الصداقة كلمة ما إن تجتمع حروفها حتى تتعالى الأصوات .. ويدور شريط الذكريات .. ويصبح الجميع بين متغنّ بها .. ومتحسر عليها .. بين واثق بوجودها .. ويائس منها.
وكغيرها من القيم الإنسانية الجميلة شغَلتنا الصداقة بمعناها الحقيقي والجوهري فغنينا لها .. ونظمنا فيها الأشعار والقوافي .. وكتبنا عنها القصص والحكايات .. وتناقلنا عنها الأمثال والحكم .. ولعلي لا أبالغ إن قلت إنها تأتي في الدرجة الثانية من الأهمية في حياة الإنسان بعد الحب .. وترتبط به ارتباطاً وثيقاً فلا يمكنها أن تحيا دونه.
ومع كوننا نحيا في عصر يشهد بين ساعة وأخرى تطوراً جديداً .. سنجد أن الصداقة كغيرها من المفاهيم شهدت هي الأخرى تطوراً في مفهومها وشكلها وميادينها .. فقبل عقود قليلة كنا نجد في المجلات زوايا للتعارف تحمل عناوين من مثل "أصدقاء المراسلة" .. أو "صفحة التعارف" .. وهي شكل متطور لإنشاء الصداقات والتعارف ترافق مع التطور الإعلامي المكتوب .. ليزداد هذا التطور مع التطور الإعلامي المرئي والمسموع وكذلك مع ما شهده هذا العصر من ثورة تقنية .. واقتحام الانترنت للبيوت والمجتمعات ليصبح فرداً هاماً من أفراد الكثير من الأسر.
ومع هذا التطور التقني وجد عالمنا الواقعي عالماً توأماً له أو يكاد يكون توأمه .. وهو العالم الافتراضي الذي استنسخ كل مظاهر الحياة والقيم والمفاهيم من العالم الواقعي ونقلها إليه ليصبغها بصبغته ويصفها بوصفه .. فبتنا نسمع عن الصداقة الافتراضية .. بل حتى عن الحب الافتراضي .. وبات الانترنت واحداً من عوامل حفظ استقرارنا النفسي أو زيادة الضغوط علينا حسب طبعاً ما نعايشه ونجده فيه.
إن ارتباط روحين أو فكرين أو كليهما معاً برباط الصداقة لا يشترط المشاركة المادية في المكان .. ولا حتى التوافق في الاعتقاد والجنس .. لكن ما بين العالمين الافتراضي والحقيقي من اختلافات يجعل التساؤل مشروعاً حول حقيقة وجود الصداقة في العالم الافتراضي .. وكذلك وجود ضدها الأبدي المعروف في عالمنا الحقيقي ألا وهو العداوة.
فهل الصداقة الافتراضية موجودة؟؟ .. وهل العداوة الافتراضية موجودة أيضاً؟؟
حين ننظر إلى الفروقات بين العالمين الافتراضي والحقيقي سنجد أن تلخيصها يكون غالباً عند البعض في الفرق بين المجهول والمعلوم .. ففي العالم الافتراضي أنت تتعامل مع وسط أغلب شخوصه "وقد يكون كل شخوصه" مجهول بالنسبة لكَ .. بينما في العالم الحقيقي يتحول المجهول إلى معلوم تراه أمامك وتميزه .. ويفند مناهضو هذا التعريف لتلك الفروقات هذه المقولة بأنك في العالم الحقيقي ترى الأشخاص لكن المجهول يبقى مجهولاً إذ أنت لا تستطيع أن تعرف ما في نفوسهم حالاً إلا إذا تعاملت معهم واقتربت منهم و"جربتهم" .. وقد تسبب الرؤية المباشرة للشخص لديك أحياناً حكماً مسبقاً يضعه في إطار قد يكون جائراً مجحفاً .. أو يفوق ما يستحقه شخصه .. ولابد لتلك الأحكام المسبقة أن تؤثر حينها على مدى استعدادك للتعامل مع ذلك الشخص.
بينما تنتفي تلك الأحكام في العالم الافتراضي إذ يتيح لك فرصة التعامل مع الأشخاص بعيداً عنها ويفسح المجال أمامك للتعرف على الأفكار قبل الوجوه وهذه فرصة "ذهبية" كما يراها مناصرو هذه الطريقة لا تتاح لنا في العالم الحقيقي .. وما يشهده العالم الافتراضي من تطور أتاح له أن يتحول بسهولة إلى عالم مرئي مهما بعدت المسافات واختلفت الثقافات يزيد من إيجابيّاته ويقويّها في نظر هؤلاء.. وبالتالي تنتفي مشكلة التعامل مع المجهول في أحيان كثيرة إذ يختصر الطرفان الوقت فيجعلان التعارف مرئياً منذ البداية من خلال وسائل الاتصال المساعدة المعروفة.
إن التمعن فيما سبق من وجهتي النظر المختلفتين يجعلنا نرى كلاً منهما محقّة ضمن إطار معين .. ونعود هنا إلى تعادل الكفتين وعدم رجوح إحداهما على الأخرى .. فرؤيتنا للأشخاص بصورة مباشرة لا تعني سهولة معرفة ما في نفوسهم تلك التي لا يعلم كنهها إلا الله .. وقد نعايش إنساناً لسنوات طويلة ولا نكتشف معدنه نفيساً كان أم خبيثاً .. ليأتي موقف حاسم فيبين لنا ذلك .. لكن أحياناً بعد فوات الأوان وتكبد الخسائر الجسيمة.
لكن في المقابل نجد أنفسنا في العالم الافتراضي غير قادرين حتى على تمييز من نتعامل معهم من حيث الجنس .. وكون هذا العالم يتيح التعامل مع الأفكار كما يقول مؤيدو العلاقات فيه لا يعني بالضرورة أن تلك الأفكار ليست ادعاءات بعيدة كل البعد عن حقيقة مدعيها .. فقد يصل بنا الأمر إلى أن نولي ثقتنا لمن نظنها صديقة مثقفة ولطيفة .. لنكتشف فيما بعد أن تلك الصديقة ما كانت إلا شاباً عابثاً لاهياً "أو العكس" .. وقد تشدنا أفكار ذلك الكاتب ومواهبه .. لنكتشف أنه مدع كاذب.
فخطورة الأمر تكمن في سهولة الخداع وتيسره بصورة تفوق العالم الحقيقي بكثير .. فأنا غير قادر على معرفة مع من أتعامل في الحقيقة.
لكن بعيداً عن هذه الفكرة سنجد أنفسنا في العالمين الحقيقي والافتراضي أمام عامل مشترك واحد وهو في الوقت ذاته أساس ثابت تقوم عليه كل علاقة مهما كانت ألا وهو "الذات" وما تتمتع به أو تفتقده من خصال وصفات.
إن النفوس معادن .. وهذه مقولة تصلح لكل زمان .. ولكل مكان .. فحين يكون معدن النفس أصيلاً ثميناً راقياً لن يغيره وجودها في أي زمان ومكان .. أو لنقل في أي "عالم" حقيقياً كان أم افتراضياً .. وكذلك الأمر حين يكون معدن النفس بخساً رخيصاً وضيعاً فلا يمكن أن يسمو ويرتفع حيثما كان في العالم الحقيقي أو الافتراضي.
والصداقة تعتمد قوتها وعمق رابطها على معدن النفوس ومدى توافقها .. وهي للأسف لا تشترط التوافق في الخير فقط .. ونقول هنا للأسف لأنها قد تتحول أحياناً إلى قناع يغطي وجهاً خبيثاً للعلاقات الإنسانية وهو التوافق والاجتماع على الظلم والزيف بين من ملأت الشرور نفوسهم ووحدت الأهداف العدوانية لا الإنسانية بينهم.
ولكون العلاقات التي تتم في إطار الصداقة هي جزء من التجارب الإنسانية فهي كغيرها من تلك التجارب خاضعة للفشل أو النجاح .. محتاجة إلى شروط معينة لنشوئها وكذلك لاستمرارها.
إن العالم الافتراضي كما العالم الحقيقي يتيح ذلك الهامش من إمكانية التقاء الناس والتعامل معهم والتعرف عليهم وعلى ما يحملون من أفكار ومبادئ ورؤى .. وحين يدرك الإنسان حقيقة الصفات التي يتمتع بها العالم الافتراضي سيكون قادراً على إنشاء علاقات لا تختلف عما ينشئه في عالمه الحقيقي لا من حيث خصائصها ولا متطلباتها .. وبالتالي سنجد الاعتراف بوجود علاقات ومشاعر في هذا العالم أكثر سهولة ويسراً لأننا في النهاية نتعامل مع نفوس بشرية لا آلات وتلك النفوس تحمل المشاعر والعواطف والصفات الإنسانية مهما كان وصفها "إيجابياً أم سلبياً".
وقد تتكون الصداقة في العالم الافتراضي وتنجح في الوصول إلى مدى عميق وبعيد ليكلل اللقاء تلك الرابطة وينجح في تحقيق الاندماج بين الافتراض والواقع ويفوز المرء حينها بصداقة تدوم العمر كله لم تكن لتتح له ربما في العالم الحقيقي وحده .. وقد يحدث ألا يبلغ التعارف مدى الصداقة العميقة أو يفشل فشلاً ذريعاً تاركا الحسرة والألم في النفس تماماً كتجارب الصداقات الفاشلة في العالم الحقيقي.
وكما يرتبط وجود الصداقة والحب والإعجاب وغيرها من القيم والمشاعر الإنسانية الإيجابية في العالم الافتراضي بما ذكرنا سابقاً من معطيات .. فكذلك الأمر بالنسبة للمشاعر السلبية كالعداوات والغضب والتباغض والحروب والمكائد وغيرها من فظائع ما قد تحمله النفوس من سلبيات.
للأسف لم يسلم العالم الافتراضي أبداً من وجود ما يشهده العالم الحقيقي من حروب وعداوات .. ووجود منتصر ومهزوم .. جان وضحية .. ولا نتكلم هنا عن انتقال ميادين الحروب والصراعات السياسية والإقليمية من المواجهات الواقعية إلى الافتراضية كصراعنا مع إسرائيل مثلاً .. بل نرمي إلى تلك الحروب والعداوات الرهيبة التي تنشأ بين الأفراد في العالم الافتراضي .. التي لا تتوانى عن استخدام كافة الأساليب مهما بلغت دناءتها لتوجيه الضربات إلى من صار في نظر مديري تلك الحروب ومشعلي فتنها "عدواً" يجب الانتقام منه .. لا بل وتدميره أيضاً.
وبنظرة إلى أسباب تلك العداوات والفتن التي لا تلبث أن تتحول إلى حروب ضارية سنجد ما نجده في عالمنا الواقعي من أسباب العداوات ومحرضاتها: كالغيرة والحسد والحقد .. الرغبة في السيطرة والتفرد .. الاختلاف في الرأي والتوجه والأهداف .. وغيرها من الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف والعداوة.
وقد تتدرج العداوة فلا تصل إلى المرحلة المشتعلة سريعاً .. فتبدأ باختلاف .. يتطور إلى مقاطعة .. ثم عداء يطفو على السطح مع أول تصادم .. لتعلن الحرب بعدها وتشتعل الفتن .. وطبعاً بصورة لا تقل فظاعة أبداً عنها في عالمنا الحقيقي بل تفوقها أحياناً في مدى انحدارها نظراً لكونها أكثر علنية .. ولكون "جمهور المتفرجين" أكبر مما هو عليه في العالم الحقيقي.
وسواء أكانت الصداقة أم العداوة في العالم الافتراضي موجودتين تماماً كوجودهما في عالمنا الحقيقي أم لا يبقى الاعتراف بهذه الأمر أو إنكاره مرتبط بنظرة كل منا وتعريفه وتحديده للمفهومين .. لكن ما نريد أن نؤكد عليه في النهاية هو أن اختلاف العالم الافتراضي عن الحقيقي لا يعني عدم خضوعه كالحقيقي لذات المنظومة الأخلاقية والإنسانية وذات الحدود التي سيُسأل عنها الإنسان: اقترفها وتجاوزها .. أم تجنبها وحافظ عليها؟؟ .. وأن الرجوع فيه إلى جادة الحق والصواب فضيلة تدل على معدن النفس ورقيها .. وخاصة في هذه الأيام المباركة الطيبة التي تغمرها المغفرة والرحمة وتُفتح فيها أبوابهما واسعة أمام كل راغب ساع إلى التوبة والرجوع إلى الحق .. وهي فرصة ذهبية ودعوة لنا جميعاً إلى التسامح والتصالح مع الذات أولاً .. ومع الآخر .. دعوة إلى الانتصار للإنسانية وقيمها الموجودة فينا .. ولإسكات وساوس شياطين الإنس قبل غيرهم .. دعوة لجعل عالمنا الافتراضي صورة ناصعة لما نريد أن يكون عليه عالمنا الحقيقي .. لا لنعيش تلك الصورة الجميلة افتراضياً بل لنمهد لنقلها إلى عالمنا الحقيقي وواقعنا المعاش ليكون أكثر إنسانية وجمالاً.
وعن نفسي ورغم أنه ما من خلاف بيني وبين أي من شخصيات مكتوب إلا أنني أؤكد أن يدي ممدودة للجميع وصفحاتي ترحب بكم جميعاً على حد سواء مهما حدث بيننا من اختلاف في وجهات النظر والآراء.
وكل عام وأنتم جميعاً بألف خير
الصداقة هي تجاوب بين طرفين..تجاوز عن الزلات وأحتواء للعثرات
ومواقف في الأزمات…هذا مختصر مستلزمات الصداقة