صُلح الحُديبيّة … عبر وفوائد
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد:
روى الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (برقم 2731-2732)(1) قال: حدَّثني عبد الله بن محمد: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا الزّهري قال: أخبرني عروة بن الزّبير، عن مسور بن مَخرمة ومروان، يصدق كلّ واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [من المدينة] زمن الحديبية، [في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحُلَيْفَةِ قلّد الهدي، وأشعره وأحرم منها]، [بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط(2)، أتاه عينه، قال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت ومانعوك، فقال: (أشيروا أيها الناسُ عليّ(3)، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراريِّ هؤلاء الذين يريدون أن يصدّونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم مَحْروبين)(4).
قال أبو بكر: يا رسول الله! خرجتَ عامدا لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحدٍ، فتوجّه له، فمن صدنا عنه قاتلناه.
قال: (امضوا على اسم الله)، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ خالدَ بن وليد بالغَميم، في خيلٍ لقريشٍ طليعةً، فخذوا ذات اليمين)، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثَّنِيَّة التي يُهبَطُ عليهم منها، بَرَكَتْ به راحلتُه، فقال النّاس: حلْ حلْ، فألحّت، فقالوا خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، وما ذاك لها بِخُلُق، ولكن حَبَسَها حابِسُ الفيل(5))، ثم قال: (والذي نفسي بيده، لا يسألوني خُطَّةً يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيْتُهم إيَّاهَا(6)). ثم زجرها فوثبت، قال: فَعَدَل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمدٍ قليلِ الماء، يتبرَّضُه النَّاسُ تبرُّضًا، فلم يُلَبِّثْهُ الناسُ حتى نَزَحوهُ.
وشُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطشُ، فانْتَزَعَ سهما من كِنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يَجِيشُ لهم بالرِّيّ حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بُدَيْلُ بن وَرقاء الخُزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عَيْبَةَ(7) نُصْحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تِهامة، فقال: إنِّي تركتُ كعب بن لُؤيٍّ، وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحُديبية، ومعهم العوذُ الـمَطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّا لم نجِئْ لقتال أحدٍ، ولكنّا جئنا معتمرين، وإنّ قريشا قد نَهَكَتْهُم الحرب، وأضرَّت بهم(8)، فإن شاءوا مادَدْتُهم مدّة ويُخَلُّوا بيني وبين الناس(9)، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا(10)، وإنهم أبوْا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، وليُنفذن اللهُ أمره).
فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.
قال: فانطلق حتى أتى قريشا، قال: إنّا قد جِئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم(11): لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذو الرَّأي منهم: هاتِ ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدَّثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود فقال: أي قومِ، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتّهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستُم تعلمون أنّي استنفرت أهل عُكاظ، فلمّا بلّحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنّ هذا قد عَرض لكم خُطَّة رشدٍ، اقبلوها ودعوني آتيه، قالوا: ائته.
فأتاه، فجعل يكلِّم الني صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبُديل، فقال عُروة عند ذلك: أي محمَّد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحدٍ من العرب اجتاح أهله قبلك(12)، وإن تكن الأخرى، فإنّي والله لا أرى وُجُوهًا، وإني لأرى أشوابا(13) من النّاس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات، أ نحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفرة، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غُدَر، ألستُ أسعى في غَدْرَتِك(14).
وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء)(15).
ثم إن عروة جعل يرمُق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامةً إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده(16)، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النظر تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قَيصر، وكسرى، والنجاشيّ، والله إنْ رأيت ملكا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّم أصحابُ محمدٍ محمدا، والله إن تنخّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجِلده، وإذا أمرهم ابتَدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يَقْتَتِلون على وَضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدُّون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خُطَّة رُشدٍ فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا ائته، فلمّا أشرف على النبيّ وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قومٍ يُعظِّمون البُدن، فابعثوها له).
فَبُعِثت له، واستَقْبَلَه النَّاسُ يُلَبُّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله!، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدُّوا عن البيت، فلما رَجَعَ إلى أصحابه قال: رأيتُ البُدُن قد قُلِّدَت وأُشْعِرَت، فما أرى أن يصدُّوا عن البيت.
فقام رجلٌ منهم، يقال له: مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، فقال: دعوني آتيه، فقالوا ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مِكْرَز، وهو رجلٌ فاجرٌ)(17).
فجعل يكلم النبي، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة: أنّه لمّا جاء سهيل بن عمرو: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سهل لكم من أمركم)(18).
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم).
قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللّهُمَّ كما كنتَ تكتبُ، فقال المسلمون: والله لا نكتُبُها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتُب باسمك اللّهُمّ)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله).
فقال سُهيل: والله لو كُنَّا نَعْلَمُ أنّك رسولُ الله ما صدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إنّي لرسولُ الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله).
قال الزهري: وذلك لقوله: (لا يسألوني خطة يُعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إيّاها). فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)، فقال سهيل: واللهِ لا تتحدّثُ العربُ أنّا أُخدنا ضغطةً، ولكن من العام المقبل، فكتبَ، وعلى أنّه لا يأتيك منّا رجلٌ -وإن كان على دينك- إلا رَدَدْتَه إلينا، [وخليت بَيْنَنَا وبَيْنَهُ، فكرِهَ المسلمون ذلك، وامتعضوا منه]، قال المسلمون: سبحان الله! كيف يُردُّ إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ [وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي على ذلك]، فينما هم كذلك إذ دخل أبو جَنْدَل بن سهيل بن عمرو يَرسُفُ في قيودِه، وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهُر المسلمين، فقال سهيلٌ: هذا يا محمد! أوّلُ ما أقاضيك عليه أن تَرُدَّهُ إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّا لم نقض الكتاب بعد)، قال: فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: (بلى: فافعل)، قال: ما أنا بفاعل، قال مِكرزٌ: بل قد أجزناه لك، قال: أبو جندل: أي معشر المسلمين! أُرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله، [ فردّ يومئذ أبا جندل(19) إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدة وإن كان مسلما]، فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألستَ نبيَّ الله حقا، قال: (بلى).
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: (بلى)، قلت: فلما نعطي الدّنية في ديننا إذا؟!. قال: (إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري). قلت: وأليس كنت تحدثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: (بلى؛ فأخبرتك أنّا نأتيه العام؟)، قال: قلت: لا، قال: (فإنّك آتيه، ومُطَّوِّفٌ به)، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلما نعطي الدنيّة في ديننا إذا؟، قال: أيها الرجل! إنّه لرسول الله، وليس يعصي ربّه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحقّ. قلت: أليس كان يحدثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنّك ستأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنّك آتيه ومُطَّوِّف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا(20).
قال: فلمّا فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا). قال: فوالله ما قام منهم رجلٌ حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلمّا لم يقُم منهم أحدٌ دخل على أمّ سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أمّ سلمة: يا نبيّ الله! أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك، فيَحْلِقَك، فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحرَ بدْنه، ودعا حالقه فحلقَه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يَحلِقُ بعضا، حتى كاد بعضُهم يقتلُ بعضاً غماً….).
بعض فوائد صُّلح الحديبية التي تخص بحثنا.
1- أخرج الإمام البخاري (برقم4150) بإسناده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه أنّه قال: (تعدُّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية…).
قال الحافظ في الفتح عند قول البراء (ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان): (يعني قوله تعالى: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا] وهذا موضع وقع فيه اختلاف قديم، والتحقيق أنّه يختلف ذلك باختلاف المراد من الآيات، فقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا] المراد بالفتح هنا الحديبية، لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين، لما ترتب على الصّلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب، وتمكن مَن يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك؛ كما وقع لخالد بن الوليد وعمر بن عاص وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها بعضا إلى أن كمل الفتح).
وقال أنس بن مالك: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا] قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئا مريئا فما لنا؟ فأنزل: [لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ].
قال الإمام الزهري كما في سيرة ابن هشام (2/322)، والبداية والنهاية لابن كثير (6/221 ط/ دار هجر) رحمه الله: (فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه، إنّما كان القتالُ حيثُ الْتقى الناسُ، فلمَّا كانت الهُدنةُ، ووضعتِ الحربُ أوزارَها، وأَمِن النّاسُ كلُّهم بعضُهم بعضا، والْتَقَوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكَلَّم أحدٌ في الإسلام -يعقل شيئا- إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثلُ ما دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر).
قال ابن هشام مؤيدا كلام الزهري: (والدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألفٍ وأربعمائة رجلٍ في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (35/60): (وسورة الفتح الذي فيها ذلك أنزلها الله قبل أن تفتح مكة؛ بل قبل أن يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد بايع أصحابه تحت الشجرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وصالح المشركين صلح الحديبية المشهور، وبذلك الصلح حصل من الفتح ما لا يعلمه إلا الله؛ مع أنّه قد كرهه خلق من المسلمين، ولم يعلموا ما فيه من حسن العاقبة، حتى قال سهل بن حنيف: (أيها الناس! اتهموا الرأي، فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو استطعت أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت) رواه البخاري وغيره).
2- ومن ثمر صلح الحديبية أن المسلمين تفرغوا ليهود خيبر آخر معاقل يهود، التي استُغلت للتحريض على المسلمين في الخندق وما بعدها، وكان نخيل خيبر من بركات صلح الحديبية.
روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي كما قال الحافظ في قوله [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا]؛ قال: صلح الحديبية، وغفر له ما تقدم وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهر الروم على فارس وفرح المسلمون بنصر الله).
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه (برقم4160 باب غزوة الحديبية) بإسناده إلى زيد بن أسلم عن أبيه قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمرَ امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبيةً صغارا، والله ما يُنضجون كراعا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضّبع، وأنا بنت خُفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم. فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعيرٍ ظهيرٍ كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها بخطامه ثم قال: اقتاديه، فلن يَفْنَى حتى يأتيكم الله بخير. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها. قال عمر: ثكلتك أمرك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفئُ سُهْمَانَهما فيه).
الهامش مع بقية الفوائد:
(1):انظر لزاما مختصر صحيح البخاري (2/229 ط: مكتبة المعراف) للعلاّمة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.
(2)موضع قريب من عسفان كما في رواية الإمام أحمد (4/328)، والأحابيش جمع من النّاس ليسوا من قبيلة واحدة.
(3) فيه استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه، استخراجا لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وأمنًا لعتبهم، وتعرفا لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالا لأمر الربّ تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]، وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]. قاله ابن قيم الجوزية في الزاد.
(4) أي مسلوبين منهوبين، ولفظ الإمام أحمد: (تكن عنقا قطعها الله)، قال الحافظ رحمه
الله: (والمراد أنه صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه هل يخالف الذين نصروا قريشا إلى مواضعهم، فيسبي أهلهم، فإن جاؤوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم، وانفرد هو وأصحابه بقريش، وذلك المراد بقوله: (تكن عنقا قطعها الله)، فأشار عليه أبو بكر بترك القتال).
(5) أي حبسها الله عزّ وجلّ عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكّة على تلك الصّورة وصدّتهم قريش عن ذلك، لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، وسيتخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمِن أن يصاب ناس منهم بغير عمد، كما أشار إليه تعالى في قوله: [وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ].
وقال الخطابي: (معنى تعظيم حرمات الله في هذه القصة؛ ترك القتال في الحرم، والجنوح إلى المسالمة والكف عن إراقة الدماء) نقله الحافظ.
(6)إنّ المشركين، وأهل البدع والفجور، والبغاة الظّلمة، إذا طلبوا أمرا يُعظِّمون فيه حرمةً
من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأُعطوه، وأُعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكلّ من التمس المعاونة على محبوب الله تعالى مُرضٍ له، أجيب إلى ذلك كائنا من كان، ما لم يترتَّب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدقّ المواضع وأصعبها، وأشقها على النفوس…) قاله ابن قيم الجوزية.
قلت: ومؤازرتي للصّلح الذي دعا إليه حاكم البلاد هو تعظيم لحرمة من حرمات الله التي هي حقنٌ لدماء المسلمين، وجمعٌ لكلمتهم.
(7)أي موضع سرّه وأمانته، قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مسلمها ومشركها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة.
والعوذ: جمع عائذ، أي: النوق الحديثات النتاج ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها.
(8) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على الاستبقاء على حياة قريش، آملا في إسلامهم، وإفادة
الدعوة منهم، فالنّاس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وقريش
من أكثر العرب فصاحة وذكاء وخبرة ومكانة، واستبقاؤها للإسلام فيه خير عظيم للدولة والدعوة، قارن هذا مع صنيع الفرق الضالة التي تأتي إلى معقل الإسلام ومهد الوحي مكة والمدينة، وتسعى في بث الفتنة وزرع الخراب والدمار خدمة لأعداء الدين من اليهود والنصارى.
(9)فيه جواز ابتداء الإمام بطلب صّلح العدُوّ إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن ابتداء الطلب منهم
(10)أي استراحوا من جهد القتال، وجاء في رواية أخرى: (وإن ظهر الناس عليّ، فذلك الذي يبغون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تنفرد سالفتي) أي: حتى تنفصل رقبتي عن بدني.
(11)وهما عكرمة بن أبي جهل، والحكم بن أبي العاص، وما أكثر أمثالهما في هذا الزمان، وهذا الصنف لا يصلح أن يدير مشروع صلح بين الخلق.
(12)اجتاح: أهلك أصله بالكلية، وما يفعله دعاة الدمار من تفجيرات جماعية لإهلاك أصلهم بالكلية مردود حتى عند العرب في الجاهلية.
(13)بتقديم المعجمة على الواو كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر عن الكشميهني (أوشابا)، بتقديم الواو، والأشواب الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش الأخلاط من السفلة، فالأوباش أخص من الأشواب، قاله الحافظ في الفتح.
(14)وأخرج ابن أبي شيبة أن عروة قال: (من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة)، وقول عروة: ألست أسعى في غدرتك: أي ألست أسعى في دفع شرّ غدرتك؟
أشار عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرا من ثقيف من بني مالك زائرين المقوقس بمصر، فأحسن إليهم وأعطاهم، وقصر بالمغيرة، فحصلت له الغيرة منهم، فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر، فلما سكروا وناموا وثب عليهم المغيرة فقتلهم، وأخذ أموالهم ولحق بالمدينة فأسلم.
(15)أي لا أتعرض له لكونه أخذه غدرا، ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدرا، لأن الرفقة يصطحبون على الأمانةِ، والأمانةُ تُؤدى إلى أهلها مسلما كان أو كافرا، وأن أموال الكفار تحل بالمحاربة والمغالبة. قاله الحافظ في الفتح.
قال ابن المنذر رحمه الله في الأوسط (11/314 م1972): (ومن ذلك أنّ أموال أهل الشرك، وإن كانت مباحة للمسلمين، مغنومة إذا أخذوا ذلك منهم قهرا، فإنها ممنوعة بالأمان لهم عليها، مردودة إلى أربابها، إذا أخذوا ذلك في حال الأمان لهم، يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء)، وإنّما حرّم ذلك على المغيرة لأمنهم لما صحبوه، وقد أمَّن كلّ منهم صاحبه على نفسه، وماله، فكان سفكه دما ئهم، وأخذه أموالهم في ذلك الوقت غدرا منه بهم، والغذر غير جائز، والأمانات مؤداة إلى الأبرار، والفجار، والمؤمنين، والمشركين)اهـ.
قلت: وأما الذي يفعله بعض الجهلة التكفيريين الساكنين بديار الكفر من اختلاس ونهب لبعض الـمحلات التجارية، تحت مفهوم أخذ غنائم الكفار مخالفٌ قطعا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو في ميزان شريعة الرحمن غدر وخيانة، وتشويه لجمال الديانة.
(16)في الحديث جواز التبرك بذاته صلى الله عليه وسلم وآثاره الحسية المنفصلة عنه، ولا يجوز أن يقاس عليه غيره من الصالحين، وأمّا الذي ذهب إليه الحافظ في الفتح فغير متين.
ثم إنّ الجواز لا يُسوِّغ الإعتماد على أثار الأنبياء في القرب من الله، فقد قال أنس بن مالك رضي الله عنه أن أضيافا من البحرين نزلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بوضوئه فتزضأ، فبادروا إلى وضوئه فشربوا ما أدركو منه، وما نصب من في الأرض فمسحوا به وجوههم ورؤوسهم وصدورهم، فقال لهم النبيصلى الله عليه وسلم: ما دعاكم إلى ذلك؟ حباً لك، لعل الله يحبنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كنتم تحبون أن يحبكم الله ورسوله؛ فحافظوا على ثلاث خصال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار)، أخرجه العلاّمة محمد ناصر الدين الالباني في الصحيحة (6/1264 برقم 2998) وقال: الحديث روي جله من وجوه أخرى يدل مجموعها على أن له أصلا ثابتا.
وقد أنكر السلف على من تبرك بأثار الصالحين، ذكرى ابن أبي يعلى في ترجمة علي بن عبد الله الطيالسي أنه قال: مسحت يدي على أحمد بن حنبل ثم مسحت يدي على بدني وهو ينظر، فغضب غضبا شديدا، وجعل ينفض نفسه ويقول: عمن أخذتم هذا، وأنكره انكارا شديدا. انظر طبقات الحنابلة (1/228)، والمنهج الأحمد (1/428).
وفي صنع الصحابة يوم الحديبية فائدة أخرى؛ وهي أنهم أرادوا أن يقولوا بلسان حالهم: من يحب إمامه هذه المحبة وينزله منزلته التي تليق به كيف يظن به أنه يفر عنه، ويسلمه للعدو، ومن هذا الصنيع المحكم يجب على المسلمين أن يلتفوا حول حكامهم المسلمين، ويناصرونهم بالمعروف قهرا لأعداء الله من اليهود والنصارى الذين يفرحون حين يرأون الفتنة مشتعلة في ديارهم، ودماءهم تزهق بأيديهم.
(17)أي موصوفا بالغدر. ومن كان هذا وصفه فلا يجوز أن تبرم معه صفاقات الصّلح، لأنه ما يفتأ أن ينقضها ويأتي بخلافها كما هو شأن اليهود في فلسطين، وبعض رؤوس الخوارج في ديار المسلمين.
(18)فيه استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطِّيرة المكروهة، وقد جاء في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طيرة، وخيرها الفأل الحسن)، قالوا وما الفأل الحسن يا رسول الله؟ قال: (الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم).
والفأل لسان الزمان، والطّيرة عنوان الحَدَثان كما قال ابن الرومي، وقال غيره: الفأل إبانة، والتّطيّر استدلال.
(19)أخرج الإمام أحمد في مسنده (4/325) بإسناد حسن، ومحمد بن إسحاق وإن كان مدلسا فقد صرح بالتحديث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنّ الله عزّ وجلّ جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدا، وإنّا لن نغدر بهم).
(20)وأخرج الإمام أحمد (4/325) بإسناد حسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (ما زلت أصوم وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن أكون خيرا).
وكان الفاروق رضي الله عنه يراجع النبي صلى الله عليه وسلم ليقف على الحكمة من موافقته على شروط الصّلح، وكان رضي الله عنه يرغب في إذلال الكفار، فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه، بل هو مأجور لأنه كان مجتهدا فيه قاله الحافظ في الفتح، قارن استنباط الحافظ مع تعبير بعض الجهلة من وصفهم لموقف الفاروق بأنه ناجم عن عقل بشري جهول والله المستعان.
ولما بدى لعمر أن الذي ارتضاه النبي صلى الله عليه وسلم وحي لا مكان للرأي معه سلّم رضي الله عنه [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا]، رضي الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعن باقي الصحب الأبرار.
وكتبه// أبو عبد الباري عبد الحميد أحمد العربي الجزائري.