هاهي عقارب الساعة تزحف ببطءلتصل إلى السادسة مساء في منزل زوجة الفقيد أبي محمدالتي تقضي اليوم الأول بعد رحيل زوجها الشاب إلى جوار ربه , ولسان حالها تجاهه وهي ترمق صخب الدنيا :جاورتُ أعدائي وجاور ربه شتان بين جوارهوجواريغصَّ البيت بالمعزينرجالا ونساء صغارا وكبارا …اصبري يا أم محمد واحتسبي , وعسى الله أن يريك في محمد ذي الثلاثة أعوامخير خلف لأبيه …وهكذاقضى الله أن يقضي محمد طفولته يتيم الأب , غير أن رحمة الله أدركت هذا الغلام , فحنن عليه قلب أمه فكانت له أما وأبا ..
تمر السنون ويكبرالصغير وينتظم دارسا في المرحلة الابتدائية ..ولما كُرِّم متفوقا في نهاية السنة السادسة أقامتله أمه حفلا رسم البسمة في وجوه من حضر .. ولما أسدل الليل ستاره وأسبل الكون دثاره ,,سارَّتْه أمهأن يا بني ليس بخاف عليك قلة ذات اليد عندنا , لكني عزمت أن أعمل في نسج الثيابوبيعها , وكل مناي أن تكمل الدراسة حتى الجامعة وأنت في خير حال ..بكى الطفل وهويحضن أمه قائلا ببراءة الأطفال :( ماما إذا دخلت الجنة إن شاء الله سأخبر أبي بمعروفك الكبيرمعي ) ..تغالبالأم دموعها مبتسمة لوليدها ..
وتمر السنون ويدخل محمدالجامعة ولا تزال أمه تنسج الثياب وتبيعها حتى كان ذلك اليوم …دخل محمد البيت عائدامن أحد أصدقائه فأبكاه المشهد ..وجد أمه وقد رسم الزمن على وجهها تجاعيد السنين .. وجدها نائمة وهي تخيط ,لايزال الثوب بيدها ..كم تعبت لأجل محمد ! كم سهرت لأجل محمد !لم ينم محمد ليلته تلكولم يذهب للجامعة صباحا ..عزم أن ينتسب في الجامعة ويجد له عملا ليريح أمه من هذاالعناء ..غضبت أمه وقالت : إن رضاي يا محمد أن تكمل الجامعة منتظما وأعدك أن أترك الخياطة إذا توظفت بعدالجامعة ..وهذا ما حصل فعلا ..
هاهو محمد يتهيأ لحفل التخرجممنيا نفسه بوظيفة مرموقة يُسعد بها والدته وهذا ما حصل فعلا ..محمد في الشهر الأول منوظيفته وأمه تلملم أدوات الخياطة لتهديها لجارتها المحتاجة ,محمد يعد الأيام لاستلامأول راتب وقد غرق في التفكير : كيف يرد جميل أمه ! أيسافر بها ! أيسربلها ذهبا !لم يقطع عليه هذا التفكيرإلا دخول والدته عليه وقد اصفر وجهها من التعب , قالت يا بني أشعر بتعب في داخلي لاأعلم له سببا ,هب محمدلإسعافها , حال أمه يتردى , أمه تدخل في غيبوبة , نسي محمد نفسه .. نسي عمله ..ترك قلبه عند أمه لايكاد يفارقها , لسان حاله :فداك النفس يا أمي …. فداك المال والولد
وكان ما لم يدر في حسبان محمد .. هاهي الساعة تشير إلى العاشرة صباحا ,,محمد يخرج من عمله إلى المستشفى , ممنيا نفسه بوجه أمهالصبوح ريانا بالعافية ,وعند باب القسم الخاص بأمه استوقفه موظف الاستقبال وحثه على الصبروالاحتساب ..صعق محمدمكانه ! فقد توازنه ! وكان أمر الله قدرا مقدورا ,شيع أمه المناضلة لأجله , ودفن معها أجمل أيامه , ولحقتبزوجها بعد طولغياب ,وعادمحمد يتيم الأبوين ..
انتهى الشهر الأولونزل الراتب الأول لحساب محمد .. لم تطب نفسه به , ما قيمة المال بلا أم !هكذا كان يفكرحتى اهتدى لطريق من طرق البر عظيم , وعزم على نفسه أن يرد جميل أمه حتى وهي تحتالتراب ,
عزم محمد أن يقتطعربع راتبه شهريا ويجعله صدقة جارية لوالدته , وهذا ما حصل فعلا ..حفر لها عشراتالآبار وسقى الماء وبالغ في البر والمعروف , ولم يقطع هذا الصنيع أبدا حتى شابعارضاه وكبر ولده ولا يزال الربع مُوقفاً لأمه ,كانت أكثر صدقاته في برادات الماء عند أبوابالمساجد ..
وفي يوم من الأياموجد عاملا يقوم بتركيب برادة عند المسجد الذي يصلي فيه محمد ..عجب محمد مننفسه ! كيف غفلت عن مسجد حينا حتى فاز به هذا المحسن !! فرح للمحسن وندم على نفسه !حتى بادره إمامالمسجد من الغد شاكرا وذاكرا معروفه في السقيا !
قال محمد لكني لمأفعل ذلك في هذا المسجد ! قال بلى جاءني ابنك عبد الله – وهو شاب في المرحلةالثانوية – وأعطاني المبلغ قائلا :هذا سأوقفه صدقة جارية لأبي , ضعها في برادة ماء , عاد الكهلمحمد لابنه عبد الله مسرورا بصنيعه !سأله كيف جئت بالمبلغ ! ليفاجأ بأن ابنه مضى عليه خمس سنواتيجمع الريال إلى الريال حتى استوفى قيمة البرادة !
وقال : رأيتك يا أبيمنذ خرجتُ إلى الدنيا تفعل هذا بوالدتك .. فأردت أن أفعله بوالدي ..ثم بكىعبد الله وبكى محمد ولو نطقت تلك الدمعاتلقالت :
إن بركة برالوالدين تُرى في الدنيا قبل الآخرة !
وبعد .. فيا أيهاالأبناء ..
بروا آباءكم .. ولو ماتوا .. يبركم أبناؤكم
اللهم اغفر لناولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغارا وأصلح لنا نياتناوذرياتنا