السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مفهوم القصة القرآنية
ولم يكن ذلك الاستدعاء التاريخي لبعض مظاهر القديم في جوانب منه ضرباً من التذكير العارض، أو التشويق السطحي، بل كان مثار توجيه ونصح وإرشاد، وموطن تذكير لأولي الألباب، ومثابة تقوية للعزيمة والهمة، فهو يؤنس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ويسلِّيه، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي الأَْلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وقد كانت هذه الآية آخر آية في سورة يوسف، بعد أن استغرقت قصة يوسف السورة كلها، باستثناء آيتي الافتتاح، وباستثناء ما سبق الآية الأخيرة بدءاً من قوله تعالى تعقيباً على قصة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوْحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102].
وقامت القصة القرآنية بمهمة جليلة، هي: التذكير العملي الواقعي الحيّ، تطبيقاً لقول الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
ومنهج التذكير هذا، يتجلى في القصة غايةً ووسيلة معاً، وليس أدلّ على ذلك من تتبع ظاهرة عامة، في معظم قصص الأمم السابقة البائدة، هذه الظاهرة، هي بدء القصة بالعبرة منها، وهي الادّكار والاتّعاظ، فهذه جملة قرآنية تتكرر في القرآن الكريم أربع مرات وهي: {َلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
نراها في أربع صور في قصة أربع أمم هكذا:
وعلاوة على أن هذه الآيات كلها مكية، نجدها كلها في سورة القمر، ثم تتكرر في السورة عبارات عن ((كذب)) هؤلاء الأقوام، وسوق العذاب والنُّذُر لهم، كل ذلك في سورة عدد آياتها 54 آية.
وهذا المنهج القصصي التذكيري، يتلاءم مع المنهج القرآني العام، المتمثل في الهداية والرحمة والإبانة:
والاتباع:
والتذكير:
وضرب المثل:
والتدبّر، وتثبيت الفؤاد:
والإنذار:
هذا إلى جانب التعقل والتفكر، والعلم…، والإخبار:
وهذا المنهج المتكامل من استحضار الأحداث والعبر، والتذكير، وتسلية الرسول وإيناسه والهداية والرحمة والإبانة، والإتباع، وضرب المثل، والتدبر، والإنذار وغير ذلك من أسرار المنهج الإلهي العظيم، استدعى أن يستند هذا الأسلوب العظيم، على مصطلح له اشتقاقه المتناسب مع الغوص في أعماق التاريخ، وتأمل سلوك الأمم والملوك والرعايا بما في ذلك من قصّ الأثر وتتبعه والنظر فيه: قصصت الأثر، واقتصصته، وتقصصته، وخرجت في أثر فلان قصصاً، قال تعالى: {وَقَالَتْ لأُِخْتِهِ قُصِّيهِ} [11-القصص]، {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [64-الكهف].
ولقد أشرنا إلى الآية الأخيرة من سورة يوسف {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ …}، وكانت الآية الثالثة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ…}، ويأتي التعبير نفسه مع سورة تتشابه مع سورة يوسف في اهتمامها بعرض قصة متكاملة تستغرق آيات السورة في معظمها، مع مقدمات وخواتيم موجزة، هذه السورة هي سورة الكهف، التي تبدأ القصة منذ الآية التاسعة بعد التمهيد الضروري، حتى الآية 26، ثم ترد قصص أخرى، وفي أثناء ذلك نجد قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [13-الكهف].
وتتوالى آيات القص:
وحملت سورة من سور القرآن الكريم اسم ((القصص)) وعدد آياتها 88 آية.
وكان القصص الديني عملاً من رسالات الأنبياء، له غايته السامية العظيمة:
وفي تأمل هذه الأبيات التي تضمنت غايات القص وغيرها، تبين ارتباط القص بغايات مهمة هي: الحديث، والنّبأ، والخبر.
ومن الحديث:
ومن الخبر:
وهكذا نقف على معنى القصص القرآني المرتبط بغاية سامية، والمستند إلى مادة وفيرة، عمرها القرون المتعاقبة، وأن الحدث والحديث، والخبر، والنبأ فيها هو مما يعجز عن استيعابه راوٍ أو قصاص من البشر؛ لأنه يتطلب الاستقصاء إلى أبعد مدى، والتوغل إلى أقصى غاية؛ توظيفاً لهذا الاستدعاء التراثي البعيد، في تبليغ الرسالة، وتأدية الأمانة، أمانة النبيّ الذي اشتق لقبه من مادة النبأ والإنباء، وهي جزء من صميم القصص حيث: