التقدمية – خطأ عبد الحفيظ بوصوف الأكبر تمثل في انحيازه للحكومة الجزائرية المؤقتة ومعارضته لتحالف بن بلا/ هيئة الأركان. هذا الفشل أثبت قانونا سيستمر طيلة العقود القادمة ومفاده أن المخابرات العسكرية في الجزائر لوحدها لا تستطيع الحكم. ستكون ضعيفة إذا ما تخلت عنها هيئة الأركان.
بعد خسارة عبد الحفيظ بوصوف المعركة التي خاضها مع الحكومة المؤقتة ضد تحالف بن بلا وبومدين، وجد رجاله أنفسهم كاليتامى بدون أبيهم الروحي ومنعزلين من النظام الجديد لبضعة أشهر، يعيشون القلق حول مصيرهم السياسي والأمني. كانوا محاصرين منبوذين لبعض الوقت في دولة أحمد بن بلا.. إلى أن اهتم بهم العقيد هواري بومدين وقرر أن يتبناهم ويجعلهم رجاله الأقوياء. ومن ناحيتهم قرروا أن يجعلوا من بومدين زعيمهم الأوحد وأن يكون ولاءهم لشخصه بدون حساب. عبد الناصر وفتحي الديب لم يفهما كيف تصل الجرأة ببوصوف أن يتجسس على المخابرات المصرية حليفته ويحاول اختراقها في قلب القاهرة
بوصوف اغتال عبان رمضان وقال بجرأة لقد أنقذت الثورة
أثناء مفاوضات وقف إطلاق النار مع فرنسا، تم اكتشاف أن المخابرات الفرنسية قد تمكنت فعلا من زرع عملاء لها على أعلى المستويات مكنوها من معرفة الحجم الحقيقي لجيش التحرير الوطني وطبيعة تنظيمه.
صورة أخرى نادرة جدا للجنرال محمد مدين مع العربي بلخير وسيد احمد غزالي
الجنرال “سي توفيق” هو رجل التسعينات بدون منازع. اسمه الحقيقي محمد مدين، يعتبر اللاعب الأول في الأزمة الجزائرية. هو خريج دفعة “السجاد الأحمر” التي أرسلتها الثورة سنة 1958 إلى موسكو ليتدرب على أيد ضباط الكا جي بي. هو إذن يعمل وقف العقيدة السوفياتية في المخابرات حيث درس علوم حبك المؤمرات الوقائية وترويج الشائعات لتفكيك قوة الخصم. مر على يديه 5 رؤساء دول وكثيرا من رؤساء الحكومات ومائات من الوزراء ..وبقي هو في مكانه، لا يزحزحه أحد. اخترق الجميع، أحزابا وصحافة ورجال أعمال. وهندس تاريخ الجزائر المعاصر على طريقته. يتهمه خصومه بكونه المسؤول عن اغتيال محمد بوضياف، وكذلك اغتيال رئيسه السابق قاصدي مرباح، وارتكاب مجازر بن طلحة وغيرها.. والأكثر من ذلك هو الذي أجبر الرئيس اليمين زروال على الاستقالة، وهو الذي فرض الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة على قيادة الجيش ومن ثمة، أوصله إلى قصر “المرادية” ليحكم الجزائر. ويروج خصومه أيضا أنه ينسق كثيرا مع رجال الخفاء الذين يديرون الصراع في الجزائر في الظل. ويشيرون بأصبع الاتهام إلى الجنرال المتقاعد ووزير الدفاع السابق خالد نزار وكذلك الراحل الجنرال العربي بلخير وزير الداخلية السابق ومدير مكتب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
قاصدي مرباح قاصدي مرباح (1938 – 1993 )، اسمه الحقيقي خالف عبد الله
بانيها قاصدي مرباح، القبايلي الموهوب، الرجل الذي أخاف هواري بومدين نفسه بكل جبروته وقوة شخصيته. وهو الرجل الذي كان فوق كل رقابة وبعيد عن كل محاسبة. يعتبر السياسي الوحيد الذي أعلن تمردا علنيا على الرئيس الشاذلي بن جديد حينما عزله من منصب رئيس الوزراء ورفض قراره لمدة ساعات.. وهو الذي تحالف مع محمد بوضياف للقيام بانقلاب ضد قيادة الجيش وقيادة المخابرات العسكرية، تحديدا ضد الجنرال محمد مدين والجنرال محمد العماري. هذا الأخير طبق المثل الشهير “تغدينا بهم قبل أن يتعشوا بنا”. قاصدي مرباح ترك أتباعا كثيرين، شكلوا اليوم تنظيما اسمه “تنظيم الضباط الأحرار”، ينشط في مدريد، ويصدر موقعا على الأنترنت، أصبح المرجع الأول للباحثين في شؤون العسكر والكواليس المخابراتية في الجزائر.
يزيد زرهوني ومحمد مدين
يزيد زرهوني (وزير الداخلية السايق) لم يبق على رأسها إلا ثلاث سنوات. حيث عمل الرئيس الجديد الشاذلي بن جديد على تفكيكها وإضعافها خوفا من نفوذها الأسطوري. جاء بعده محجوب لكحل عياط وكانت باهتة في عهده، حيث ساعد بن جديد على تفكيك جهاز الأمن العسكري وتقسيمه إلى جهازين. ثم تبعه محمد بتشين، الذي وظف الجهاز لصالح مصالحه الخاصة، فانتقل بيسر من عالم المخابرات إلى عالم المال.
أما مؤسسها الأول فهو عبد الحفيظ بوصوف، واحد من القادة الكبار لجبهة التحرير الوطني الذين فجروا ثورة الفاتح من نوفمبر 1954. وهو عبقري الاتصالات الذي حاول اختراق جهاز المخابرات المصري في قلب القاهرة أثناء حرب التحرير الوطني. وهو الرجل الذي أدخل أجهزة التنصت والإرسال الحديثة إلى جهاز الثورة.
المخابرات العسكرية الجزائرية حكمت ومازالت تحكم الجزائر. نشطت تحت أسماء كثيرة حيث تأسست تحت اسم “جهاز الاستخبارات والارتباط” ثم ألحقت بوزارة التسليح والاتصالات، وشهدت قمة مجدها تحت اسم “الأمن العسكري”، ثم فككها بن جديد خوفا منها وبمساعدة قادة النواحي العسكرية، وضعفت كثيرا في الثمانينات.. إلى أن خرجت كالمارد من القمقم مستفيدة من تهديد الجبهة الإسلامية للإنقاذ للنظام نفسه. فدخلت في معركة حياة أو موت مع “الفيس” تحت قيادة الجنرال محمد مدين المكنى بسي توفيق. وأصبحت تسمى إدارة الاستخبارات والأمن DRS.
ما يميز قادتها هو الذكاء الشديد، والدهاء السياسي الحاد. هم تقريبا الذين قاموا بتنصيب رؤساء الجزائر المتعاقبين أو إزاحتهم أو ربما حتى اغتيالهم.
عبد الحفيظ بوصوف
مؤسسها الأول عبد الحفيظ بوصوف. عبقري الاتصالات الذي حاول اختراق جهاز المخابرات المصري في قلب القاهرة أثناء حرب التحرير الوطني. بانيها قاصدي مرباح، القبايلي الموهوب، الوحيد الذي أعلن تمردا علنيا على الرئيس الشاذلي بن جديد حينما عزله من منصب رئيس الوزراء ورفض قراره لمدة ساعات.. وهو الذي تحالف مع محمد بوضياف للقيام بانقلاب ضد قيادة الجيش وقيادة المخابرات العسكرية، تحديدا ضد الجنرال محمد مدين والجنرال محمد العماري. هذا الأخير طبق المثل الشهير “تغدينا بهم قبل أن يتعشوا بنا”. قاصدي مرباح ترك أتباعا كثيرين، شكلوا اليوم تنظيما اسمه “تنظيم الضباط الأحرار”، ينشط في مدريد، ويصدر موقعا على الأنترنت، أصبح المرجع الأول للباحثين في شؤون العسكر والكواليس المخابراتية في الجزائر. يزيد زرهوني لم يبق على رأسها إلا ثلاث سنوات. حيث عمل الرئيس الجديد الشاذلي بن جديد على تفكيكها وإضعافها خوفا من نفوذها الأسطوري. جاء بعده محجوب لكحل عياط وكانت باهتة في عهده، ثم تبعه محمد بتشين، الذي وظف الجهاز لصالح مصالحه الخاصة، فانتقل بيسر من عالم المخابرات إلى عالم المال. أما رجل التسعينات بدون منازع فهو الجنرال سي توفيق. اسمه الحقيقي محمد مدين، يعتبر اللاعب الأول في الأزمة الجزائرية. مر على يديه 5 رؤساء دول وكثيرا من رؤساء الحكومات ومئات من الوزراء .. وبقي هو في مكانه، لا يزحزحه أحد. اخترق الجميع، أحزابا وصحافة. وهندس تاريخ الجزائر المعاصر على طريقته.
ما يجمع بين هؤلاء جميعا، هو قوة شخصياتهم الحادة، وذكائهم الخارق رغم قسوتهم الدموية في كثير من الأحيان. اختاروا العمل في الكواليس، يكرهون الأضواء والصحافة ويتمتعون بلعبة فريدة من نوعها في الوطن العربي : هي لعبة تعيين الرؤساء وخلعهم.
عبد الحفيظ بوصوف
حتى يواجه رجال الثورة الجزائرية، قادة جيش التحرير الوطني، العمليات المتكررة لاختراقات المخابرات الفرنسية، وتسميمها للعلاقات القائمة بين قادة المناطق العسكرية، ونجاحاتها في زرع بذور الريبة والخوف من بعضهم البعض..وحتى يتخلصون من الخونة ويصفونهم جسديا وكذلك لمواجهة مجموعات مصالي الحاج الذي أسس الحركة الوطنية الجزائرية MNA ، قرر قادة جبهة التحرير الوطني تشكيل تنظيم مخابراتي يواجهون به حرب فرنسا السرية ضدهم ويواجهون به أعداءهم الجزائريين في الداخل. برز رسميا هذا التنظيم سنة 1960 تحت اسم MALG وفي حين كانت مهمته مواجهة فرنسا، فإنه انحرف مبكرا ليصبح أداة في الصراع على السلطة القائم بين مختلف رجال واتجاهات الثورة. عبد الحفيظ بوصوف، المكنى “سي مبروك” عهد إليه قيادة هذا الجهاز.
عبد الحفيظ بوصوف
عبد الحفيظ بوصوف انشغل بالنضال السياسي مبكرا. حيث أوكل إليه منصب رئيس دائرة “حركة انتصار الحريات والديموقراطية” في سكيكدة، ثم في تلمسان (بين سنة 1952-1954). وكان عضوا مؤسسا لمجموعة “22***8243; سنة 1954. ثم مسؤوؤلا مساعدا للمنطقة الخامسة (وهران) بين سنتي 1954-1956. وعقيدا قائدا للولاية الخامسة بين سنتي 1956-1957. فعضو للجنة التنسيق والتنفيذ بين 1957-1958، فوزيرا على رأس وزارة الارتباطات والاتصلات بين 1958 و1959. ثم وزيرا للتسليح منذ سنة 1960. اختار خندق الحكومة الجزائرية المؤقتة حينما دخلت في صراع مفتوح مع تحالف احمد بن بلا / هواري بومدين قائد هيئة أركان الجيش الجزائري. وحينما خسروا الجولة. تعاطف معه بومدين وأوكل إليه بعض المهمات في الدولة الجزائرية المستقلة.. وسمح له ببعض الأنشطة التجارية.
النشاط الاستخباري المبكر
بدأ بوصوف نشاطه الاستخباراتي مبكرا في المغرب الأقصى في منطقة “الناظور” وذلك بفرضه السرية المطلقة على تحركات مجاهدي جبهة التحرير الوطني لتجنب النشاط التجسسي المتزايد للأجهزة الفرنسية. في سنة 1956 أسس جهازا متميزا تكنولوجيا حيث يقوم بالاتصالات اللاسلكية وكذلك بعمليات التنصت على العدو وفك شفرته. لكنه سرعان ما بدأ في تجاوز صلاحياته، حينما نجح في بناء هيكل بيروقراطي يدين له بالولاء التام. وقام بإشاعة جو من الحذر والرعب المتبادل بين المناضلين والخوف من النقد المباشر.. وقام بعمليات اختطاف للثوار الذين لا يشاركونه في الرأي وبتعذيبهم أو بعمليات إعدام جماعي. لقد أسس ما يشابه دولة داخل جهاز الثورة. ووصلت أصداء أعماله إلى باقي قادة الثورة وخصوصا عبان رمضان الذي أبدى انزعاجه الكبير. أصبح جهاز بوصوف يسمى “جهاز الاستخبارات والارتباط”.
كانت معايير انتقاء رجال هذا الجهاز محددة من قبل بوصوف نفسه. حيث لم يكن التطوع الثوري هو المعيار الأساسي. فقد كان يختارهم بنفسهم ويدربهم على ضرورة طاعة قادتهم المباشرين طاعة عمياء، على عدم الاهتمام بعذاب الآخرين وعلى تقنيات الخداع والمواربة.
اختراق المخابرات المصرية
بومدين وعبد الناصر وفتحي الذيب
من أطرف الأشياء وأغربها ما حاول فعله عبد الحفيظ بوصوف في القاهرة، حيث قام باكتراء مجموعة فيلات للسكن حولها إلى مراكز للتعذيب وإدارة العمليات الاستخباراتية. ولم يسلم منه جهاز المخابرات المصري القوي في عهد عبد الناصر، حيث سعى إلى اختراقه والتجسس على فتحي الديب المكلف بالملف الجزائري. وسرعان ما اكتشفت أجهزة الأمن المصرية ذلك وهو ما أثار غضبا شديدا لدى قادتها. ذلك أنها ساعدت وتساعد الثورة الجزائرية ولم تبخل عليها بأي شيئ، فكيف يحاول أحد قادتها اختراق أصدقائها. هذه الرواية أوردها فتحي الديب في كتابه عبد الناصر وثورة الجزائر. وهي رواية تحمل في الواقع إعجابا مبطنا بجسارة وجرأة عبد الحفيظ بوصوف التي فاقت كل حدود.
بعثة إلى الكا جي بي
حدث هام وجديد لرجال بوصوف تمثل في قبول أشهر جهاز مخابرات في العالم “الكا جي بي” مجموعة عناصر من رجال بوصوف لتكوينهم تكوينا خاصا في موسكو وذلك منذ سنة 1958. لقد تدربوا على أعمال جديدة مثل تنظيم عمليات استفزاز الخصم، أو حبك المؤامرات الوقائية لتدميره. هذه الدفعة التي تكونت في الاتحاد السوفياتي أطلق عليها “السجاد الأحمر” كرمز سري. وبرزت “مواهب” هذه الدفعة منذ الاستقلال. أشهر ضابط تخرج من هذه الدفعة هو الجنرال محمد مدين المكنى بسي توفيق القائد الحالي للمخابرات الجزائرية.
يعتقد المؤرخ الجزائري محمد حربي أن هؤلاء الرجال جاء أغلبهم من الطبقة المتوسطة أو من أبناء البرجوازية الجزائرية الذين انقطعوا عن التعليم والتحقوا بالثورة.
تمكن بوصوف من التأثير الكبير على رجاله وجعلهم يرتبطون به شخصيا حيث أصبح زعيمهم الكاريزمي بدون منازع. وفي الآن نفسه بدأ الخوف والانزعاج ينتشر بين صفوف المقاتلين تجاه جهاز “سي مبروك”. حيث سرعان ما سيتوسع أسلوب بوصوف في العمل الاستخباراتي عندما تم تعيينه على رأس وزارة التسليح والارتباطات العامة والاتصالات في شهر يناير 1960. لكن قوته في الواقع لم تتجاوز جيش الحدود، أي جيش التحرير الوطني المرابط على الحدود التونسية شرقا والحدود المغربية غربا والبعثات الجزائرية في الخارج. حيث بقي نفوذه ضعيفا في ولايات الداخل المتميزة باستقلالها النسبي عن قيادة الأركان.
لقد اختلف الجزائريون في تقييم بوصوف. فالبعض يعتقد أنه أنقذ الثورة دائما من اختراقات العدو والبعض الآخر يرى أن نجاحه يكمن فقط في قمع الثوار المعارضين لنهجه. ويذكرون أنه في أثناء مفاوضات وقف إطلاق النار مع فرنسا، تم اكتشاف أن المخابرات الفرنسية قد تمكنت فعلا من زرع عملاء لها على أعلى المستويات مكنوها من معرفة الحجم الحقيقي لجيش التحرير الوطني وطبيعة تنظيمه.
مؤسسها الأول عبد الحفيظ بوصوف. عبقري الاتصالات الذي حاول اختراق جهاز المخابرات المصري في قلب القاهرة أثناء حرب التحرير الوطني. بانيها قاصدي مرباح، القبايلي الموهوب، الوحيد الذي أعلن تمردا علنيا على الرئيس الشاذلي بن جديد حينما عزله من منصب رئيس الوزراء ورفض قراره لمدة ساعات.. يزيد زرهوني لم يبق على رأسها إلا ثلاث سنوات. حيث عمل الرئيس الجديد الشاذلي بن جديد على تفكيكها وإضعافها خوفا من نفوذها الأسطوري. جاء بعده محجوب لكحل عياط وكانت باهتة في عهده، ثم تبعه محمد بتشين، الذي وظف الجهاز لصالح مصالحه الخاصة، فانتقل بيسر من عالم المخابرات إلى عالم المال. أما رجل التسعينات بدون منازع فهو الجنرال سي توفيق. اسمه الحقيقي محمد مدين، يعتبر اللاعب الأول في الأزمة الجزائرية… خاضت معارك شرسة ضد الاستعمار الفرنسي لتحمي الثورة. ودافعت على الدولة الجزائرية بكل قوة ضد مؤامرات الأعداء والأشقاء… تصدت لمؤامرات كثيرة في تاريخ الجزائر الحديث من فرنسا إلى أمريكا إلى آل سعود وإعلامهم وشيوخهم في محاولتهم وهبنة الجزائر… ونشر ثقافة القتل والذبح… وهي منتبهة اليوم لدور آل ثاني وقناتهم الجزيرة في التخطيط لزعزعة الدولة الجزائرية المستقلة… حمايتها لاستقلال البلاد وسيادتها جعلها عدوا دائما للرجعية العربية.. لملوك وأمراء النفط وإعلامهم وشيوخهم… وفتاويهم…
اغتيال عبان رمضان
أول عملية خطيرة من نوعها قام بها عبد الحفيظ بوصوف في داخل صفوف الثورة الجزائرية تمثلت في اغتيال عبان رمضان.
من هو عبان رمضان؟
عبان رمضان، مناضل منذ بداية شبابه في الحركة الوطنية الجزائرية، سياسي من منطقة القبايل، انضم إلى حزب الشعب الجزائري ثم إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية، أين أصبح بسرعة واحدا من مسئوليها، سجنته السلطات الفرنسية سنة 1950، وتعرض للتعذيب واستغل سنوات السجن في المطالعة والتثقيف السياسي، خاصة من الأدبيات الماركسية اللينينية. التحق بجبهة التحرير الوطني بعد إطلاق سراحه سنة 1955، وأصبح بسرعة فائقة قائدها السياسي ـ العسكري الأول حتى اغتياله من طرف رفاقه في الثورة في كمين أعد له في مراكش بالمغرب في 27 ديسمبر/كانون الأول 1957. يعتبره البعض المثقف الأول في الثورة الجزائرية.
انعقد أول مؤتمر لجبهة التحرير الوطني في 20 أغسطس/آب 1956 في واد الصومام. ويعد هذا المؤتمر تحولا في أسلوب عمل الجبهة وقطيعة مع عفوية النضال في الماضي، حينما تركت الجبهة المبادرة في يد قادة المناطق العسكرية ومسؤولي المدن، دون الرجوع إلى قيادة مركزية، كما هو الحال مع البعثة الخارجية التي مثلها بن بلا، خيضر، آيت أحمد وبوضياف.
فكانت النقطة الأولى في جدول الأعمال تتعلق بموضوع الاجتماع : يجب وضع حد نهائي لعهد الارتجالات وبلورة برنامج وبنى.
ولكن في الآن نفسه، يعتقد محمد حربي، مؤرخ الجبهة أثناء الثورة أن “هذا المؤتمر الذي تمت الدعوة إليه لحل مشكلات الثورة جاء يدشن عهد الصراعات الداخلية وسيستأنف تجربة حركة انتصار الحريات الديموقراطية”.
عبان رمضان
ويمكننا أن نستنتج بيسر، أن أول جهاز قائد منظم للجبهة، تمت الهيمنة النسبية عليه من قبل العنصر السياسي، متمثلا في الثلاثي عبان، بن خدة، دحلب، وهم من غير مؤسسي الجبهة، إذ التحقوا بها في وبعد سنة 1955. وبالتالي لم يتولوا مهمة ترسيخ نضال الجبهة في بدايته القاسية. كما أن ماضيهم، باستثناء عبان المناضل السابق في المنظمة الخاصة، لم يحفل بالدعوة الفورية للكفاح المسلح.
لقد استغل عبان انضمام السياسييين ليحدث بهم توازنا مع قادة المناطق العسكرية، وعقداء جيش التحرير الوطني. وكان السؤال لدى الجنود ملحا حينما يتساءلون: كيف للذي لم يطلق رصاصة واحدة، ولم يلتحق بالجبهة إلا بعد أن فرضت نفسها في الميدان يصبح قائدا بمجرد إعلانه الانضمام إليها(!).
ووفقا لقرارات الصومام، يوجه المجلس الوطني للثورة الجزائرية” وهو أعلى جهاز للثورة، سياسة جبهة التحرير، وهو الهيئة الوحيدة المخولة في النهاية اتخاذ القرارات المتعلقة بمستقبل البلاد… كما يجتمع مرة في العام، بدعوة من لجنة التنسيق والتنفيذ ويمكن أن يتم هذا الاجتماع أيضا بطلب من نصف أعضائه زائد واحد…
مميزات جيش التحرير
وأعلن المؤتمر أن جيش التحرير الوطني يتميز عن جيش من النموذج الكلاسيكي بالمبدإ التالي: القيادة الجماعية على مستوى مجالس الولاية والمنطقة والقسم، فقائد الولاية هو الممثل المركزي لسلطة الجبهة، ويهتم مساعدوه بفروع العمل العسكري والعمل السياسي والاستخبارات والاتصالات. لكن لايستطيع قائد الولاية أن يعين مساعديه أو يعزلهم أو يخفض رتبتهم، فهذا الامتياز يعود إلى القيادة الجماعية التى تضم مسؤولا سياسيا، وعسكريا، وعن الاستخبارات والاتصالات، يختارهم جميعا قائد الولاية بالاتفاق مع لجنة التنسيق والتنفيذ.
لقد فرض المؤتمر إذن، العنصر السياسي داخل الولاية، كما أن قيادة الولاية تخضع إلى ل.ت.ت. التى تخضع بدورها لهيمنة السياسيين بقيادة عبان رمضان فدخل الجيش لأول مرة تحت طائلة القيادة المركزية للسياسيين.
إن أخطر القرارات التى اتخذت في الصمام، وأكثرها دلالة سياسية، مدشنة بداية الصراع بين الجهاز السياسي من جهة والجهاز العسكري من جهة أخرى، هــو قـرار أولـويـة السياسي على العسكري، وأولوية الداخل على الخارج.
فبالنسبة إلى قرار أولوية الداخل على الخارج، كان المقصود به الحد من صلاحيات وإشعاع البعثة الخارجية التى يقودها أحمد بن بلا ومحمد بوضياف بعد أن حققت نجاحات كبيرة، خاصة في البحث عن السلاح وتزويد جيش التحرير بكميات جيدة منه.
وفيما يتعلق بقرار أولوية السياسي على العسكري، فإن المستفيد الأول منه، هو عبان وحلفاؤه من السياسيين المدنيين، وأكبر المتضررين منه، هم القادة العسكريين.
فكانت النتيجة متوقعة حينما تتحالف البعثة الخارجية مع القادة العسكريين لجيش التحرير الوطني ضد عبان ومجموعته، وكان لكل طرف حججه الخاصة به.
يمكننا أن نستنتج خلاصة أساسية من مؤتمر الصومام: فصحيح، أنه أسس لطور جديد ستعيشه الجبهة، تمثل في خلق مؤسسات تؤطر وتنظم وتقود الثورة/الجبهة، ولكن في نفس الوقت الذي بنى فيه هذه المؤسسات وحدد فيها مواقع المسؤولية والقيادة، غرس عوامل الصراع الداخلية التي ستؤدي على مدى بعيد إلى تفتت الجبهة وانحطاطها. فبعد مؤتمر الصمام، أصبح الإطار المناضل في جبهة التحرير يصارع على واجهتين، الواجهة الأولى، خارجية بما فيها المصاليين أو الاستعمار الفرنسي، والواجهة الثانية داخلية، هدفها مـن يقود جبهة التحرير أثناء الثورة، حتى يمارس السلطة عندما تصبح الجزائر دولة مستقلة.
وكان العسكريون حاسمين منذ مؤتمر الصومام في منع هيمنة السياسيين. وقرر بوصوف بالتواطئ مع شركائف في قيادة لجنة التنسيق والتنفيذ تصفية عبان رمضان جسديا.
اغتيال عبان
لم يغفر العسكريون لعبان محاولته في السيطرة على الجبهة، فرغم انتصارهم السياسي في المؤتمر، قرروا تصفيته جسديا والتخلص منه نهائيا، فتم اتهامه بالعمل على تصفية القادة العسكريين بالاتفاق مـع الرائد حاج علي، من الولاية الأولى، واستدرجوه إلى كمين واغتالوه في مراكش في 27 ديسمبر/كانون الأول 1957، بعد أيام من اغتيال حاج علي، وكان بوصوف الوحيد الذي تحمل دون تعقيد مسؤولية تصفيته وأكد أنه “أنقذ الثورة”!
ونشرت صحيفة “المجاهد”، الناطقة باسم جبهة التحرير في 29 مايو/أيار 1958 في عددها رقم 24، وفي صفحتها الأولى صورة كبيرة لعبان تحت عنوان “عبان رمضان يستشهد في ساحة الشرف” وكتبت، “لقد خسرت جبهة التحرير الوطني أحد أهم منظميها، وخسرت الجزائر المجاهدة أحد أبنائها البررة… إننا نرثى أخا لنا في الجهاد، وستكون ذكراه قائدة لمسعانا”!
ويعد عبان أول ضحية لهذا الأسلوب الجديد الذي شهدته الجبهة، حيث يتم اغتيال الخصم، ويشاع أنه استشهد، وسيتواصل ذلك حتى في مرحلة الاستقلال، حينما يصفى الرئيس بعض خصومه ويشيع بموتهم في حوادث طبيعية.
إن هذا الأسلوب، المتميز، بالسرية والتآمر في الخفاء، يجد مبرره في طبيعة الثورة الجزائرية المسلحة، التى خاضت حرب عصابات، ومخابرات، يومية ضد الاحتلال الفرنسي. فلم يكن المجال فسيحا للديموقراطية والشفافية، بسبب طبيعة المعارك. واستمرت هذه السرية وهذا الصراع في الخفاء داخل الجيش حتى اليوم.
بعد مصرع عبان ، لم تستأنف لجنة التنسيق والتنفيذ نشاطها إلا في أبريل 1958، وقد زادت حدة الحذر بين أعضائها.
مشاكل جديدة
وواجهتها مشكلة توحيد جيش التحرير الوطني فقد “كانت دراسة هذه المسألة تعنى الرجال الأقوياء في لجنة التنسيق، كريم وبن طوبال وبوصوف… وجرى تبنى اقتراح كريم خلق لجنة تنظيم عسكرية، تم تقسيمها إلى قسمين ليقودا انطلاقا من الحدود الشرقية والغربية، وبن طوبال فكرة تمثيل كل الولايات على مستوى هيئة الأركان” وتولى بذلك العقيد هواري بومدين قيادة لجنة التنظيم العسكرية الغربية، في حين تولى العقيد محمدي السعيد قيادة اللجنة الشرقية لكنها شهدت فشلا في التنظيم بسبب النزاعات حول الصلاحية، وانعدام التنسيق العسكري بين ضباطها في حين نجحت اللجنة الغربية بقيادة بومدين في تنظيم نفسها في”جهاز متراتب ومنظم وممركز أمسكت بزمام قواته بحزم بيروقراطية عسكرية وبوليسية… فكانت روح الخضوع الكلي من جانب كل واحد لقرارات السلطات، وهي روح ناتجة عن تربية سياسية بل عن تربية انضباطية قاسية تهدف إلى تحطيم الأفراد وجعلهم مجرد منفذين”.
كما “استفاد هذا الجهاز البيروقراطي العسكري، خلافا للولايات الأخرى، من نزوح جزائري مديني بوجه خاص، حيث كانت نسبة المثقفين والموظفين عالية، هذا التركيب الاجتماعي يسهل تشكيل مؤسسة تراتبية، فللمثقفين والموظفين التجربة العملية والأيديولوجيا اللتان تتيحان تشكيل إدارة سلطوية ونوع من جهاز الدولة الصغير” وستعد من هنا فصاعدا هذه اللجنة نواة أساسية لتشكيل جيش جديد يتميز بالانضباط والاحتراف العسكري، ويخضع لقيادة قائده الكاريزمي هواري بومدين.
وعلى العكس من ذلك، تميز الجناح السياسي بكثرة الخلافات داخله، والنزاعات بين قادته المنحدرين من أحزاب مختلفة، فلم يشكل نواة موحدة صلبة قادرة على حماية نفسها من تزايد نفوذ جيش التحرير الوطني.
خطأ بوصوف الكبير
تحالفه مع الحكومة المؤقتة
لم تكن هيئة الأركان قادرة سنة 1962 على استلام السلطة مباشرة، لأسباب تاريخية، حيث يتميز قائدها والمحيطون به بصغر سنهم، وبعدم انتمائهم إلى مجموعة القادة الأوائل الذين أسسوا جبهة التحرير، فلم تكن لهم “الشرعية التاريخية” اللازمة التى تخول لهم استلام مقاليد الحكم. وكانت في مواجهتهم الحكومة المؤقتة التى انتخبت ديموقراطيا من قبل المجلس الوطني للثورة الجزائرية. فقررت أن تبحث لنفسها عن حلفاء سياسيين تتوفر فيهم شروط الشرعية التاريخية لمواجهة خصومها في الحكومة المؤقتة وحلفائها من بعض قادة الولايات المنتمين إلى جيش التحرير الوطني في الداخل. وعقد بومدين العزم على “أن يحتم تحت برنص الزعيم بن بلا”. فاتصل عبد العزيز بوتفليقة ببن بلا ورفاقه المحتجزين معه في فرنسا، وأبلغهم بأسباب الأزمة وبالوسائل التى تقترحها هيئة الأركان لحلها وهي: خلق مكتب سياسي لجبهة التحرير متمايز عن الحكومة المؤقتة ووضع برنامج. فأيد هذا الحل بن بلا وخيضر وبيطاط، ورفضه آيت احمد وبوضياف معتبرينه انقلابا وتدخلا من العسكريين ومن جهته كان بن بلا ومجموعته يعتقدون أنهم سيوظفون هؤلاء الشباب المتحمس ليزيحوا بدورهم خصومهم السياسيين ويصلون من خلالهم إلى السلطة. وحينما خرجوا من السجن، واصلوا مسعاهم في حشد الحلفاء ضد الحكومة المؤقتة. لابد من الاشارة هنا، أن احمد بن بلا كان نائب رئيس الحكومة المؤقتة، كما كان خيضر وبوضياف وآيت احمد وزراء فيها، ولكنهم كانوا، بسبب سجنهم أعضاء شرفيين، أما بعد خروجهم، فسيحاول كل تكتل إزاحة الآخر.
وانفجر الصراع علنيا في الاجتماع الذي عقده المجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس، والذي دام من 27 مايو/أيار إلى 4 حزيران/يونيه 1962 ففرزت القوى المتعادية.
الصدام الداخلي
وفي 28 حزيران/يونيه 1962، عقدت الحكومة المؤقتة اجتماعا في تونس، حيث اتخذت قرارا على جانب كبير من الخطورة، إذ يقضي بحل هيئة الأركان وعزل قائدها بومدين ومساعديه منجلي وسليمان (قايد أحمد).
ولكن، فشل امتحان القوة هذا، فقد اصطف “جيش الحدود” وراء قائده بومدين، وأعلن ضباطه أنهم لن يأتمروا بأوامر الحكومة المؤقتة وسيواصلون العمل تحت أوامر قائد هيئة الأركان.
وتشكلت مجموعتان متنازعتان:
ـ الأولى: سميت “بمجموعة تيزي وزو”، وأهم قادتها كريم بلقاسم ومحمد بوضياف، متحالفة مع الحكومة المؤقتة، وانضمت إليها الولاية الثالثة والرابعة والثانية إلى جانب فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني، ولقيت دعما خارجيا من تونس، وتشجيعا ضمنيا من قبل فرنسا، لاعتدالها، وعدم رفعها شعارات راديكالية.
ـ الثانية، سميت “بمجموعة تلمسان”، وعلى رأسها أحمد بن بـلا وهيئة الأركـان والولايات الأولـى والخـامسة والسادسة، وقـد تمكنت من دعم صفوفها بتحالفات ظرفية مع عباس فرحات وأحمد فرنسيس، ولقيت دعما مباشرا من مصر، وأجهزة مخابراتها وإعلامها التي وقفت مع بن بلا.
وتوالت الأحداث بسرعة، لتثبت تفوقه، فبعد أن أعلن عن الاستقلال في 3 تموز/يوليو 1962، دخلت الحكومة المؤقتة واستقرت في الجزائر العاصمة، في حين شكل أحمد بن بلا مكتبا سياسيا للجبهة في 22 تومز/يوليو، وزحـف جيش الحدود عـلى العاصمة واحتـلها فـي 4 أغسطس/آب 1962، بعد حرب أهلية قصيرة سقط فيها بضعة الاف من القتلى.
وفي 26 سبتمبر/أيلول 1962، تم تعيين أول حكومة مستقلة على رأسها أحمد بن بلا، وضمت 5 وزراء من الجيش اقترحتهم هيئة الأركان.
وكانت هيمنة العسكر واضحة على هذه الحكومة، فقد تقلدوا أهم الوزارات على الاطلاق خصوصا وزارتي الدفاع والداخلية.
الجيش المنتصر الحقيقي
ويعد الجيش المنتصر الحقيقي في هذا الصراع الذي عاشته جبهة التحرير، فقد خسر السياسيون في نهاية المطاف إمكانية السيطرة عليه. فعصيان الجيش أوامر الحكومة المؤقتة، والتشبث بقادته، يعني أن عصبية عسكرية قد تم خلقها داخله، تعمل ضد السياسيين الذين لم تر فيهم نموذجا يمكن قبوله لبناء الدولة الجزائرية المستقلة.
ومن ناحية ثانية، عهد إلى محمد خيضر بالأمانة العامة للحزب، فعمل بسرعة على إحكام قبضته عليه. وكان تصوره، أن يترك الرئاسة لبن بلا ويتولى بدوره قيادة الحزب، وصرح مرة فقال: “ليس لي إلا أن أعطى أوامري للحزب وينزل الشعب إلى الشوارع”. لكن سرعان ما تم عزله، من قبل بن بلا بدعم هواري بومدين الذي وحد جيشه تحت اسم الجيش الوطني الشعبي، مما أكد هشاشة الجناح السياسي أمام نفوذ الجناح العسكري.
وانشق محمد بوضياف عن الجبهة وأسس “حزب الثورة الاشتراكية” فتم اعتقاله، وفعل الشيء نفسه حسين آيت احمد وأسس “جبهة القوى الاشتراكية”، وثار في منطقته بالقبايل في 29 سبتمبر/أيلول 1963 ، فاعتقل بدوره، كما انشق محمد شعباني في الصحراء، واعتقل ثم حوكم وأعدم.
تصفية القادة التاريخيين
تمت في هذه المرحلة تصفية الكثير من القادة التاريخيين للجبهة، وإزاحة معظم السياسيين، حتى بقي احمد بن بلا بمفرده في مواجهة ضباط بومدين المحيطين به من كل مكان. فحاول، بعد أن أدرك متأخرا أن الجبهة-الدولة، انفرد بها العسكر، أن يعيد التوازن، ثم يتخلص من حلفاء الأمس. لكن هذه المرحلة تميزت أيضا بحد أدنى من التوازن بين الجناح السياسي، والجناح العسكري، فرغم أن الجيش كان أكثر قوة وانضباطا من السياسيين، فإن تواجد أحمد بن بلا في رئاسة الدولة، مثّل عامل توازن، وحاجزا مؤقتا أمام سلطة الجيش، وإذا زال هذا الحاجز، فسينهار معه التوازن، وتصبح هيمنة الجيش مطلقة. سيقع منذ 1962، سنة الاستقلال، دمج واضح بين حزب جبهة التحرير الوطني والدولة الجزائرية، خاصة بعد منع الأحزاب الأخرى من حرية العمل، والاقرار باختيار نظام الحزب الواحد في الحكم، لذلك سنستخدم مفهوم الحزب/ الدولة حتى سنة 1988، عندما تم في المؤتمر السادس تبني قرار فصل الحزب عن الدولة.
خسارة بوصوف
خطأ عبد الحفيظ بوصوف الأكبر تمثل في انحيازه للحكومة الجزائرية المؤقتة ومعارضته لتحالف بن بلا/ هيئة الأركان. هذا الفشل أثبت قانونا سيستمر طيلة العقود القادمة ومفاده أن المخابرات العسكرية في الجزائر لوحدها لا تستطيع الحكم. سكون ضعيفة إذا ما تخلت عنها هيئة الأركان. فحتى تكون قوية لا بد لها من التحالف معها.
بعد خسارة عبد الحفيظ بوصوف المعركة التي خاضها مع الحكومة المؤقتة ضد تحالف بن بلا وبومدين، وجد رجاله أنفسهم كاليتامى بدون أبيهم الروحي ومنعزلين من النظام الجديد لبضعة أشهر، يعيشون القلق حول مصيرهم السياسي والأمني. كانوا محاصرين منبوذين لبعض الوقت في دولة أحمد بن بلا..إلى أن اهتم بهم العقيد هواري بومدين وقرر أن يتبناهم ويجعلهم رجاله الأقوياء. ومن ناحيتهم قرروا أن يجعلوا من بومدين زعيمهم الأوحد وأن يكون ولاءهم لشخصه بدون حساب. حيث انتفعوا باستقرار جديد وبخاصة عدم ملاحقتهم بسبب ما فعلوه ضد إخوانهم أيام الثورة. وسيقود “الأمن العسكري” (La Sécurité militaire) من سنة 1962 إلى غاية سنة 1979 رجل أصبح شبه أسطورة في تاريخ المخابرات الجزائرية. سيقودها قاصدي مرباح طيلة 18 سنة، أي عصرها الذهبي.
سنة 1962 دخل الأمن العسكري في صراع خفي مع جهاز آخر اسمه “الفرق الخاصة” شكله أحمد بن بلا ليقوم بدور البوليس السياسي وعهد بقيادته لمصطفى فطال.
قامت الحكومة الإسبانية بعمليات تحقيق واسعة لمعرفة قاتل محمد خيضر وتوصلت إلى تحديده : إن منظم عملية الاغتيال هو مسؤول الأمن العسكري في إسبانيا والذي يعمل ظاهريا كملحق ثقافي للجزائر في سفارتها في مدريد. وساعده في تنظيم العملية قاتل محترف جزائري يدعى صالح وكنيته “فسبا”، وهو مسؤول في الأمن الوطني. أما منفذ عملية القتل فهو يوسف دخموش، يعمل لحساب الأمن العسكري من خلال عقود مالية
الغريب في الأمر هو تواطؤ الحكومة الإسبانية الفرنكية أو الحكومة الألمانية الديموقراطية مع الأمن العسكري الجزائري. حيث انتصرت مصلحة الدولة على متطلبات القضاء والعدالة وتم دفن الملفين في الحال
حاول أن يكون فوق كل القوانين وهو ما أخاف بقية قادة الجيش وقلقهم الدائم من جهاز أصبح شبه أسطوري. حدثت أول محاولة لإضعاف الأمن العسكري من قيادة الجيش نفسها. حيث قام سكرتير وزارة الدفاع العقيد عبد الحميد الأطرش بمحاولة الحد من سلطة قاصدي مرباح وجهازه في سنوات السبعين بأن أنشأ جهازا منافسا عهد بقيادته إلى العقيد محمد التواتي (سيصبح لاحقا قائد جيش البر)..لكن محاولته فشلت أمام قوة مرباح.
هواري بومدين نفسه ورغم جبروته وقوة شخصيته الطاغية وزعامته الكاريزمية شعر أكثر من مرة بالخوف من سطوة جهاز مرباح، فحاول أن يحد من نفوذه، فأنشأ جهازا آخرا منافسا سماه الإدارة العامة للأمن الوطني يتبع مباشرة وزارة الداخلية وليس وزارة الدفاع وقاده في البداية احمد دراية ثم فيما بعد الهادي خذيريبن جديد لم يكن بالضعف الذي تصوره قاصدي مرباح. إذ سرعان ما بدأت تصفية الحسابات للجناح الليبيرالي الذي شرع في إزاحة التيار الاشتراكي البومديني. فقام بإبعاد مرباح عن جهاز الأمن العسكري في شهر مايو / أيار 1979. ليعينه سكرتيرا عاما لوزارة الدفاع، ثم وزيرا للصناعات العسكرية.
كان الجزائريون يهتفون باللغة الفرنسية حينما يحضر بن جديد أو قاصدي مرباح نفسه مبارة كرة قدم في الملعب “مرباح رئيسا للجزائر” (Merbah Président).
قرر بن جديد فجأة عزل الرجل القوي وإقالته من منصبه ولكن مرباح فاجأ الجميع حينما رفض قرار العزل لساعات طويلة وتمرد على الرئاسة
تحول مرباح من رجل الجهاز السري إلى رجل السياسة العلني الذي يعيش على الدعاية الإعلامية. وفي الآن نفسه كان يمثل كابوسا للطبقة السياسية الحاكمة وخصوصا لرجال المافيا الصاعدين. مرباح يعرف الجميع ويقال أنه استنسخ لنفسه صورا من ملفاتهم يمكنه أن يهدد بها أيا كان.
مرباح يحتقر الجميع، إما لأن الأغلبية كانت من صنعه أو بسبب ما يعرفه عنهم من معلومات فساد ورشاوي. كان يمتلك أكبر سلاح يرهب به خصومه، سلاحه أرشيف المعلومات.
لقد قال عنه الرئيس الأول للجمهورية الجزائرية احمد بن بلا “قاصدي مرباح هو الرجل الذي يعلم أكثر من الجميع في الجزائر”.
الجزائر تايمز / رياض الصيداوي