أصل كلمة (التراث) في اللُّغة من مادة (ورث)، التي تدور معانيها حولَ حصول المتأخِّر على نصيب مادي أو معنوي ممَّن سبقه، فالتراث: الميراث – والتاء فيها منقلَبِة عن واو؛ كالتُّخَمة والوُخَمة -: وهو كلُّ ما يُخلِّفه الرجل لورثته.
والتراث بمعناه العام: ما خلَّفه لنا أسلافُنا من عقائدَ وعلوم ومعارف، وثقافاتٍ وعادات وتقاليد، وتجاربَ وخِبرات، وآثارٍ وفنون… إلخ، لكن ما يَعنينا في هذا المقام هو التراث الفكرى، المتمثِّل في الآثار المكتوبة التي حَفِظها التاريخُ كاملةً أو مبتورة، فوصلتْ إلينا بأشخاصها، وهذا التراثُ ليس له حدود تاريخيَّة معيَّنة، فكلُّ ما خلَّفه مؤلِّفٌ من إنتاج فكرى بعد حياته يُعدُّ تراثًا فكريًّا، وعليه فهو: كلُّ ما وصل إلينا مكتوبًا في أيِّ فرع من فروع العلوم والمعارف[1].
"ويتناول التراثُ العربيُّ كلَّ ما كُتب باللُّغة العربية، وانتزَع من رُوحها وتيَّارها قَدرًا، بصرف النَّظر عن جِنس كاتبه، أو دِينه، أو مذهبه؛ فإنَّ الإسلام قد جَبَّ هذا التقسيم وقَطَعه في جميع الشعوب القديمة التي فتَحَها، وأشاع الإسلامُ لُغةَ الدِّين فيها، وهي اللُّغة العربية التي لوَّنت تلك الشعوب بلون فكريٍّ واحد متعدِّد الأطياف، هو الفِكر الإسلامي، وهو الفِكر العربي"[2].
أمَّا (المخطوط)، فهو في اللُّغة: "كلُّ ما كُتب بخطِّ اليد، سواء كان كتابًا أو وثيقة، أو نقشًا على حجر، ولكنَّه في الاصطلاح يقتصر على الكتاب المخطوط بخطِّ اليد… وهو يُقابِل الكتاب المطبوع"[3]، وتُعرَّف علوم المخطوط الإسلامي بأنَّها: "العلوم التي تَدْرُسُ ما يتعلَّقُ بالكتاب الإسلامي المخطوط، مادةً ومضمونًا، حِفظًا وإتاحةً وتاريخًا"[4].
وأمَّا (التحقيق)، فهو في اللُّغة: التأكُّد من صِحَّه الخبر وصِدقه، و"حقَّقْتُ الأمر، وأَحْقَقْتُهُ: كنتُ على يقين منه"[5]، وهو يدور حولَ معاني الإثبات والتصديق، والإحكام والتصحيح، وفي الاصطلاح القديم: "التحقيق إثبات المسألةِ بدليلها"[6]، أمَّا في الاصطلاح المعاصِر، فهو قراءة النَّص "على الوجه الذي أرادَه عليه مؤلِّفُهُ، أو على وجهٍ يَقْرُبُ مِن أصله الذي كتبَه عليه مؤلِّفُه"؛[7] تمهيدًا لنشْره وطباعتِه، أو هو العِلم الذي "يُعْنَى بإظهار الكتب المخطوطة مطبوعةً مضبوطة، خالية نصوصُها من التصحيف والتحريف، في حُلَّة قشيبة، تُيسِّر سُبُلَ الانتفاع بها، وذلك على الصورة التي أرادها مؤلِّفوها، أو أقرب ما تكون إلى ذلك"[8].
كان الكتابُ قبلَ ظهور الطباعة يُكتَب بخطِّ اليد على الورق، أو الرِّق، أو البردي، وتُجْمَع على هيئة كرَّاسات، ويُعَدُّ المخطوط وعاءً أمينًا حَفِظَ تراثَ ومعارفَ حضارة الإسلام العظيمة، وسِجلاًّ ناصعًا لتجاربِها ومُنْجَزاتها، وكتابًا صادقَ التعبير عن سموِّ عقائِدها وشرائِعها، ورفعة أخلاقِها.
"وقدِ احتشدتِ الأمَّة لتسجيل علومها ومعارفها في جِهادٍ دائب، لم تشهدْه أمَّةٌ من الأمم، ولم تعرفْه ثقافةٌ من الثقافات، ولم يقفْ هذا الجهاد عندَ مصرٍ من الأمصار، أو يَكْتفِ بقُطر من الأقطار، بل امتدَّ إلى كلِّ بلد طالتْه يدُ الإسلام.
ولم يكدْ ينتصف القرنُ الثاني الهجريُّ حتى اندفعَ العلماء في التصنيف والجَمْع، وأخذ صريرُ أقلام النُّساخ يُسمَع في كلِّ مكان، وكأنَّه صوتُ الآلات في المطابع، وعمرت حلقاتُ الدَّرْس بالطلاَّب، وزخرت المكتبات العامَّة والخاصة بالتآليف في شتَّى فروع العلوم والثقافة.
وتمضي الأيَّام وتتسع رُقعةُ الدولة الإسلامية، ويَغْزُر التأليف والتصنيف، وتملأَ المخطوطاتُ العربية مكتباتِ الدنيا شرقًا وغربًا، حتى تظهرَ المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي، على يد جوتنبرج الألماني (1468 م)، وكأنَّما كان هذا الاختراع العجيب – اختراع الطباعة – مِن أَجْلِ فِكْرنا وتُراثنا – نحن العربَ – دون غيرنا من الأمم، فقدْ دارتِ المطابع هنا وهناك؛ لإخراج عِلْمِنا من مخطوطات محدودة إلى أسفار مطبوعة…"[9].
وهذا التراث الفِكري يتضمَّن: العلوم الإنسانيَّة والعلوم التطبيقيَّة، والعلوم الإنسانية تضُمُّ العلوم الشرعيَّة (الدينية)، والعلوم اللُّغوية، وغيرها كالتاريخ والاجتماع… إلخ، وظاهرٌ أهميَّة النقل والتدوين؛ أي: أهميَّة المخطوطات، بالنسبة للعلوم الشرعيَّة، فالقرآن الكريم حُفِظ في الكواغد، كما حُفِظ في الصُّدور، ونُقل إلينا بالتواتُرِ، والسُّنَّة النبويَّة المشرَّفة حُفظت ودوِّنت في الكتب، كما تناقلتْها أفواه الرواة، وأمَّا سائر العلوم الشرعية المنبنية على الكتاب والسُّنة والمفسِّرة لهما، فهي مؤلَّفَاتٌ إبداعيَّة، كسائر إبداعات العرب في العلوم الإنسانيَّة، لا غنى للأمَّة عن أكثرها، بل لا غِنى للبشرية عن كثير منها.
ولا صلاحَ لهذه الأمَّة إلاَّ بالعَوْدة إلى المَعِين الصافي، إلى الإسلام الصحيح المعتدل، ورَحِم الله إمامَ دار الهجرة مالك بن أنس القائل: "لا صلاح لهذه الأمَّة إلاَّ بما صَلُحَ به أوَّلُها"، وهذه الدعوة للعودة للتراث ليستْ دعوةً للتخلُّف أو الرجعيَّة، وإنَّما دعوة للتمسُّك بمنابع الصلاح الأُولى التي سادتْ بها الأمَّةُ الدنيا، والمحافظة على العادات والأخلاق القويمة، ودعوةٌ للتخلُّص من الخُرافات والخزعبلات، والاعتصام بالعِلم والثقافة، وبمنهجية التفكير العربيِّ السليم.
فنون التأليف العربي
"يكفي أن تُقلِّبَ طرفَك في أثناء كتاب "كشف الظنون عن أسامي العلوم والفنون"؛ لحاجي خليفة، لتقرأ أسماءَ نحو مائتي عِلْم أو فن؛ كعِلم آداب البحث والمناظرة، والآلات الحربيَّة، والآلات الرَّصديَّة، وعلم انبساط المياه، وعِلم الأوزان والمقادير، والبيزرة، والبيطرة، وتدبير المدينة، وتدبير المنزل، وتركيب المداد، والجبر والمقابلة، والجِراحة، والجغرافيا، والجهاد، والحكمة، والرمي، والرياضة، والسياسة، والسيمياء، والشروط والسجلات، والصيدلة، والطبخ، والفتاوى، وقوانين الكتابة، والكحالة، والكيمياء، ومراكز الأثقال، والمرايا المحرقة، والمساحة، والمعادن، والمعمى، والملاحة، والنبات، والهندسة، والهيئة… إلى كثير جدًّا ممَّا أغفلتُ ذِكْرَه، هذه بعض أسماء علومهم، وهي قلٌّ من كثر – كما يقولون – وقد تكفَّل حاجي خليفة في كتابه بتوضيح مدلولاتها، وتقديم دراسات مُوجَزة عنها"[10].
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/7266/#ixzz2QzVAASXz