثلاً إذا قلت: والله لأفعلن هذا ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم ذكرت بعد عشرة أيام فقلت: إن شاء الله، ثم لم تفعل بناء على أن من قال: إن شاء الله لم يحنَث، فمن العلماء من قال: ينفعه لأن الله تعالى قال: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }، ومنهم من قال: لا ينفعه لأن الكلام لم ينبنِ بعضه على بعض، إذاً ما الفائدة من أمر الله أن نذكره إذا نسينا؟ قال: الفائدة هو ارتفاع الإثم، لأن الله قال: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فإذا نسيت، فقلها إذا ذكرت، لكن هل تنفعك فلا تحنث أم يرتفع عنك الإثم دون حكم اليمين؟ الظاهر: الثاني؛ أن يرتفع الإثم، وأما الحنْث فإنه يحنَث لو خالف لأن الاستثناء بالنسبة للحِنْث لا ينبغي إلاَّ أن يكون متصلاً، ثم الاتصال هل يقال: إن الاتصال معناه أن يكون الكلام متواصلاً بعضه مع بعض أو أن الاتصال ما دام بالمجلس؟
الجواب: فيه خلاف، بعضهم يقول: ما دام في المجلس فهو متصل، وإذا قام عن المجلس فقد انقطع، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"[14] فجعل التفرق فاصلاً، ومنهم من قال: العبرة باتصال الكلام بعضه مع بعض، والظاهر والله أعلم أنه إذا كان في مجلسه، ولم يذكر كلاماً يقطع ما بين الكلاميْن، فإنه ينفعه الاستثناء؛ فلا يحنث.
(وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) عسى" بمعنى الرجاء إذا وقعت من المخلوق، فإن كانت من الخالق فهي للوقوع، فقول الله تبارك وتعالىإِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:99) ، نقول: عسى هنا واقعة، وقال الله إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) . أما من الإنسان فهي للرجاء، كقوله:
{ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي } هذه للرجاء.
( أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) أي يدلني إلى الطريق، ولهذا قال: { لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } أي هداية وتوفيقاً، وقد فعل الله، فهداه في شأن أصحاب الكهف للرشد.

***

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) (الكهف:25)
قوله تعالى: {لَبِثُوا } يعني أصحاب الكهف { فِي كَهْفِهِمْ } الذي اختاروه لأنفسهم وناموا فيه.
( ثَلاثَ مِائَةٍ ) تكتب اصطلاحاً ثلاثمائة مربوطة: ثلاث مربوطة بمائة، وتكتب مائة بالألف، لكن هذه الألف لا يُنطَق بها، وبعضهم يكتب ثلاث وحدها ومئة وحدها، وهذه قاعدة صحيحة.
وقوله: { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ } {مِائَة } بالتنوين و{ سِنِينَ } تمييز مبين لثلاث مائة لأنه لولا كلمة سنين لكنا لا ندري هل ثلاث مائة يوم أو ثلاث مائة أسبوع أو ثلاث مائة سنة؟، فلما قال: { سِنِينَ } بيَّن ذلك.
( وَازْدَادُوا تِسْعاً ) ازدادوا على الثلاث مائة تسع سنين فكان مكثُهم ثلاث مائة وتسع سنين، قد يقول قائل: "لماذا لم يقل ثلاثمائة وتسع سنين؟".
فالجواب: هذا بمعنى هذا، لكن القرآن العظيم أبلغ كتاب، فمن أجل تناسب رؤوس الآيات قال: { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً }، وليس كما قال بعضهم بأن السنين الثلاثمائة بالشمسية وازدادوا تسعاً بالقمرية، فإنه لا يمكن أن نشهد على الله بأنه أراد هذا، من الذي يشهد على الله أنه أراد هذا المعنى؟ حتى لو وافق أن ثلاث مائة سنين شمسية هي ثلاث مائة وتسع سنين بالقمرية فلا يمكن أن نشهد على الله بهذا، لأن الحساب عند الله تعالى واحد، وما هي العلامات التي يكون بها الحساب عند الله؟
الجواب: هي الأهلَّة، ولهذا نقول: إن القول بأن "ثلاث مائة سنين" شمسية، "وازدادوا تسعاً" قمرية قول ضعيف.
أولاً: لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا.
ثانياً: أن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } [يونس: 5] وقال تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) [البقرة: 189].

***

(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (الكهف:26)
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } قوله(قُل) أي قل يا محمد: { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا }، وهذه الجملة تمسك بها من يقول: إنَّ قوله: { ولبثوا فى كهفهم} [الكهف: 25] هي من قول الذين يتحدثون عن مكث أهل الكهف بالكهف وهم اليهود الذين يَدَّعون أن التوراة تدل على هذا، وعلى هذا القول يكون قوله: { ولبثوا} مفعولاً لقول محذوف والتقدير: "وقالوا: لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً"، ثم قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } ولكن هذا القول وإن قال به بعض المفسرين فالصواب خلافه وأن قوله: {ولبثوا } من قول الله، ويكون قوله: { الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } من باب التوكيد أي: توكيد الجملة أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً، والمعنى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } وقد أعلَمَنا أنهم لبثوا { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً } وما دام الله أعلم بما لبثوا فلا قول لأحد بعده.
قال الله عز وجل : { له غيب السماوات والأرض } أي له ما غاب في السموات والأرض، أو له علم غيب السموات والأرض، وكلا المعنيين حق، والسموات جمع سماء وهي سبع كما هو معروف، والأرض هي أيضاً سبع أرَضين[15] ، فلا يعلم الغيب – علم غيب السموات والأرض – إلاَّ الله، فلهذا من ادعى علم الغيب فهو كافر، والمراد بالغيب المستقبل، أما الموجود أو الماضي فمن ادعى علمهما فليس بكافر؛ لأن هذا الشيء قد حصل وعلمه من علمه من الناس، لكن غيب المستقبل لا يكون إلاَّ لله وحده، ولهذا من أتى كاهناً يخبره عن المستقبل وصدَّقه فهو كافر بالله عز وجل ؛ لأنه مكذب لقوله تعالى: )قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ)(النمل: الآية65)، أما ما كان واقعاً؛ فإنه من المعلوم أنه غيب بالنسبة لقوم وشهادة بالنسبة لآخرين.
( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) هذا يسميه النحويون فعل تعَجُّب.
( أَبْصِرْ بِهِ ) بمعنى ما أبصره.
( وَأَسْمِعْ ) بمعنى ما أسمعه، وهو أعلى ما يكون من الوصف، والله تبارك وتعالى يبصر كل شيء، يبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، ويبصر ما لا تدركه أعين الناس مما هو أخفى وأدق، وكذلك في السمع، يسمع كل شيء، يعلم السر وأخفى من السر ويعلم الجهر (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طـه:7) . تقول عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة التي ظاهر منها زوجها، وجاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت عائشة في الحجرة، والحجرة صغيرة كما هو معروف، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاور المرأة وعائشة يخفى عليها بعض الحديث، والله يقول: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1) . تقول عائشة رضي الله عنها "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها"[16] ، والله عز وجل فوق كل شيء، ومع ذلك سمع قولها ومحاورتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه الإيمان بأن الله تعالى ذو بصر نافذ لا يغيب عنه شيء وذو سمع ثاقب لا يخفى عليه شيء ، والإيمان بذلك يقتضي للإنسان ألا يُري ربَّه ما يكرهه ولا يُسمعه ما يكرهه؛ لأنك إن عملت أي عمل رآه وإن قلت أي قول سمعه، وهذا يوجب أن تخشى الله عز وجل وألا تفعل فعلاً يكرهه ولا تقول قولاً يكرهه الله عز وجل ، لكن الإيمان ضعيف، فتجد الإنسان عندما يريد أن يقول أو أن يفعل؛ لا يخطر بباله أن الله يسمعه أو يراه إلاَّ إذا نُبِّه، والغفلة كثيرة، فيجب علينا جميعاً أن ننتبه لهذه القضية العظيمة.
( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) قوله: {مَا لَهُمْ } هل الضمير يعود على أصحاب الكهف أو على من هم في السموات والأرض؟
الجواب: الثاني هو المتعين، يعني ليس لأحد ولي من دون الله، حتى الكفار وليهم الله وحتى المؤمنون وليهم الله عز وجل قال الله تعالىحَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: الآية61) (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ )(الأنعام: الآية62). والله ولي كُلِّ أحد، وهذه هي الولاية العامة ، أليس الله تعالى يرزق الكافرين وينمي أجسامهم وييسر لهم ما في السموات والأرض، وسخر الشمس والقمر والنجوم والأمطار؟! هذه ولاية، ويتولى المؤمنين أيضاً بذلك؛ لكن هذه ولاية عامة.
أما الولاية الخاصة، فهي للمؤمنين. قال تعالىاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)(البقرة: الآية257)، والولاية الخاصة تستلزم عناية خاصة، أن الله يسدد العبد فيفتح له أبواب العلم النافع والعمل الصالح، ولهذا قال: { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }. يخرجهم بالعلم، فيعلمهم أولاً ويخرجهم ثانياً بالتوفيق.
إعراب الجملة هذه: {ما } نافية، و {لهم } خبر مقدم، و {من ولى } مبتدأ مؤخر دخل على هذه الكلمة حرف الجر الزائد لأنك لو حذفت {من } وقلت: "ما لهم من دونه وليٌّ" لاستقام الكلام، لكن جاءت {من } من أجل التوكيد والتنصيص على العموم، يعني: لا يمكن أن يوجد لأهل السموات والأرض ولي سوى الله.
قوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } هذه كقوله تعالى: { إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] ، وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)(الشورى: الآية10)، والحكم كوني وشرعي، فالخلق والتدبير حكم كوني، والحكم بين الناس بالأوامر والنواهي حكم شرعي، وقوله: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا} يشمل النوعين. فلا أحد يشرك الله في حكمه لا الكوني ولا الشرعي، وفيه دليل على وجوب الرجوع إلى حكم الله الشرعي، وأنه ليس لنا أن نُشَرِّع في دين الله ما ليس منه، لا في العبادات ولا في المعاملات، وأما من قال: إن لنا أن نُشَرِّع في المعاملات ما يناسب الوقت، فهذا قول باطل: لأنه على قولهم لنا أن نجوز الربا ولنا أن نجوز الميسر وأن نجوز كل ما فيه الكسب ولو كان باطلا، فالشرع صالح في كل زمان ومكان ولن يُصلحَ آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها،[17] الحكم الكوني لا أحد يُشرك الله فيه ولا أحد يدعي هذا، هل يستطيع أحد أن يُنَزِّل الغيث؟! وهل يستطيع أحد أن يُمسك السموات والأرض أن تزولا؟! ولكن الحكم الشرعي هو محل اختلاف البشر ودعوى بعضهم أن لهم أن يشرعوا للناس ما يرون أنه مناسب.

***

(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الكهف:27)
قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } هذا كالنتيجة لقوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً } يعني إذا كان لا يشرك في حكمه أحداً فاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ)
فقوله: { وَاتْلُ } يشمل التلاوة اللفظية والتلاوة العملية، أمّا التلاوة اللفظية فظاهر، تقول: "فلان تلا علي سورة الفاتحة"، والتلاوة الحكمية العملية أن تعمل بالقرآن، فإذا عملت به فقد تلوتَه أي تَبعتَه، ولهذا نقول في قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)(فاطر: الآية29)يشمل التلاوة اللفظية والحكمية، والخطاب في قوله: { وَاتْلُ } للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن اعلم أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دلَّ الدليل على أنه خاص به، فهو خاص به.
الثاني: ما دلَّ الدليل أنه للعموم، فهو للعموم.
الثالث: ما يحتمل الأمرين، فقيل: إنه عام، وقيل: إنه خاص، وتتبعه الأمة لا بمقتضى هذا الخطاب، ولكن بمقتضى أنه أسوتها وقدوتها.
فمثال الأول الذي دلَّ الدليل على أنه خاص به، قوله تبارك وتعالىأَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1)
فهذا لا شك أنه خاص به، وكذلك قوله تعالىأَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) (الضحى:6) ، فهو خاص به صلى الله عليه وسلم.
ومثال الثاني الذي دلَّ الدليل على أنه عام، قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)(الطلاق: الآية1)، فقوله: { طَلَّقْتُمُ } للجماعة؛ وهم الأمة، لكن الله سبحانه وتعالى نادى زعيمها ورسولها لأنهم تابعون له فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ }، إذاً الخطاب يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة، ومثال ما يحتمل الأمرين هذه الآية: { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}، لكن قد يقول قائل: إن هذه الآية فيها قرينة قد تدل على أنه خاص به كما سنذكره إن شاء الله، ولكن الأمثلة على هذا كثيرة، والصواب أن الخطاب للأمة ولكن وُجِّه لزعيمها وأسوتها؛ لأن الخطابات إنما توجه للرؤساء والمتبوعين.
وقوله: ( مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ) هو القرآن، وفي إضافة الرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام دليل على أن ما أوحاه الله إلى رسوله من تمام عنايته به.
وقوله: { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } يعني لا أحد يستطيع أن يبدل كلماته، لا الكونية ولا الشرعية، أما الكونية فواضح، لا أحد يستطيع أن يُبَدِّلها، فإذا قال الله تعالى: { كن} في أمر كوني فلا يستطيع أحد أن يبدله، أما الشرعية فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدلها. والنفي هنا ليس نفياً للوجود، ولكن النفي هنا للإمكان الشرعي، فلا أحد يستطيع شرعاً أن يبدل كلمات الله الشرعية، فالواجب على الجميع أن يستسلموا لله، فلو قال قائل: وجدنا من يبدل كلام الله! فإن الله أشار إلى هذا في قوله في الأعراب، قال تعالى: ) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه)(الفتح: الآية15). قلنا: هذا تبديل شرعي، والتبديل الشرعي قد يقع من البشر فيحرفون الكلام عن مواضعه، ويفسرون كلام الله بما لا يريده الله، ومن ذلك جميع المعطِّلة لصفات الله ، أو لبعضها ممن بدلوا كلام الله.
( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ) يعني لن تجد أيها النبي من دون الله ملتحداً، أي أحداً تميل إليه أو تلجأ إليه لأن الالتحاد من اللحد وهو الميل، يعني لو أرادك أحد بسوء ما وجدت أحداً يمنعك دون الله ، إذاً عندما يصيب الإنسان شيء يتضرر به أو يخاف منه، يلتجئ إلى من؟ إلى الله، ونظير هذه الآية قوله تعالىقُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً(21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الجـن:22)
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28)
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة، اجلس إليهم وقوِّ عزائمهم.
وقوله: { بِالْغَدَاةِ } أي أول النهار.
وقوله: { وَالْعَشِيِّ } آخر النهار.
قوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } مخلصين لله عز وجل يريدون وجهه ولا يريدون شيئاً من الدنيا، يعني أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحدٍ سواه.
وفي الآية إثبات الوجه لله تعالى ، وقد أجمع علماء أهل السنة على ثبوت الوجه لله تعالى بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تعالى: )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن:27) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك"[18] ، وأجمع سلف الأمة وأئمتُها على ثبوت الوجه لله عز وجل .
ولكن هل يكون هذا الوجه مماثلاً لأوجه المخلوقين؟
الجواب: لا يمكن أن يكون وجه الله مماثلاً لأوجه المخلوقين لقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11). وقوله تعالى: )رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم:65) ، أي شبيهاً ونظيراً، وقال الله تبارك وتعالى: ) فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: الآية22).وهكذا كل ما وصف الله به نَفْسَهُ فالواجب علينا أن نجريه على ظاهره، ولكن بدون تمثيل، فإن قال قائل: إذا أثبتّ لله وجهاً لزم من ذلك التمثيل، ونحمل قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] ، يعني إلاَّ في ما أثبته كالوجه واليدين؟
فالجواب: أن هذا مكابرة؛ لأننا نعلم حساً وعقلاً أن كل مضاف إلى شيء فإنه يناسب ذلك الشيء، أليس للإنسان وجه، وللجَمَلِ وجه، وللحصان وجه وللفيل وجه؟ بلى، وهل هذه الأوجه متماثلة؟ لا؛ أبداً! بل تناسب ما أضيفت إليه، بل إن الوقت والزمن له وجه، كما في قوله تعالى: ( آمَنُوا بالذي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)(آل عمران: الآية72) ، فأثبت أن للزمن وجهاً، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن وجه النهار مثل وجه الإنسان؟.
الجواب: لا يمكن، إذاً ما أضافه الله لنفسه من الوجه لا يمكن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين؛ لأن كل صفة تناسب الموصوف . فإن قال قائل: إنه قد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته"[19] ، فما الجواب؟
فالجواب: من أحد وجهين:
الوجه الأول: إما أن يقال: لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلاً له، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أوَّل زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر[20] ، ونحن نعلم أنه ليس هناك مماثلة بين هؤلاء والقمر، لكن على صورة القمر من حيث العموم إضاءةً وابتهاجاً ونوراً. الوجه الثاني: أن يقال: "على صورته" أي على الصورة التي اختارها الله عز وجل ، فإضافة صورة الآدمي إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم كما في قوله تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه)(البقرة: الآية114)، ومن المعلوم أن الله ليس يصلي في المساجد، لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم وعلى أنها إنما بنيت لطاعة الله، وكقول صالح عليه السلام لقومه: { ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13] ، ومن المعلوم أن هذه الناقة ليست لله كما تكون للآدمي يركبها؛ لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم، فيكون "خلق آدم على صورته" أو "على صورة الرحمن"[21] ، يعني على الصورة التي اختارها من بين سائر المخلوقات، قال الله تعالى في سورة الانفطار: )يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:7
أي الذي جعلك جعلا كهذا وهذا يشمل اعتدال القامة واعتدال الخلقة، ففهمنا الآن والحمد لله أن الله تعالى له وجه حقيقي وأنه لا يشبه أوجه المخلوقين . وقوله: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } إشارة للإخلاص، فعليك أخي المسلم بالإخلاص حتى تنتفع بالعمل.
وقوله: { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني لا تتجاوز عيناك عن هؤلاء السادة الكرام تريد زينة الحياة الدنيا، بل اجعل نظرك إليهم دائماً وصحبتك لهم دائماً، وفي قوله: { تريد زينة الحياة الدنيا} إشارة إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو فارقهم لمصلحة دينية لم يدخل هذا في النهي.
قال تعالى: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } يعني عن ذكره إيَّانا أو عن الذكر الذي أنزلناه، فعلى الأول يكون المراد الإنسان الذي يذكر الله بلسانه دون قلبه، وعلى الثاني يكون المراد الرجل الذي أغفل الله قلبه عن القرآن، فلم يرفع به رأساً ولم ير في مخالفته بأساً.
قوله تعالى: { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي ما تهواه نفسه.
( وَكَانَ أَمْرُهُ) أي شأنه { فُرُطاً } أي منفرطاً عليه، ضائعاً، تمضي الأيام والليالي ولا ينتفع بشيء، وفي هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنْزَع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فُرطا عليه ، تجده يبقى الساعات الطويلة ولم يحصل شيئاً، ولكن لو كان أمره مع الله لحصلت له البركة في جميع أعماله.

***

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29)
قوله تعالى: {وَقُلِ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. أي قلها معلنا {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } لا من غيره، فلا تطلبوا الحق من طريق غير طريق الله ، لأن الحق من عند الله.
( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)والأمر في قوله: { فَلْيَكْفُرْ)} للتهديد وليس للإباحة بل هو للتهديد كما يهدد الإنسان غيره فيقول: "إن كنت صادقاً فافعل كذا"، ويدل عليه قوله تعالى بعده: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }، يعني من كفر فله النار قد أعدت، وقوله: { لِلظَّالِمِينَ } المراد به الكافرون، والدليل على هذا قوله: { فَلْيَكْفُرْ }، فإن قال قائل: "هل الكفر يسمى ظلماً؟".
فالجواب: نعم، كما قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون } [البقرة: 254] ، ولا أحد أظلم ممن كفر بالله أو جعل معه شريكاً، وهو الذي خلقه وأمده وأعده.
قوله: { أَحَاطَ بِهِمْ } أي بأهل النار { سُرَادِقُهَا } أي ما حولها، يعني أن النار قد أحاطت بهم فلا يمكن أن يفروا عنها يميناً ولا شمالاً.
وقوله: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } يعني أن أهل النار إذا عَطشوا عَطشاً شديداً وذلك بأكل الزَّقوم أو بغير ذلك أغيثوا بهذا الماء { بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } يكون كعَكَر الزيت يعني تَفَلَهُ الخاثر في أسفله أو ما أشبه ذلك مما هو منظر كريه، ولا تقبله النفوس كما قال تعالىوَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ(16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ)(إبراهيم: الآية17)، أي كالصديد يتجرعه ولا يكاد يُسيغه.
( يَشْوِي الْوُجُوهَ ) إذا قَرُبَ منها شَواها وتساقطت والعياذ بالله من شدة فيح هذا الماء، وإذا وصل إلى أمعائهم قطعها كما قال جلَّ وعلا: ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)(محمد: الآية15)، وما أعظم الوجع والألم فيمن تقطع أمعاؤه من الداخل، لكن مع ذلك تقطع وتعاد كالجلود ) كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب)(النساء: الآية56)، الله أكبر، سبحان القادر على كل شيء، وبلحظة يكون هذا الشيء متتابعاً، كلما نَضَجت بُدِّلوا، وكلما تقطَّعت الأمعاء فإنها توصل بسرعة.
قوله: { بِئْسَ الشَّرَابُ } هذا قدح وذم لهذا الشراب، و"بئس" فعل ماضٍ لإنشاء الذم.
قوله: { وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً } أي وقبح مرتفقها والارتفاق بها. والمرتفق ما يرتفق به الإنسان، قد يكون حسناً وقد يكون سيئاً، ففي الجنة (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: الآية31))، وفي النار) وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: الآية29)،.

***

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30)
هذا من أسلوب القرآن، فإن الله إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة، وهذا من معنى قوله مَثَانِيَ)(الزمر: الآية23)أي تثنى فيه المعاني والأحوال والأوصاف ليكون الإنسان جامعاً بين الخوف والرجاء في سيره إلى ربه.
قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قد سبق الكلام في معنى هذه الآية، قال تعالى: { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ولم يقل "إنَّا لا نضيع أجرهم"، ولكن قال تعالى: { أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } وذلك لبيان العلة في ثواب هؤلاء وهو أنهم أحسنوا العمل، و { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] ، هذا من الوجه المعنوي، ومن الوجه اللفظي أن تكون رؤوس الآية متوافقة ومتطابقة، لأنه لو قال: "إنَّا لا نضيع أجرهم" لاختلفت رؤوس الآيات.
وبماذا يكون الإحسان في العمل؟ يكون بأمرين:
1 – الإخلاص لله 2 – المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى ما في الآية الكريمة من الحث على إحسان العمل.

***




رد: تفسير سورة الكهف

أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:31)
قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } المشار إليه الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
( جَنَّاتُ ) جمع جنة وهي الدار التي أعدها الله لأوليائه فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
( عَدْنٍ ) بمعنى الإقامة، أي جنات إقامة لا يبغون عنها حِوَلا أي تحولا عنها، ومن تمام النعيم أن كل واحد منهم لا يرى أن أحداً أنعم منه، ومن تمام الشقاء لأهل النار أن كل واحد منهم لا يرى أحداً أشد منه عذاباً، ولكن هؤلاء، أهل الجنة، لا يرون أن أحداً أنعم منهم لأنهم لو رأوْا ذلك لتنغص نعيمهم حيث يتصورون أنهم أقل.
( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ) الأنهار جمع نهر وهي أربعة أنواع ذكرها الله تعالى في سورة محمد، قال الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً) (محمد:15) ، وهنا قال: { مِنْ تَحْتِهِمُ }، وفي آية أخرى قال: "تحتهم" وفي ثالثة {من تحتها }، وفي رابعة: {تحتها } والمعنى واحد، لأنهم إذا كانت الأنهار تجري تحت أشجارها وقصورها فهي تجري تحت سكانها.
قوله تعالى(يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ).
( يُحَلَّوْنَ فِيهَا ) أي الجنات.
(مِنْ أَسَاوِرَ) قال بعضهم: إن { مِنْ } هنا زائدة لقول الله تعالى: ) وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ)(الإنسان: الآية21)، فـ {من} زائدة. ولكن هذا القول ضعيف، لأن {من } لا تزاد في الإثبات كما قال ابن مالك رحمه الله في الألفية:
[ وزيد في نفي وشبهِهِ فَجَرّ نكرة كما لباغٍ من مفر ] وعلى هذا فإما أن تكون للتبعيض: أي يحلون فيها بعض أساور، أي يحلى كل واحد منهم شيئاً من هذه الأساور وحينئذٍ لا يكون إشكال، وإما أن تكون "للبيان" أي بيان ما يحلون، وهو أساور وليس قلائد أو خُروصا مثلاً، وأما قوله: { مِنْ ذَهَبٍ } فهي بيانية، أي لبيان الأساور أنها من ذهب، ولكن لا تحسبوا أن الذهب الذي في الجنة كالذهب الذي في الدنيا، فإنه يختلف اختلافاً عظيماً، قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"[22] ، ولو كان كذهب الدنيا لكان العين رأته.
قوله تعالى: { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ }، السندس: ما رَقَّ من الديباج والإستبرق ما غلظ منه.
وقوله: { خُضْراً } خصَّها باللون الأخضر لأنه أشد ما يكون راحة للعين ففيه جمال وفيه راحة للعين.
قال تعالى(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ )
قوله: { مُتَّكِئِينَ } حال من قوله تبارك وتعالى: { أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي حال كونهم متكئين فيها، والاتكاء يدل على راحة النفس وعلى الطمأنينة.
قوله: { عَلَى الأَرَائِكِ } جمع أريكة، والأريكة نوع من المرتفق الذي يرتفق فيه، وقيل: إن الأريكة سرير في الخيمة الصغيرة المغطاة بالثياب الجميلة تشبه ما يسمونه بالكوخ.
قال الله تعالى: { نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } هذا مدح لهذه الجنة وما فيها من نعيم، ففيها الثناء على هذه الجنة بأمرين: بأنها { نِعْمَ الثَّوَابُ } وأنها { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }. قال الله تعالى: )أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (الفرقان:24)

***

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً)(الكهف:32)
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ } يعني اجعل وصيِّر.
(لَهُم ) أي للكفار: قريش وغيرهم.
( مَثَلاً ) مفعول اضرب، وبَيَّن المثل بقوله: { رَجُلَيْنِ } وعلى هذا يكون "رجلين" عطف بيان وتفصيل للمثل
قوله: { جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } أغلب ما في الجنتين العنب، وأطراف الجنتين النخيل وما بينهما زرع، ففيهما الفاكهة والغذاء من الحب وثمر النخل.

***

قال الله تعالىكِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً) (الكهف:33)
قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } ولم يقل آتتا أُكُلَهَا؟ لأنه يجوز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى في كلتا، وقد اجتمع ذلك في قول الشاعر:
[ كلاهما حين جدَّ الجري بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي ] يشير إلى فرسين تسابقا فيقول: كلاهما، أي كلا الفرسين، "حين جد الجري بينهما" أي المسابقة، "قد أقلعا" أي توقفا عن المجاراة، و"رابي" أي منتفخ، فقد قال: "قد أقلعا" ولم يقل: "قد أقلع"، وقال: "رابي" ولم يقل: "رابيان"، ففي البيت مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ، وهنا آتت أُكُلَها مراعاة اللفظ.
قوله: { وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً } أي ولم تنقص.
قوله تعالى: { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } كان خلال الجنتين نهر من الماء يجري بقوة، فكان في الجنتين كلُّ مقومات الحياة: أعناب، ونخيل، وزرع، ثم بينهما هذا النهر المطَّرِد.
قال الله تعالىوَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف:34)
قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أي أن أحد الرجلين كان له ثمر، كأن له ثمر زائد على الجنتين أو ثمر كثير من الجنتين.
وقوله: { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } وهما يتجاذبان الكلام.
قوله: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } افتخر عليه بشيئين:
1 – بكثرة المال 2 – العشيرة والقبيلة. فافتخر عليه بالغنى والحسب، يقول ذلك افتخاراً وليس تحدثاً بنعمة الله بدليل العقوبة التي حصلت عليه.

***

( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً)(وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً) (الكهف:35-36)
قوله تعالى: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } ذكرت بلفظ الإفراد مع أنه قال: { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } فإما أن يقال: إن المراد بالمفرد الجنس، وإما أن يراد إحدى الجنتين، وتكون العظمى هي التي دخلها.
( وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) هذه جملة حالية يعني الحال أنه ظالم لنفسه، وبماذا ظلم نفسه؟ ظلم نفسه بالكفر كما سيتبين.
قال: { مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً } يعني ما أظن أن تفنى وتزول أبداً، أعجب بها وبما فيها من قوة وحسنِ المنظر، وغير ذلك حتى نسي أن الدنيا لا تبقى لأحد، ثم أضاف إلى ذلك قوله:
( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) فأنكر البعث، لأنه إذا كانت جنَّتُه لا تبيد فهو يقول: لا بعث وإنما هو متاع الحياة الدنيا.
(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي ) يعني على فرض أن تقوم الساعة وأرد إلى الله.
( لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً ) أي مرجعاً، فكأنه يقول بما أن الله أنعم علي بالدنيا، فلا بد أن ينعم علي بالآخرة، وهذا قياس فاسد؛ لأنه لا يلزم من التنعيم في الدنيا أن ينعم الإنسان في الآخرة، ولا من كون الإنسان لا يُنَعَّم في الدنيا ألا يُنَعَّم في الآخرة، لا تلازم بين هذا وهذا، بل إن الكفار يُنعمون في الدنيا وتُعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولكنهم في الآخرة يُعذَّبون. وهذا كقوله تبارك وتعالى في سورة فُصِّلت: (لا يَسْأَمُ الإنسان مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ(49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) (فصلت:50)
هذا مثلُ هذا.

***

(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37)
قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي يناقشه في الكلام.
( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) ذكره بأصله.
والهمزة في قوله: { أَكَفَرْتَ } للإنكار.
أما قوله: { خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ } فلأن آدم عليه السلام أبا البشر خُلق من تراب.
وأما { مِنْ نُطْفَةٍ } فلأن بني آدم خُلِقوا من نطفة، والمعنى: أنَّ الذي { خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } قادر على البعث الذي أنت تُنكره.
وقوله: { ثم سَوَّاكَ } أي عدَّلك وصيَّرك رجلاً، وهذا الاستفهام للإنكار بلا شك، ثم هل يمكن أن نجعله للتعجب أيضاً؟
الجواب: يمكن أن يكون للإنكار وللتعجب أيضاً يعني: كيف تكفر { بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً }! ويستفاد من هذا أن منكر البعث كافر ولا شك في هذا كما قال تعالى: )زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (التغابن:7)

***

(لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (الكهف:38)
قوله تعالى: {لَكِنَّا } أصلها "لكن أنا" وحذفت الهمزة تخفيفاً وأدغمت النون الساكنة الأولى بالنون الثانية المفتوحة فصارت لكنَّا، وتكتب بالألف خطّاً وأما التلاوة ففيها قراءتان إحداهما بالألف وصلاً ووقفاً، والثانية بالألف وقفاً وبحذفها وصلاً.
(لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) أي هو الله ربي مثل قوله تعالى: {هو الله أحد } وعلى هذا فتكون {هو } ضمير الشأن، يعني الشأن أن الله تعالى ربي.
و{ وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } وهذا كقول ابن آدم لأخيه قابيل: {إنما يتقبل الله من المتقين } [المائدة: 27] ، يعني أنت كفرت ولكني أنا أعتز بإيماني وأؤمن بالله.

***

(وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) (الكهف:39)
قوله تعالى: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ } يعني هلَّا { إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } أي حين دخولك إيَّاها { قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ } حتى تجعل الأمر مفوضاً إلى الله عز وجل .
وقوله: { مَا شَاءَ اللَّهُ } فيها وجهان:
1 – أنَّ {ما } اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هذا ما شاء الله".
2 – أنَّ {ما } شرطية و{شاء } فعل الشرط وجوابه محذوف والتقدير "ما شاء الله كان".
وقوله: { لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ } أي لا قوة لأحد على شيء إلاَّ بالله وهذا يعني تفويض القوة لله عز وجل ، يعني فهو الذي له القوة مطلقاً، القوة جميعاً، فهذه الجنة ما صارت بقوتك أنت ولا بمشيئتك أنت ولكن بمشيئة الله وقوته، وينبغي للإنسان إذا أعجبه شيء من ماله أن يقول: "ما شاء الله لا قوة إلاَّ بالله" حتى يفوض الأمر إلى الله عز وجل لا إلى حوله وقوته، وقد جاء في الأثر أن من قال ذلك في شيء يعجبه من ماله فإنه لن يرى فيه مكروهاً [23].
قوله تعالى: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) .
(إِن ) شرطية وفعل الشرط ترى والنون للوقاية والياء محذوفة للتخفيف والأصل "ترني".
( أَنَا ) ضمير فصل لا محلَّ له من الإعراب.
( أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً) أي إن احتقرتني لكوني أقل منك مالا وأقل منك ولدا ولست مثلك في عزَّة النفر.

***

(فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (الكهف:40)
قوله تعالى: {فَعَسَى رَبِّي} هذه الجملة هي جواب الشرط. وهل هي للترجي أم للتوقع؟
الجواب: فيها احتمالان:
الأول: أنها للترجي وأن هذا دعا أن يؤتيه الله خيراً من جنته وأن ينْزل عليها حسباناً من السماء؛ لأنه احتقره واستذله فدعا عليه بمثل ما فعل به من الظلم، ولا حرج على الإنسان أن يَدعوَ على ظالمه بمثل ما ظلمه، ويحتمل أنه دعا عليه من أجل أن يعرف هذا المفتخر ربه ويدعَ الإعجاب بالمال وهذا من مصلحته. فكأنه دعا أن يؤتيه الله ما يستأثر به عليه، وأن يتلف هذه الجنة حتى يعرف هذا الذي افتخر بجنته وعزة نفره أن الأمر أمر الله ، فكأنه دعا عليه بما يضره لمصلحة هي أعظم. فكون الإنسان يعرف نفسه ويرجع إلى ربه خير له من أن يفخر بماله ويعتز به، هذا إذا جعلنا عسى للترجي.
الثاني: أن تكون عسى للتوقع، والمعنى أنك إن كنت ترى هذا فإنه يُتَوقع أن الله تعالى يُزيل عني ما عبتني به ويزيل عنك ما تفتخر به، وأياً كان فالأمر وقع إما استجابة لدعائه وإما تحقيقاً لتوقعه.
( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) والمراد بالحسبان هنا ما يدمرها من صواعق أو غيرها.
وقوله: { مِنَ السَّمَاءِ } خصَّ السماء لأن ما جاء من الأرض قد يدافع، يعني لو نفرض أنه جاءت أمطار وسيول جارفة أو نيران محرقة تسعى وتحرق ما أمامها، يمكن أن تُدافع، لكن ما نزل من السماء يصعب دفعه أو يتعذر.
( فَتُصْبِحَ صَعِيداً) أي تصبح لا نبات فيها.
( زَلَقاً ) يعني قد غمرتها المياه.

***

(أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (الكهف:41)
قوله تعالى: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً } فلا يوجد فيها ماء.
و{ غَوْراً } بمعنى غائر فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، فدعا دعوة يكون فيها زوال هذه الجنة إمَّا بماء يغرقها حتى تصبح { صَعِيداً زَلَقاً }، وإما بغور لا سُقيا معه لقوله: { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } وكلا الأمرين تدمير وخراب. فالفيضانات تدمر المحصول، وغور الماء حتى لا يستطيع أن يطلبه لبعده في قاع الأرض أيضاً يدمر المحصول، فماذا كان بعد هذا الدعاء أو هذا التوقع؟

***

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) (الكهف:42)
قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أي بثمر صاحب الجنتين فهلكت الجنتان.
( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) من الندم، وذلك أن الإنسان إذا ندم يقلب كفيه على ما قد حصل.
( عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ) وهذا يدل على أنه أنفق فيها شيئاً كثيراً.
( وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي هامدة على عروشها. و{ عُرُوشِهَا } جمع عرش أو عريش وهو ما يوضع لتمدد عليه أغصان الأعناب وغيرها.
( وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) ولكن الندم بعد فوات الأوان لا ينفع، إنما ينتفع من سمع القصة، أما من وقعت عليه فلا ينفعه الندم لأنه قد فات الأوان.

***

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً) (الكهف:43)
فالذي كان يفتخر به ويقول: { أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا} لم تمنعه فِئَتُهُ من عقوبة الله ولم ينتصر هو بنفسه لأنه والعياذ بالله كفر وحاور المؤمن فعوقب بهذه العقوبة.

***

(هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (الكهف:44)
قوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ } فيها قراءتان:
1 – الوِلاية 2 – الوَلايَة.
فالوَلاية: بمعنى النُّصرة، كما قال تعالى: ( مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )(الأنفال: الآية72)والوِلاية: بمعنى الملك والسلطة، فيوم القيامة لا نصرة ولا ملك إلاَّ { لِلَّهِ الْحَقِّ }، وإذا كان ليس هناك انتصار ولا سلطان إلا لله فإن جميع من دونه لا يفيد صاحبه شيئاً.
(هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) ,(هو) الضمير يعود على الله، { خَيْرٌ ثَوَاباً } من غيره، إذا أثاب عن العمل فهو { خَيْرٌ ثَوَاباً } لأن غير الله إن أثاب فإنه يثيب على العمل بمثله، وإن زاد فإنه يزيد شيئاً يسيراً أما الله فإنه يثيب العمل بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
كذلك هو { وَخَيْرٌ عُقْباً } جلَّ وعلا، لأن من كان عاقبته نصر الله وتَوَلِّيَهُ فلا شك أن هذا خير من كل ما سواه. جميع العواقب التي تكون للإنسان على يد البشر تزول لكن العاقبة التي عند الله لا تزول.
إنَّ هذا المثل الذي ضربه الله في هذه الآيات هل هو مثل حقيقي أو تقديري؟ يعني هل هذا الشيء واقع أو أنه شيء مُقدَّر؟
الجواب: من العلماء من قال إنه مثل تقديري كقوله تبارك وتعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:76)،وكقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر:29) ، وما شابه ذلك، فيكون هذا مثلاً تقديرياً وليس واقعياً. ولكن السياق وما فيه من المحاورة والأخذ والرد يدل على أنه مثل حقيقي واقع، فهما رجلان أحدهما أنعم الله عليه والثاني لم يكن مثله.

***




رد: تفسير سورة الكهف

ثم ضرب الله تعالى مثلاً آخر فقالوَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (الكهف:45)

قوله تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ } وهو المطر { فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ } يعني أن الرِّياض صارت مختلطة بأنواع النبات المتنوع بأزهاره وأوراقه وأشجاره كما يشاهد في وقت الربيع كيف تكون الأرض، سبحان الله، كأنه وَشْيٌ من أحسن الوشْيات، إذا اختلط من كل نوع ومن كل جنس.
( فَأَصْبَحَ ) يعني هذا النبات المختلف المتنوع.
( هَشِيماً) هامداً.
(تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) أي تحمله، فهذا هو { مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }. الآن الدنيا تزدهر للإنسان وتزهو له وإذا بها تخمد بموته أو فَقدها، لا بد من هذا، إما أن يموت الإنسان أو أن يفقد الدنيا . هذا مثل موافق تماماً، وقد ضرب الله تعالى هذا النوع من الأمثال في عدة سور من القرآن الكريم حتى لا نغتر بالدنيا ولا نتمسك بها، والعجب أننا مغترون بها ومتمسكون بها مع أن أكدارها وهمومها وغمومها أكثر بكثير من صفوها وراحتها والشاعر الذي قال:
[ فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساءُ ويومٌ نُسَرْ ] لا يريد، كما يظهر لنا، المعادلة، لكن معناه أنه ما من سرور إلاَّ ومعه مساءة، وما من مساءة إلاَّ ومعها سرور، لكن صفوها أقل بكثير من أكدارها، حتى المنعمون بها ليسوا مطمئنين بها كما قال الشاعر الآخر:

[لا طِيبَ للعيش ما دامت مُنغَّصَةً لذَّاتُه بادِّكار الموت والهرمِ ]

قال تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً } ما وجد فهو قادر على إعدامه، وما عُدِم فهو قادر على إيجاده، وليس بين الإيجاد والعدم إلاَّ كلمة (كن}، قال الله تعالى: )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82) . وفي قوله: { مُقْتَدِراً } مبالغة في القدرة، ثم قال الله عز وجل مقارناً بين ما يبقى وما لا يبقى:

***

(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46)
قوله تعالى: {لْمَالُ } من أي نوع سواء كان من العروض أو النقود أو الآدميين أو البهائم.
( وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ولا ينفع الإنسان في الآخرة إلاَّ ما قدَّم منها، وذكر البنين دون البنات لأنه جرت العادة أنهم لا يفتخرون إلاَّ بالبنين، والبنات في الجاهلية مهينات بأعظم المهانة كما قال الله عز وجل : (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل:58) ، أي صار وجهه مسوداً وقلبه ممتلئاً غيظاً
{ يتوارى من القوم} يعني يختبئ منهم {من سوء ما بشر به }، ثم يُقَدِّرُ في نفسه (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)(النحل: الآية59). بقي قسم ثالث وهو أن يُمسِكَهُ على عِزٍّ وهذا عندهم غير ممكن، ليس عندهم إلاَّ أحد أمرين:
1 – إما أن يمسكه على هون.
2 – يَدُسه في التراب، أي يدفنه فيه وهذا هو الوأد، قال الله تعالى: { أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }.
وقوله تعالى: { زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي أن الإنسان يتجمل به يعني يتجمل أنَّ عنده أولاداً، قدر نفسك أنك صاحب قِرى يعني أنك مضياف وعندك شباب، عشرة، يستقبلون الضيوف، تجد أن هذا في غاية ما يكون من السرور، هذه من الزينة، كذلك قدر نفسك أنك تسير على فرس وحولك هؤلاء الشباب يَحُفُّونك من اليمين ومن الشمال ومن الخلف ومن الأمام، تجد شيئاً عظيماً من الزينة، ولكن هناك شيء خير من ذلك.
قال تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)
( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) هي الأعمال الصالحات من أقوال وأفعال ومنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومنها الصدقات والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، هذه الباقيات الصالحات.
( خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً ) أي أجراً ومثوبة.
( وَخَيْرٌ أَمَلاً ) أي خير ما يُؤمِّله الإنسان لأن هذه الباقيات الصالحات هي كما وصفها الله بباقيات ، أما الدنيا فهي فانية وزائلة.

***

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:47)
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } أي اذكر لهم {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } وعلى هذا فإن { َيَوْمَ } ظرف عامِلُهُ محذوف والتقدير اذكر { وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي: اذكر للناس هذه الحال، وهذا المشهد العظيم {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } وقد بين الله عز وجل في آية أخرى أنه يسيرها فتكون سراباً )وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً) (النبأ:20) وتكون كالعهن المنفوش: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة:5) ، وذلك بأن الله تعالى يدُك الأرض وتصبح الجبال كثيباً مهيلاً)يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (المزمل:14) ثم تتطاير في الجو، هذا معنى تُسَيَّرُ. ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى في سورة النمل: )وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل:88) . بعض الناس قال إنَّ هذه الآية تعني دوران الأرض، فإنك ترى الجبال فتظنها ثابتة ولكنها تسير، وهذا غلط وقول على الله تعالى بلا علم لأن سياق الآية يأبى ذلك كما قال الله تعالى(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ(87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل:88) )مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) (النمل:89) . فالآية واضحة أنها يوم القيامة، وأما زعم هذا الرجل القائل بذلك بأن يوم القيامة تكون الأمور حقائق وهنا يقول: { وترى الجبال تحسبها} فلا حسبان في الآخرة، فهذا غلط أيضاً لأنه إذا كان الله أثبت هذا فيجب أن نؤمن به ولا نحرفه بعقولنا، ثم إن الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) (الحج:2) . فإذا قلنا إن زلزلة الساعة هي قيامها، فقد بيَّن الله أن الناس يراهم الرائي فيظنهم سكارى وما هم بسكارى، وعلى كل حال فإن الواجب علينا جميعاً أن نجري الآيات على ظاهرها وأن نعرف السياق لأنه يعين المعنى ، فكم من جملة في سياق يكون لها معنى ولو كانت في غير هذا السياق، لكان لها معنى آخر، ولكنها في هذا السياق يكون لها المعنى المناسب لهذا السياق.
وقوله تعالى: { وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً } أي: ظاهرة لأنها تكون قاعاً وصفصفاً، وهي الآن ليست بارزة لأنها مكورة، وأكثرها غير بارز، ثم إن البارز لنا أيضاً كثير منه مختفٍ بالجبال، فيوم القيامة لا جبال ولا أرض كروية بل تمد الأرض مدَّ الأديم، قال الله : إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ(1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ) (الانشقاق:3) ، فقوله: ( وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ ) يدل على أن الأرض الآن غير ممدودة.
وقوله: { وَحَشَرْنَاهُمْ } أي الناس، بل إن الوحوش تحشر كما قال الله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (التكوير:5)
بل جميع الدواب أيضاً كما قال تعالى في سورة الأنعام: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) . فكلٌّ شيء يحشر، ولهذا يقول الله عز وجل هنا:{وَحَشَرْنَاهُمْ} أي: الناس، وفي الآية الأخرى { الوحوش} وفي الأخيرة جميع الدواب.
وقوله: { فَلَمْ نُغَادِرْ } أي نترك، { مِنْهُمْ أَحَداً } كل الناس يحشرون، إن مات في البر حشر، في البحر حشر، في أي مكان، لا بد أن يحشر يوم القيامة ويجمع.

***

(وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) (الكهف:48)
قوله تعالى: { وَعُرِضُوا } أي: عرض الناس {عَلَى رَبِّكَ } أي: على الله سبحانه وتعالى .
( صَفّاً) أي: حال كونهم صفاً بمعنى صفوفاً، فيحاسبهم الله ، أما المؤمن فإنه يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول له عملت كذا وعملت كذا، فيقر فيقول له أكرم الأكرمين: "إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"[24] يغفر الله عز وجل له يوم القيامة، ولا يعاقبه عليها وفي الدنيا يسترها، فكم من ذنوب لنا اقترفناها في الخفاء؟ كثيرة، سواء كانت عملية في الجوارح الظاهرة أو عملية من عمل القلوب، فسوء الظن موجود، الحسد موجود، إرادة السوء للمسلم موجودة، وهو مستور عليه. وأعمال أخرى من أعمال الجوارح ولكن الله يسترها على العبد. إننا نؤمِّل إن شاء الله أن الذي سترها علينا في الدنيا، أن يغفرها لنا في الآخرة.
ثم قال تعالى: { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي يقال لهم ذلك. وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: اللام وقد والقسم المقدر، يعني والله لقد جئتمونا { كما خلقناكم أول مرة } ليس معكم مال ولا ثياب ولا غير ذلك، بل ما فقد منهم يرد إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح أنهم يحشرون يوم القيامة "حفاة، عراة، غرْلا"[25] و "غُرْلا" جمع أغرل وهو الذي لم يختن، إذاً سوف يعرضون على الله صفا ويقال: { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }، ويقال أيضاً:
(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدا)ً هذا إضراب انتقال، فهم يوبخون { لَقَدْ جِئْتُمُونَا } فلا مفر لكم { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) } فلا مال لكم ولا أهل، ويوبخون أيضاً على إنكارهم البعث فيقال: { بَلْ زَعَمْتُمْ } في الدنيا { أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً }، وهذا الزعم تبين بطلانه، فهو باطل.

***

(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49)
قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي وزِّع بين الناس، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله.
( فَتَرَى ) أيها الإنسان { الْمُجْرِمِينَ } أي: الكافرين { مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي: خائفين مما كتب فيه لأنهم يعلمون ما قدموه لأنفسهم، وهذا يشبه قول الله تعالى عن اليهود الذين قالوا: ( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:80) ، فتُحُدوا وقيل لهمقُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:94) ، قال الله(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ )(البقرة: الآية95) يعني يعرفون أنهم إذا ماتوا عُذِّبوا، ومن كان يعلم أنه إذا مات عُذب فلن يتمنى الموت أبداً، فهؤلاء مشفقون مما في كتاب الله، يعني يعلمون أنه مُحتوٍ على الفضائح والسيئات العظيمة.
ويقولون إذا علموا: (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا)
( يا ) حرف نداء { ويلتنا } وهي الهلاك ولكن كيف تنادى؟
الجواب: إما أن "يا" للتنبيه فقط لأن النداء يتضمن الدعاء والتنبيه، وإما أن نقول إنهم جعلوا ويلتهم بمنْزلة العاقل الذي يوجه إليه النداء، ويكون التقدير "يا ويلتنا احضري"! لكن المعنى الأول أقرب لأنه لا يحتاج إلى تقدير، ولأنه أبلغ.
( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ)أي شيء لهذا الكتاب؟
( لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) يعني أثبتها عدداً، كأنهم يتضجرون من هذا، ولكن هذا لا ينفعهم.
(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا)أي وجدوا ثواب ما عملوا.
( حَاضِراً ) لم يغب منه شيء وعبَّر الله تعالى بالعمل عن الثواب لأنه مثلُه بلا زيادة.
ثم قال الله تعالى: { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } وذلك لكمال سبحانه وتعالى عدله فلا يزيد على مسيء سيئة واحدة، ولا يَنقص من محسن حسنة واحدة، قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طـه:112) . وهذه الآية { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } من الصفات المنفية عن الله، وأكثر الوارد في الصفات الصفات المثبتة كالحياة والعلم والقدرة. وأما ذكر الصفات المنفية فقليل بالنسبة للصفات المثبتة، ولا يتم الإيمان بالصفات المنفية إلاَّ بأمرين:
الأول نفي الصفة المنفية.
والثاني إثبات كمال ضدها.
فالنفي الذي لم يتضمن كمالاً لا يمكن أن يكون في صفات الله . بل لا بد في كل نفي نفاه الله عن نفسه أن يكون متضمناً لإثبات كمال الضد، والنفي إن لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعدم قابليته، أي قابلية الموصوف له، وإذا لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعجز الموصوف، وإذا كان نفياً محضاً فهو عدمٌ لا كمال فيه، والله تعالى له الصفات الكاملة كما قال تعالى: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60] أي الوصف الأكمل.
قلنا إذا لم يتضمن النفي كمالاً فقد يكون لعدم قابليته، كيف ذلك؟ ألسنا نقول إن الجدار لا يظلِم؟ بلى، هل هذا كمال للجدار؟ لا، لماذا؟ لأن الجدار لا يقبل أن يوصف بالظلم، ولا يوصف بالعدل، فليس نفي الظلم عن الجدار كمالاً، وقد يكون النفي إذا لم يتضمن كمالاً نقصاً لعجز الموصوف به عنه، لو أنك وصفت شخصاً بأنه لا يظلم بكونه لا يجازي السيئة بمثلها لأنه رجل ضعيف لا يقدر على الانتصار لنفسه لم يكن هذا مدحاً له.
فالخلاصة أن كل وصفٍ وصف الله به نفسه وهو نفي، فإنه يجب أن نعتقد مع انتفائه ثبوتَ كمال ضده، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأحقاف:33) ، فعلى هذه القاعدة نفى الله "العي" وهو العجز؛ لثبوت كمال ضد العجز وهو القدرة، إذاً نؤمن أن الله له قدرة لا يلحقها عجز، وقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38) ، أي من تعب وإعياء وذلك لكمال قدرته جلَّ وعلا.
قلنا: إن الله لا يظلم أحداً وذلك لكمال عدله، لكن الجهمية قالوا: "لا يظلم" لعدم إمكان الظلم في حقه، وليس لأنه قادر على أن يظلم ولكنه لا يظلم، قالوا لأن الخلق كلَّهم خلق الله، ملك لله، فإذا كانوا ملكاً لله فإنه إذا عذَّب محسناً فقد عذب ملكه، وليس ذلك ظلماً لأنه يفعل في ملكه ما يشاء، ولكن قولهم هذا باطل، لأنه إذا كان الله قد وعد المحسنين بالثواب والمسيئين بالعذاب، ثم أحسن المحسن فعذبه وأساء المسيء فأثابه فأقل ما يقال فيه: إنه وحاشاه أخلف وعده. هذا أقل ما يقال، وهذا ولا شك مناف للعدل وللصدق، فنقول لهم: إنَّ الله قال في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي"[26] ، وهذا يدل على أنه قادر عليه، لكن حرَّمه على نفسه لكمال عدله جلَّ وعلا، إذاً نحن نقول لا يظلم الله أحداً لكمال عدله لا لأن الظلم غير ممكن في حقه، كما قالت الجهمية.

***

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (الكهف:50)
قوله تعالى: { )وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ } "إذ" هذه تأتي كثيراً في القرآن، والمُعرِبون يقولون: إنها مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكرْ إذْ يعني اذكر هذا للأمة حتى تعتبر به ويتبين به فضيلة بني آدم عند الله.
وقوله: { لِلْمَلائِكَةِ } هم عالم غيبي خلقهم الله من نور. كما أعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلقهم من نور[27] . وأعلمنا الله تعالى في القرآن أنه خلق الجنَّ من نار، وأنه خلق البشر من طين، إذاً المخلوقات التي نعلمها هي، الملائكة من نور، والجن من نار، والإنسان من طين، فالملائكة إذاً عالم غيبي والإيمان بهم أحد أركان الإيمان، والملائكة على خلاف الشياطين كما يتبين من الآية، وهم أقدر من الشياطين وأطهر من الشياطين، ولهم من النفوذ ما ليس للشياطين، فالشياطين لا يمكن أن يَلِجُوا إلى السماء، بل من حاول أُتبع بالشهاب المحرق، والملائكة يصعدون فيها، فهم يصعدون بأرواح بني آدم إلى أن تصل إلى الله، وهم أيضاً قد ملؤوا السموات، فيجب علينا أن نؤمن بالملائكة إيماناً لا شك فيه، وأنهم عالم غيبي، لكن قد يكونون من العالم المحسوس بقدرة الله، كما كان جبريل ، فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم مرتين له ستمائة جناح قد سدَّ الأفق وهو واحد وهذا يدل على عظمة خِلقته، وعظمة خِلقة جبريل تدل على عظمة الخالق جلَّ وعلا، أحياناً يأتي جبريل الذي هذا وصفه وهذا خلقه على صورة إنسان، ولكن ليس تقلبه هكذا بقدرته هو، ولكن بقدرة خالقه جلَّ وعلا، والله أعطاه القدرة على التقلب والتكيف بقدرة الله جلَّ وعلا.
وقوله تعالى: { اسْجُدُوا لِآدَمَ } قال بعضهم: سجود تحية، وليس سجوداً على الجبهة، قالوا ذلك فراراً من كونه سجوداً على الجبهة، لأن السجود على الجبهة لا يصح إلا لله، ولكن الذي يجب علينا أن نأخذ الكلام على ظاهره ونقول: الأصل أنه سجود على الجبهة. وإذا كان امتثالاً لأمر الله لم يكن شركاً كما أن قتل النفس بغير حق من كبائر الذنوب، وإذا وقع امتثالاً لأمر الله كان طاعة من الطاعات، فإن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أُمر بذبح ابنه فامتثل أمر الله وشرع في تنفيذ الذبح، ولا يخفى ما في ذبح الابن من قطيعة الرحم، لكن لما كان هذا امتثالاً لأمر الله عز وجل صار طاعة، ولما تحقق مراد الله تعالى من الابتلاء نسخ الأمر ورفع الحرج، إذاً فالسجود لآدم لولا أمر الله لكان شركاً، لكن لما كان بأمر الله كان طاعة لله.
وآدم: هو أبو البشر خلقه الله عز وجل من طين وخلقه بيده[28] ، قال أهل العلم لم يخلق الله شيئاً بيده إلا آدم وجنة عدن، فإنه خلقها بيده وكتب التوراة بيده[29] جل وعلا، فهذه ثلاثة أشياء كلها كانت بيد الله، أما غيرُ آدم فيخلق بالكلمة (كن) فيكون، وهو نبي، وليس برسول؛ لأن أول رسول أرسل إلى البشرية هو نوح عليه الصلاة والسلام، أرسله الله لما اختلف الناس: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ )(البقرة: الآية213)، أي كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. فكان أول رسول نوحٌ عليه الصلاة والسلام[30] وآدم نبي مُكلَّم[31] . فإذا قال قائل كيف يكون نبياً ولا يكون رسولاً؟
الجواب: يكون نبياً ولا يكون رسولاً؛ لأنه لم يكن هناك داع إلى الرسالة، فالناس كانوا على ملة واحدة والبشر لم ينتشروا بعد كثيراً ولم يفتتنوا في الدنيا كثيراً، نفر قليل، فكانوا يستنون بأبيهم ويعملون عمله، ولما انتشرت الأمة وكثرت واختلفوا أرسل الله الرسل.
( اسْجُدُوا ) امتثالاً لأمر الله { إِلاَّ إِبْلِيسَ } لم يسجد. وإبليس هو الشيطان ولم يسجد، بَيَّنَ الله سبب ذلك في قوله: { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } فالجملة استئنافية لبيان حال إبليس أنه كان من الجن أي: من هذا الصنف وإلا فهو أبوهم.
(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)أي: خرج عن طاعة الله تعالى في أمره، وأصل الفسوق الخروج، ومنه قولهم فسقت التمرة إذا انفرجت وانفتحت.
فإذا قال قائل: إن ظاهر القرآن أن إبليس كان من الملائكة؟
فالجواب: لا، ليس ظاهر القرآن؛ لأنه قال: { إِلاَّ إِبْلِيسَ } ثم ذكر أنه { كَانَ مِنَ الْجِنِّ }، نعم القرآن يدل على أن الأمر توجه إلى إبليس كما قد توجه إلى الملائكة، ولكن لماذا؟ قال العلماء إنه كان – أي: إبليس – يأتي إلى الملائكة ويجتمع إليهم فوجه الخطاب إلى هذا المجتمع من الملائكة الذين خُلقوا من النور ومن الشيطان الذي خُلق من النار، فرجع الملائكة إلى أصلهم والشيطان إلى أصله، وهو الاستكبار والإباء والمجادلة بالباطل لأنه أبى واستكبر وجادل، ماذا قال لله؟ {قال أنا خيراً منه } [الأعراف: 12] ، فكيف تأمرني أن أسجد لواحد أنا خير منه؟ ثم علل بعلة هي عليه قالخَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(الأعراف: الآية 12). وهذا عليه فإن المخلوق من الطين أحسن من المخلوق من النار، المخلوق من النار، خلق من نار محرقة ملتهبة فيها علامة الطيش تجد اللهب فيها يروح يميناً وشمالاً، ما لها قاعدة مستقرة، ولقد ذكر ابن القيم – – في كتابه "إغاثة اللهفان" فروقاً كثيرة بين الطين وبين النار، ثم على فرض أنه خلق من النار وكان خيراً من آدم أليس الأجدر به أن يمتثل أمر الخالق؟ بلى، لكنه أبى واستكبر.
قال الله عز وجل لما بين حال الشيطان:
( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ).
( أَفَتَتَّخِذُونَهُ ) الخطاب يعود لمن اتخذ إبليس وذريته أولياء من دون الله فعبدوا الشيطان وتركوا عبادة الرحمن، قال الله تعالىأَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يّـس:60)
(وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يّـس:61)
قوله: { وَذُرِّيَّتَهُ } أي: من ولدوا منه، سُئل بعض السلف – سأله ناس من المتعمقين – فقالوا هل للشيطان زوجة؟ قال إني لم أحضر العقد، وهذا السؤال لا داعي له، نحن نؤمن بأن له ذرية أما من زوجة أو من غير زوجة ما ندري، أليس الله قد خلق حواء من آدم؟ بلى، فيجوز أن الله خلق ذرية إبليس منه كما خلق حواء من آدم.
وهذه المسائل – مسائل الغيب – لا ينبغي للإنسان أن يورد عليها شيئاً يزيد على ما جاء في النص؛ لأن هذه الأمور فوق مستوانا، نحن نؤمن بأن لإبليس ذرية ولكن هل يلزمنا أن نؤمن بأن له زوجة؟
الجواب: لا يلزمنا.
( أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) أي تتولونهم وتأخذون بأمرهم من دون الله { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } هذا محط الإنكار، يعني كيف تتخذون هؤلاء أولياء وهم لكم أعداء؟ هذا من السفه ونقص العقل ونقص التصرف أن يتخذ الإنسان عدوه وليا.
( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) أي بئس هذا البدل بدلاً لهم، وما هو البدل الخير؟
الجواب: أن يتخذوا الله ولياً لا الشيطان.
وقوله: { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ } يمكن أن نقول إنها بمعنى الكافرين لأنهم هم الذين اتخذوا الشيطان وذريته أولياء على وجه الإطلاق، ويمكن أن نقول إنها تعم الكافرين ومن كان ظُلمهم دون ظلم الكفر، فإن لهم من ولاية الشيطان بقدر ما أعرضوا به عن ولاية الرحمن




رد: تفسير سورة الكهف

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف:51)
قوله تعالىمَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)يعني أن هؤلاء الذين اتخذهم الناس أولياء من دون الله ليس لهم حق الكون وبالتدبير، فالله عز وجل ما أشهدهم خلق السموات والأرض؛ لأن السموات والأرض مخلوقتان قبل الشياطين.
(وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ) يعني ما أشهدت بعضَهم خلق بعض. فكيف تتخذونهم أولياء وهم لا شاركوا في الخلق ولا خلقوا شيئاً بل ولا شاهدوه، وفي هذه الجملة دليل على أن كل من تكلم في شيء من أمر السموات والأرض، بدون دليل شرعي أو حسي فإنه لا يُقبل قوله، فلو قال: إن السموات تكونت من كذا والأرضُ تكونت من كذا وبعضهم يقول: الأرض قطعة من الشمس وما أشبه ذلك من الكلام الذي لا دليل على صحته.
فإننا نقول له: إن الله ما أشهدك خلق السموات والأرض، ولن نقبل منك أيَّ شيء من هذا، إلاَّ إذا وجدنا دليلاً حسياً لا مناص لنا منه، حينئذٍ نأخذ به؛ لأن القرآن لا يعارض الأشياء المحسوسة.
( وَمَا كُنْتُ ) الضمير في { كُنْتُ} يعود إلى الله.
(كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (أي: أنصاراً ينصرون ديني، لماذا؟ لأن المضل يصرف الناس عن الدين، فكيف يتخذ الله المضلين عضدا، وهو إشارة إلى أنه لا ينبغي لك أيها الإنسان أن تتخذ المضلين عضدا تنتصر بهم، لأنهم لن ينفعوك بل سيضرونك، إذاً لا تعتمد على السفهاء ولا تعتمد على أهل الأهواء المنحرفة؛ لأنه لا يمكن أن ينفعوك بل هم يضرونك، فإذا كان الله لم يتخذ المضلين عضدا فنحن كذلك لا يليق بنا أن نتخذ المضلين عضدا؛ لأنهم لا خير فيهم ، وفي هذا النهي عن بطانة السوء وعن مرافقة أهل السوء، وأن يحذر الإنسان من جلساء السوء.

***

(وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) (الكهف:52)
قوله تعالى:{ وَيَوْمَ يَقُولُ } أي اذكر يوم يقول:{ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } فينادونهم ولا يستجيبون لهم، وهذا يكون يوم القيامة، يقال لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم أولياء شفعاء.
( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) فهذه الأصنام لا تنفع أهلها بل تُلقى هي وعابدوها في النار، قال الله :
(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) (الأنبياء:98)
( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) الموبق هو مكان الهلاك، يعني أننا جعلنا بينهم حائلاً مهلكاً حيث لا يمكن أن يذهبوا إلى شركائهم، ولا أن يأتي شركاؤهم إليهم، أرأيت لو كان بينك وبين صاحبك خندق من نار هل يمكن أن تذهب إليه لتنصره، أو أن يأتي إليك لينصرك؟
الجواب: لا يمكن، هؤلاء يجعل الله بينهم يوم القيامة { مَوْبِقاً }.

***

(وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) (الكهف:53)
قوله تعالى: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} المجرمون يعني الكافرين، كما قال عز وجل : { إنا من المجرمين منتقمون} [السجدة: 22 .(فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) [فظنوا] أي أيقنوا: { مُوَاقِعُوهَا } والظن يأتي بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [البقرة: 46] ، أي: يوقنون أنهم ملاقو الله، وإلاَّ فالظن الذي هو ترجيح أحد الأمرين المشكوك فيهما لا يكفي في الإيمان.
( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ) يعني لم يجدوا مكانا ينصرفون عنها إليه، وهذه الجملة معطوفة على (رأى) وليست داخلة تحت قوله ظنوا، لأنه لو كان داخلاً في الظن لقال "ولن"، يعني أنهم لما رأوْها وظنوا أنهم مواقعوها لم يجدوا عنها مصرفاً أي مكاناً ينصرفون إليه لينجوا به منها.

***

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف:54)
قوله تعالى: { صَرَّفْنَا } يعني نوعنا، تصريف الشيء يعني تنويعه كما قال تعالى: { وتصريف الرياح} [البقرة: 164] ، أي تنويعها من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، إذاً { صَرَّفْنَا } أي نوعنا في هذا القرآن من كل مثل، وهكذا الواقع. فكلام الله صدق، أمثال القرآن تجدها متنوعة فتارة لإثبات البعث، وتارة لإثبات وحدانية الله، وتارة لبيان حال الدنيا، وتارة لبيان حال الآخرة، وتارة تكون مطولة، وتارة مختصرة، فهي أنواع. كل نوع في مكانه من البلاغة والفصاحة.
( مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)أي من كل جنس وصنف، فهذا مثل لكذا وهذا مثل لكذا، لماذا؟
الجواب: من أجل أن يتذكر الناس ويتعظوا ويعقلوها. ولكن يوجد من الناس من لا يتعظ بهذه المثل، بل على العكس، ولهذا قال: { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }، قوله: {وَكَانَ الإنسان}، بعض المفسرين يقول: { الإنسان} يعني الكافر، ولكن في هذا نظر؛ لأنه لا دليل على تخصيصه بالكافر، بل نقول {الإنسان} من حيث الإنسانية.
( شَيْءٍ جَدَلاً ) يعني أكثر ما عنده، ولكن من حيث الإيمان فالمؤمن لا يكون مجادلاً، بل يكون مستسلماً للحق ولا يجادل فيه، ولهذا قال عبد الله بن مسعود : "ما أوتي قوم الجدل إلاَّ ضلوا" وتدبر حال الصحابة رضي الله عنهم تجد أنهم مستسلمون غاية الاستسلام لما جاءت به الشريعة، ولا يجادلون ولا يقولون لم؟ ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم"[32] هل قال الصحابة "لِمَ"؟ بل قالوا سمعنا وأطعنا، ما جادلوا، وكذلك في بقية الأوامر، لكن الإنسان من حيث هو إنسان أكثر شيء عنده الجدل. إذاً إذا مر بك مثل هذا في القرآن الكريم { الإنسان } فلا تحمله على الكافر إلا إذا كان السياق يُعَيِّنُ ذلك، فإذا كان السياق يراد به ذلك، صار هذا عاماً يراد به الخاص، لكن إذا لم يكن في السياق ما يعين ذلك فاجعله للعموم، اجعله إنساناً بوصف الإنسانية، والإنسانية إذا غلب عليها الإيمان اضمحل مقتضاها المخالف للفطرة.
قوله: { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } هذا وقع في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وزوجته فاطمة رضي الله عنهما حين جاء إليهما ذات ليلة ووجدهما نائمين فقال: "ألا تصليان"، قال علي : "إنَّ أنفُسَنا بيد الله ولو شاء لأيقظنا"، فانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على فخذه ويقول: { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }[33] ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن أنفسهما بيد الله، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الفريضة: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"[34] فعذر الناسي والنائم وهو يعلم عليه الصلاة والسلام ذلك ولكنه يريد أن يَحُثَّهُما، وأراد علي رضي الله عنه أن يدفع اللوم عنه وعن زوجه فاطمة رضي الله عنها.

***

(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً) (الكهف:55)
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ } يعني ما منع الناس عن الإيمان والاستغفار نقص البيان، فقد ذكر الله أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، وكان الواجب على الإنسان إذا ضربت له الأمثال أن يؤمن. لكنه ما منعهم من الإيمان نقصٌ في البيان، فالأمر والحمد لله بين واضح أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم بيضاء نقية[35] لكنه العناد.
ولهذا قال جلَّ وعلا: (إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً) أي ما ينتظرون إلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً.
وقوله: { وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ } يعني يطلبون مغفرته، فالمؤمن كثير الاستغفار لربه، والكافر إذا آمن لا بد أن يستغفر الله بما وقع فيه من الذنوب، فإذا آمن واستغفر زال عنه ما كان من الذنوب. قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال:38)
وقوله: { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } يعني مقابلة ومعاينة ومباشرة، وما هي سنة الأولين؟
الجواب: هي أخذهم بالعذاب العام، لكن لم يأخذ الله هذه الأمة بعذاب شامل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه ألا يهلك أمَّته بسنة بعامة[36] فأجاب الله دعاءه.

***

(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً) (الكهف:56)
قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } هذه وظيفة الرسل ما نرسل المرسلين من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم، إلاَّ لهذين الأمرين: مبشرين ومنذرين، يعني ولم نرسلهم من أجل أن يجبروا الناس على الإيمان بل هم مبشرون ومنذرون، يبشرون المؤمنين وينذرون الكافرين.
( مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ) منصوبة على الحال من المرسلين، يعني إلاَّ حال كونهم مبشرين ومنذرين.
( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) المجادلة هي المخاصمة وسميت المخاصمة مجادلة؛ لأن كل واحد يَجْدُلُ حجته للآخر والجَدْل هو فتل الحبل حتى يشتد ويقوى، هذا أصل المجادلة، إذاً يجادل أي يخاصم، والمخاصمة بالباطل باطلة، مثال ذلك في الرسل يقولون: ) أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)(التغابن: الآية6)، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً)(المؤمنون: الآية24)، ويجادلون في البعث فيقولون: {من يحي العظام وهى رميم} [يس: 78] ، ويجادلون في الآلهة يقولون: إذا كان المشركون وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، فعيسى عليه السلام من حصب جهنم، وغير ذلك من المجادلة، وقد أبطل الله مجادلتهم بعيسى قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى )(الأنبياء: الآية101)، ومنهم عيسى (أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)(الأنبياء: الآية101)ويستفاد من الآية أن كل إنسان يجادل من أجل أن يدحض الحق فإن له نصيباً من هذه الآية، يعني أن فيه نصيباً من الكفر والعياذ بالله لأن الكافرين هم الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، فإذا قال قائل: "الشبهات التي يوردها من يوردها من الناس، كيف يقال إنها باطل وهي شبهة؟".
فالجواب: إذا كان غرضهم منها أن يُدحضوا الحق، مثل الذين ينكرون حقيقة استواء الله على العرش ويقولون: إنه لو استوى على العرش لكان "جسماً"، فهؤلاء جادلوا بالباطل من أجل أن يدحضوا الحق الذي أثبته الله لنفسه، وأما مسألة أن الله "جسم" أو غير "جسم" فهذه شيء آخر، المهم أنهم أتوا بهذه الكلمة من أجل إدحاض الحق، ونحن لا ننكر عليهم مسألة أنه "جسم أو غير جسم"، ننكر أنهم أنكروا حقيقة الاستواء، وأما مسألة أنه "جسم أو غير جسم" فهذا مبحث آخر، وهو أننا لا نثبت اللفظ "جسم" ولا ننكره، أما المعنى فنقول: إن الله تعالى حق قائم بذاته موصوف بصفاته يفعل ما يشاء، يستوي على عرشه، وينزل إلى السماء الدنيا، وينْزِل ليفصل بين العباد، ويعجب ويفرح ويضحك، المهم أنه كلما رأيت شخصاً يجادل يريد أن يدحض الحق، فله نصيب من هذه الآية.
( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً) ( وَاتَّخَذُوا) أي صيروا. (آيَاتِي) يعني القرآن.
(وَمَا أُنْذِرُوا ) أي ما أنذروا به من العذاب اتخذوها { هُزُواً } مثال ذلك أن الكفار استهزؤوا لما أخبر الله عز وجل عن شجرة الزقوم )إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (الصافات:64) ، يعني في قعره، فصاروا يضحكون كيف تخرج في أصل الجحيم، وهي شجرة أبعد ما يكون عن النار، النار حارة جافة والشجرة رطبة، فجعلوا يستهزئون ويقولون: هذا من هذيان محمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا ما أنذروا به هزواً والله عز وجل قالفَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (الصافات:66) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ(54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (الواقعة:55) ، يملؤون بطونهم من هذه الزَّقوم ملئاً تاماً ثم تحترق من العطش، فماذا يسقون؟ يسقون ماءً حاراً (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ } أي على ما في بطونهم { مِنَ الْحَمِيمِ }، ومع ذلك يشربون شرباً ليس عادياً بالنسبة إلى البشر، ولكنه شرب الإبل الهيم، العطاش، هذه الشجرة التي يهزؤون بها هي التي يملؤون بها بطونهم في جهنم.

***

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:57)
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ } أي ذكره الواعظ بآيات ربه الكونية، كأخذه الأمم المكذبين، أو الشرعية كالقرآن.
( فَأَعْرَضَ عَنْهَا )ولم يقبلها، أي لا أ حد أظلم منه، فإن قيل: ما الجمع بين هذه الآية، وبين الآية التي في أول السورة وهي قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) ونحوها؟
فالجواب: بأحد وجهين:
الأول: أن الأفضلية باعتبار ما شاركه في أصل المعنى، فقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } يعني من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها من الذين يُذَكَّرون فيُعرِضون، قد يذكر الإنسان فيعرض، لكن أشد ما يكون أن يذكر بآيات الله ثم يعرض عنها، وفي افتراء الكذب قد يفتري الإنسان الكذب على فلان وفلان، وأعظم ما يكون الافتراء عليه هو الله ، وأنت إذا أخذت بهذه القاعدة سلمت من إشكال كبير.
الثاني: وقيل: إن "أظلم" و"أظلم" يشتركان في الأظلمية ويتساويان فيها بالنسبة لغيرهما، وفيه نظر لأنه لا يمكن أن نقول: إنّ من ذكر بآيات ربه فأعرض عنها أنه يساوي من افترى على الله كذباً، أو من منع مساجد الله أن يُذْكر فيها اسمه يساوي من كذب على الله، ونحو ذلك.
قوله: { بِآياتِ رَبِّهِ } الكونية والشرعية؛ الكونية أن يقال له: إن كسوف الشمس والقمر يخوف الله بهما عباده فيعرض عنها ويقول: أبداً خسوف القمر طبيعي، وكسوف الشمس طبيعي، ولا إنذار ولا نذير، وهذا إعراض، أما الآيات الشرعية فكثير من يذكر بآيات الله ويعرض عنها.
( وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) يعني نسي ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي والاستكبار وغير ذلك مما يمنعه عن قبول الحق، لأن الإنسان والعياذ بالله كلما أوغل في المعاصي، ازداد بعداً عن الإقبال على الحق كما قال الله : ) فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)(الصف: الآية5)، ولذلك يجب أن يُعلم أن من أشد عقوبات الذنوب أن يعاقب الإنسان بمرض القلب والعياذ بالله، فالإنسان إذا عوقب بهلاك حبيب أو فقد محبوب من المال، فهذه عقوبة لا شك، لكن إذا عوقب بانسلاخ القلب فهذه العقوبة أشد ما يكون. يقول ابن القيم :

[ والله ما خوفي الذنوب فإنها لعلى طريق العفو والغفران ]

[ وإنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن ]

هذا هو الذي يخشاه الإنسان العاقل، أما المصائب الأخرى فهي كفارات وربما تزيد العبد إيماناً.
( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ) أي صيرنا.
( عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي قلوب من { ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ }، وأعيد ضمير الجمع على مفرد باعتبار المعنى؛ لأن "مَن" سواء كان اسماً موصولاً أو شرطية يجوز في عود الضمير إليها أن يعود على لفظها فيكون مفرداً أو يعود على معناها فيكون مجموعاً أو مثنى حسب السياق، فإذا قلت: "يعجبني من قام" فهنا عاد على اللفظ، وإذا قلت: "يعجبني من قاما" فهنا يعود على المعنى، وكذلك لو قلت: "يعجبني من قاموا" وقد يراعى اللفظ مرة والمعنى مرة أخرى وتعود الضمائر لمراعاة الأمرين في سياق واحد، قال تعالى: { ومن يؤمن بالله وعمل صالحا } فهنا روعي اللفظ، وفي قوله: { يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار } روعي اللفظ أيضاً، وقوله: {خالدين فيها أبدا } روعي فيها المعنى، وفي قوله: { قد أحسن الله له رزقا} روعي اللفظ، كل هذا جاء في سياق واحد: ) وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً)(الطلاق: الآية11)، فروعي اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً ثم اللفظ ثالثاً.
( أَكِنَّةً ) أي: أغطية تمنعهم من { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أن يفقهوا القرآن فلا يفهمونه، وفي هذا الحث على فقه القرآن، وأنه ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن ويتعلم معناه، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.
( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ) أي صمماً. تأمل، والعياذ بالله، القلوب عليها غِطاء فلا تفقه، والآذان عليها صمم فلا تسمع، فلا يسمعون الحق ولا يفهمونه.
( وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) يعني لو أرشدتهم يا محمد إلى الهدى.
( فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً ) أي ما دامت قلوبهم في أكنة، وفي آذانهم وقرٌ لن يهتدوا، فمن أين يأتي الهدى، والآذان لا تسمع الحق والقلوب لا تنقاد للحق والعياذ بالله؟! فإن قال قائل: هل في هذا تيئيس للرسول صلى الله عليه وسلم من أنه وإن دعا لا يقبل منه أو فيه تسلية له؟
فالجواب: في هذا تسلية له، وأنهم إذا لم يقبلوا الحق فلا عليك منهم(فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً )

***

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (الكهف:58)
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} هذا فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من وجه آخر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقول: لماذا لم يعاجلوا بالعقوبة، كيف يكذبونني وأنا رسول الله ولم يعاقبهم؟! ولكن بَيَّن الله له أنه هو {الْغَفُور } أي الذي يستر الذنوب ويتجاوز عنها.
( ذُو الرَّحْمَةِ ) أي صاحب الرحمة الذي يلطف بالمذنب. ولهذا قال: { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } يعني لو أراد الله أن يؤاخذ الناس بما كسبوا لعجل لهم العذاب، وقد بين الله عز وجل هذا العذاب في آيات أخرى فقال: )وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً) (فاطر:45) أي لأهلكهم في الحال، ولكن
( يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً )"بل" هذه للإضراب الإبطالي، يعني بل لن يسلموا من العذاب إذا أُخر عنهم، لهم موعد { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) }، أي مكاناً يؤولون إليه، وهذا يوم القيامة، ويحتمل أن يكون ما يحصل للكفار من القتل على أيدي المؤمنين كما قال عز وجل : )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) (التوبة:15) ، إذاً يحتمل أن يكون المراد ما سيكون عليهم من القتل، والأخذ في الدنيا، أو ما سيكون عليهم يوم القيامة الذي لا مفر منه.

***

(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59)
قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ } أي: قرى الأمم السابقين، قد يقول قائل هنا إشكال: فإن القرى جماد، والجماد لا يعود عليه الضمير بصيغة الجمع، يعني أنك لا تقول مثلاً: "هذه البيوت عمرناهم" ولكن تقول: "هذه البيوت عمرناها"، فلماذا قال: "أهلكناهم"؟
فالجواب: قال هذا؛ لأن الذي يهلك هم أهل القرى، وفي هذا دليل واضح على أن القرى قد يراد بها أهلها، وقد يراد بها البناء المجتمع، فالقرية أو القرى تارة يراد بها أهلها وتارة يراد بها المساكن المجتمعة، قال تعالى: )وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص:59) ، فالمراد بالقرى هنا أهلها، وقال تعالى: ) إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَة)(العنكبوت: الآية31)والمراد بالقرية هنا المساكن المجتمعة.
( لَمَّا ظَلَمُوا ) المراد بالظلم هنا الكفر، أي: حين كفروا. { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً } يعني جعلنا لإهلاكهم موعداً، والله يفعل ما يشاء، إن شاء عجَّل العقوبة وإن شاء أخر، لكن إذا جاء الموعد لا يتأخر: ولهذا قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: )يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح:4) ، فهو أجل معين عند الله في الوقت الذي تقتضيه حكمته.

***

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (الكهف:60)
قوله تعالىوَإِذْ) مفعول لفعل محذوف والتقدير "اذكر إذ قال"، يعني واذكر إذ قال موسى لفتاه؛ أي: غلامه يوشع بن نون، وكان موسى – عليه الصلاة والسلام – ابن عمران قام يخطب يوماً في بني إسرائيل فقام أحدهم وقال: هل على وجه الأرض أعلم منك؟ قال موسى: "لا"، وذلك بناء على ظنه أنه لا أحد أعلم منه، فعتب الله عليه في ذلك، لماذا لم يكل العلم إلى الله، فقال الله عز وجل إنَّ لي عبداً أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين، وذكر له علامة وهي أن تفقد الحوت، فاصطحب حوتاً معه في مِكْتَل[37] وسار هو وفتاه يوشع بن نون، جاء ذلك في البخاري[38] ، لينظر من هذا الذي هو أعلم منه ثم ليتعلم منه أيضاً، كان الحوت في المكتل، فلما استيقظا مع السرعة لم يفتشا في المكتل، وخرج الحوت بأمر الله من المكتل ودخل في البحر.
( لا أَبْرَحُ )أي لا أزال، والخبر محذوف والتقدير "لا أزال أسير".
( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قيل: إنه مكان الله أعلم به، لكن موسى يعلم، وقيل: إنه ملتقى البحر الأحمر مع البحر الأبيض، وكان فيما سبق بينهما أرض، حتى فتحت القناة وهذا ليس ببعيد، وسبب ذلك أن الله أوحى إليه أن عبداً في مجمع البحرين أعلم منك.
( أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أو هنا للتنويع، يعني إما أن أبلغ مجمع البحرين أو أمضي في السير حقباً أي: دهوراً طويلة، وقيل: { أَوْ } بمعنى "إلاَّ" أي حتى أبلغ مجمع البحرين إلاَّ أن { أَمْضِيَ حُقُباً) أي: دهوراً طويلة قبل أن أبلغه، لكن الوجه الأول أسد، فتهيئَا لذلك وسارا، وسبب قوله هذا أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن عبداً لنا هو أعلم منك عند مجمع البحرين، فسار موسى إليه طلباً للعلم.
(فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (الكهف:61)
قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا } أي: موسى وفتاه.
( مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ) أي: بين البحرين.
( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) أضاف الفعل إليهما مع أن الناسي هو الفتى وليس موسى، ولكن القوم إذا كانوا في شأن واحد وفي عمل واحد، نسب فعل الواحد منهم أو القائل منهم إلى الجميع، ولهذا يخاطب الله عز وجل بني إسرائيل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:50) (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة)(البقرة: الآية55)، مع أنهم ما قالوا هذا؛ لكن قاله أجدادهم.
(نَسِيَا حُوتَهُمَا) نسيان ذهول وليس نسيان ترك، وهذا من حكمة الله عز وجل ، أن الله أنساهما ذلك لحكمة، وهذا الحوت قد جعله الله سبحانه وتعالى علامة لموسى، أنك متى فقدت الحوت فثَم الخضر، وهذا الحوت كان في مِكْتَل وكانا يقتاتان منه، ولما وصلا إلى مكان ما ناما فيه عند صخرة، فلما استيقظا وإذا الحوت ليس موجوداً، لكنه أي: الفتى لم يتفقد المكتل ونسي شأنه وأمره، هذا الحوت – سبحان الله – خرج من المكتل، ودخل في البحر وجعل يسير في البحر، والبحر ينحاز عنه.
( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ) أي اتخذ الحوت طريقه في البحر.
( سَرَباً )أي مثل السرب، والسرب هو السرداب يعني أنه يشق الماء ولا يتلاءم الماء، وهذا من آيات الله، وإلا فقد جرت العادة أن الحوت إذا انغمر في البحر يتلاءم البحر عليه، لكن هذا الحوت من آيات الله، أولاً: أنه قد مات، وأنهما يقتاتان منه، ثم صار حياً ودخل البحر ثانياً: أنه صار طريقه على هذا الوجه، وهذا من آيات الله تبارك وتعالى.

***




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

تفسير الفاتحة

تفسير الفاتحة


الونشريس

أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجيم

تَفْسِيرُ الاسْتِعَاذَة: المعنى: أستجير بجناب الله وأعتصم به من شر الشيطان العاتي المتمرد، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أُمرت به، وأحتمي بالخالق السميع العليم من همزه ولمزه ووساوسه، فإِن الشيطان لا يكفه عن الإِنسان إِلا الله رب العالمين .. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إِذا قام من الليل، استفتح صلاته بالتكبير ثم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) [أخرجه أصحاب السنن: أبو داود والترمذي، والنسائي وابن ماجه].

بســــمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ

تَفْسِيرُ البَسْمَلَة: المعنى: أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء، مستعيناً به جلَّ وعلا في جميع أموري، طالباً منه وحده العون، فإِنه الرب المعبود ذو الفضل والجود، واسع الرحمة كثير التفضل والإِحسان، الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام.

تـــنبيـــه:
{بسـمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ} افتتح الله بهذه الآية سورة الفاتحة وكل سورة من سور القرآن – ما عدا سورة التوبة – ليرشد المسلمين إلى أن يبدءوا أعمالهم وأقوالهم باسم الله الرحمن الرحيم، التماساً لمعونته وتوفيقه، ومخالفةً للوثنيّين الذين يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم أو طواغيتهم فيقولوا: باسم اللات، أو باسم العزى، أو باسم الشعب، أو باسم هُبَل.
قال الطبري: "إِن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدَّب نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وجعل ذلك لجميع خلقه سنّةً يستنّون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها فقول القائل: بسم الله الرحمن الرحيم إِذا افتتح تالياً سورة ينبئ عن أن مراده: أقرأ باسم الله، وكذلك سائر الأفعال".

بَين يَدَي السُّورَة

هذه السورة الكريمة مكية وآياتها سبعٌ بالإِجماع، وتسمى "الفاتحة" لافتتاح الكتاب العزيز بها حيث إِنها أول القرآن في الترتيب لا في النزول، وهي – على قصرها ووجازتها – قد حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإِجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة، والعبادة، والتشريع، والاعتقاد باليوم الآخر، والإِيمان بصفات الله الحسنى، وإِفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء، والتوجه إِليه جلَّ وعلا بطلب الهداية إِلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إِليه بالتثبيت على الإِيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين، وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقين، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه، إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراض وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لبقية السور الكريمة ولهذا تسمّى "أم الكتاب" لأنها جمعت مقاصده الأساسية.

فضـــلهَــا: أ- روى الإِمام أحمد في المسند أن "أبيَّ بن كعب" قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما أُنزل في التوراة ولا في الإِنجيل ولا في الزَّبور ولا في الفرقان مثلها، هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه) فهذا الحديث الشريف يشير إلى قوله تعالى في سورة الحجر {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].
ب- وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلَّى: (لأعلمنَّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين، هي السبعُ المثاني والقُرآن العظيم الذي أُوتيتُه).

التسِمَيــــة: تسمى "الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد" وقد ذكر العلامة القرطبي عددها لهذه السورة اثني عشر اسماً.

تعليمُ العبادِ كيفيةَ الحمد

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4)}

علمنا الباري جلّ وعلا كيف ينبغي أن نحمده ونقدسه ونثني عليه بما هو أهله فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي قولوا يا عبادي إِذا أردتم شكري وثنائي الحمد لله، اشكروني على إِحساني وجميلي إِليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإِيجاد، رب الإِنس والجن والملائكة، ورب السماوات والأرضين، فالثناء والشكر لله رب العالمين دون ما يُعبد من دونه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام، بما أنعم على عباده من الخَلْق والرَّزْق والهداية إِلى سعادة الدارين، فهو الرب الجليل عظيم الرحمة دائم الإِحسان {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي هو سبحانه المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين تصرّف المالك في ملكه {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار: 19].

طلب حقيقة العون والاستعانة والهداية من الله تعالى

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(7)}.

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نخصُّك يا الله بالعبادة، ونخصك بطلب الإِعانة، فلا نعبد أحداً سواك، لك وحدك نذلُّ ونخضع ونستكين ونخشع، وإِيَّاك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإِنك المستحق لكل إِجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحدٌ سواك .
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي دلنا وأرشدنا يا رب إِلى طريقك الحق ودينك المستقيم، وثبتنا على الإِسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، واجعلنا ممن سلك طريق المقربين {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي طريق من تفضّلت عليهم بالجود والإِنعام، من النبييّن والصدّيقين والشهداء والصالحين، وَحَسُنَ أولئك رفيقاً {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} أي لا تجعلنا يا الله من زمرة أعدائك الحائدين عن الصراط المستقيم، السالكين غير المنهج القويم، من اليهود المغضوب عليهم أو النصارى الضالين، الذين ضلوا عن شريعتك القدسية، فاستحقوا الغضب واللعنة الأبدية، اللهم آمين.

خاتمــــــة :في بَيَان الأسرَار القُدْسِيّة في فاتِحَة الكِتاب العَزيز

لا شك أن من تدبَّر الفاتحة الكريمة رأى من غزارة المعاني وجمالها، وروعة التناسب وجلاله ما يأخذ بلبه، ويضيء جوانب قلبه، فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله، الموصوف بالرحمة التي تظهر آثارها رحمته متجددة في كل شيء، فإِذا استشعر هذا المعنى ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإِله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكّره الحمد بعظيم نعمه وكريم فضله، وجميل آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له، ثمّ تذكر من جديد أن هذه النعم الجزيلة والتربية الجليلة، ليست عن رغبةٍ ولا رهبة، ولكنها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ومن كمال هذا الإِله العظيم أن يقرن الرحمن بـ "العدل" ويذكّر بالحساب بعد الفضل فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدين عباده ويحاسب خلقه يوم الدين {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة والحساب {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وإِذا كان الأمر كذلك فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير،والبحث عن وسائل النجاة، وهو في هذا أشد ما يكون حاجة إِلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إِلى الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه فليلجأ إِليه وليعتمد عليه وليخاطبه بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وليسأله الهداية من فضله إِلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين، الذين يضلون عن الحق أو يريدون الوصول إِليه فلا يوفقون للعثور عليه، آمين. ولا جرم أن "آمين" براعة مقطع في غاية الجمال والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إِلى الله بالدعاء؟ فهل رأيت تناسقاً أدق، أو ارتباطاً أوثق، مما تراه بين معاني هذه الآية الكريمة؟
وتَذَكَّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي : (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ..) الحديث وأدم هذا التدبير والإِنعام، واجتهد أن تقرأ في الصلاة وغيرها على مكث وتمهّل، وخشوع وتذلَل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، فإِن ذلك يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شيء أفضلُ من تلاوة في تدبرٍ وخشوعٍ".




رد: تفسير الفاتحة

لك جزيل الشكر.




رد: تفسير الفاتحة

شكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرا على الموضوع




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية للجميع

( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع


الونشريس

اعجاز القران الكريم فى قول الله تعالى

( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة )

لماذا قال الله عز وجل
( ناصية كاذبة خاطئة )

الونشريس

في كتاب(وغداً عصر الإيمان) يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني
بخصوص سورة العلق :

كنت أقرأ دائما قول الله تعالى

(كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة).

والناصية هي مقدمة الرأس

وكنت أسأل نفسي وأقول يا رب اكشف لي هذا المعنى

لماذا قلت ناصية كاذبة خاطئة؟

وتفكرت فيها وبقيت أكثر من عشر سنوات وأنا في حيرة

أرجع إلى كتب التفسير فأجد المفسرين يقولون :

المراد ليست ناصية كاذبة وإنما المراد معنى مجازي وليس حقيقيا

فالناصية هي مقدمة الرأس لذلك أطلق عليها صفة الكذب
(في حين أن المقصود صاحبها)

واستمرت لدي الحيرة إلى ان يسر الله لي بحثا عن الناصية قدمه عالم كندي
( وكان ذلك في مؤتمر طبي عقد في القاهرة )

قال فيه : منذ خمسين سنة فقط تأكد لنا أن جزء المخ الذي تحت الجبهة مباشرة "الناصية" هو المسئول عن الكذب والخطأ
وانه مصدر اتخاذ القرارات

فلو قطع هذا الجزء من المخ الذي يقع تحت العظمة مباشرة فإن صاحبه لا تكون له إرادة مستقلة ولا يستطيع أن يختار

ولأنها مكان الاختيار قال الله تعالى :
(لنسفعا بالناصية)
أي نأخذه ونحرقه بجريرته

وبعد أن تقدم العلم أشواطا وجدوا أن هذا الجزء من الناصية في الحيوانات ضعيف وصغير
(بحيث لا يملك القدرة على قيادتها وتوجيهها)

وإلى هذا يشير المولى سبحانه وتعالى:
(ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها)

وجاء في الحديث الشريف:
"اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك".

ولحكمة إلهية شرع الله أن تسجد هذه الناصية وأن تطأطئ له

سبحــــــان الـلـــــــــه في خلقــــه




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

شكرا جزيلا لك جزاك الله خيرا و اسكنك فسيح جناته




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

بارك الله فيك يعطيك الصحة




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

سبحان الله …………..




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

شكرا على المرور نورتنونا




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

شكرااااااااااااااااااا




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

بوركت وبورك مسعاك وتبوات من الجنة مقاعدا وقصورا




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

شكرا لكم كلكم على المرور بارك الله فيك




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

شككككككككككككرا




رد: ( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة ) ..للجميع

جزاك الله كل الخير على هذا التفسير




التصنيفات
تفسير ما تيسّر من القرآن

ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين

ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين


الونشريس

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير الآية (50) من سورة "الذاريات"
((ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين))
مَعنى فِرُّوا إلى الله تعالى أي فِرُّوا مِن معْصِيَته إلى طاعته ، وفِرُّوا من الإشراك به إلى الإيمان به ، و فرُّوا من عِقابه إلى طاعته ، ومن عِقابه إلى ثوابه ومن معْصِيَتِهِ إلى طاعته ، ومن الخوف إلى الورع ، فِرُّوا من التوكّل على غيره إلى التوكّل عليه، فِرُّوا من شَهوات الدنيا ، ومن الشَّهوات الأرضيَّة ومن الشَّهوات المنْحطَّة ، ومن قيود الأرض. قال تعالى :
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)
[سورة الأنعام]

هناك مرضٌ خطير يصيب المسلمين هو انفصال الفكر عن السلوك ، يألف أن يستمع وأن يحضر مجالس العلم وأن يستمع إلى الخطباء وأن يقرأ المقالات والكتب ، هذا كلُّه ألِفه ، وصار من عاداته اليومية لكن تجد حياته في وادٍ وفكرَه في وادٍ آخر، هذا الانفصال خطير جدًّا يصيب شخصية الإنسان ، وانفصال الفكر عن السلوك هذا أخطر فتجد المسلمين يعيشون في ثقافة إسلامية ومشاعر إسلامية ، إذا دخلتَ إلى بيوتهم فلن تجد إسلاما، وإذا نظرتَ إلى أهلهم فلن تجد إسلاما ، وإذا دخلت في أعمالهم فلن تجد إسلاما ، لذلك هان أمرُ الله عليهم ،
فهانوا على الله. إن للكفار على المؤمنين ألف سبيل و سبيل ، معنى ذلك صار هناك انفصام في الدين ، ومرض الانفصام في الدين أخطر من مرض انفصام الشخصية ، الفكر في وادٍ والسلوك في وادٍ ، لذلك الحلّ كما قال عليه الصلاة و السلام : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ.

المحصِّلة و النتيجة و الشيء الذي يلزم هذه المعرفة أن نفِرَّ إلى الله. إن المعلومات والأفكار والدروس والخطب والمطالعات ، هذه القوة الإدراكية التي أودعها الله فينا ، وهذه المُدرَكات التي ملأنا بها ذاكرتنا ما الجدوى منها وما فائدتها إن لم تتحوَّل إلى عمل وإن لم تتحول إلى سلوك ؟ فالإنسان الذي يكاد يموت عطشا وهو يبحث عن الماء ، ثم عرف الماءَ ، إن لم يتجِّه إليه ما قيمة هذه المعرفة ؟ إن لم يتحرك إلى الماء ما قيمة هذه المعرفة ؟ رغم أنها معرفةٌ مصيرية ، لكن ما قيمتها إن لم تتحرك نحو الماء؟ قال تعالى :


((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا))
[سورة الكهف – 110]

المؤمن يبحث عن أمر الله ، وعن منهجه وعمَّا يُرضيه ، وعن الحُكم الشّرعي في كلّ شيء ، فَبَعْدَ أن تعرف الله ليس هناك موضوع أخْطر من أن تعرف أمرَهُ كي تُطيعهُ ، لأنَّ إذا عرفْتَهُ شَعَرتَ بِدافعٍ لا يوصَف إلى التَّقرّب إليه عن طريق طاعته.

*******

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً
وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
واجعلنا ممن يسمعون القول فيتَبعون أحسنه
وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.




رد: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين

هذه اصدق العبارات وانبلها اهديتنا اياها في العام الجديد الهجري والميلادي نسال الله لنا ولكم الصدق والاخلاص في العمل فالايّام تمر مرور الكرام ونحن في غفلة ما بعدها غفله جعلها الله في ميزان حسناتك!