إن التطور الذي عرفته العلوم التجريبية في العصر الحديث نتيجة اعتمادها على التجربة كمصدر لليقين أدى إلى سعي مختلف العلوم الأخرى إلى محاولة تجسيد الدراسات العملية على مختلف ظواهرها، ونجد من بين هذه العلوم العلوم الإنسانية، ونتيجة لاختلاف الظاهرة الطبيعية عن الإنسانية أصبحت مسألة دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية غير ممكنة، وفي مقابل ذلك نجد أن الميزة التي امتازت بها فرضت خصوصية ومنهج منظم يمكن الظاهرة الإنسانية من تحقيق العلم، التناقض الموجود بين التصورين فرض جدلا ونقاشا بين الفلاسفة والعلماء. فهل يمكننا الإقرار بإمكانية خضوع الظاهرة الإنسانية للتحقيق العلمي؟
يرى بعض الفلاسفة والعلماء عدم امكانية دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية، لأنها تمتاز بجملة من الخصائص والمميزات التي تجعلها تختلف عن الظاهرة الطبيعية مما أدى إلى وجود عدة عوائق تصادف الباحث عند محاولته دراسة أي ظاهرة إنسانية فالظاهرة التاريخية مثلا تختلف عن المادية لهذا نجد بعض المفكرين يظنون أن التاريخ لا يمكنه أن يكون علما كغيره من العلوم منهم وليام دلتاي وكروتشه نتيجة العوائق التي تصادف المؤرخ كون الحادثة التاريخية حادثة إنسانية: أي أنها تتعلق بما يحدث للإنسان فقط، لأن التاريخ لا يدرس ماضي الظواهر الطبيعية بل الظواهر الإنسانية من حيث أنها حوادث محددة بالزمكان " الزمان والمكان " لا يمكن تكرارها وملاحظتها من جديد لهذا لا يمكن فصلها عن الزمان والمكان الخاصان بها وإلاّ فقدت صفتها التاريخية. كما أنها حادثة اجتماعية لأن الحوادث الفردية لا تكون تاريخية إلاّ إذا تمكن أصحابها من التأثير على سير الحوادث إما عن طريق إحداث تقاليد جديدة كما يحدث ذلك في الفن والعلم والدين، وإما عن طريق توجيه الجماعات كما يفعل ذلك رجال الحكم والزعماء. أي أن الحادثة لا تكون تاريخية إلاّ إذا شمل صداها مجتمعا بأسره مهما كان هذا المجتمع كبير أم صغير. إضافة إلى أنها حادثة تعرف بطريقة غير مباشرة على خلاف الملاحظة الطبيعية التي تتم بطريقة مباشرة وبالتالي يمكن التجريب عليها، لهذا فهي – الإنسانية – غير قابلة لأن تحدث مرة جديدة بطرق اصطناعية، كما أنها غير قابلة للتعميم ذلك أن المؤرخ لا يمكنه أن التأكد من صحة افتراضه عن طريق التجربة العلمية، أي أنه لا يستطيع مثلا أن يحدث حربا "تجريبية " حتى يتأكد من افتراضاته، وبالتالي استحالة الوصول إلى قوانين عامة، وهذا ما من شأنه أن يمنعنا من التنبؤ بحدوث الظاهرة في المستقبل. وما يؤكد استحالة دراسة الحادثة التاريخية دراسة علمية هو صعوبة تحقيق الموضوعية لأن المؤرخ إنسان ينتسب إلى عصر معين ومجتمع معين، فهو لا يستطيع -على الرغم من اجتهاده في أن يكون موضوعيا – أن يكتب التاريخ إلاّ طبقا للواقع الذي يحياه، فيعيشه من خلال قيمه واهتماماته، وتربيته، فالمواطن الجزائري الذي يكتب عن تاريخ فرنسا قبل 1962 ليس هو المواطن الذي يكتب عنه بعد هذا التاريخ، ذلك أن الماضي يعاد بناؤه، كما أننا لا نستطيع أن نطلب من الاشتراكي أن يعطينا دراسة موضوعية حول الرأسمالية.
ومن جهة أخرى نجد أن الظاهرة الاجتماعية تستحيل فيها أيضا الدراسات العلمية نتيجة الخصائص التي تمتاز بها والتي جعلتها تختلف عن الظاهرة الإنسانية ،هذا ما حاول أن يؤكد عليه العديد من الفلاسفة من بينهم كارل مانهايم ماكس فيبر، وماكس شيلر. فهي ليست اجتماعية خالصة أي أنها تنطوي على خصائص بعضها بيولوجي وبعضها نفسي، لهذا اعتقد البعض أنها تلحق بالدراسات البيولوجية ما دام الذي يميزها لا يختلف كثيرا عن الظواهر الحيوية أو البيولوجية وما يميزها من قوانين تخضع له أيضا ظواهر المجتمع، ويميل البعض إلى أنها تلحق بالظواهر النفسية لأن ما تنطوي عليه من خصائص يتفق إلى حد كبير مع ما تقوم عليه الحادثة النفسية، ويتجه صنفا آخر إلى تفسيرها تفسيرا تاريخيا لأنها لا تكاد تتطور في الزمان والمكان حتى تدخل في الماضي. كما أنها ظاهرة إنسانية لا تشبه الظواهر الطبيعية، فهي مرتبطة بحياة الإنسان ن وهذا الأخير متغير لا تتحكم فيه الحتمية التي تخضع لها الظواهر الطبيعية، وبالتالي لا يمكن ان تخضع للبحث العلمي، كون الإنسان يملك حرية الإرادة في التصرف، فالزوج مثلا في مستطاعه أن لا يطلق زوجته بالرغم من حضور الأسباب المهيئة للطلاق. هذا ونجد أيضا الظاهرة الاجتماعية ظاهرة خاصة وليست عامة لأنها تتعلق بالفرد، وما هو خاص لا يكون قابل للدراسة من الخارج بفضل التحليل والتجريد، وهذا ما يجسد الدراسات الذاتية في الدراسات الاجتماعية، الشيء الذي جعل هذه الأخيرة كيفية لا كمية أي قابلة للوصف لا التقدير الكمي يقول جون ستيوارت ميل :" إن الظواهر المعقدة والنتائج التي ترجع إلى علل وأسباب متداخلة ومركبة لا تصلح أن تكون موضوعا حقيقيا للاستقراء العلمي المبني على الملاحظة والتجربة."
ومن العوائق التي تصادف عالم الاجتماع عند دراسته للظاهرة الاجتماعية نجد صعوبة تحقيق الموضوعية كما هو الشأن في الظواهر الطبيعية، وهنا يؤكد أحد العلماء وهو جبسون gibson على أن تحقيقها الكامل في العلوم
الاجتماعية يعتبر مثلا أعلى يصعب تحقيقه،لأن الباحثين الاجتماعيين هم أفراد يعيشون في مجتمعات يتفاعلون مع أوضاع الحياة القائمة، ويقبلون ألوانا معينة من أساليب التفكير والسلوك القائمة في مجتمعاتهم، ومن ثمة هناك عوامل قد تنأى بهم عن الموضوعية فالمركز الذي يشغله الإنسان والطبقة التي ينتمي إليها والعصر الذي يعيش فيه قد تؤثر فيما يتوصل إليه من نتائج أو فيما يصدره من أحكام، وبالتالي لا يمكن للعلوم الإنسانية أن تتخلص من أثار الإيديولوجيا هذه العوائق كلها أدة إلى استحالة تطبيق التجربة على الظاهرة الإنسانية، الشيء الذي يقف كعقبة أمام الوصول إلى قوانين عامة تفسر حقيقتها، وبالتالي صعوبة التنبؤ.
أما إذا جئنا إلى الحياة النفسية نجد الظاهرة النفسية لها هي الأخرى جملة من الخصائص التي جعلتها تختلف عن الظاهرة الجامدة، الشيء الذي ولد عدة عوائق أمام علماء النفس باعتبار علم النفس علما يعنى بدراسة الحوادث والحالات النفسية للكشف عن قوانينها بعيدا عن النفس كجوهر ميتافيزيقي هذا ما حاول أن يؤكد عليه برغسون ووليام جيمس واهم العوائق التي تصادف الباحث أو الدارس نذكر من أهمها ما يلي :
موضوع غير ثابت ولا يعرف مكان محدد كما هو الشأن في ظواهر الطبيعة، فلا مكان للشعور ولا محل للإنتباه ولا حجم للتذكر أو الحلم، لأن الحوادث النفسية تمتاز بالديمومة والحركية ولا تبقى على حالها في زمنين متواليين لهذا فإن تطبيق المنهج التجريبي عليها يعني القضاء على ديمومتها، ودراستها كماض لا كحاضر، أي كشيء ثابت جام لا ظاهرة حية. كما نجد أيضا الظاهرة النفسية تمتاز بشدة التداخل والاختلاط بحيث يشتبك فيها الإدراك مع الإحساس، والذكاء مع الخيال، والانتباه مع الارادة…، دون نسيان أنها حادثة كيفية لذلك فهي قابلة للوصف ولا يمكن قياسه مثل الظاهرة الطبيعية كأن أقول إن شعوري يقدر بمائة كلم كما أن اللغة المستعملة تعجز أحيانا عن وصف كل ما يجري بداخل النفس، فضلا عن تدخل اللاشعور نتيجة صدور من الفرد سلوكات وأفعال لا يعي أسبابها. إضافة إلى ذلك نجد الظاهرة النفسية حادثة شخصية داخلية لا يعرفها إلاّ صاحبها، كما أننا لا نجد نفس الحالة الشعورية عند جميع الأفراد وحتى إن كان الموضوع المشعور به واحد.
النقد
لكن إذا كانت هذه العوائق – سواء التي تتعلق بالموضوع أو الذات – تحول دون تطبيق المنهج التجريبي في الظاهرة أو الحادثة التاريخية بشكل، فإن هذا لا يعني البتة أنه لا يمكن دراستها دراسة علمية لجعل التاريخ علما قائما بذاته، فإذا كان الاستقراء التجريبي هو الأنسب لدراسة علوم المادة فإن العوائق الإبستيمولوجية التي صادفته أدت إلى استحداث منهج يسمح بدراسة الحادثة التاريخية دراسة علمية، ويعتبر ابن خلدون السباق إلى رسم منهج واضح المعالم يمكننا من دراسة الحادثة التاريخية ويفسرها أي أنه لم يكتف بمجرد نقلها والإشارة إلى مكان حدوثها من عدمه، بل تجاوز ذلك إلى تفسيرها وربطها بعللها أسبابها
يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية بشرط تكييف المنهج العلمي وخطواته وفق ما يتماش مع طبيعة الظاهرة المدروسة ففي الظاهرة التاريخية مثلا نجد ابن خلدون يؤكد على امكانية تحقيق الموضوعية فيها، وذلك من خلال منهج قائم على مجموعة من الخطوات تتجسد من خلالها خطوات المنهج التجريبي والقائمة أساسا على :
أولا : جمع المصادر: والتي يمكن أن نميز فيها نوعين من المصادر التاريخية " إرادية وغير إرادية " فالمصادر الإرادية تتمثل في تلك الأثار والوثائق التي أنجزها الإنسان واحتفظ بها قصد تأريخ الحادثة وإخبار الآخرين بها كالمجلات والصحف، ورسائل القادة التاريخية، ونصوص الاتفاقيات والروايات والمعاهدات المختلفة، والقصص الواردة في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة… إلخ.
المصادر الغير إرادية : تتمثل في مختلف المصادر والآثار التي تركها الإنسان عن غير قصد، والتي فرضتها الحاجة إليها، كالحصن والأبراج والأسلحة التي تم تشييدها من أجل الحماية والدفاع عن النفس أو الدولة والمملكة، إضافة إلى النقود مثلا التي صنعت لتسهيل التعامل والتبادل التجاري.
هذه العملية على حد تعبير ابن خلدون مشروطة بمعرفة طبائع العمران، فلا يصح مثلا أن يتحدث باحث على ما يصطلح عليه اليوم " حرب المدن أو الشوارع " في سياق حديثه عن حروب ومعارك تنتمي إلى العصور الوسطى أو القديمة، بمعنى أن معرفة طبائع العمران طريق إلى معرفة إمكانية حدوث الواقعة من عدمها يقول ابن خلدون في حديثه عن الكيفية التي يتعامل بها مع الخبر:"… إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلة القدم والحيد عن جادة الصدق…"
02 – مرحلة النقد :
بعد جمع المصادر يجب على المؤرخ تفحصها ونقد الوثائق كلها، وعليه أن يعتبر "كل وثيقة مدانة حتى تثبت براءتها" أي عليه أن يشك في أمانة وصحة الأخبار التي تتضمنها كل وثيقة حتى يتمكن من الكشف عن كل مبالغة وتزييف أو تحريف فيها، وفي هذه المرحلة يميز المؤرخون بين نوعين من النقد " الخارجي والباطني "
أ – النقد الخارجي أو المادي :
يتناول شكل الوثيقة الخارجي ومادتها حتى يتأكد من حقيقتها وأصلها إذ قد تكون الوثيقة التي تسقط بين يديه صورة محرفة للوثيقة الأصلية الحقيقية، فإذا كانت هذه الوثيقة مثلا رسالة عليه أن يدرس الورق المستعمل، والحبر والخط، والأسلوب والإمضاء… إلخ وفي هذا المجال يستعمل المؤرخ تقنيات وطرق علوم أخرى كالكيمياء وعلم الآثار،وعلم الخط….،إلخ، فمن اللا منطقي مثلا أن يأخذ الباحث أو المؤرخ بوثيقة كتبت بالآلة الراقنة كشاهد حي على حادثة
وقعت في زمان لم يبلغ بعد لمستوى هذه التكنولوجيا، وهذا يعني أن نوع الخط يكون موضوع نقد من قبل الباحث بغض النظر عن تفحص نوع المادة كنوع الورق او الحبر. وإذا كان هذا المصدر نقود أو سلاحا أو أوسمة وجب على المؤرخ تفحص نوع المعدن، طبيعة او نوع المواد الكيمياوية إذا كان المصدر من الآثار الفنية أو القديمة.
النقد الباطني " الداخلي " :
يختبر مدى صحة مضمون الوثيقة وذلك بمقارنتها بوثائق أخرى ذات منابع مختلفة فيكشف عن وجه الاختلاف والاتفاق ثم يقوم بدراسة شخصية صاحبها قصد معرفة العوامل المختلفة التي قد تؤثر فيه وتدفعه إلى الكذب، وقد حدد إبن خلدون في كتابه المقدمة أسباب كذب الراوي وحصرها فيما يلي :
– التشيع لآراء المذاهب " مناصرة قضية أو مذهب " فإن النفس إذا كانت على حال من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا استسلمت وتشيعت لرأي او نحلةٍ قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة ن وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحص فتقع في قبول الكذب ونقله
– الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والترجيح.
– الذهول عن المقاصد " السهو، التغافل والخروج عنه " فكثيرا من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين او سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه ن فيقع في الكذب ومنها توهم الصدق
– الجهل بتطبيق الأحوال على الواقع " الخروج عن سياق الخبر " لأجل ما يداخلها من التلبس والتصنيع فينقلها المخبر كما رآها وهي التصنع على غير الحق في نفسه.
– التقرب إلى أصحاب التجلة والمراتب " أصحاب الجاه والاعتبار " بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة.
– الجهل بطبائع الأحوال العمراني، فإن كل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته يعرض له من أحواله، فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على الصدق من الكذب.
وفي هذه المرحلة من النقد يتحول المؤرخ إلى خبير نفسي يثبت درجة مصداقية صاحب الوثيقة ومدى اطلاعه على الأخبار والمنابع التي استقاها منها.
03 – المرحلة التركيبية للحادثة التاريخية :
بعد الانتهاء من التدقيق والتمحيص للمصادر عن طريق النقد يلجأ المؤرخ بعد هذا إلى محاولة تركيب الأحداث ترتيبا مكانيا و زمانيا وتنسيقها مع مراعات العلاقة القائمة بينها لآن الأحداث المشتة المنعزلة لا تعطينا علما تاريخيا وإذا ما وجد في ترتيبها بعض الفجوات أو أحداث تاريخية غير موجودة يلجأ إلى ملئها بافتراضاته واستنتاجاته الخاصة المستوحاة من الحقائق التي تحدثت عنها تلك الوثائق، وعليه في الأخير أن يقيم الحادثة وأن يبرز مدى أهميتها وتأثيرها في مجرى الحياة الاجتماعية.
* صحيح أن هذه الدراسة المقارن التي أكد عليها ابن خلدون من شأنها أن تحقق الموضوعية ولو بنسبة معينة إلاّ أن هذا لا يعني تجسيد التجربة العلمية ما دامت الظاهرة التاريخية تمتاز بخصائص مخالفة للظاهرة الطبيعية، كما أن اعتماد المؤرخ على الفرض لملأ الفجوات يجعل التفسير ذاتي وقد تنحرف الحادثة عن المعنى المقصود لها، وهذا ما من شأنه أن يؤدي إلى انحراف الحادثة التاريخية عن مقاصدها وبالتالي تحريفها.
أما إذا جئنا إلى دراسة الظاهرة الإجتماعية دراسة علمية نجد ابن خلدون من الأوائل الذين عملوا على فهم الظواهر الاجتماعية ودراستها دراسة تجريبية وتجاوز العوائق التي تصادف ذلك، وأطلق على هذا العلم إسم " عمران العالم "، ثم جاء بعده أوغيست كونت زعيم الفلسفة الوضعية وكان هو أول من استعمل اسم " علم الاجتماع " وبعد ذلك تناول إيميل دوركايم الظاهرة الاجتماعية من خلال دراستها دراسة تجريبية قائمة أساسا على تحديد
خصائصها، والعوامل التي تتحكم فيها وأهم الخصائص :
الظاهرة الاجتماعية خارجة عن شعور الأفراد، ذلك أنهم ليسوا هم من خلقها، لأن الفرد يولد ويجد المجتمع كاملا أمامه بعاداته وأعرافه وقوانينه وهو يخضع لها فالدين مثلا سابق عن وجود الفرد المؤمن فهو يجده تام التكوين منذ الولادة ،يقول دوركايم ": لما كان هذا العمل المشترك يتم خارج شعور كل فرد منا فإنه يؤدي بالضرورة إلى تثبيت وتكريس بعض الضروب الخاصة من السلوك والتفكير، وهي تلك الضروب التي توجد خارجة عنا، والتي لا تخضع لإرادة أي فرد منا على حدة." أي أن دوركايم يؤكد على أن علم الإجتماع ما كان له أن يوجد إلاّ عندما شعر المفكرين بأن الظواهر الاجتماعية أشياء ذات وجود حقيقي وبأنه يمكن دراستها حتى وإن لم تكن أشياء مادية بمعنى الكلمة. يقول دوركايم :" إن الظواهر الإجتماعية أشياء ويجب أن تدرس على أنها أشياء، وإذا أردنا البرهنة على صدق هذه القضية فلسنا في حاجة إلى دراسة طبيعة هذه الظواهر دراسة فلسفية ". ويوضح دوركايم معنى الشيئية بقوله :" إننا لا نقول في الواقع أن الظواهر الاجتماعية أشياء مادية، ولكننا نقول إنها جديرة بأن توصف بأنها كالظواهر الطبيعية تماما…، ومعنى أن نعتبر الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء هو دراستها بنفس الطريقة التي تدرس بها الظواهر الطبيعية، أن نتحرر من كل فكرة سابقة حول هذه الظواهر، وأن تأتي معرفتنا بها من الخارج عن طريق الملاحظة والمشاهدة، وليس من الداخل عن طريق التأمل والاستبطان، وليس معنى أننا نعالج طائفة خاصة من الظواهر على أنها أشياء هو أننا ندخل هذه الظواهر في طائفة خاصة من الكائنات الطبيعية، بل معنى ذلك أننا نسلك حيالها مسلكا عقليا خالصا، أي أننا نأخذ في دراستها وقد تمسكنا بهذا المبدأ الآتي، وهو أننا نجهل كل سيء عن حقيقتها، وأننا لا نستطيع الكشف عن خواصها الذاتية وعن الأسباب المجهولة التي تخضع لها عن طريق الملاحظة الداخلية مهما بلغت هذه الطريقة مبلغا كبيرا من الدقة. وهكذا يعتبر دوركايم أن التحرر من كل فكرة سابقة وتفسير الاجتماعي بالاجتماعي واعتبار الظواهر الاجتماعية كأشياء هي مقومات الأسلوب العلمي الوضعي القائم على الوصف والتحليل ومنطق المقارنة، فلا يقيم وزنا للتخيل والتأمل والاستبطان الداخلي والآراء الذاتية.
كما نجده أيضا تماتز بأنها ظاهرة إلزامية جبرية، والأفراد والجماعات ملزمون بتطبيقها ومن يخالفها يتعرض للعقاب يقول دوركايم :" لست مجبرا على استخدام اللغة الفرنسية كآداة للتخاطب مع أبناء وطني، ولست مضطرا إلى استخدام النقود الرسمية، ولكن لا أستطيع إلاّ أن أتكلم هذه اللغة وإلاّ أن أستخدم هذه النقود ولو حاولت التخلص من هذه الضرورة لباءت محاولتي بالفشل."
هذا ونجدها ظاهرة جماعية تتمثل فيما يسميه دوركايم بالضمير الجمعي، أي انها لا تنتسب لأي فرد من الأفراد ولا إلى جماعة من الأفراد، فهي تلقائية عامة يشترك فيها جميع الأفراد، وتتكرر مدة طويلة من الزمن.
كما تمتاز بأنها حادثة تاريخية تعبر عن لحظة من لحظات تاريخ الاجتماع البشري، فالعادات والمعتقدات والشرائع التي يتناقلها النشء عن الأجداد هي أساس التراث الاجتماعي
وهكذا توصل دوركايم إلى محاولة تفسير الظاهرة الاجتماعية تفسيرا وضعيا علميا مبتعدا عن الدراسات الفلسفية.
أما فيما يخص الظاهرة النفسية فترتبط الدراسات العلمية في مجال الدراسات السيكولوجية بإمان علماء النفس بان الموضوعية ليست حكرا على العلوم التجريبية، وقد كانت للفيزيولوجية آثارا على علم النفس، وتجسدت المبادرة الأولى مع المدرسة السلوكية بزعامة الأمريكي واطسن الذي استفاد من التجارب التي قام بها العالم الفيزيولوجي الروسي بافلوف المتمثلة في :
" أخذ بافلوف كلبا وأجرى عليه عملية تشريحية بعد أن ثبت أطرافه كلها، وأحظر أدوات لالتقاط قطرات اللعاب وقياس مقداره، فكان يقدم له الطعام ليستثير سيلان اللعاب، ولاحظ أن هذ الأخير – اللعاب- يأخذ في السيلان عند الحيوان بمقدار معين عندما يضع على لسانه قطعة من اللحم المجفف، وكان في الوقت الذي يقدم فيه الطعام يقرع الجرس، وبعد أن كرر التجربة مرات لاحظ أن قرع الجرس وحده كفيل باستثارة سيلان اللعاب، وقد اختار مصطلح المنعكس الشرطي ليؤكد وجود منعكس تكون فيه الاستجابة مرتبطة بمؤثر، وقد سمى بافلوف دراسته هذه بفيزيولوجيا الدماغ." هذه المبادرة التي قام بها بافلوف أثارت اهتمام الباحثين السيكولوجيين في فهم كل عمليات التعلم من عادة وتذكر وإدراك، الشيء الذي فتح أفاق جديدة في دائرة الدراسات النفسية مع واطسون الذي رفض أن يعنى علم النفس بدراسة المفاهيم الفلسفية والتأملية كالشعور،والتفكير والعقل داعيا إلى حذف الاستبطان باعتباره المنهاج المعتمد في دراستها، وأن كل ما قام به التركيبيين هو أنهم استبدلوا كلمة الروح الميتافيزيقية بكلمة الشعور التي تحاكيها غموضا وتماثلها في أنها غير محسوسة وغير قابلة للقياس الشيء الذي جعل الشعور غير قابل للدراسة العلمية،يقول واطسون ": إن علم النفس كما يرى السلوكي فرع موضوعي وتجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية هدفه النظري التنبؤ عن السلوك وضبطه "… " ويبدو أن الوقت قد حام ليتخلص علم النفس من كل إشارة إلى الشعور."هذا ما جعل واطسون يدعو إلى أن تكون مهمة علم النفس دراسة السلوك باعتباره استجابة أو رد فعل على المنبهات التي تنصب عليها من جهة والتنبؤ بالسلوك وضبطه من جهة أخرى، فالسلوك كما هو معروف أفعال قابلة للملاحظة والقياس،وهو ما يجعله أساسا صالحا لأن يكون لأن يكون موضوعا لعلم النفس " فإذا لم تكن قادرا على رؤية ما تدرسه وتقيسه إنسَهُ"، كما أكد واطسون على قيمة البيئة في السلوك وتشكيله وقلل من شأن السلوك الغريزي إن لم ينفه إطلاقا،فالإنسان صُنعة البيئة والتنشئة حتى إنه بضبط البيئة والتحكم فيها يمكن أن يجعل المربي من أي طفل أي شخصية يريد لهذا فإن التعلم أهم عامل محدد للسلوك.
النتائج التي وصلت إليها الطريقة السلوكية فتحت أفاقا جديدة في مجال الدراسات النفسية وظهرت مناهج متعددة لتفسير الحادثة النفسية، وتوسعت ميادين علم النفس " علم النفس الطفل، الاجتماع، الحيوان،… إلخ " فتمكن علم النفس من تجاوز العقبات والعوائق وبلوغ الموضوعية وظهرت فيه المناهج والنماذج التفسيرية الحديثة.
النقد هذه الدراسات التي قام بها العلماء سواء في الظاهرة التاريخية أو الاجتماعية وحتى النفسية جعلت العلوم الإنسانية تتغنى بالصفة العلمية لكن تحقيق الموضوعية في الظاهرة التاريخية غير قابل للتحقيق لأن التجرد من العواطف في دراسة التاريخ صعب المنال والأخذ بالمبادرة الشخصية أم ممكن واضطراري لأنه إنسان له مشاعر يشارك بها غيره.الشيء الذي يفتح المجال للاجتهاد الشخصي، وما لجوء المؤرخ إلى خياله لملأ الفجوات التي تصادفه عند بناء الحادثة التاريخية وترتيبها إلاّ دليل على عدم تحقيق الموضوعية، لأن العاطفة سوف تتدخل هنا.
كما أن النظر إلى الظاهرة الاجتماعية من الخارج يمكن من الوصل إلى حقيقتها، لكن ما يعاب على دوركايم هو عدم تمييزه بين الظاهرة الفيزيائية والظاهرة الاجتماعية، ذلك أنهما ليسا من طبيعة واحدة، فالظاهرة الشعورية ليست هي نفسها ظاهرة انصهار المعادن، كما الظاهرة الاجتماعية ليست خاصة. إضافة إلى ذلك رغم الجهود التي بذلها علماء النفس في المجال المنهجي، لأن النتائج التي توصلوا إليها ليست ثابتة، كما أن الحادثة النفسية ليست سلوك يتم بطريقة آلية خاضعة لتأثير المنبه، لأنه شعور لا سلوك، وهذا الأخير لا يمكن دراسته دراسة كمية قابلة للقياس، لأنه يُعرَف ولا يُعَرف ويمتاز بالديمومة لا الانفصال
التركيب وعليه يمكن القول إن الباحث في العلوم الإنسانية لا بد أن يكون متأثرا بأحواله الخاصة سواء كان عالما في التاريخ أو علم النفس او علم الاجتماع نتيجة الخصوصية التي تمتاز بها أي ظاهرة مرتبطة بهذه الظاهرة، لكن في مقابل ذلك نجد أن المنطق العلمي الحديث أعطى للظواهر الإنسانية ميزة علمية من شأنها أن تضع هذه الأخيرة في مصف العلوم لأنها لم تعد ترفا فكريا وثقافيا يمكن الاستغناء عليه،كون العلوم الإنسانية أصبحت لها أهمية قصوى في عالمنا الراهن والذي طغت عليه المادة، ذلك أن الإنسان أبح بإمكانه معرفة نفسه بنفسه، وتحقيق الرفاهية والتقدم بالبحث عن مشكلات الإنسان ووضع حلول إيجابية لها.
في الأخير يمكن القول أن الدراسات العلمية على الظاهرة الإنسانية مرتبطة بالمنهج المتبع وتكييفه حسب الطبيعة الظاهرة الإنسانية، وبالتالي يمكن للدراسات القائمة في مجال العلوم الإنسانية من أن تخلع على نفسها صفة العلم بالمفهوم الذي ينطبق مع خصوصيات ميدانها، الشيء الذي جعلها – العلوم الإنسانية – تبرهن على أنها قادرة على تجسيد صفة الموضوعية ولو بنسبة معينة على مستوى معرفة الإنسان لنفسه وتعزيز هويته والرضا بتعايشه مع غيره انطلاقا من الماضي كقاعدة أساسية.