لحجاب دون سواه يوقظ أوروبا المسيحية!!
———-
في شهر فبراير من هذه السنة وفي مختبر للتحاليل البيولوجية في جامعة تولوز الفرنسية، حرمت صابرين تروجات (25 سنة) من منحة بحثها الجامعي… والسبب هو الحجاب!..
وفي شهر يونيو، وفي برلمان العاصمة البلجيكية بروكسيل تثير ماهينور أوزدمير (29 سنة) من أصل تركي غضب اليمين المتطرف ويرفع أحد أعضائه دعوى إلى المحكمة بغرض منعها من دخول البرلمان المحلي… والسبب أنها محجبة!..
وفي غرة يوليو الجاري، وفي محكمة مدينة "دريسدن" الألمانية تقتل وبطريقة شنيعة مروة الشربيني (32 سنة) من أصول مصرية طعناً بالسكين حتى الموت… والسبب هو الحجاب!..
وفي يوم 7 يوليو، وقبل أن تجف دماء شهيدة الحجاب (مروة الشرييني)، طُردت الفتاة الفرنسية كريمة بلعيد (27 سنة) من ورشة خياطة في مدينة جوف على الحدود الألمانية الفرنسية… والسبب هو أنها محجبة!!
الضحايا في كل هذه الأحداث هن محجبات مسلمات؛ مما يعيد طرح السؤال: لماذا كل هذا الرفض الذي يصل إلى حد الكره للحجاب في أوروبا؟.. لماذا لم ترتبط موجة العداء هذه برموز أخرى للإسلام مثل "اللحية" أو" للجلباب" أو "للمسجد" كمكان عبادة؟.. لماذا يُستهدف الحجاب بهذه الشراسة أكثر من غيره؟.. وما الذي يخفيه الحجاب في المخيال الجمعي الأوروبي من رموز حتى يقع رفضه بكل هذا العنف؟.
بدايةً نستند في اعتبارنا أن الحجاب أكثر مظهر إسلامي ظاهر عرضة للاعتداء على تقريرين، الأول هو التقرير السنوي لمنظمة ائتلاف الإسلاموفوبيا الفرنسية (منظمة إسلامية غير حكومية) الصادر في إبريل 2022. والثاني التقرير السنوي الصادر عام 2022 عن وكالة الحقوق الأساسية (الفرا)، وهي منظمة تابعة للاتحاد الأوروبي.
قصور التفسير الكلاسيكي
أما عن التفسيرات، فإنه مما لا شك فيه أن أحد التفسيرات الظاهرية لحالة الرفض (الكره) للحجاب هو تعلق الأمر بالمظهر الأكثر بروزا للدين الإسلامي في الشارع الأوروبي؛ فيكفي أن ترى فتاة محجبة في شوارع باريس أو لندن أو ستوكهولم أو روما أو مدريد؛ لتعرف أنها مسلمة، وهو غير الحال عندما يتعلق الأمر برؤية شاب أسمر في نفس هذه الشوارع؛ فاحتمال كونه مسلم مرجح ولكنه غير مؤكد في كل حال.
ولأن الحجاب علامة بارزة للوجود الإسلامي بفرنسا؛ فإن هذا –على سبيل المثال- قد دفع (جون ماري لوبان) زعيم الجبهة الوطنية اليمينة المتطرفة بفرنسا إلى رفض قانون منع الحجاب في المدارس العمومية، والذي صوتت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) في فبراير 2022، ليس حباً في المحجبات ولا في حرية المسلمين في ممارسة معتقداتهم بالطبع، ولكن حتى يقع التعرف على المسلمات بسهولة في الشوارع وليسهل مراقبتهن وتحديد ارتفاع معدلات أعداد المهاجرين!!
غير أن الحجاب كعلامة بارزة في الشارع الأوروبي لم يكن وليد هذه السنوات الأخيرة؛ فقد واجهت فرنسا باعتبارها الدولة الأوروبية التي تضم أكبر جالية مسلمة (حوالي 6 ملايين) أول "حالة حجاب" عام 1989 في أحد مدارس مدينة "كريتاي" في جنوب العاصمة باريس، وفي ذاك العام حكم مجلس الدولة الفرنسي (أعلى سلطة قضائية) بجواز لبس الحجاب في المدارس قبل أن تتراجع فرنسا عن هذا القرار بعد عشرين عاما من هذا التاريخ.وبالطبع أسهمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وبعدها الأعمال الإرهابية في كل من مدريد 2022 ولندن 2022 بدون شك في هذا التراجع للمشرع الفرنسي في إباحته للحجاب في المدارس العمومية، وذلك بسبب نماء العداء للمسلمين وكل مظاهره الظاهرة، وبالتالي فإن رؤية الحجاب في الشوارع الأوروبية بكونه علامة لا تحيل إلى الدين الإسلامي فحسب؛ بل إلى دين أصبح أتباعه في العشريات الأخيرة "إرهابيون" مفترضون حتى تثبت براءتهم!
لكن هذا التفسير الكلاسيكي لظاهرة نماء الإسلاموفوبيا وكره الحجاب ربما يكون قاصرا عن فهم أو غير ذي مقنع بتفسير كل هذا العنف الرمزي كالإقصاء من الفضاء العام (في حالة قانون منع الحجاب في المدارس العمومية الفرنسية) أو العنف المادي ( ضرب المحجبات)، وصولا إلى حادثة القتل الشنيعة للشهيدة مروة الشربيني في أحد محاكم ألمانيا، ولذا نحتاج إلى تفسيرات أخرى أكثر عمقا لفهم حالة الاستعداء والكره للحجاب في الفضاء الأوروبي.
الحجاب.. أسئلة الهوية وأفكار التنوير
وقد نجد إجابة عن رمزية الحجاب بالنسبة للأوربيين عموما (وعند الفرنسيين خصوصا) في كتاب صدر عام 2022 للفيلسوف الفرنسي المختص في الأديان "ريجيس ديبري" تحت عنوان: (ما يحجبه الحجاب؟)، فلم يتردد الكاتب في مقولة إن "حجاب المسلمات في الشوارع الأوروبية كشف لنا هشاشة قناعاتنا العلمانية"، ويضيف ديبري "إنه (أي الحجاب) يكشف في حد ذاته الآن انقلابا حضاريا وأزمة للمقدس عندنا". والسؤال هنا: هل قطعة القماش هذه أعادت سؤال الهوية الدينية والثقة في كل أفكار التنوير الأوروبية على مدى ثلاثة قرون؟!".
وإذا كان الفيلسوف "ربجيس ديبري" الذي يعلن إلحاده قد نحى إلى الاتجاه غير المحايد في تأثير "الحضور الإسلامي الجديد ورموزه" في أوروبا على وعي القارة العجوز العلماني وهذه الهزة التي يثيرها في الضمير الثقافي الجمعي الأوروبي اليوم، فإننا نجد أن الكنسية الكاثوليكية قد أصدرت بالمثل العديد من الإنذارات السلبية المحذرة من هذه الظاهرة، وهي تسعى مجبرة في أحيان كثيرة إلى إظهار هذه التخوفات في شكل إيجابي… وفي هذا الإطار جاءت تصريحات رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان بالفاتيكان "جان لوي توران" السنة الماضية، وهو يهنأ المسلمين بعيد الفطر، حيث ذكر أن "المسلمين في أوروبا يساهمون في اليقظة الدينية للمسيحيين وتوعيتهم بأهمية التطبيقات الدينية".
غير أن السؤال الكامن والمطروح في ذهن "توران" بالذات (وقبل غيره) هو: هل توجد في أوروبا اليوم يقظة مسيحية؟! وهل يوجد بالفعل من يجدد روح الكنائس الخاوية على عروشها في أوروبا اليوم؟!.
بهذا المعنى، وفي قضية الحجاب بالذات، فنحن لسنا أمام قطعة قماش بسيطة توضع على الرأس، ولكن الأمر يتعلق -بحسب "ريجيس ديبري"- بأمر أخطر يخفي ثقافة وطريقة حياة كاملة وحضارة أخرى قادمة من الجنوب لم يعد وصمها بكونها "مظهرا من مظاهر الإسلام السياسي" كافٍ ولم يعد رميها بكونها "دليل على خضوع المرأة" كافٍ أيضاً لأن الكثيرات من لابساته مشبَعات بالثقافة الغربية ودارسات في مدارسها العليا وتتحمل الكثيرات منهن مسئوليات في مراكز مهمة في مناطق كثيرة من القارة الأوروبية.
حجاب غير مقاطع للحياة
ربما في هذا الإطار، فإن استهداف المحجبات في الشوارع بالهرسلة (المضايقات والتحرشات) وبالإقصاء من الفضاء العام وصولا إلى حد القتل هو تمشياً يهدف إلى ضرب الحلقة الأكثر ظهورا في تنامي هذا الحضور المسلم بأوروبا… وهو استهداف يخفي نظرة غربية استشراقية وكولونيالية لصورة المرأة المسلمة باعتبارها خاضعة وضعيفة وسهلة المنال، الأمر الذي دعا أحد المناضلات لحقوق المرأة المحجبة في مؤتمر البورجي بباريس في عام 2022 إلى الدعوة بسخرية من تمكين المرأة المحجبة من رخصة حمل السلاح حتى تدافع عن نفسها ضد المضايقات التي تتعرض لها في أوروبا!
الكثيرات من مناضلات الحركة النسوية العلمانية في أوروبا على شاكلة الفرنسية "كارولين فورست" يعتبرن الحجاب مظهر مراهقة نسوية، وأنه سيندثر بتمكن المرأة المسلمة بالوعي اللازم لقيادة نفسها. وتستشهد "فورست" وغيرها بالحجاب الكنسي الذي كان موجودا في أوروبا والذي ساد في فترة عصور الانحطاط الأوربية، وتحدث عنه فيلسوف الأنوار الفرنسي "دينيس ديدرو" (1713- 1784) في روايته "المتدينة" التي صدرت سنة 1796 حيث يقوم ديدرو بنقد للحياة الكنسية والانغلاق الذي تحبس فيه الراهبات، ويتحدث عن "الحجاب المسيحي" الذي يسجن الفتيات في الأديرة حتى نهاية العمر.
إن صورة الحجاب بهذا المعنى في الثقافة المسيحية كانت ترتبط دائما بالانغلاق ومقاطعة الحياة. غير أن ما تعيه "كارولين فورست" وغيرها أننا أمام أمر مختلف تماما عن حجاب رواية "المتدينة" لديدرو، وإن بقينا في إطار الحجاب بالمعنى الديني بشكل عام. بكلمات أخرى إن مشكلة "الحجاب الإسلامي" بالنسبة للأوربيين وما يجعله غير مستساغا وعصي على الفهم وبالتالي يؤدي عدم فهمه إلى رفضه وعدم قبوله وكرهه في أحيان كثيرة أنه حجاب لا يقاطع الحياة ولا ينعزل في دير حتى الموت كما تلبسنه الراهبات… انه حجاب موجود في كل مكان في الحياة العامة، في الكلية وفي السوق وفي الطريق العام وحتى في ملاعب كرة القدم حيث بقيت صورة المحجبات التركيات عالقة لدى أذهان الجماهير الأوروبية وهم يتابعون كأس الأمم الأوربية التي احتضنتها كل من سويسرا والنمسا العام الماضي.
إنه الحجاب إذن في قلب الحياة.. إنه حيث اعترضت مروة الشربيني قاتلها ألكس في الحديقة عمومية في ألمانيا.. وهو ذات الحجاب لصابرين تروجات في أحد أكبر المختبرات البيولوجية في تولوز.. وهو ذاته ما تلبسه ماهينور أوزدمير في قلب البرلمان المحلي للعاصمة البلجيكية، عاصمة الاتحاد الأوروبي!!.