مقالة فلسفية الموضوعية العلمية في العلوم الإنسانية
مقالة فلسفية الموضوعية العلمية في العلوم الإنسانية
مقالة شاملة حول فلسفة العلوم الإنسانية
هكذا سيتحول الإنسان الذي كان على امتداد التاريخ ذاتا عارفة ,إلى موضوع للمعرفة .. ! سيتحول من دارس إلى مدروس.. من كائن فوق طبيعي.. إلى كائن كباقي الكائنات.. كجزء من الطبيعة.. يخضع لقوانينها و نظمها و حتميتها … و أصبح الإنسان يؤمن بإمكانية الوصول إلى معرفة موضوعية بذاته وإلى فهمها و تفسيرها كما هو الأمر مع أي ظاهرة طبيعية أخرى.
كيف يمكن إذن موضعة ظاهرة تتميز بالوعي و الإرادة ؟ و كيف يمكن تفسير كائن تشكل الحرية أهم خصائصه الجوهرية ما يجعله عصيا عن أي تأطير سببي ؟ أو منفلتا عن أي تنبؤ علمي ..؟ و هل تصلح المناهج العلمية الوضعية للتطبيق حرفيا على الظاهرة الإنسانية أم يجب تعديلها و تكييفها مع خصوصياتها؟ أم ينبغي تغييرها بأخرى أصيلة خاصة بالإنسان؟
لقد شكل هذا السؤال العقبة الأولى أمام كل المهتمين بالعلوم الإنسانية الأمر الذي جعل البعض يتحفظ على استعمال كلمة " علم " ما دام أمر الموضوعية لم يحسم بعد.
لأن ما يميز الفهم عن التفسير حسب "مونرو" هو وضوحه و بداهته لأنه إدراك لحالة معيشة تقدم لنا كتجربة بديهية فيها نوع من المشاركة الذاتية.. فنحن مثلا نستطيع فهم أو تفهم وضعية أو موقف إنساني ما دون أن نكون قادرين على تفسيره.. لجهلنا بأسبابه الكثيرة ..المعقدة.. و المتداخلة ..و التي تبقى مع ذلك مجرد تبرير لحدوث الظاهرة.
للإجابة على هذا الإشكال يرى لادرييرJ-Ladriere أن الباحث في العلوم الإنسانية يجد نفسه حائرا أمام مسألة المنهج.. لأنه إذا قرر اعتماد المنهج التجريبي فانه سيكون مضطرا للتخلي عن كل الدلالات والمقاصد و الغايات التي قد تساعده في فهم الظاهرة الإنسانية .. إذ سيكون في هذه الحالة مطالبا بدراستها كشيء. بعيدا عن أي تأويل ذاتي . أما إذا اختار اعتماد منهج جديد يتلاءم مع طبيعة الموضوع المدروس فانه سيكون أبعد عن النموذج العلمي بصرامته و دقته المعهودة في المجال الطبيعي.
و إذا كان النموذج الأول يحاول أن يتماهى مع العلوم الحقة بالتأكيد على ضرورة وضع الذات بين قوسين و التخلي عن التفسيرات التأملية الميتافيزيقية , و محاولة إخضاع الموضوع المدروس للملاحظة الموضوعية و التجربة الدقيقة للخروج بالقوانين الحتمية . فان النموذج الثاني يظل قريبا من الفلسفة أوالأدب أو التأمل الأخلاقي.. و لم يتحرر من خطاباتها بعد .
و مع ذلك لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته هذه الأخيرة في إنارة جوانب كانت إلى وقت قريب مظلمة من العالم الإنساني , كما لا يمكن إنكار الدور السلبي الذي لعبته في تعرية الإنسان و تشييئه وإفقاده تميزه كذات خالقة للمعنى و متسمة بالوعي و الحرية و الإرادة .
اندهش الإنسان أول الأمر من الوجود.. من الطبيعة و ألغازها.. فكان التحدي الأول الذي واجهه هو محاولة فهم و تفسير الظواهر الطبيعية التي تحيط به .. و على امتداد الرحلة المعرفية استطاع كشف العديد من أسرارها لدرجة السيطرة على معظمها .. لكن بقدر ما اهتم الإنسان بالطبيعة بقدر ما نسي نفسه . أو بالأحرى لم يلتفت لذاته إلا متأخرا.. أي إلا بعدما بدأ يشعر أنه تمكن أخيرا من فهم و تفسير الطبيعة و بدأت تراوده فكرة نقل هذا النموذج الناجح لتطبيقه على الإنسان…
لقد أغرت النجاحات التي عرفها مجال العلوم الطبيعية بمحاولة الاستفادة منها لتحقيق انجازات مماثلة في العلوم الإنسانية. فتوالت الدعوات لتطبيق المناهج العلمية التجريبية و التصورات الصارمة -التي أثبتت نجاعتها في المجال الطبيعي – على المجال الإنساني.
هكذا سيتحول الإنسان الذي كان على امتداد التاريخ ذاتا عارفة ,إلى موضوع للمعرفة .. ! سيتحول من دارس إلى مدروس.. من كائن فوق طبيعي.. إلى كائن كباقي الكائنات.. كجزء من الطبيعة.. يخضع لقوانينها و نظمها و حتميتها … و أصبح الإنسان يؤمن بإمكانية الوصول إلى معرفة موضوعية بذاته وإلى فهمها و تفسيرها كما هو الأمر مع أي ظاهرة طبيعية أخرى.
لكن هل من السهل تحقيق ذلك ؟ هل بالإمكان تقديم معرفة علمية دقيقة بصدد هذا الكائن الغامض المتغير الراغب , المتخيل, المعقد , المتقلب, المتداخل الأبعاد …. و الذي يسمى الإنسان.؟
كيف يمكن إذن موضعة ظاهرة تتميز بالوعي و الإرادة ؟ و كيف يمكن تفسير كائن تشكل الحرية أهم خصائصه الجوهرية ما يجعله عصيا عن أي تأطير سببي ؟ أو منفلتا عن أي تنبؤ علمي ..؟ و هل تصلح المناهج العلمية الوضعية للتطبيق حرفيا على الظاهرة الإنسانية أم يجب تعديلها و تكييفها مع خصوصياتها؟ أم ينبغي تغييرها بأخرى أصيلة خاصة بالإنسان؟
لا يمكن الحديث عن "علم" دون توفر شرط أساسي و هو " الموضوعية" فهل يمكن أن يكون الإنسان موضوعا للمعرفة في نفس الوقت الذي يشكل هو نفسه الذات العارفة؟
لقد شكل هذا السؤال العقبة الأولى أمام كل المهتمين بالعلوم الإنسانية الأمر الذي جعل البعض يتحفظ على استعمال كلمة " علم " ما دام أمر الموضوعية لم يحسم بعد.
صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية تعود بالدرجة الأولى إلى خصوصيتها إذ يرى فوكوFoucault M- مثلا أن تعقدها و تعدد أبعادها يجعلها بالضرورة نقطة تقاطع عدة علوم و ليست موضوعا لعلم واحد .. وهو ما يجعل الدراسة أمرا في غاية الصعوبة و ربما كان ذلك هو السبب وراء صيغة الجمع التي تأخذها عادة " العلوم الإنسانية"..صعوبة الموضعة تعود كذلك لعدم قابلية الظاهرة الإنسانية للتحديد الدقيق و التكميم و الخضوع للقوانين الحتمية أو للتجريب و القياس و الترييض. يضاف إلى ذلك إشكال التداخل بين الذات و الموضوع إذ تكون الذات هي الملاحظة لذاتها و المجربة عليها .. و هو ما يثير عدة تعقيدات.
فالباحث الاجتماعي مثلا لا يستطيع الانفصال بشكل كلي عن مجتمعه الذي هو موضوع الدراسة..إذ يصعب عليه فهمه دون النفاذ إليه و دون المشاركة و الانخراط فيه. و هذا ما يراه أيضا لوسيان غولدمان l- Goldman حين يؤكد أن الباحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع أن يضع ذاته بين قوسين أو أن يتخلص كليا من الأحكام القبلية و المواقف المضمرة الجاهزة سواء تلك الواعية أو اللاواعية .باختصار تبقى المعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه جد متأثرة بالذاتية و بعيدة عن الحياد و عن الموضوعية.
لكن هناك في المقابل من يقلل من أهمية هذه الصعوبات و يرى أن الإنسان يبقى – رغم كل مميزاته- موضوعا طبيعيا كباقي الموضوعات الطبيعية.. قابلا للدراسة العلمية المادية بعيدا عن كل تناول ميتافيزيقي أو لاهوتي كما يذهب إلى ذلك رائد الوضعية اوغست كونت A- conte و بالتالي يجب معاملة الوقائع الاجتماعية مثلا كأشياء كما يدعو إلى ذلك اميل دوركايم Durkheim E- أحد مؤسسي علم الاجتماع مع إمكانية تحقيق مبدأ الحياد على حد زعم ماكس فيبر Max weber .
و هي كلها مواقف لا تجد حرجا في النظر للإنسان كأي شيء أو موضوع خارجي.. يخضع لقوانين وقابل للدراسة العلمية شريطة حرص العالم على أخذ المسافة الموضوعية الفاصلة عن موضوع دراسته بشكل يجعله لا يعي بأنه يخضع للدراسة …. لأن الوعي – كما يؤكد ذلك كلود ليفي ستراوس C-l- Strauss هو العدو الخفي لعلوم الإنسان.
تكمن قوة العلوم الطبيعية في قدرتها على تفسير مجموعة من الظواهر وهو ما مكننا من التنبؤ بها قبل حدوثها كلما لاحظنا الأسباب التي تؤدي –حتما– إليها. و بالتالي فالمعيار الحقيقي لعلمية – العلوم الإنسانية- هو مدى قدرتها على تفسير الظواهر الإنسانية و هو التحدي الذي واجهه مجموعة من العلماء.
و إذا كان الوضعيون –Durkheim وConte – لا يشككون في إمكانية التفسير بل و التنبؤ أيضا بحكم تعاملهم "الموضوعي " مع الظاهرة الإنسانية و اعتبارها شيئا كباقي المواضيع.. فان C-l Strauss يتردد في حسم هذا الأمر.. إذ يعتبر أن العلوم الإنسانية لم تحسم بعد بين التفسير و الفهم و أنها لازالت تقف في منتصف الطريق .. و لا زالت توازن بين الطريقتين بنوع من الحكمة التي تجمع بين المعرفة والمنفعة . فتفسيرها يبقى محدودا و تنبؤها غير أكيد.
بينما يذهب آخرون ك دلتي ومونرو " – Monrot Dilthiy" إلى ضرورة التركيز على الفهم أكثر بدل التفسير. إذ يرى" دلتي" أن الظواهر الإنسانية ليست ظواهر خارجية و معزولة حتى نكشف أسبابها الكامنة.. و إنما هي ظواهر حية غير متجانسة .. و لا تتكرر.. و تعطي لنا طريق تجربتنا الداخلية. و بالتالي فإذا كانت الظواهر الطبيعية تفسر فان الظواهر الإنسانية تفهم .
لأن ما يميز الفهم عن التفسير حسب "مونرو" هو وضوحه و بداهته لأنه إدراك لحالة معيشة تقدم لنا كتجربة بديهية فيها نوع من المشاركة الذاتية.. فنحن مثلا نستطيع فهم أو تفهم وضعية أو موقف إنساني ما دون أن نكون قادرين على تفسيره.. لجهلنا بأسبابه الكثيرة ..المعقدة.. و المتداخلة ..و التي تبقى مع ذلك مجرد تبرير لحدوث الظاهرة.
إن حديثنا السابق عن رغبة العلوم الإنسانية في تحقيق الموضوعية و القدرة على التفسير و التنبؤ تكشف رغبة صريحة في الاقتداء بالعلوم التجريبية ..و بمناهجها الصارمة التي تفوقت على المستوى الطبيعي.لكن هل بالإمكان تحقيق ذلك؟ أو من الأفضل أن تبحث لنفسها عن مناهج خاصة تلائم طبيعتها.
للإجابة على هذا الإشكال يرى لادرييرJ-Ladriere أن الباحث في العلوم الإنسانية يجد نفسه حائرا أمام مسألة المنهج.. لأنه إذا قرر اعتماد المنهج التجريبي فانه سيكون مضطرا للتخلي عن كل الدلالات والمقاصد و الغايات التي قد تساعده في فهم الظاهرة الإنسانية .. إذ سيكون في هذه الحالة مطالبا بدراستها كشيء. بعيدا عن أي تأويل ذاتي . أما إذا اختار اعتماد منهج جديد يتلاءم مع طبيعة الموضوع المدروس فانه سيكون أبعد عن النموذج العلمي بصرامته و دقته المعهودة في المجال الطبيعي.
هذه الحيرة تعكس في الواقع صعوبة الاختيار بين نموذجين يسميهما" ادغار موران"E-Morin : النموذج العلمي – نسبة إلى العلوم التجريبية – و النموذج الإنشائي كمنهج أصيل نابع من خصوصية العلوم الإنسانية ..
و إذا كان النموذج الأول يحاول أن يتماهى مع العلوم الحقة بالتأكيد على ضرورة وضع الذات بين قوسين و التخلي عن التفسيرات التأملية الميتافيزيقية , و محاولة إخضاع الموضوع المدروس للملاحظة الموضوعية و التجربة الدقيقة للخروج بالقوانين الحتمية . فان النموذج الثاني يظل قريبا من الفلسفة أوالأدب أو التأمل الأخلاقي.. و لم يتحرر من خطاباتها بعد .
و يتابع "موران" تمييزه بين النموذجين حين يؤكد أن الأول يتميز بكونه آلي حتمي.. يؤمن بوجود قوانين و قواعد تحكم الظواهر.. و تؤثر فيها وفق علاقات سببية خطية و منتظمة.. بعيدا عن أي تأثير للذوات أو للقوى الفاعلة.. كما لو أنها ظواهر معزولة. بينما يتميز الثاني بالحضور القوي لذات الباحث الذي لا يتردد أحيانا في استعمال ضمير المتكلم خلال أبحاثه.. دون إخفاء.. نظرا لأهمية الذات في موضعة و فهم الظاهرة.
و كحل لهذا الإشكال المتمثل في صعوبة الحسم في أي النموذجين يجب اعتماده. هناك من يرى إمكانية الاستفادة منهما معا دون تناقض على اعتبار أن القطيعة مع العلوم الطبيعية أمر غير وارد بحكم أسبقيتها الابستمولوجية , و بالتالي ضرورة الاستفادة من نجاحاتها ..لكن مع الحرص فقط على استيفاء شروط إضافية للتحكم في علاقة الباحث مع موضوعه .. من أجل ضمان أقصى درجة من الحياد الممكن ..دون أن يشكل ذلك عائقا أمام إبداع طرق جديدة ملائمة.
غير أن ميرلوبونتي Merleau-ponty لا يتردد في إعلان موقفه الجذري من هذه المسألة.. إذ يعتبر أن تحقيق معرفة موضوعية للإنسان من خلال المنهج التجريبي أمر غير ممكن ..لأنه يستحيل النفاذ إلى عمق الوجود الإنساني. كما يرفض رفضا قاطعا أية محاولة لتجزيء الإنسان أو تجاهل تجربته المعيشة . إن الإنسان- حسب هذا الموقف– كل لا يتجزأ.. و أهم ما يميزه.. انه يوجد كتجارب معيشة.. يحياها الإنسان أولا.. قبل أن يعبر عنها العلم ثانيا. و بالتالي فالمعرفة تقتضي الرجوع إلى العالم المعيش للإنسان قبل أن يتحول إلى موضوع معرفة. و هنا تكمن استحالة تطبيق النموذج العلمي عليه.
ختاما.. نقول إن معرفة الإنسان لذاته لازالت في بدايتها ..و بين اعتماد نموذج جاهز أو إبداع نماذج أصيلة لازالت المحاولات و الاجتهادات مستمرة.. مع ما يتولد عليها من نقاشات و سجالات فكرية مهمة تعتبر السبيل الأمثل لتطور سيرورة العلوم الإنسانية .
و مع ذلك لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته هذه الأخيرة في إنارة جوانب كانت إلى وقت قريب مظلمة من العالم الإنساني , كما لا يمكن إنكار الدور السلبي الذي لعبته في تعرية الإنسان و تشييئه وإفقاده تميزه كذات خالقة للمعنى و متسمة بالوعي و الحرية و الإرادة .
و بين هاذين الصورتين تبقى العلوم الإنسانية الآن ضرورة تفرض نفسها كمعرفة تزداد يوما بعد يوم تدقيقا و تخصصا ..و ربما قد يأتي يوم لا نشعر فيه بأي حرج في إدراجها ضمن العلوم الحقة ؟ أو ربما سيجيء اليوم الذي يعترف فيه روادها باستحالة فك لغز هذا الكائن المسمى الإنسان !!.