لقد ذمَّ الله عز وجل الغش وأهله في القرآن وتوعدهم بالويل، ويُفهم ذلك من قوله تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3].
فهذا وعيد شديد للذين يبخسون ـ ينقصون ـ المكيال والميزان، فكيف بحال من يسرقها ويختلسها ويبخس الناس أشياءهم؟! إنه أولى بالوعيد من مطففي المكيال والميزان.
وقد حذر نبي الله شعيب عليه السلام قومه من بخس الناس أشياءهم والتطفيف في المكيال والميزان كما حكى الله عز وجل ذلك عنه في القرآن.
وكذلك حذر النبي من الغش وتوعد فاعله، وذلك أن النبي مر على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً. فقال: { ما هذا يا صاحب الطعام؟ } قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: { أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني } وفي رواية: { من غشنا فليس منا } وفي رواية: { ليس منا من غشنا } [رواه مسلم].
فكفى باللفظ النبوي { ليس منا } زاجراً عن الغش، ورادعاً من الولوغ في حياضة الدنسة، وحاجزاً من الوقوع في مستنقعه الآسن.
إننا يا أخي في حاجة شديدة إلى عرض هذا الوعيد على القلوب لتحيا به الضمائر، فتراقب الله عز وجل في أعمالها، دون أن يكون عليها رقيب من البشر.
وصدق من قال:
ولا ترجع الأنفس عن غيّها *** ما لم يكن منها لها زاجر ولا يكن مثلنا في معالجة هذه الظاهرة، وغيرها من الظواهر المدمرة في المجتمع ـ كمريض الزائدة الدودية يحتاج إلى مبضع الجراح.. فتعمل له كمادات ساخنة عساها أن تخفف الألم.. إن المريض سيموت قبل أن يفكر في استدعاء الطبيب!! وإليك أخي المبارك وقفات مع ظاهرة الغش بعد ما علمت ما رتب عليه من الوعيد:
الوقفة الأولى: تعريف الغش
قال المناوي: ( الغش ما يخلط من الرديء بالجيد ).
وقال ابن حجر الهيثمي: ( الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذ بذلك المقابل ).
وقال الكفوي: ( الغش سواد القلب، وعبوس الوجه، ولذا يطلق الغش على الغل والحقد ).
الوقفة الثانية: مظاهر الغش
إن المتأمل في واقع كثير من الناس ليجد أنهم يمارسون صوراً من الغش في جميع شؤون حياتهم ومن ذلك:
أولاً: الغش في البيع والشراء:
وما أكثره في زماننا في أسواق المسلمين!! ويكون الغش فيهما بمحاولة إخفاء العيب، ويكون في طرق أخرى كالغش في ذاتية البضاعة أو عناصرها أو كميتها، أو وزنها أو صفاتها الجوهرية أو مصدرها، كما حدد ذلك نظام مكافحة الغش التجاري الصادر بالمرسوم الملكي رقم (45) في 14/8/1381 هـ.
وإليك طرقاً من مظاهر ذلك على التفصيل:
1- بعض البائعين للفاكهة يضع في نهاية القفص المعد لبيع الفاكهة أوراقاً كثرة، ثم يضع أفضل هذه الفاكهة أعلى القفص، وبذلك يكون قد خدع المشتري وغشه من جهة أن المشتري يظن أن القفص مليء عن آخره، ومن جهة أنه يظن أن كل القفص بنفس درجة الجودة التي رآها في أعلاه.
2- وبعضهم يأتي بزيت الطعام ويخلطه ببعض العطور على أن تكون كمية الزيت هي الغالبة ويضعها في عبوات زجاجية ويخرج منها ريح العطر ويبيعه بثمن قليل.
3- وبعض التجار يشتري سلعة في ظرف خفيف جداً ثم يحملها في ظرف ثقيل نحو خمسة أضعاف الأول، ثم يبيع ذلك الظرف وما فيه، ويوزن جملة الكل، فيكون الثمن مقابلاً للظرف والمظروف.
4- وبعض التجار يخيط الثياب خيطة ضعيفة، ثم يبيعها من غير أن يبين أن هذا مخيط، بل ويحلف بالله إنه لجديد وما هو بجديد فتباً له!!
5- وبعضهم يلبس الثوب الجديد خاماً إلى أن تذهب قوته جميعها ثم يقصره حينئذ ويجعل فيه نشأ يوهم به أنه جديد، ويبيعه على أنه جديد.
6- وبعض العطارين يقرب بعض السلع إلى الماء كالزعفران مثلاً فتكتسب منه مائية تزيد نحو الثلث.
7- وبعض التجار وأصحاب المحلات يسعى إلى إظلام محله إظلاماً كثيراً باستخدام الإضاءة الملونة أو القاتمة، حتى يعيد الغليظ من السلع والملابس ـ خصوصاً ـ رقيقاً، والقبيح حسناً، زيّن لهم الشيطان سوء أعمالهم.
8- وذهب بعض الصانعين يخلط مع الذهب نحاساً ونحوه ثم يبيعه على أنه كله ذهب.
9- وبعضهم يعمد إلى شراء ذهب مستعمل نظيف، ثم يعرضه للبيع بسعر الجديد دون أن ينبه المشتري على أنه مستعمل.
10- يعمد بعض البائعين في مزاد السيارات إلى وضع زيت ثقيل في محرك السيارة حتى يظن المشتري أنها بحالة جيدة.
11- وبعضهم يعمد إلى عداد الكيلو في السيارة الذي يدل على أنها سارت كثيراً فينقصه بحيلة حتى يتوهم المشتري بذلك أنها لم تسر إلا قليلاً.
12- وبعضهم إذا كان معه سيارة يريد بيعها، ويعلم فيها خللاً خفياً، قال لمن يريد شراءها: هذه السيارة أمامك جربها إن أردتها، ولا يخبره بشيء عنها.. ولعمر الله إنه لغش وخداع.
13- وبعضهم يعمد إلى ذكر عيوب كثيرة في السيارة وهي ليست صحيحة، ويهدف من وراء ذلك إلى إخفاء العيوب الحقيقية في السيارة تحت هذه العيوب الوهمية المعلن عنها.
والأدهى من ذلك أنه لا يذكر العيوب إلا بعد البيع وتسليم العربون، ولا يمكّن المشتري من فحص السيارة بل ولا يسمح له بذلك.
14- وبعضهم إذا كان معه سيارة يريد بيعها صار يمدحها ويحلف بالله أنها جيدة، ويختلق أعذاراً لسبب بيعها. والله عز وجل يعلم الشر وأخفى.
15- وبعضهم يتفق مع صاحب له ليزيد له في ثمن السلعة فيقع فيها غيره. وهذا هو النجش الذي نهى عنه رسول الله .
16- ومن الغش في البيع أن يقوم القصّاب ـ الجزار ـ بنفخ الذبيحة التي يراد بيعها، ليبين للمشتري أن المنفوخ كله لحم.
17- وبعضهم يعمد في مزاد الأغنام إلى تغذيتها بالملح ـ وكذلك محلات بيع الدجاج ـ حتى يظن المشتري أنها سمينة وهي خلاف ذلك.
18- وبعض أصحاب بهيمة الأنعام يعمد إلى صرّ ـ أي شد وربط ـ ضرع ذات اللبن من بهيمة الأنعام قبل بيعها بأيام ليظهر أنها حليب. وهي ليست كذلك فلا ينطلق لها ضرع إلا بعد تضرّع!!
19-………………………
20-……………………..
وأدع ذلك المجال لتضيف ما خطر في ذهنك من صور الغش في الببيع والشراء. وأعيذك بالله إن كنت بائعاً أو مشترياً من الغش والانصاف بشيء مما سبق.
ثانياً: الغش في الزواج:
ومن مظاهر الغش فيه ما يلي:
1- أن يقدم بعض الآباء للمتقدم لإحدى بناته ابنته الصغيرة البكر، ويوم البناء ـ ليلة العرس ـ يجدها الكبيرة الشيب، فيجد بعضهم لا مناص ولا هروب من هذا الزواج.
2- وبعض الآباء وأولياء النساء يري الخاطب البنت الجميلة، ويوم البناء يرى أنها الدميمة القبيحة فيضطر للقبوب ـ إن قبل.
3- وبعض الآباء قد يخفي مرضاً أو عيباً في ابنته ولا يبينه للخاطب ليكون على بيّنة، فإذا دخل بها اكتشف ما بها من مرض أو عيب.
4- وبعض الآباء وأولياء البنات إذا طلب منهم الخاطب رؤية المخطوبة ـ وهو جائز بشرطه ـ أذنوا في ذلك بعد أن تملأ وجهها بكل الألوان والأصباغ التي تسمى "مكياجاً" لتبدو جميلة في عينيه، ولو نظر إليها دون هذا القناع من المساحيق لما وقعت في عينيه موقع الرضا.
أليس هذا غشاً يترتب عليه مفاسد عظيمة في حق الزوج والزوجة؟!
5- وبعض الأولياء يعمد إلى تزويج موليته دون بذل جهد في معرفة حال الخاطب وتمسكه بدينه وخلقه.. وفي هذا غش للزوجة وظلم لها.
6- ومن الغش في الزواج أن يعمد الخاطب إلى التشبع بما لم يعط، فيظهر أنه صاحب جاه وأنه يملك من العقارات والسيارات الشيء الكثير. بل ويسعى إلى استئجار سيارة فارهة تكلف المئات من الريالات ليظهر بانه بملك، ولا يملك في الحقيقة شيئاً.
7- ومن الغش كذلك أن يعمد بعض الناس إلى تزكية الخاطب عند من تقدم لهم، ومدحه والإطراء عليه وأنه من المصلين الصالحين، مع أن هذا الخاطب لا يعرف للمسجد طريقاً!!
فكفى ـ أيها الأحبة ـ غشاً وخداعاً يهدم البيوت، ويشتت الأسر.
8- ومن الغش ما تقوم به بعض النساء ـ وخاصة الكبيرات ـ من الفلج ـ وهو برد الأسنان لتحصل بينها فرجة لطيفة تظهر بها الكبيرة صغيرة، فيظن الخاطب أنها كذلك فإذا تزوجها اكتشف أنها بلغت من الكبر عتياً. وقد لعن النبي المتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى.
ثالثاً: الغش في النصيحة:
وذلك بعدم الإخلاص فيها، والقصد من بذلها أغراض دنيوية وأغراض دينية. ومن حق الأخوة بين المؤمنين أن يتفانى الأخ في نصح أخيه ويمحص له ذلك، فالمؤمنون نَصحة والمنافقون غششة.
والمؤمن مرآة آخيه إذا رأى فيه عيباً أصلحه. والنصيحة تكون بكف الأذى عن المسلمين، وتعليمهم ما يجهلونه من دينهم، وإعانتهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلافهم، ودفع المضار عنهم بجلب النافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخوّلهم بالموعظة الحسنة، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه من المكروه.
روى الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده أن جرير بن عبد الله البجلي أمر مولاه أن يشتري فرساً، فاشترى له فرساً بثلاثمائة درهم، وجاء به بصاحبه لينقده الثمن، فقال جرير لصاحب الفرس ـ وانظر إلى النصيحة: فرسك خير من ثلاثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة درهم؟ قال: ذلك إليك يا أبا عبدالله.
فقال: فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم؟ ثم لم يزل يزيده مائة فمائة ـ وصاحبه يرضى وجرير يقول: فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة فاشتراه بها. فقبل له في ذلك فقال: إني قد بايعت رسول الله على النصح لكل مسلم.
رابعاً: الغش في الرعية:
عن معقل بن يسار المزني أنه قال في مرضه الذي مات فيه: سمعت رسول الله يقول: { ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة } [رواه البخاري ومسلم واللفظ له] وأحد لفظي البخاري: { ما من مسلم يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة }.
فهذا وعيد شديد يدخل فيه كل من استرعاه الله رعية سواء كانت صغيرة أم كبيرة، ابتداءً من أفراد الأسرة إلى الحاكم، فيجب على الكل النصح لرعيته وعدم غشهم.
فالموظف يجب عليه أن ينصح في وظيفته وأن يؤديها على الوجه المطلوب شرعاً دون غش ولا خداع، ودون تأخير لأعمال الناس ومصالحهم، وليعلم أنه موقوف بين يدي الله عز وجل. فما ولاه الله عز وجل هذه الوظيفة إلا ليديم النصح للمسلمين.
وكذلك الأب يجب عليه أن ينصح أولاده، وألا يفرط في تربيتهم بل يبذل كل ما يستطيع ليقي نفسه وأولاده من نار وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد.
قال ابن القيم رحمه الله: ( وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوّت عليه حظه من الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد ـ رأيت عامته من قبل الآباء ) [تحفة المودود: ص 146].
خامساً: الغش في الامتحان:
وما أكثر طرقه ووسائله بين الطلاب والطالبات!! وسبب ذلك هو ضعف الوازع الديني، ورقة الإيمان، وقلة المراقبة لله تعالى أو انعدامها. قال سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله: ( قد ثبت عن رسول الله أنه قال: { من غشنا فليس منا }. وهذا يعم الغش في المعاملات، والغش في الامتحان، ويعمّ اللغة الإنجليزية وغيرها، فلا يجوز للطلبة والطالبات الغش في جميع المواد لعموم هذا الحديث وما جاء في معناه. والله ولي التوفيق ). هذه بعض مظاهر الغش تدل على غيرها، وهي غيض من فيض، وقطرة من بحر، ليحيا من حيي على بيّنة ويهلك من هلك عن بيّنة. وإلى كل من وقع في صورة من صور الغش ذكرت أو لم تذكر نقول له: اتق الله يا أخي واستشعر رقابة علام الغيوب، وتذكر عقابه وعذابه إن ربك لبالمرصاد [الفجر:14] واعلم أن الدنيا فانية وأن الحساب واقع على النقير والفتيل والقطمير، وأن العمل الصالح ينفع الذرية، والعمل الصالح يؤثر في الذرية، قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9] فمن تأمل هذه الآية خشي على ذريته من أعماله السيئة وانكف عنها، حتى لا يحصل لهم نظيرها.
ثم اعلم أن للغش مضاراً عظيمة وإليك بيانها في الوقفة التالية:
الوقفة الثالثة: مضار الغش
من مضار الغش:
1- الغش طريق موصل إلى النار.
2- دليل على دناءة النفس وخبثها، فلا يفعله إلا كل دنيء نفس هانت عليه فأوردها مورد الهلاك والعطب.
3- البعد عن الله وعن الناس.
4- أنه طريق لحرمان إجابة الدعاء.
5- أنه طريق لحرمان البركة في المال والعمر.
6- أنه دليل على نقص الإيمان.
7- أنه سبب في تسلط الظلمة والكفار، قال ابن حجر الهيثمي: ( ولهذه القبائح ـ أي الغش ـ التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والبضائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم، بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً.
وكثرة تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب، وأخذ الأموال والحريم، إنما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة لما أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش الكثيرة والمتنوعة، وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتحايلات الباطلة، على أخذ أموال الناس بأي طريق قدروا عليها، لا يراقبون الله المطلع عليهم
شكرا على المرور