الحج : آداب وأسرار ودروس لمحمد بن إبراهيم الحمد
الحج : آداب وأسرار ودروس
تأليف
محمد بن إبراهيم الحمد
***61472;
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خير خلق الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واتبع هداه.
أما بعد:
فإن الحج رحلة مباركة، ومناسبة ميمونة، وسياحة محمودة.
وإن للحج ثمارَه اليانعة، وفوائده المتعددة، وبركاته المتنوعة، ودروسه المفيدة، وأسراره البديعة.
ولقد يسر الله أن كتبت بعض الكلمات في هذا الشأن، وألقيت في عدد من المناسبات.
ورغبة في عموم النفع أحببت نشر تلك الكلمات التي تحتوي على الموضوعات التالية:
– من آداب الحج.
– من أسرار الحج.
– من دروس الحج.
– الذكر في الحج.
– الدعاء في الحج.
– من معاني العيد.
فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن ينفع بهذه الكلمات، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
للحج آدابٌ عظمية، وأخلاقٌ قويمة، يَحسُن بالحاج أن يقف عليها، ويَجمُل به أن يأخذ بها، ليكون حجه كاملاً مبروراً، وسعيه مقبولاً مشكوراً.
ومن تلك الآداب والأخلاق ما يلي:
1- الاستشارة والاستخارة: فيستحب للحاج أن يستشير من يثق بدينه، وخبرته وعلمه في حجه هذا، كما يستحب له أن يستخير الله تعالى في حجه.
وهذه الاستخارة وتلك الاستشارة لا تعود إلى الحج نفسه، فالحج خير.
وإنما تعود إلى ملاءمة الوقت، وتعود إلى المصلحة، وحال الشخص، وتعود إلى الرفيق، والزاد.
2- إخلاص النية لله – تعالى – : فلا يقصد في حجه رياء ولا سمعة، ولا ليقال: حج فلان، ولا ليطلق عليه لقب الحاج.
وإنما يحج محبة لله، ورغبة في ثوابه، وخشية من عقابه، وطلباً لرفع الدرجات، وحط السيئات، فالإخلاص عليه مدار العمل.
قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: من الآية] وقال النبي – صلى الله عليه وسلم- :" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى" متفق عليه.
3- المبادرة إلى كتابة الوصية: ذلك أنه مُقْدِم على الحج، ومُتَعَرِّضٌ لمصاعب الطريق، فحري به أن يكتب وصيته، وبيان ما له وما عليه، وجدير به أن يوصي أهله وأصحابه قبل سفره؛ بتقوى الله تعالى.
4- المبادرة إلى التوبة النصوح: وهي التوبة الناصحة الخالصة، التي تأتي على جميع الذنوب؛ فحري بالحاج أن يبادر إلى تلك التوبة، وأن يتحلل من المظالم؛ فذلك أرجى لقبول حجه، ورفعة درجاته، ومغفرة سيئاته، بل وتبديلها حسنات.
5- التفقه في أحكام الحج: ولو على سبيل الإجمال؛ فإن لم يستطع؛ فليأخذ معه من الكتب أو الأشرطة ما يفيده في معرفة أحكام الحج، وأن يسأل عما يُشكل عليه.
6- الحرص على اصطحاب الرفقة الطيبة: التي تعينه على الخير إذا تذكَّر، وتذكره بالخير إذا نسي، والتي يستفيد من جرَّاء صحبتها العلم النافع، والخلق الفاضل.
7- تأمير الأمير: فإذا كان الحجاج جماعة فعليهم أن يؤمروا أميراً، وأن يكون ذا خبرة وسداد رأي، وعليهم أن يلزموا طاعته في غير معصية الله، وليحذروا من الاختلاف عليه.
كما عليه أن يرفق بهم، وأن يستشيرهم.
8- حسن العشرة للأصحاب: ومن ذلك أن يقوم الإنسان على خدمتهم بلا منَّة ولا تباطؤ، وأن يشكرهم إذا قاموا بالخدمة، وأن يتحمل ما يصدر من الرفقة من جفاء وغلظة ونحو ذلك، وأن يرى الحاج أن لأصحابه عليه حقاً، ولا يرى لنفسه عليهم حقاً؛ فذلك من كريم الخلال ومن حميد الخصال، ومما تُرفع به الدرجات، وتُحط السيئات.
ومن حسن العشرة: أن يبتعد الحاج عن مشاجرة الأصحاب، ومخاصمتهم، فإن حصل شيء من ذلك فليبادر إلى الاعتذار، وإذا تعذر الاجتماع فالأولى أن يفترقا؛ لتسلم القلوب، ويتمكن كل واحد منهما من أداء مناسكه دونما تشوّش أو قلق، وبعد ذلك تهدأ العاصفة، ويحصل الائتلاف.
ومن حسن العشرة: أن يحرص الحاج على ملاطفة أصحابه، وإدخال السرور عليهم خصوصاً الضعفة والنساء.
ومن الأدب مع الأصحاب: أن يحرص الحاج على الالتزام بالمواعيد، وأن يتلطف بالاعتذار إن حصل خطأ أو تأخير، أو خلل، وأن يتحمل ما يصدر منهم من عتاب إذا هم عاتبوا، وأن يتقبل العذر من غيره إذا هم أخطئوا بتأخر أو خلل، فذلك دليل سمو النفس، وبُعد الهمة، وحسن المعاشرة، فالعاقل اللبيب الكريم هو من يتحمل أذى الناس، ولا يحمِّلهم أذاه.
9- تَخَيُّرُ النفقة الطيبة: فيختار الحاج النفقة الطيبة من المال الحلال، حتى يُقبل حجه ودعاؤه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) رواه مسلم.
10- لزوم السكينة، واستعمال الرفق: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع) رواه البخاري ومسلم.
وقال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه) رواه مسلم.
11- الحرص على راحة الحجاج، والحذر من أذيتهم: فعلى الحاج أن يحرص كل الحرص على راحة إخوانه الحجاج، وأن يبتعد عن كل ما فيه أذى لهم، من رفع للصوت، أو إطلاق للأبواق بلا داع، أو أن يزاحمهم، أو يضيق عليهم، أو أن يؤذيهم بالتدخين أو نحو ذلك.
ومما يَجمُل به أيضاً أن: يحب لإخوانه الحجاج ما يحبه لنفسه، وأن يكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيتحمل أذاهم، ويصبر على بعض ما يصدر منهم من زحام، أو تصرفات مقصودة أو غير مقصودة؛ فالإنسان الكريم يصبر على أذى ضيوفه حرصاً على إكرامهم، فكيف بضيوف ربه؟! إن إكرامهم أولى ثم أولى، وإنه لدليل على إجلال الله وتوقيره. وإنه لدليل على كمال العقل، ومتانة الدين؛ لأنه لا أحسن من درء الإساءة بالإحسان.
12- حفظ اللسان: وذلك بتجنب فضول الكلام، وسيئه، والبعد عن الغيبة والنميمة، والسخرية بالناس، وبالحذر من كثرة المزاح أو الإسفاف فيه، وبصيانة اللسان من السب والشتم.
ومن ذلك: أن يحذر الحاج من المماحكة، وكثرة المماكسة، وأن يحذر من المخاصمة والجدال إلا إذا كان جدالاً لإحقاق الحق، وإبطال الباطل بالتي هي أحسن.
13- غض البصر: لأن الحاج يعرض له ما يَعْرِضُ من الفتن، فمن النساء من تخرج سافرة عن وجهها، ويديها، وقدميها وربما أكثر من ذلك؛ فعلى الحاج أن يغض بصره، وأن يحتسب ذلك عند الله – تعالى-.
وبذلك يسلم قلبه من التشوّش، ويسلم حجه من النقص، ويحفظ على نفسه دينه، ويبتعد عن الفتن والبلايا، ويحصل على ثمرات غض البصر المتنوعة، والتي منها: الفراسة الصادقة، والحلاوة التي يجدها في قلبه، إلى غير ذلك من ثمرات غض البصر العديدة.
14- لزوم النساء الستر والعفاف: فعليهن ذلك، وعليهن الحذر من مخالطة الرجال وفتنتهم، وعليهن الحذر من التبرج والسفور، والسفر بلا محرم.
15- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: كل ذلك حسب القدرة، والاستطاعة مع لزوم الرفق، واللين، والحكمة، والموعظة الحسنة، والرحمة بالمدعوين والتلطف بهم، والصبر على بعض ما يصدر منهم.
16- إعانة الحجاج: وذلك بقدر المستطاع، كأن يرشد ضالهم، ويعلم جاهلهم، ونحو ذلك من الإعانات المتعددة.
17- الاستكثار من النفقة: ليواسي المحتاجين، وليرفد إخوانه إذا احتاجوا، وليبادر إلى إعانتهم إذا شعر بأنهم في حاجة ولو لم يطلبوا.
18- استشعار عظمة الزمان والمكان: فذلك يبعث الحاج لأداء نسكه بخضوع لله، وإجلاله له تعالى" ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" [الحج: 32]، ثم إن ذلك يُصَبِّرُه على بعض ما يلقاه من نصب أو تعب، أو أذى.
19- اغتنام الأوقات: فعلى الحاج أن يغتنم وقته بما يقربه إلى الله – تعالى – من ذكر أو دعاء، وقراءة للقرآن، وذلك في أي مكان من تلك البقاع المباركة، فذلك سبب لانشراح صدره، ومضاعفة أجره، وإمداده بالقوة والطاقة، وشهود تلك الأماكن له يوم القيامة.
20- استحضار انقضاء أيام الحج: فهي قليلة معدودة، وسرعان ما تنقضي، فإذا استحضر الحاج ذلك كان دافعاً له إلى اغتنامها، والبعد عما يفسد حجه، أو ينقص أجره.
21- المحافظة على أداء الفرائض: وذلك بالحرص على أداء الصلوات المكتوبة مع الجماعة، وأن يحذر كل الحذر من تأخيرها عن وقتها.
22- البعد عن إجهاد النفس فيما لا يعني: فذلك سبب لأن يتوفر الإنسان على النشاط، ويتقوى على أداء المناسك، بيسر وسهولة.
أما إذا أجهد نفسه بلا داع، وفيما لا يعني كان ذلك مدعاة لتعبه، ومرضه، وتكاسله عن أداء النسك على الوجه الذي ينبغي.
23 – ألا يكون هَمُّ الحاج أن يقضي نسكه: بل عليه أن يستشعر عظمة ما يقوم به، وأن يكون قلبه منطوياً على تعظيم أمر الله، وأن يحرص على أن يتلذذ بما يقوم به؛ فذلك من أعظم ما يعينه على انشراح صدره، وإتيانه بالنسك على الوجه الأكمل.
وبالجملة: فليحرص الحاج على كل ما يقربه إلى ربه، وعلى كل ما يعينه على أداء نسكه، وليحذر كل الحذر من كل ما يفسد عليه حجه، أو ينقص أجره من قول أو عمل.
تقبل الله من المسلمين حجَّهم، وأعانهم على أداء مناسكهم، وأصلح ذات بينهم، وجمع على الحق كلمتهم، ونصرهم على عدوه وعدوهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لقد شرع الله الشعائر والعبادات لِحِكَمٍ عظيمة، ومصالح عديدة لا ليضيق بها على الناس، ولا ليجعل عليهم في الدين من حرج.
ولكل عبادة في الإسلام حِكَمٌ بالغة، يظهر بعضها بالنص عليها، أو بأدنى تدبُّر، وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين الموفَّقين في الاستجلاء والاستنباط.
والحكمة الجامعة في العبادات: هي تزكية النفوس، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتصفيتها من الكدُرات، وتحريرها من رقِّ الشهوات، وإعدادها للكمال الإنساني، وتقريبها للملأ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية؛ لتكون رِقَّاً للإنسان، بدلاً من أن تَسْتَرِقَّهُ.
وفي كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم، وعقله، وإرادته.
هذا وإن للحج أسراراً بديعة، وحكماً متنوعة، وبركاتٍ متعددة، ومنافع مشهودة، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة.
فمن أسرار الحج ومنافعه ما يلي:
1- تحقيق العبودية لله: فكمال المخلوق في تحقيق العبودية لربه، وكلما ازداد العبد تحقيقاً لها ازداد كمالُه، وعلت درجتُه.
وفي الحج يتجلى هذا المعنى غاية التجلي، ففي الحج تذلل لله، وخضوع وانكسار بين يديه؛ فالحاج يخرج من ملاذِّ الدنيا مهاجراً إلى ربه، تاركاً ماله وأهله ووطنه، متجرداً من ثيابه، لابساً إحرامه، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربه، تاركاً الطيب والنساء، متنقلاً بين المشاعر بقلب خاشع، وعين دامعة، ولسان ذاكر يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه.
ثم إن شعار الحاج منذ إحرامه إلى حين رمي جمرة العقبة والحلْق: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) .
ومعنى ذلك: أنني خاضع لك، منقاد لأمرك، مستعد لما حمَّلتني من الأمانات؛ طاعة لك، واستسلاماً دونما أكراه أو تردد.
وهذه التلبية ترهف شعور الحاج، وتوحي إليه بأنه – منذ فارق أهله – مقبل على ربه، متجرد عن عاداته ونعيمه، منسلخ من مفاخره ومزاياه.
ولهذا التواضع والتذلل أعظم المنزلة عند الله – تعالى – إذ هو كمال العبد وجماله، وهو مقصود العبودية الأعظم، وبسببه تُمحى عن العبد آثار الذنوب وظلمتها، فيدخل في حياة جديدة ملؤها الخير، وحشوها السعادة.
وإذا غلبت هذه الحال على الحجاج، فملأت عبوديةُ الله قلوبَهم وكانت هي المحرك لهم فيما يأتون وما يذرون – صنعوا للإنسانية الأعاجيب، وحرروها من الظلم، والشقاء، والبهيمية.
2- إقامة ذكر الله – تعالى – فالذكر هو المقصود الأعظم للعبادات، فما شرعت العبادات إلا لأجله، وما تقرب المتقربون بمثله.
ويتجلى هذا المعنى في الحج غاية التجلي؛ فما شرع الطواف بالبيت العتيق، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله.
قال – تعالى -:" لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات" [الحج: من الآية28].
وقال:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً منْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا (200) " [البقرة].
هذا وسيأتي مزيد بيان للحديث عن الذكر بعد صفحات.
3- ارتباط المسلمين بقبلتهم: التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم المفروضة خمس مرات في اليوم.
وفي هذا الارتباط سر بديع، إذ يصرف وجوههم عن التوجه إلى غرب كافر، أو شرق ملحد، فتبقى لهم عزتهم وكرامتهم.
4- أن الحج فرصة عظيمة للإقبال على الله بشتى القُرُبَات: حيث يجتمع في الحج من العبادات ما لا يجتمع في غيره، فيشارك الحج غيره من الأوقات بالصلوات وغيرها من العبادات التي تفعل في الحج وغير الحج.
وينفرد بالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وإراقة الدماء، وغير ذلك من أعمال الحج.
5- الحج وسيلة عظمى؛ لحط السيئات، ورفعة الدرجات: فالحج يهدم ما كان قبله.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن العاص – رضي الله عنه -: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله) رواه مسلم.
والحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) رواه البخاري.
والحج أفضل الجهاد؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: (قلت: يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل الأعمال؛ أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور) رواه البخاري.
والحج المبرور جزاؤه الجنة، قال – صلى الله عليه وسلم -: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه مسلم.
والحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه إذا كان حجه مبروراً، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري ومسلم.
6- هياج الذكريات الجميلة: ففي الحج تهيج الذكريات الجميلة العزيزة على قلب كل مسلم، وما أكثر تلك الذكريات، وما أجمل ترددها على الذهن.
فالحاج – على سبيل المثال – يتذكر أبانا إبراهيم الخليل – عليه السلام – فيتذكر توحيده لربه، وَمُهَاجَرَه في سبيله، وكمال عبوديته، وتقديمه محابَّ ربه على محابِّ نفسه.
ويتذكر ما جرى له من الابتلاءات العظيمة، وما حصل له من الكرامات، والمقامات العالية.
ويتذكر أذانه في الحج، ودعاءه لمكة المكرمة، وبركات تلك الدعوات التي ترى آثارها إلى يومنا الحاضر.
ويتذكر الحاج ما كان من أمر أمِّنا هاجر فيتذكر سعيها بين الصفا والمروة بحثاً عن ماء تشربه؛ لتدرَّ باللبن على وليدها إسماعيل، ذلك السعي أصبح سنة ماضية، وركناً من أركان الحج.
ويتذكر أبانا إسماعيل – عليه السلام – فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه في بناء الكعبة، ويتذكر ما كان من بر إسماعيل بأبيه، حيث أطاعه لما أخبره بأن الله يأمره بذبحه؛ فما كان من إسماعيل إلا أن قال:" افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" [الصافات: 102].
ويتذكر الحاج أن مكة هي موطن النبي – صلى الله عليه وسلم – ففيها وُلد وشبَّ عن الطَّوْق، وفيها تنزَّل عليه الوحي، ومنها شع نور الإسلام الذي بدد دياجيرَ الظلمات.
ويتذكر من سار على تلك البِطَاح المباركة من أنبياء الله ورسله، وعباده الصالحين؛ فيشعر بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون، ويتذكر الصحابة رضي الله عنهم وما لاقوه من ا لبلاء في سبيل نشر هذا الدين.
ويتذكر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس، وأنه مبارك وهدى للعالمين.
بَلْدةٌ عُظمى وفي آثارهِا
أنفع الذكرى لقوم يعقلون
شبَّ في بطاحئها خيرُ الورى
وشَبا في أُفْقِهَا أسمحُ دين
فهذه الذكريات الجميلة تربط المؤمن بأكرم رباط، وتبعث في نفسه حبَ أسلافه الكرام، والحرصَ على اتباع آثارهم، والسير على منوالهم.
ثم إن الحاج إذا عاد من رحلة حجه حمل معه أغلى الذكريات، وأعزها على نفسه، فتظل متلهفة للعودة إلى تلك البقاع المباركة.
ورحم الله الإمام الصنعاني إذ يقول في قصيدته الطويلة في ذكرى الحج ومنافعه:
أيا عَذَباتِ البانِ مِن أيمن الحِمَى
رعى اللهُ عيشاً في ربَاكِ قطعناهُ
سرقناه من شرخ الشباب وروقه
فلما سرقنا الصفو منه سرقناهُ
وعادت جيوشُ البين يقدُمُهَا القَضا
فبدد شملاً في الحجاز نظمناهُ
ونحنُ لجيران الْمُحَصَّبِ جيرةٌ
نُوفِّي لهم عهدَ الوداد ونرعاهُ
فَهاتِيكَ أيامُ الحياةِ وغيُرها
مَمَاتٌ فيا ليتَ النَّوى مَا شهدناهُ
فَيَا لَيتَ عنَّا أغْمَضَ البَيْنُ طَرَفَه
ويا ليتَ وقتاً للفِراق فقدناهُ
وترجعُ أيامُ المحصَّبِ من مِنى
ويبدو ثراهُ للعيون وحصباهُ
وتسرحُ فيه العِيسُ بَيْن ثمامِه
وتستنشق الأرواحُ نَشْرَ خزاماهُ
نحن إلى تلك الربوع تشوقاً
ففيها لنا عهد وعقد عقدناهُ
وربٌّ بَرَانَا مَا نَسِينا عهودَكم
ومَا كان من ربع سواكم سلوناهُ
ففي ربعهم لله بيتٌ مباركٌ
إليه قلوبُ الخَلْقِ تهوى وتهواهُ
يطوفُ بِهِ الجاني فَيُغْفَرُ ذَنبُه
ويسقُطُ عنه جرمُه وخطاياهُ
فكم لذةٍ كم فرحةٍ لطوافهِ
فللهِ ما أحلى الطوافَ وأهناهُ
نطوف كأنَّا في الجنانِ نطوفُها
ولا همَّ لا غمٌّ فذاك نفيناهُ
فيا شوقنا نحو الطواف وطيبه
فذلك شوقٌ لا يحاط بمعناهُ
فمن لم يذقْه لم يذقْ قطُّ لذةً
فَذُقْهُ تَذُقْ يا صاحِ ما قد أُذِقنَاهُ
إلى آخر ما قاله من قصيدته الطويلة الماتعة.
أيها الحاج الكريم أسأل الله أن يجعل حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأن يعيد علينا وعليك وعلى أمة الإسلام من بركات الحج.
يستفاد من الحج دروس عظيمة تعود آثارها على الفرد والأمة، وإليك أيها القارئ الكريم عرضاًَ مجملاً لبعض تلك الدروس خلال الأسطر التالية:
1- حصول التقوى: والتقوى غاية الأمر، وجماع الخير، ووصية الله للأولين والآخرين.
والحج فرصة عظمى للتزود من التقوى، قال – تعالى -:" الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ" [البقرة: 197].
وقال – عز وجل -:" لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ" [الحج: 37].
وقال – تبارك وتعالى -" ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" [الحج: 32].
فأولوا الألباب الذين خصهم الله بالنداء لتقواه؛ يأخذون من الحج عبرة للتزود من التقوى، فينظرون إلى أصل التشريع الإلهي، ومكانته المهمة في الدين، ويعلمون أن صدق المحبة والعبودية لله لا يكون إلا بتقديم مراد الله على كل مراد.
فهذا إبراهيم الخليل – عليه السلام – ابتلاه الله – تعالى – بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، الذي ليس له سواه، والذي رزقه الله إياه عند كبر سنه، والذي هو أحب محبوب من محبوبات الدنيا.
وهذا الأمر من أعظم البلاء، وبه يتحقق الإيمان، وتظهر حقيقة الامتحان، فالخليل أعطى المسلمين درساً عظيماً للصدق مع الله، وذلك بتقديم مراد الله على مراد النفس مهما غلا وعظم، فإنه بادر إلى التنفيذ مع شدة عاطفته، وعظيم رحمته ورقته وشفقته – فأفلح، وأنجح، وتجاوز هذا البلاء، فرحمه الله، وشلَّ حركة السكين عن حلق ابنه، بعد أن أهوى بها الخليل؛ ففداه الله بذبح عظيم، وجعلها سنة مؤكدة باقية في المسلمين إلى يوم القيامة، ليعاملوا الله تعالى معاملة المحب لحبيبه ومعبوده، فيضحوا بمرادات نفوسهم، ومحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه. فإذا عرف الحجاج هذا المعنى، وأدركوا هذا السر العظيم الذي لأجله شرعت الهدي والأضاحي؛ عادوا يحملون تلك المعاني العظمية، التي تجعلهم لا يتوانون عن تنفيذ شيء من أوامر الله، فلا تمنعهم لذة النوم وشهوة الفراش عن المبادرة إلى القيام إلى صلاة الفجر، ولا يمنعهم حب المال، والحرص على جمعه من ترك الغش، والغبن، والربا، والتطفيف، وإنفاق السلع بالأيمان الكاذبة.
ولا يمنعهم حب الشهوات والميل إلى النساء، والطمع في نيل اللذة المحرمة من غض البصر، ولزوم العفة، وحفظ الفروج، إيثاراً لما يحبه الله على ما تحبه نفوسهم، وتنزع إليه طبائعهم، ورغبة في نيل رضا الله، وعوضه في الدنيا والآخرة.
ولا يمنعهم حب الدنيا عن الإنفاق في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
وعلى هذه النبذة اليسيرة من أعمال الحج فقس. وهكذا يستفيد أولوا الألباب من هذا الدرس العظيم من الحج ما يتزودون به على التقوى.
2- اعتياد الذكر: فالذكر مقصود العبادات الأعظم والذكر يتجلى غاية التجلي في الحج، فما شرع الطواف بالبيت، ولا السعي بين ا لصفا والمروة، ولا رمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله كما قال – عليه الصلاة والسلام -…
فإذا أكثر الحاج من الذكر في تلك المواضع أنس بالذكر، واطمأنت نفسه به، وزاد قرباً من ربه، وكان ذلك داعياً لاعتياد الذكر، والإكثار منه بعد الحج.
3- اعتياد الدعاء: فرحلة الحج من أولها إلى آخرها فرصة للدعاء، والابتهال إلى الله – تعالى – إذ يجتمع للحاج من دواعي الإجابة ما لا يجتمع لغيره من شرف الزمان والمكان ولحال الداعي وتلبّسه بتلك الشعيرة العظيمة، ولكثرة المواضع التي يشرع فيها الدعاء، وترجى الإجابة بالطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وعند المشعر الحرام، وبعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد رمي الجمرة الوسطى كل هذه المواضع مواضع دعاء، ومظانّ للإجابة.
وهذا يبعث المؤمن إلى كثرة الدعاء، وإلى اعتياده في سائر أيامه المستقبلة.
4- التعود على انتظار الفرج: فإذا رأى الحاج جموع الحجيج المزدحمة عند الطواف، والسعي، وفي رمي الجمرات – ظن أن تلك الجموع لن تتفرق، وأنه لن يصل إلى مبتغاه من إكمال الطواف، أو السعي، أو رمي الجمار، وربما أدركه الضجر، وبلغت به السآمة مبلغها، وربما أضمر في نفسه أنه لن يحج بعد عامه هذا.
وما هي إلا مدة يسيرة، ثم تَنْفَلُّ الجموع، ويتيسر أداء المناسك.
وهذا درس عظيم، وسر بديع يتعلم منه الحاج عبودية انتظار الفرج، وهي من أجلِّ العبوديات، وأفضل القربات؛ فلا ييأس بعد ذلك من روح الله، وقرب فرجه مهما احلولكت الظلمة، ومهما استبد الألم ومهما عظم المصاب سواء في حاله أو في حال أمته، بل يكون محسناً ظنه بربه، منتظراً فرجه ولطفه، وقرب غِيَرِهِ – تعالى – فيجد في حشو البلاء من رَوْحِ الفرج ونسيمه، وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعَجَّل.
ولا بُعدَ في خير وفي الله مطمع
ولا يأس من رَوْحٍ وفي القلب إِيَمانُ
5- اكتساب الأخلاق الجميلة: فالحج ميدان فسيح لمن أراد ذلك، فالحاج يتدرب عملياً على الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ من جرَّاء ما يلقى من الزحام والتعب، والنصب سواء في الطريق إلى الحج، أو في الطواف، أو في السعي، أو في رمي الجمار، أو في غيرها من المناسك؛ فيتحمل الحاج ما يلقاه من ذلك، لعلمه بأن الحج أيام معدودة، ولخوفه من فساد حجه إذا هو أطلق لنفسه نوازع الشر، ولإدراكه بأن الحجاج ضيوف الرحمن، فإكرامهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم دليل على إجلال الله – تعالى -.
فإذا تحمل الحاج تلك المشاق في أيام الحج – صار ذلك دافعاً لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة بقية عمره.
ثم إن الحاج يتعلم الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وذلك من خلال ما يراه من المواقف النبيلة الرائعة التي تجسد هذه المعاني؛ فهذا سخي يجود بالإنفاق على المساكين، وذاك كريم بخلقه يعفو عمن أساء إليه، وأخطأ في حقه، وذاك رحيم يعطف على المساكين ويتلطف بهم، وذاك حليم يصبر على ما يلقاه من أذى، وذاك بَرُّ بوالده يحمله على عاتقه، وذاك يحوط أمَّه العجوز بلطفه ورعايته. بل ويكتسب الأخلاق الجميلة إذا رأى من لا يدركون معنى الحج، ممن يغضبون لأدنى سبب، وتطيش أحلامهم عند أتفه الأمور.
فإذا رأى العاقلُ البصيرُ سوءَ فعال هؤلاء انبعث إلى ترك الغضب، وتجافي عن مرذول الأخلاق.
6- تحقق الأخوة الإسلامية: فالقِبلة واحدة، والربُّ واحد، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، فكل هذه الأمور تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخي، والتعارف، والتعاون على مصالح الدين والدينا.
7- قيام عبودية المراقبة: فالحاج يطوف بالبيت العتيق سبعاً، ويسعى بين الصفا والمروة سبعاً، ويرمي الجمار سبعاً، ويقف في عرفة في وقت محدد، وينصرف منها في وقت محدد، ويبيت في المزدلفة في وقت محدد، وهكذا.
فلا تراه يزيد في الجمار أو ينقص، ولا تراه يفعل عملاً من أعمال الحج في غير وقته، ولا تراه يأتي محظوراً من محظورات الإحرام عالماً عامداً.
لماذا؟ لأنه يخشى من فساد حجه، ولأنه يعلم بأن الله مطلع عليه.
وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى مراقبة الله – تعالى – في شتى شؤونه وأعماله، فالمطلع على أعمال الحج مطلع على غيرها من الأعمال.
8- التعود على اغتنام الأوقات: فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت أجلُّ ما يصان عن الإضاعة والإهمال. وفي الحج يقوم الحاج بأعمال عظيمة، وفي أماكن مختلفة متباعدة مزدحمة، وفي أيام محدودة قد لا تتجاوز أربعة أيام. وفي هذا دليل على أن في الإنسان طاقةً هائلةً مخزونةً، لو استثارها لآتت أكلها ضعفين أو أكثر.
وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى أن يعتاد اغتنام الأوقات، وأن يحرص على ألا يضيع منها شيء في غير فائدة.
9- انبعاث عبودية الشكر: فالحاج يرى المرضى، والمعاقين، والعميان، ومقطعي الأطراف، وهو يتقلب في أثواب الصحة والعافية؛ فينبعث بذلك إلى شكر الله – تعالى- على نعمة العافية.
ويرى ازدحام الحجيج، وافتراشهم الأرض، وربما لا يستطيع الحاج أن يجد مكاناً يجلس فيه، فيتذكر نعمة المساكن الفسيحة التي يسكن فيها، فينبعث إلى شكر الله على ذلك.
ويرى الفقراء والمعوزين الذين لا يجدون ما يسدون به رمقهم، فينبعث إلى شكر الله على نعمة المال والغنى. ويرى نعمة ربه عليه أن يسّر له الحج , الذي تتشوق إليه نفوس الكثيرين من المسلمين ولكنهم لايستطيعون إليه سبيلاً؛ فيشكر الله – عز وجل – أن يسر له الحج وأعانه على أداء مناسكه.
بل ويرى نعمة ربه عليه أن جعله من المسلمين، فينبعث إلى شكر نعمة الإسلام، ويعض عليها بالنواجذ، ويثني بالخناصر، لأن نعمة الإسلام لا تعدلها نعمة البتة. وهكذا تقوم عبودية الشكر في الحج، فيكون الحاج من الشاكرين، وإذا كان كذلك درَّت نِعَمُهُ وقَرَّت، فالشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة.
10- تذكر الآخرة: فإذا رأى الحاج ازدحام الناس، ورأى بعضهم يموج في بعض، وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا من ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا، ومتعها، تذكر يوم حشره على ربه؛ فيبعثه ذلك إلى الاستعداد للآخرة، ويقوده إلى استصغار متاع الحياة الدنيا، ويرفعه عن الاستغراق فيها، ويكبر بِهِمَّتِه عن جعلها قبلة يولي وجهه شطرها حيثما كان.
11- اعتياد مراغمة الشيطان: فالشيطان عدو للإنسان مبين، ولقد حذرنا الله من الشيطان، وأمرنا بأن نتخذه عدواً، وبألا نتبع خطواته.
فمراغمة الشيطان مرضاة للرب – جلا وعلا -.
وهذا الأمر يتجلى في الحج، وأعظم ما يتجلى في رمي الجمار، فالحجاج لا يرمون الشيطان، وليس الشيطان بواقف لهم يرجمونه, وإنما يرجمون المواقف التي وقف فيها الشيطان لأبيهم إبراهيم، فَرَجَمَه الخليل – عليه السلام – فهم يرجمونه لا لمجرد التكرار، وإنما للانتفاع والاعتبار، فعليهم أن يتأملوا كيف عرف أبوهم إبراهيم أن الذي وقف له ليصده عن تنفيذ أمر ربه أنه شيطان، حيث تمثل له ثلاث مرات؛ ليثنيه عن ذبح ابنه، فرجمه إبراهيم ثلاث مرات كل مرة بسبع حصيات، وقال له: ليس لك عندي إلا الرجم، فخنس وخسأ، وخاب ظنه، ونكص على عقبيه.
فأولوا الألباب يعتبرون بهذا الرجم، ويأخذون منه دروساً وعبراً؛ إذ يعاملون كل شيطان من شياطين الجن والإنس، ممن يريدون صرفهم عن طاعة ربهم بالرجم المعنوي الذي هو بُغْضُ مَن صد عن سبيل الله – تعالى – وعصيانه ومراغمته، والابتعاد عنه، والاستعاذة بالله منه. فيعرفون أن كل من حاول صدهم عن طاعة ربهم، أو فتنهم في دينهم أنه شيطان مهما لبس من لبوس، ومهما أظهر من مودة وتصنع.
أيها الحاج الكريم! ما أكثر دروس الحج، وما أعظم بركاته، فليكن لك من ذلك أوفر الحظ والنصيب؛ لتفوز بسعادة الدارين، ولتكون من حزب الله المفلحين، ومن أوليائه المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الذكر في الحج عظيم، ومنزلته عالية في الدين، فما تقرب المتقربون بمثله، ولا شرعت العبادات إلا لأجله.
قال الله – تعالى -:"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" [البقرة: 152] وقال:" فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي" [طه: 14].
فما أجلَّ فوائد الذكر، وما أعظم عوائده، وما أشد حاجة العباد إليه.
وهذه العبادة العظيمة تظهر غاية الظهور في الحج؛ ذلك أن الذكر هو المقصود الأعظم للحج، فما شرع الطواف بالبيت العتيق، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار وإراقة الدماء إلا لإقامة ذكر الله – عز وجل -.
قال – تبارك وتعالى -:" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً (200) [ البقرة ].
وقال – عز وجل -:" وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ" [البقرة: 203].
وقال: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" [الحج: 27-28].
وقال: " لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ" [الحج: 37].
وهكذا يتجلى شأن الذكر في الحج، ويستبين عظم منزلته ورفيع مكانته.
ثم إن الله – عز وجل – أثنى على الذاكرين له، وأمر بالإكثار من ذكره، لشدة الحاجة إلى الذكر، وعدم استغناء العبد عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله كانت عليه لا له، وكانت خسارته أعظم مما ربح في غفلته عن الله.
قال – عز وجل -:" وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ" [الأحزاب: 35].
وقال:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً (42) [الأحزاب]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جُمْدان فقال:" سيروا هذا جمدان، سبق المفرودن" قيل: وما المفردون؟ قال:" الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" .
فحري بالحاج أن يعمر وقته بذكر الله – عز وجل – وأن يكثر منه في سائر أحواله، سواء كان في طريقه إلى الحج، أو كان في حال إحرامه، أو كان في الطواف، أو السعي، أو كان في عرفة، أو المزدلفة، أو في رمي الجمار، أو كان يسير في شعاب مكة، أو كان في فراشه، أو كان جالساً، أو راكباً، أو خالياً، أو يسير في زحام؛ ليحقق العبودية بإقامة ذكر الله، وليستعين بالذكر على أداء النسك، فإن الذكر من أعظم ما يعين على القوة وبعث النشا.
من فضائل الذكر:
ومما يعين على الإكثار من ذكر الله أن يستحضر الإنسان فضائل الذكر، وثمراته العديدة، وفوائده المتنوعة، وقد مضى شيء من ذلك، وفيما يلي نبذة من تلك الفضائل والثمرات والفوائد المترتبة على الذكر على سبيل الإجمال:
1- الذكر يطرد الشيطان
2- يرضي الرحمن.
3- يزيل الهم والغم.
4- يجلب البسط والسرور.
5- ينور الوجه.
6- يجلب الرزق.
7- يورث محبه الله للعبد.
8- يورث محبة العبد لله وربه.
9- يحط السيئات.
10- ينفع صاحبه عند الشدائد.
11- سبب لتنزّل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة.
12- أن فيه شغلاً عن القيل والقال, والغيبة والنميمة، والفحش من القول.
13- يؤمن من الحسرة يوم القيامة.
14- أنه مع البكاء من خشية الله في الخلوة سبب لإظلال الله للعبد يوم القيامة تحت ظل عرشه – عز وجل -.
15- الذكر أمان من النفاق.
16- أمان من نسيان الله.
17- أنه أيسر العبادات.
18- أنه أقلها كلفة.
19- يعدل عتق الرقاب.
20- يُرتَّبُ عليه من الجزاء ما لا يرتب على غيره.
21- أنه غراس الجنة.
22- أنه يغني القلب ويسد حاجته وفاقته.
23- يجمع على القلب ما تفرق من إراداته وعزومه.
24- يفرق عليه ما اجتمع من الهموم، والغموم، والأحزان، والأنكاد، والحسرات، وما اجتمع على حربه من جند الشيطان.
25- يقرب من الآخرة.
26- يباعد من الدنيا.
27- يذيب قسوة القلب.
28- يوجب صلاة الله وملائكته.
29- الذكر رأس الشكر، فما شكر الله من لم يذكره.
30- أكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله.
31- أن الله يباهي بالذاكر ملائكته.
32- الذكر يسهل الصعاب.
33- يخفف المشاق.
34- ييسر الأمور.
35- يجلب بركة الوقت.
36- للذكر تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي اشتد خوفه أنفع من الذكر.
37- الذكر سبب للنصر على الأعداء.
38- سبب لقوة القلب.
39- الجبال والقفار تباهي وتبشر بمن يذكر الله عليها.
40- أن دوام الذكر في الطريق والبيت، والحضر، والسفر، والبقاع تكثير لشهود العبد يوم القيامة.
41- للذكر من بين الأعمال لذةٌ لا تعد لها لذة.
أفضل الذكر:
أفضل الذكر: لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر.
فهذه الكلمات أفضل الكلام بعد القرآن، وهي من القرآن.
ومن الأذكار العظيمة: الاستغفار، والصلاة والسلام على النبي – صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: سبحان الله وبحمده، فمن قالها في اليوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.
ومن الأذكار العظيمة: سبحان وبحمده، وسبحان الله العظيم، فهما كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان للرحمن.
ومن الأذكار العظيمة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فمن قالها في اليوم عشر مرات؛ فكأنما أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، ومن قالها مائة مرة فكأنما أعتق عشرة أنفس، وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك.
وأما أعظم الأذكار في الحج فهو التلبية؛ فهي عنوان الحج، وشعار الحاج كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -:" الحجُّ: العجُّ والثجُّ" رواه الترمذي وابن ماجه.
فالعج التكبير والتلبية، والثج الذبح.
ومن الأذكار العظيمة: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فهي كنز من كنوز الجنة، ولها تأثير عجيب في حمل الأثقال، ومكابدة الأهوال، ونيل رفيع الأحوال.
وخلاصة القول: فإن الذكر مقصود العبادة الأعظم، وإن بركاته وفوائده تحصل بالمداومة عليه، والإكثار منه، واستحضار ما يقال فيه، وبالمحافظة على أذكار طرفي النهار، والأذكار المطلقة، والمقيدة، وبالحذر من الابتداع فيه، ومخالفة المشروع.
أعاننا الله على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
" فضل الدعاء"
الدعاء نعمة كبرى، ومنحة جلَّى، جاد بها ربُنا – جل وعلا – حيث أمرنا بالدعاء، ووعدنا بالإجابة والإثابة، فشأن الدعاء عظيم، ومنزلته عالية في الدين، فما اسْتُجْلِبت النعم بمثله، ولا استُدفعت النقم بمثله، ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه.
وهذا هو رأس الأمر، وأصل الدين.
والدعاء عبادة لله، وتوكل عليه، والدعاء – أيضاً – محبوب لله، وأكرم شيء عليه – عز وجل -.
والدعاء سبب عظيم لانشراح الصدر، وتفريج الهم، ودفع غضب الله.
والدعاء مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وأمان الخائفين.
والدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله. ثم إن ثمرة الدعاء مضمونةٌ؛ إذا أتى الداعي بشرائط الدعاء وآدابه، فإما أن تعجَّل له الدعوة، وإما أن يُدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن تُدخر له في الآخرة.
فما أشد حاجةَ العباد إلى الدعاء، بل ما أعظمَ ضرورتهم إليه.
"مظان إجابة الدعاء في الحج":
هذا وإن الحج فرصة عظيمة؛ للإكثار من الدعاء والإلحاح على الله فيه، ذلك أن مظانَّ إجابة الدعاء في الحج كثيرة متوافرة؛ فالأوقات، والأماكن، والأحوال، والأوضاع التي يستجاب فيها الدعاء – تتوافر في الحج أكثر مما تتوافر في غيره، فمن تلك المظانِّ التي ترجى فيها إجابة الدعاء في الحج ما يلي:
1- أن الحاج مسافر: والمسافر مستجاب الدعاء، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر ودعوة الوالد لولده) رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وصححه الألباني.
2- أن الحاج مستجاب الدعوة: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعاطاهم) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
3- في الحج يشتد الإخلاص: وذلك من أعظم أسباب الإجابة كما في قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، كما في صحيح البخاري، فكان إخلاصهم لله أعظم سبب لنجاحهم.
4- في الحج مواضع عديدة يشرع فيها الدعاء، وترجي الإجابة: فمن ذلك ما يلي:
أ- الدعاء عند الصفا: لما جاء في صحيح مسلم من الحديث الطويل في صفة حجة النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه جابر، وفيه: (فبدأ بالصفا، فَرقىَ حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله، وكبَّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات) .
ب- الدعاء عند المروة للحديث السابق، وفيه (ثم نزل المروة، حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صَعِدتا مشى، حتى إذا أتى المروة ففعل على المروة كما فعل في الصفا) .
ج- الدعاء يوم عرفة: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له) رواه مالك، والترمذي، وحسنه الألباني.
د- الدعاء عند المشعر الحرام: كما جاء في حديث جابر الطويل، وفيه: (ثم ركب القصواء حتى إذا أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً) .
هـ- الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى: لما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -" كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات، ثم يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف) .
و- الدعاء بعد رمي الجمرة الوسطى: للحديث السابق، وفيه: (ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة ثم ينصرف، ولا يقف عندها) .
ز- الدعاء عن شرب ماء زمزم قال – صلى الله عليه وسلم -: (ماء زمزم لما شرب له) أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
"مظان أخرى لإجابة الدعاء":
هذا وإن هناك مواضع وأحوالاً يشرع فيها الدعاء، وترجى الإجابة غير ما ذُكر، ويشترك فيها الحاج وغيره. ومن ذلك على سبيل الإجمال: الدعاء في جوف الليل ووقت السحر، ودبر الصلوات المكتوبات، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وفي السجود، وعقب الوضوء وبعد الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – في التشهد الأخير.
ومن ذلك: الدعاء عند رقة القلب، ودعاء المضطر، ودعاء المظلوم، ودعاء الوالد لولده، وعلى ولده، ودعاء الولد الصالح لوالده.
ومن ذلك عند الدعاء بـ" لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
وفي حالة المصيبة عند الدعاء بـ" إِنَّا لله وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها".
شروط الدعاء: أيها الحاج الكريم! ومما يجب حال الدعاء ما يلي:
1- أن تكون عالماً بأن الله وحده هو القادر على إجابة الدعاء.
2- ألا تدعو مع الله أحداً غيره، لأن دعاء غير الله شرك بالله – عز وجل -.
3- أن تتوسل إلى الله بالتوسلات المشروعة كأن تسأل الله – عز وجل – بأسمائه الحسنى، أو أن تدعو بصالح عملك أو غير ذلك من التوسلات المشروعة.
4- أن تتجنب التوسلات الشركية كدعاء غير الله، وأن تتجنب التوسلات البدعية، كالتوسل بجاه النبي – صلى الله عليه وسلم -.
5- أن تتجنب الاستعجال.
6- وأن تكون حسن الظن بالله.
7- وأن تكون حاضر القلب.
8- مطيباً لمطعمك.
9- متجنباً الاعتداء في الدعاء.
"آداب الدعاء":
ومما يحسن بك أيها الحاج أن تأتي بآداب الدعاء، كي يكون دعاؤك كاملاً، فمن تلك الآداب ما يلي:
1- الثناء على الله قبل الدعاء والصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -.
2- الإقرار بالذنب.
3- إظهار الفاقة والفقر.
4- التضرع والخشوع.
5- الرغبة والرهبة.
6- الإلحاح بالدعاء.
7- تجنب الدعاء على الأهل والمال والنفس.
8- استقبال القبلة.
9- الدعاء ثلاثاً.
10- رفع الأيدي.
11- اختيار الجوامع من الدعاء.
12- خفض الصوت، والإسرار بالدعاء إلا أن يكون خلف الداعي أناس يؤمنون.
13- ألا تحجر رحمة الله.
14- أن تدعو لإخوانك المسلمين.
15- أن تسأل الله كل صغيرة وكبيرة
"نماذج لأدعية من الكتاب والسنة":
ومما يحسن بك أيها الحاج حال الدعاء: أن تدعو بالأدعية المشروعة من الكتاب والسنة؛ لما فيها من الخير، والاتباع، والبركة، والسلامة من الخطأ، والاعتداء.
أدعية قرآنية:
1- رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
2- رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ".
3- رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات.
4- رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ.
5- رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.
6- لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
7- قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي.
8- رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
9- رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
10- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
11- رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ.
12- رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
13- رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
14- رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً.
15- رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".
"أدعية نبوية":
1- اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف والغنى.
2- يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
3- رب اغفر لي ذنبي كله دِقَّه وجِلَّه، أوله وآخره، سره وعلانيته.
4- اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجَاءة نقمتك وجميع سخطك.
5- اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات.
6- اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
أيها الحاج الكريم! إذا كانت هذه هي حالك مع الدعاء فحريٌّ أن يستجاب لك " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" [غافر: من الآية60].
ولقد أحسن من قال:
وَإِنِّي لأَدْعُو الله وَالأَمْرُ ضَيِّقٌ
عَلَيَّ فَمَا يَنْفكّ ُأَنْ يَتَفَرَّجَا
ورُبَّ فَتَى ضَاقَتْ عليه وُجُوهُه
أَصَاب لَه في دعوَة اللهِ مَخْرَجا
وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يتقبل من المسلمين حجهم، وصالح أعمالهم، وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
العيد مظهرٌ من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حِكَمٍ عظيمة، ومعانٍ جليلة، وأسرار بديعة لا تعرفها الأممُ في شتى أعيادها.
* فالعيد في معناه الديني: شكرٌ لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب؛ ولكنها تعتلجُ في سرائره رضاً واطمئناناً، وتنبلج في علانيته فرحاً وابتهاجاً، وتُسفر بين نفوس المؤمنين بالبشر والأنس والطلاقة، وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة.
* والعيد في معناه الإنساني: يومٌ تلتقي فيه قوةُ الغنيِّ، وضعفُ الفقير على محبةٍ ورحمةٍ وعدالةٍ من وحي السماء، عُنْوانُها الزكاةُ، والإحسانُ، والتَّوسعةُ.
يتجلى العيدُ على الغني المُتْرَف: فينسى تُعَلُّقَه بالمال، وينزل من عليائهِ متواضعاً للحقِّ وللخلق، ويذكرُ أن كلَّ مَنْ حوله إخوانُه وأعوانهُ؛ فيمحو إساءَة عامٍ، بإحسان يومٍ.
* ويتجلى العيد على الفقير المُتْرَب: فيطرح همومَه، ويسمو من أفق كانت تصوره له أحلامهُ، وينسى مكارهَ العام ومتاعِبَه، وتمحو بشاشةُ العيد آثارَ الحقد والتبرّم من نفسه، وتنهزمُ لديه دواعي اليأسِ على حين تنتصر بواعثُ الرجاء.
والعيد في معناه النفسي: حدٌ فاصلٌ بين تقييدٍ تخضع له النفسُ، وتَسكُنُ إليه الجوارحُ، وبين انطلاقٍ تنفتح له اللهواتُ، وتتنبَّه له الشهوات.
والعيد في معناه الزمني: قطعةٌ من الزمن؛ خُصِّصَت لنسيان الهموم، واطِّراح الكُلَف، واستجمام القوى الجاهدة في الحياة.
والعيد في معناه الاجتماعي يومُ الأطفالِ يفيض عليهم بالفرح والمرح، ويوم الفقراءِ يلقاهم باليسر والسعة، ويومُ الأرحامِ يجمعها على البر والصلة، ويومُ المسلمينَ يجمعهم على التسامح والتزاور، ويومُ الأصدقاءِ يجدد فيهم أواصرَ الحب، ودواعي القرب، ويومُ النفوس الكريمة تتناسى أضغانها؛ فتجتمع بعد افتراق، وتتصافى بعد كدر، وتتاصفح بعد انقباض.
وفي هذا كله: تجديدٌ للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب، والوفاء، والإخاء.
وفيه أروعُ ما يُضْفي على القلوب من الأنس، وعلى النفوس من البهجة، وعلى الأجسام من الراحة.
وفيه من المغزى الاجتماعي – أيضاً – تذكيرٌ لأبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين؛ حتى تشمل الفرحةُ بالعيد كلَّ بيتٍ، وتعمَّ النعمةُ كلَّ أسرة.
وإلى هذا ا لمعنى الاجتماعي: يرمُزُ تشريعُ صدقةِ الفِطْر في عيد الفطر، ونحر الأضاحي في عيد الأضحى؛ فإن في تقديم ذلك قبل العيد، أو في أيّامه إطلاقاً للأيدي الخيّرة في مجال الخير؛ فلا تشرق شمسُ العيدِ إلا والبسمةُ تعلو كلَّ شفاهٍ، والبهجةُ تغمرُ كلَّ قلبٍ.
* في العيد: يَسْتَروِحُ الأشقياءُ ريحَ السعادةِ، ويتنفّسُ المختنقون في جوٍّ من السَعة، وفيه يذوق المُعْدَمون طيبات الرزق، ويتَنَعَّم الواجدون بأطايبه.
* في العيد: تُسلسُ النفوسُ الجامحةُ قيادَها إلى الخير، وتَهُشُّ النفوسُ الكزَّةُ إلى الإحسان.
* في العيد: أحكامٌ تَقْمَعُ الهوى، من ورائها حِكَمٌ تُغَذِّي العقل، ومن تحتها أسرارٌ تُصَفِّي النفس، ومن بين يديها ذكرياتٌ تُثمر التأسِّي في الحق والخير، وفي طيِّها عِبَرٌ تُجلِّي الحقائق، وموازينُ تقيم العدل بين الأصناف المتفاوتة بين البشر، ومقاصدُ سديدةٌ في حفظ الوَحْدة، وإصلاح الشأن، ودروسٌ تطبيقيةٌ عالية في التضحية، والإيثار، والمحبة.
* في العيد: تظهر فضيلةُ الإخلاص مُستَعْلِنَةً للجميع، ويُهْدي الناسُ بعضُهم إلى بعض هدايا القلوبِ المٌخلصَةِ المُحبِّة، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها.
* في العيد: تَتَّسِعُ روحُ الجوارِ وتمتد، حتى يرجعَ البلدُ العظيم وكأنه لأهله دارٌ واحدة يتحقق فيها الإخاءُ بمعناه العملي.
* في العيد: تنطلق السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول على حقيقتها.
* العيد في الإسلام: سكينةٌ ووقارٌ، وتعظيمٌ للواحد القهار، وبعدٌ عن أسباب الهلكة ودخول النار.
والعيد مع ذلك كله: ميدان استباق إلى الخيرات، ومجال منافسة في المَكْرُمَات.
ومما يدل على عظم شأن العيد أن الإسلام قرن كلَّ واحدٍ من عيدية العظيمين؛ بشعيرة من شعائره العامة التي لها جلالهُا الخطير في الروحانيات، ولها خَطَرُها الجليل في الاجتماعيات، ولها ريحُها الهابَّةُ بالخير، والإحسان، والبر، والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية، التي لا تكون الأمةُ صالحةً للوجود، نافعةً في الوجود – إلا بها.
هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان؛ الذي جاء عيدُ الفطر مِسْكَ ختامِه، وكلمةَ الشكر على تمامه، والحجُّ؛ الذي كان عيدُ الأضحى بعضَ أيامه، والظَّرْفَ المُوعِي لمعظم أحكامه.
فهذا الربط الإلهي بين العيدين، وبين هاتين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما، وكاشفٌ عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دِينيَّان بكل ما شُرع فيهما من سنن، بل حتى ما نَدب إليه الدينُ فيهما من أمورٍ ظاهرُها أنها دنيوية كالتجمّل، والتحلِّي، والتطيُّب، والتوسعة على العيال، وإِلطاف الضيوف، والمرح، واختيار المناعم والأطايب، واللهو مما لا يخرج إلى حدِّ السرف، والتَّغالي، والتفاخر المذموم؛ فهذه الأمور المباحة داخلة في الطاعات إذا حسُنت النية؛ فمن محاسن الإسلام أن المباحات إذا حسُنت فيها النيةُ، وأُريدَ بها تَحَقُّقُ حِكمةِ الله، أو شُكر نعمته – انقلبت قربات؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -"حتى اللقمة تضعها في في امرأتك"
كلا طرفي العيد: في معناه الإسلامي جمالٌ، وجلالٌ، وتمامٌ وكمالٌ، وربطٌ واتصالٌ، وبشاشةٌ تخالط القلوب، واطمئنانٌ يلازم الجنوب، وبسط وانشراح، وهجر للهموم واطَّراح، وكأنه شبابٌ وخَطَتْهُ النُّضْرةُ، أو غُصْنٌ عاوده الربيع؛ فوخَزَتْهُ الخُضْرَةُ.
وليس السرُّ في العيد: يومَهُ الذي يبتدئُ بطلوع الشمس وينتهي بغروبها، وإنما السرُّ فيما يَعْمُرُ ذلك اليومَ من أعمال، وما يَغْمُرُه من إحسان وأفضال، وما يغشى النفوسَ المستعدَّةَ للخير فيه من سموَّ وكمال؛ فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في العيد, لا اليومُ نفسُهُ.
هذه بعض معاني العيد: كما نفهمها من الإسلام، وكما يحقِّقُها المسلمون الصادقون؛ فأين نحن اليوم من هذه الأعياد؟ وأين هذه الأعياد منا؟ وما نصيبنا من هذه المعاني؟ وأين آثار العبادةِ من آثار العادة في أعيادنا؟
إن مما يُؤسَف عليه أن بعض المسلمين جَرَّدوا هذه الأعياد من حِليتها الدينية، وعَطلّوها عن معانيها الروحية الفوارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة، مع تَجَهُّم الأحداث، وبالبشر مع شدة الأحوال؛ فأصبح بعض المسلمين – وإن شئت فقل: كثير منهم – يَلْقَون أعيادهم بهمم فاترة، وحسٍّ بليد، وشعور بارد، وأسَرِّةٍ عابسة، حتى لكأنَّ العيد عملية تجارية تَتْبَعُ الخِصبَ والجَدَّ، وتتأثر بالعسر واليسر، والنَّفاق والكساد، لا صبغة روحيَّة تؤثِّر ولا تتأثَّر.
ولئن كان من حق العيد أن نَبْهَج به ونفرح، وكان من حقِّنا أن نتبادل به التهاني، ونطّرح الهموم، ونتهادى البشائر – فإن حقوقَ إخواننا المشردين المعذبين شرقاً وغرباً تتقاضى أن نحزن لمحنتهم ونغتم، ونُعْنَى بقضاياهم ونهتم؛ فالمجتمع السعيد الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقه في العيد، إلى أرفع ذروة، ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى، وذلك حين يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً، حتى لَيَخْفِقُ فيه كل قلب بالحب، والبر، والرحمة، ويذكر فيه أبناؤه مصائب إخوانهم في الأقطار حين تنزل بهم الكوارث والنكبات.
ولا يراد من ذلك تَذْراف الدموع، ولبس ثياب الحداد في العيد، ولا يراد منه – أيضاً – أن يعتكف الإنسان المرزوء بفقد حبيب أو قريب، ولا أن يمتنع عن الطعام، كما يفعل الصائم.
وإنما يراد من ذلك أن تظهر أعيادُنا بمظهر الأمة الواعية، التي تلزم الاعتدال في سرَّائها وضرَّائها؛ فلا يَحُوْلُ احتفاؤها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فريقٌ من أبنائها.
ويراد من ذلك أن نقتصد في مرحنا وإنفاقنا؛ لنوفِّر من ذلك ما تحتاج إليه أمتنا في صراعها المرير الدامي.
ويراد من ذلك – أيضاً – أن نشعر بالإخاء قوياً في أيام العيد؛ فيبدو علينا في أحاديثنا عن نكبات إخواننا وجهادهم ما يقوي العزائم، ويشحذ الهمم، ويبسط الأيدي بالبذل، ويطلق الألسنة بالدعاء – فهذا هو الحزن المجدي، الذي يُترجَم إلى عمل واقعي.
* أيها المسلم المستبشر بالعيد، لا شك أنك تستعد أو قد استعددت للعيد أباً كنت، أو أمّاً، أو شاباً، أو فتاةًَ، ولا ريب أنك قد أخذت أُهْبَتَك لكل ما يستلزمه العيد من لباس، وطعام ونحوه؛ فأضف إلى ذلك استعداداً تنالُ به شُكوراً، وتزداد به صحيفتُك نوراً، استعداداً هو أكرم عند الله، وأجدر في نظر الأُخوَّة والمروءة.
ألا وهو استعدادك للتفريج عن كربة من حولك من البؤساء والمعدَمِين، من جيران، أو أقربين أو نحوهم؛ فتِّشْ عن هؤلاء، وسَلْ عن حاجاتهم، وبادر في إدخال السرور إلى قلوبهم.
وإن لم يُسْعِدْكَ المال؛ فلا أقل من أن يسعدَك المقالُ بالكلمة الطيبة، والابتسامة الحانية، والخفقة الطاهرة.
* وتذكَّر صبيحةَ العيد، وأنت تقبل على والديك، وتأنس بزوجك، وإخوانك وأولادك، وأحبابك، وأقربائك؛ فيجتمع الشمل على الطعام اللذيذ، والشراب الطيب، تذكَّر يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة حنانَ الأب، وأيامى قد فقدن ابتسامةَ الزوج، وآباءً وأمهاتٍ حُرموا أولادهم، وجموعاً كاثرة من إخوانك شردهم الطغيان، ومزقهم كلَّ ممزق؛ فإذا هم بالعيد يشرقون بالدمع، ويكتوون بالنار، ويفقدون طعم الراحة والاستقرار.
*وتذكر في العيد وأنت تأوي إلى ظلك الظليل، ومنزلك الواسع، وفراشك الوثير تذكَّر إخواناً لك يفترشون الغبراء، ويلتحفون الخضراء، ويتضورون في العراء.
* واستحضر أنك حين تأسو جراحهم، وتسعى لسدِّ حاجتهم أنك إنما تسدّ حاجتك، وتأسو جراحك "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ"، " وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ"، و" مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ"، و" من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، "ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم" و" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
وإليك أيها القارئ الكريم! هذه الكلمات حول العيد، وقد رَقَمَتْها يراعةُ الإمام الأديب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي – يرحمه الله -.
وهذه الكلمات مبثوثة في صفحات متفرقة, وأجزاء مختلفة من كتاب (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي) . وقد أحببت أن يقف القارئُ على تلك الكلمات؛ لما فيها من الحديث عن العيد، ومعانيه، وعن حال الأمة الإسلامية في العيد، ومع العيد حتى لكأنه يتحدث عن حال المسلمين اليوم، مع أنه قد كتب تلك المقالات منذ ما يزيد على خمسين عاماً.
وسيلاحظ القارئ في هذه الكلمات روعةَ البيان، والغيرةَ الصادقة، والسَبْر، والتحليل، والمتابعة الدقيقة، والنظرة الفاحصة لأحوال المسلمين، والأسى العميق الذي كان يعتلج في قلب الكاتب، بسبب ما آلت إليه أحوال المسلمين، فمما قاله – رحمه الله – في عيد الأضحى: (إن تفاخرت الأيام ذوات الشِّيات والمياسم، والمواكب والمواسم؛ فيومُك الأغرُّ المُشَهَّرُ، وإن أتت الأيام بمن لهم فيها ذكر الرجال، وبمن شرفها بنسبة من الأبطال جئت بإبراهيم، وإبراهيمُ آدم النُّبُوَّة بعد آدم البُنُوَّة، وبإسماعيل سامِكُ البَنِيَّةِ ( ) القوراء، وعامر الحَنِيَّةِ ( ) القفراء، رمز التضحية والفداء، وناسل العديد الطيب من النجيبات والنجباء.
وبمحمدٍ لَبِنَةِ التمام، ومسك الختام، ورسول السلام وكفى، وإن جاءت الأيام بما أُثِر فيها من رموز، ونُثِر فيها من كنوز جئت بالشعائر المأثورة، والنذر المنذورة، وجئت بالهدي يتهادى، والبُدْنِ تَتَعَادى، وجئت بالفدية والكفارة، والتجرد والطهارة، وجئت بالأضحية والقربان، رموز طواها الإسلام في الشعائر المضافة إليك، ووكل لتصاريف الأيام شَرْحَهَا، وقد شَرَحَتْ، وَأَوْضَحَتْ، وأين من يعقل؟ أو أين من يعي؟ يا عيد! بأية حال عدت؟ وهذه فلسطين التي عَظَّمَتْ حُرُمَاتِك ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن، وتأرَّج ثراها بالأثر العاطر من إسراء محمد، وتَضَمَّخَ بدماء الشهداء من أصحابه، واطمأنت من أول يوم قلوبُ أبنائها بهدي القرآن، وجنوبُهم بعدل عمر – تُسامُ الدون، وتقاسي عذاب الهون، قد اجتمع على اهتضامها عُتُو الأقوياء، وكيد الضعفاء، يريدون أن يمحوا معالمك منها، ويحسروا ظِلال الإسلام عنها، طرقت حماها غارةٌ شعواءُ من الشهوات والأهواء، يحميها الحديد, وينافح عنها الذهب, وغَمَرَتْها قطعان من ذؤبان البشر، وشراذم من عباد المال، يريدون أن يحققوا فيها حُلْماً غلطوا في تفسيره، وأن ينصبوا فيها مسيحاً دجالاً، بعد أن كذَّبوا المسيح الصادق، وأن ينتقموا من المسلمين، بعد أن عجزوا من الانتقام من بابل ويونان، وفارس، والرومان، وروسيا والألمان، وإيطاليا والأسبان، وأن يرثوها بدون استحقاق، ويجعلوا من بني إسماعيل خَوَلاً ( ) لبني إسحاق ( ) ) .
ثم انتقل – رحمه الله – إلى الحديث عن مواقع أخرى من العالم الإسلامي، فقال: (وهذا الشمال ( ) قد أصبح أهله كأصحاب الشِّمال في سموم من الاستعمار وحميم، وظلٍّ من يحموم, لا بارد ولا كريم، أفسد الاستعمار أخلاقَهم، ووهَّن عزائمهم، وفرَّق بين أجزائهم؛ لئلا يجتمعوا، وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم؛ لئلا يذَّكروا، وضرب بينهم وبين العلم بسور له باب، ومكَّن فيهم الضعف والانحلال؛ بما زيَّن لهم من سوء الأعمال، وبما غزا به نفوسهم وعواطفهم من أفكار ومغريات. وهذه تركيا ذات السلف الصالح في رَفْع منارِك ( )،وإقامة شعارك – واقفَةٌ على صراطٍ أدق من السيف، واقعه بين دبٍّ عارمٍ يترقب الفرصة لازدرادها، وبين محتالٍ بارع يمد الشباك لاصطيادها، ويطوي في العمل لتحريرها نية استعبادها، ويداويها من المرض الأحمر بالداء الأصفر.
وهذا الهند الإسلامي، لا يكاد يظفر بالأمنية التي سلخ في انتظارها القرون، وبذل في تحصيلها الجهود؛ ليستعيد تراث الإسلام الذي أثَّله المهلب، والثقفي ( ) حتى تعاجله الدسائس، والفتن، حتى ليوشك أن يرجع إلى العبودية طائعاً مختاراً، فيسجل على نفسه عار الدهر وخزي الأبد ( ) ) .
إلى أن قال – رحمه الله – متحدثاً عن تلاعب مجلس الأمن، وهيئة الأمم، والمصير الذي ينتظر العالم في ظل الهيمنة الغربية: (وهذا العالم كلُّه مُسَيَّرٌ إلى غاية مشؤومة، متوقع لضربه قاضية تنسي الماضية، وهو يستنزل الغيث من غير مَصَبِّه، ويستروح ريح الرحمة من غير مَهَبِّة، ويتعلل بالعلالات الواهية من جمعية لم تجمع مُتَفَرِّقاً من هوىً، ولم تزجر عادياً من عدوان إلى مجلس أمن لم يُؤَمِّن خائفاً، ولم ينصر مظلوماً، وإنما هو كُرة بين لاعبينِ: أحدهما يستهوي بالفكرة، والآخرة يستغوي بالمال، وويل للعالم إذا نفد النفاق، واصطدمت قوة الفِكْر بقوة الذهب) ( ) .
ثم يختم – رحمه الله – كلمته متحدثاً على لسان العيد فيقول: (أما والله لو ملكتَ النطقَ يا عيدُ لأقسمتَ بالله، ولقلتَ لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد يا قوم: ما أخلف العيد، وما أخلفتم من ربكم المواعيد، ولكنكم أخلفتم، وأسلفتم الشر؛ فجزيتم بما أسلفتم "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً" [النور: 55].
فلو أنكم آمنتم حق الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوة، ومحو التنازع من بينكم، لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض، ولكنكم تنازعتم ففشلتم، وذهبت ريحكم، وما ظلمكم الله، ولكن ظلمتم أنفسكم.
أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم، لا تظنوا أن الدعاء وحده يرد الاعتداء؛ إن مادة: دعا يدعو لا تنسخ مادة: عدا يعدو، وإنما ينسخها أعَدَّ يُعِدُّ، واستعدَّ يستعدُّ، فأعدوا، واستعدوا تزدهر أعيادكم، وتظهر أمجادكم) ( )
وقال – رحمه الله – في موضع آخر في مقالة بعنوان: (من وحي العيد عيد) .
(يا عيد كنا نلتقي فيك على مُلك اتَّطدت أركانه، وعلى عِزَّة تمكنت أسبابها، وعلى حياة تجمع الشرف والترف، وتأخذ من كل طريفة بطرف، وعلى جِدًّ لا ينزل الهزل بساحته، واطمئنان لا يُلِمٌّ النصب براحته؛ فأصبحنا نلتقي فيك على الآلام والشجون، فإن أنسانا هما التعود فعلى اللهو والمجون) ( ) .
إلى أن قال: (يا عيد إن لقيناك اليوم بالاكتئاب؛ فتلك نتيجة الاكتساب، ولا والله ما كانت الأزمنة، ولا الأمكنة يوماً ما جمالاً لأهلها، ولكن أهلها هم الذين يُجَمِّلونها ويُكَمِّلونها، وأنت يا عيد ما كنت في يوم جمالاً لحياتنا، ولا نضرة في عيشنا، ولا خضرة في حواشينا حتى نتَّهمك اليوم بالاستحالة، والدمامة، والتَّصوُّح.
وإنما نحن كنا جمالاً فيك، وحِلْيَةً لِبُكرِك وأصائلك؛ فحال الصبغ، وحلم الدبغ، واقعشر الجناب، وأقفرت الجنبات، وانقطعت الصلة بين النفوس وبين وحيك؛ فانظر أيُّنا زايل وصفَه، وعكس طباعه؟ بلى إنك لم تزل كما كنت، وما تَخَوَّنتَ ولا خنت – وتوحي بالجمال، ولكنك لا تصنعه، وتلهم الجلال ولكنك لا تفرضه.
ولكننا نُكَبْنَا عن صراط الفطرة، وهدي الدين؛ فأصبحنا فيك كالضمير المعذب في النفس النافرة) ( )
بارك الله للمسلمين في عيدهم، ومكَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
المحتويات
– المقدمة ………………………………………….. ……………….
أولاً: من آداب الحج ………………………………………….
ثانياً: من أسرار الحج ومنافعه……………………………..
ثالثاُ: من دروس الحج …………………………………………
رابعاً: الذكر في الحج ………………………………………….
خامساً: الدعاء في الحج………………………………………
سادساً: من معاني العيد………………………………………
المحتويات ………………………………………….. ……………….
الحواشي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
( ) البنية القوراء: الكعبة.
( ) الحنية القفراء: مكة.
( ) خولاً: يعني خدماً وعبيداً.
( ) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي3/468.
( ) يعني شمال أفريقيا.
( ) الضمير في منارك يعود على العيد؛ لأن الحديث في سياقه.
( ) يعني: المهلب بن أبي صفرة، ومحمد بن القاسم الثقفي.
( ) آثار الإمام 3/469.
( ) آثار الإمام 3/470.
( ) آثار الإمام 3/470.
( ) آثار الإمام 3/481.
( ) آثار الإمام 3/481، وانظر كلاماً عظيماً في هذا المعنى في 3/462 – 463 , و3/467 – 470, و3/479, 4/291 – 295.