من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف، أمَّا بعدُ:
فإنك عبد طمت[8] به الأمور فسَمَوْتَ فيها، وعَدَوْتَ طورك، وجاوزتَ قدرك، وركبت داهية أدًّا[9]، وأردت أن تَبُورَنِي[10]، فإنْ سوَّغْتُكَها[11] مضيتَ قُدُمًا، وإنْ لم أسوِّغْكها رجعتَ القهقرى، فلعنك الله عبدًا أخفش[12] العينين، منقوض الجاعرتين[13]، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل[14]، والله لأغمزنَّك[15] غمز الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وَثَبْتَ على الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهُرِنَا، فلم تَقْبَلْ له إحسانه، ولم تجاوز له إساءته جراءة منك على الربِّ عزَّ وعلا، واستخفافًا منك بالعهد،
والله لو أنَّ اليهود والنصارى رَأَتْ رجلاً خدم عزير بن عزري وعيسى بن مريم لعظَّمته وشرَّفته وأكرمته، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم، خدمه ثماني سنين، يُطلعه على سرِّه، ويُشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقيَّة من بقايا أصحابه، فإذا قرأتَ كتابي هذا، فكن أطوع له من خُفِّه ونَعْلِهِ، وإلا أتاك منِّي سهم مُثْكَل بحتف قاضٍ، و{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67][16].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
[8] طَمَّ الشيءُ إذا عَظُمَ، وطَمَتْ به الأمور أي: عَلَتْ وارتفعت. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة طمم 12/370.
[9] الإِدُّ: العَجبُ والأمر الفظيع العظيم والداهية. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة أدد 3/71.
[10] بُرْتُ الشيءَ أبُوره إذا خبرته، وبارَهُ بَوْرًا وابْتَارَهُ اختبره. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة بور 4/86.
[11] سَوَّغْتُه له: أَي جَوَّزْتُه. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة سوغ 8/435.
[12] الخفَشُ: ضعف في البصر. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة خفش 6/298.
[13] الجاعِرَتانِ: حرفا الوَرِكَين المُشْرِفان على الفخذين، وقيل: الجاعرتان موضع الرَّقْمتين من است الحمار. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة جعر 4/139.
[14] المَنْهَل: المشرَب، وتسمَّى المنازل التي في المَفاوِز على طريق السُّفَّار مَناهِل؛ لأَن فيها ماءً. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة نهل 11/680.
[15] الغَمْزُ: العَصْرُ باليد، ومنها الدفع مجازًا. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة غمز 5/388، 264.
[16] ابن كثير: البداية والنهاية 9/154.