التصنيفات
شخصيات إسلامية

أدهى دهاة العرب

أدهى دهاة العرب


الونشريس

عُرف عن العرب المتقدمين, -والذين عاصروا فترة الجاهلية والبعثة المحمدية- أن دهاة العرب هم الأربعة بداية بالثلاث الأكثر شهرة : معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة, أمّا رابعهم فهو زياد بن سمية أو زياد ابن ابيه المتأخر قليلاً عنهم, والذي رجّح الأغلب أنّه ابن ابي سفيان بن حرب وقد قيل أنّه – أي ابا سفيان – كان يتردد على جارية في الجاهلية وهي سمية أم زياد .. والواقع أن الدهاة كثر فأبو سفيان بن حرب نفسه كان أحد الدهاة وإن كان أقل من هؤلاء الأربعة مرتبةً, وقد يكون ما ينسب زياد لأبي سفيان هو أنه – أي أبا سفيان – داهية وابنه معاوية من الدهاة إذن فالمنطق يقول أن زياد الداهية الآخر هو الأقرب لعائلة الدهاة هذه .

الواقع أن هذا الحديث لا يعني شيئًا إذا ما علمنا أن الداهية الأكبر والأعظم في التاريخ الإسلامي والجاهلي ليس من هؤلاء الأربع, وليس خامسهم الأقل مرتبة في الدهاء – أبو سفيان – , بل هو أشدّهم ورعًا وأكثرهم تقوى وأصدقهم إيمانًا وأعظمهم هيبةً و أبسطهم منطقًا .. عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي .. الرجل الثاني في الإسلام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام .. نعم إنه عمر .. أكثر العرب دهاءً من هؤلاء و أصدقهم دهاءً .. والحقيقة أن لفظ " دهاء " قد لا يتناسب مع شخصية إسلامية إذا ما أُخِذَ على أنّه " مكر وخديعة " , ولذلك يقول الصحابي الجليل قيس بن سعد " لولا الإسلام لمكرت مكرًا " بمعنى أن الإسلام ينهى عن ذلك .. لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلخّص الموضوع ببساطة وبلاغة فيقول : " لستُ بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعُني " .. فهو يبيّن هنا بمعرض حديثه عن نفسه : أنني لست بالماكر المخادع, ومع ذلك لا يستطيع أي ماكر أن .ينال مني بدهائه

ولو رأينا مواقف عمر مع هؤلاء الدهاة لاستنتجنا أن دهاءه فاق دهاءهم , وعلمه تعدى علمهم, وفراسته تجلّت في حين خانتهم فراستهم
ولنبدأ بأبي الدهاة أبو سفيان, فقد قيل أنه رجع من دمشق من عند ابنه معاوية, وشكّ عمر أن معاوية أعطى لوالده شيئًا من أموال الشام فلما سأله عما إذا نال شيئًا من ابنه, أنكر هذا .. فأخذ عمر خاتم أبي سفيان وأرسله مع خادمه إلى هند بنت عتبة زوجته وقال لها : "يطلب منك أبا سفيان أن تأتيه بخرجين". وما لبث عمر أن أوتي بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم !!

أمّا عن زياد ابن ابيه فلقد وُلد في السنة الأولى من الهجرة ولذا فلم يكن ليعي منزلة عمر بعد أن كَبُر, أو أن يكون هناك ثمّة لقاء بين الإثنين إلا أنه ثبت في الكتب وفي مقالات العرب أن زيادًا كان في مجلسٍ فيه عمر فتحدّث بكلام منمّق وفصل فيه بقدرته على الكلام فأعجب به عمر وقال : لله هذا الغلام ! .. لو كان قرشيًا لَساق العرب بعصاه! ومما يُروى أن أبا سفيان كان جالسًا حينما قال عمر هذا الكلام, فهمس لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه : أنّه والد هذا الغلام – على زياد – فسأله علي : أن لماذا لم تعترف به وتستلحقه .. فقال أبو سفيان : أخاف هذا الجالس .. أن يخرق عَلَيَّ إهابي .. ويقصد بـ : هذا الجالس عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وجاء معاوية من بعد والده ووعد زيادًا أن يعترفَ به أخٌ من والده أبو سفيان .. وكان ذلك فجاءَه الرد مسرعًا من ابن المفرغ الحِمْيَري الذي كان أحد خصوم معاوية بثلاثة أبيات زلزلت هذه الشهادة والإعتراف من معاوية بزياد -الأخ الجديد- فقال :

ألا أبلغ مُعاويةَ بن حربٍ … مُغلغلةٌ عَن الرجُل اليماني
أتَغضبُ أن يُقال : أبوكَ عفٌّ … وترضى أن يُقال : أبوك زاني!؟
فاشهد أن رَحْمَكَ من زيادٍ … كَرَحمِ الفيلِ من ولَد الأتاني


وفي الواقع أن معاوية يُعد في المنازل الأولى من الدهاء والمراتب المتقدّمة في الفراسة, وقد قال مرّة يوازن بين الخلفاء : " أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده .. وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها , وأمّا نحن فتمرّغنا فيها ظهرًا لبطن " .. وقيل أن عمر قدم على معاوية مرة فاستقبله معاوية بموكب فجاوزه عمر وأعرض عنه فأقبل إليه معاوية فأعرض عنه ومشى فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر : أتعبت الرجل! , فسأل عمر معاوية قائلا ً : يا معاوية أنت صاحبُ الموكب آنفاً مع ما بلغني من وقُوف ذوي الحاجات ببابك قال : نعم يا أمير المؤمنين . قال : ولم ذلك قال : لأنّا في بلاد لا يُمتنع فيها من جواسيس العدوِّ فلا بُدّ لهم مما يُرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتَني بذلك أقمتُ عليه وإن نهيتني عنه انتهيت . قال : لئن كان الذي قلتَ حقا فإنه رأيُ أريب ولئن كان باطلًا فإنها خُدعة ولا آمرك به ولا أنهاك عنه .

وقيل أنه لما فتحت القدس أشار معاوية لعمر بأن يرتدي أبهى الثياب ويركب أفخم المراكب فيدخلها ويتسلّم مفاتيحها؛ فقالوا أن عمر أخذ بوصية معاوية لكنه تراجع فورًا وأنّبه على ذلك بأقسى العبارات ودخل بيت المقدس بأسماله البالية وحماره فلما رآه الراهب قال أن : هيئتك هذه وردت في كتابنا ووالله لو لم تأتِ بهذه الهيئة لما اعطيناك مفتاحها ! وقال البعض أنه نهر معاوية منذ البداية ولم يمتثل لوصيته , وسواءً أخذ بوصيته وتراجع فيما بعد, أم نهَرَ معاوية فورًا ووبّخه فكلاهما فعلٌ حقٌ يبرهن على دهائه .

هذا دأب عمر مع عائلة أبي سفيان بن حرب .. زياد – المنسوب لأبي سفيان -ومعاوية, ووالدهم

أمّا مع عمرو ابن العاص – الداهية الأمويّ الرابع الذي يجتمع نسبه مع الثلاثة السالفة ذكرهم في أميّة , فأشهر رواية تبين جَلْدَ عمر وقوّته وهي القصّة التي درسناها منذ الإبتدائية المختومة بالقول المأثور عن الداهية عمر بن الخطاب : يابن العاص متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا !؟ وبالرغم من تسيير عُمَر لِعَمْرو بالقوة والجبر إلا أن عمرو بن العاص كان يقول عنه :" لله در ابن حنتمة أي امرئٍ كان !" وحنتمة هي والدة عمر بن الخطاب

كان عمرو بن العاص يهاب عمر ويعلم صنيعه إذا ما أخطأ وداهن, وابن العاص رضي الله عنه يقدّر لعمر هذا الأمر ويُكبِرُه في نفسه ؛ فكان إن أشكلت عليه الأمور – وهو داهية – أرسل إلى عمر يستفتيه, ومنها أن نيل مصر انحبس عن الناس ولم يفض وكانت لأهل مصر سنّة أنهم يرمون فيه جارية بكر فناههم عمرو عن ذلك وارسل إلى الفاروق بأمرهم فأرسل إليه عمر رسولاً يقول له : إذا بلغك كتاب أمير المؤمنين فارمهِ في النهر – نهر النيل- .. ففتح عمرو رسالة عمر إلى نهر النيل فإذا فيها :" من عبد الله : عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد : فإن كنت تجري من قِبَلك, فلا تجرِ ! وإن كنت تجري بأمر الله الواحد القهّار فنسأل الله تعالى ان يُجريك " فرمى بها إلى النيل ففاض !

وإذا سردنا أمر المغيرة بن شعبة فهو من دهاة الجاهلية ودهاة الإسلام والذي قيل فيه : لو أن مدينة لها ثمانية أبواب, لا يُخرجُ من بابٍ منها إلا بمكر! لخرج من أبوابها كلها. فيروى ان عمر بن الخطاب سأل:"ما تقولون في تولية ضعيف مسلم، أو قوي فاجر ؟" فقال له المغيرة :" المسلم الضعيف إسلامه لك، وضعفه عليك وعلى رعيته، وأمّا القوي الفاجر ففجوره عليه، وقوته لك ولرعيتك " فرد عليه عمر بكل التجرّد قائلاً له :"فأنت هو، وأنا باعثُكَ يا مغيرة إلى الكوفة " ولعل المغيرة كان كأمر معاوية يحاول أن يفلت من قبضة عمر بأيسر الطرق التي يرتضيها عمر .. وكان يعرف من هو عمر ويعرف أن دهاءهُ و قوة استطلاعه لن تأتي بالمطلوب مع هذا الرجل فهو القائل : لست بالخب ولا الخب يخدعني .. فآمن بذلك كل الدهاة الأربعة وأَمِنَ بهِ كلّ مسلمٍ لا دهاءَ في شأنه.

وقد قال المغيرة مرة لعمرو بن العاص معترفًا بقوة الفاروق وبدهائه: "أأنت تفعل أو توهم عمر شيئًا فيلقنه عنك !؟ ( أي يأخذ به فورًا بغير تفكير ) واللهِ ما رأيتُ عمرَ مستخليًا بأحدٍ إلا رحمته كائنًا من كان ذلك الرجل . كان عمر والله أعقلُ من أن يُخدع وأفضلُ من أن يَخدع " داهيتان يتحادثان فيما بينهما فيُقرّان بأن دهاؤهما لا يُشكّل خطرًا على من هو أقوى وأذكى وأحوط منهم بما قد يقترفان .. وعلى ذكر الحيطة فقد تحدث الداهية المغيرة إلى الداهية الآخر معاوية في إحدى السنوات عندما استشاره معاوية قائلاً له : أأولّي عمرو بن العاص أمر الكوفة !؟ .. فقال له المغيرة : يا أمير المؤمنين, تؤمِّرُ عمرًوا على الكوفة وابنه على مصر وتكون كالقاعد بين فكي الأسد!؟ ، قال: ما ترى ؟ قال : أنا أكفيك الكوفة. فولي الكوفة لمعاوية إلى وفاته.

غير أن الأعجب من ذلك أنه في عام 21 للهجرة , تولّى المغيرة أمر البحرين, وفي عام 21 نفسه تولّى معاوية أمر الشام, وفي ذات العام 21 إستقرّت مصر في يد عمرو بن العاص بعد سقوط الإسكندرية, فكان عمر بن الخطاب محاطًا بثلاثةٍ من أدهى دهاة العرب الأربع؛ فالأول عن شرقهِ والثاني عن غربهِ و ثالثهما الآخِرُ من الشمال .. وكانوا كثلاثةِ أثافي حول عمر بن الخطاب ولم يجرؤ أحدًا منهم على فِعلِ ما يكرهُ الفاروق .. بل كانوا على أتمّ الحذر وأشدّ الستر, ولا نقول ذلك إستصغارًا لشأنهم فهم جمعٌ من صحابة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام, ومن خيرِ رجال الأمّة وكانوا على علم وتقوى وذكرٍ حسن فرضي الله عنهم أجمعين.. لكن دهاءهم لم يأتِ ثمارَه عند مَن " لا يخدعهُ الخِبّ"




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.