التحديث الاجتماعي للفرد
إن الفرد هو الذي يشكل النواة الأساسية للمجتمع ويمثل العضو الحيوي في بناء أساس وكيان الوجود الاجتماعي العام، وهو عبر حاجاته وتواصله واتصاله مع الآخرين تتولد الدوافع الرئيسية للتجمعات البشرية العامة. وهذا يقودنا إلى نتيجة أساسية وهي إن المجتمع لا يتكامل بشكل سوي ولا يتطور إلا مع الصحة الفردية ومع نمو الفرد وتطوره، ذلك إن الفرد هو الذي يصنع التموجات السلبية والإيجابية والتأثيرات المختلفة في جماعته التي تنعكس بشكل مباشر على المجتمع. فإذا ضعف الفرد وانهارت بنيته الفكرية والنفسية تآكلت الجماعة وتفكك المجتمع.
فالفرد يشكل البنية التحتية والعضوية للمجتمع والتغيير الاجتماعي العام يبدأ عبر إيجاد عناصر التغيير الفردي في المجتمع بمعادلة تتدرج من القاعدة إلى القمة حيث المجتمع.
يبدأ التغيير أولا من الأفراد عندما يدرك بعض أفراد المجتمع حقيقة الوضع وتتأصل فيهم روح ونزعة الإصلاح والتجديد ويمتلكون وعيا نوعيا يفتح لهم بصائرهم برؤى قادرة على رؤية الأحداث والوقائع والأشياء وتحليلها بصورة منطقية تؤسس لديهم قناعات وأفكار بضرورة إيجاد حركة تحول جديدة. لتبدأ بعد ذلك حركة تموجات مترابطة ترتد اتجاه الوعي الجماعي.
إن الفرد يمثل الطاقة الفردية للحركة التاريخية باعتباره صانعا للتاريخ وهو بتأثره وتأثيره بالآخرين يبدأ عملا جماعيا لتحقيق النمو والتطور والتكامل، لذلك فان الفاعلية الفردية لا تكون بشكل ذاتي إلا في بعض الأفراد الذي يحملون وعيا راسخا وقدرة على التأثير في الآخرين، إذ أن أغلب الناس قد تعودا على التأثر بالآخرين وبالتالي على التحرك في الإطار العملي والفكري للنخبة الواعية.
وفي ذلك يرى توينبي انه لابد لكل جماعة إنسانية من صفوة قائدة لكي تتقدم وتتحسن أحوالها وان مصير هذه الجماعة كلها مرتبط دائما بهذه الصفوة وأحوالها فإذا ظلت على هذا الحال من القلق والسعي والحرص على الفتح والكشف والتجديد والإحساس بمسئوليتها عن الجماعة تكونت حولهم جماعة من الناس يسيرون في الطريق بعدهم واطردت مسيرة الجماعة وطال عمر صلاحها.
إن التغيير الاجتماعي الذي يبدأ من الفرد لابد أن يتطور بشكل تموج على باقي الأفراد (1 ).
فالإنسان يسعى آلي التحديث لما ينطوي علية من تقدم وتطور يتيحان فرصة تحقيق مستوى أعلى من الحياة ولا يقتصر التطور على الجانب المادي بل يتضمن إلي جانب ذلك الارتفاع بمستوى العلم والمعرفة الإنسانيين ،وتوسيع دائرتهما لما فيهما من تحقيق ذاتية الإنسان وتفجير طاقاته الكامنة ،وينتج عن ذلك ازدياد فرص الإبداع وينعكس هذا كله على الفرد الإنساني وعلى المجتمع ككل متيحا المزيد من الفرص لمزيد من التقدم والتطور وبالتالي لمزيد من التحول في حياة الإنسان بل وفي الإنسان نفسه ويمكن النظر ألي هذا التحول على انه غاية في ذاته،باعتبار إن تقدم الإنسان هو غاية في ذاته وهو في الوقت عينه وسيله لمزيد من التقدم والتطور (2 ) فالإنسان لكي يعيش ويضمن لنفسه وكيانه الوجود والاستمرار يقوم دائما بتغيير محيطه المادي (3 ) .
حيث يرى البعض أن المجتمعات لكي تصبح حديثه لابد من تطوير اتجاه تحديثي وبتعبير أخر وجود الأفراد المؤمنين بالتحديث في المجتمع (4 )وهذا يقتضي وجود طريقه للتفكير تؤدي بالإنسان بان يكون لديه ما يسمى ( بالفيروس العقلي ) وهو ما يطلق عليه علماء النفس ( حاجة الإنجاز) ويؤكد ماكس فيبر على إن المجتمعات التقليدية تحوي في داخلها بذور العصرية وهو يرى أن النسق ألقيمي للكالفينية يحوي على الفيروس العقلي الذي جعل الالتزام العصري ممكنا.
وعموما فان القيم الشخصية في حالة التحديث تتغير بشكل واضح ،والناس أيضا يتغيرون فهم ينضرون إلي المستقبل أكثر مما ينضرون إلي الماضي ،ولديهم اعتقاد اكبر في القدرة الإنسانية من حيث إمكانية السيطرة على البيئة وتغييرها واهم من ذلك كله أنهم يطورون أحساسا قويا بالفرد وبقيمته في حد ذاته(5 ) .
وبذلك يرى بعض الدارسين إن نقطة البدء في أي تعريف للتحديث ليست في طابع المجتمع ولكن في طابع الأفراد ،حيث أكد انكلز إن التحديث الاجتماعي هو أساس التحديث على مستوى الفرد(6) .
نظريات تحديث الفرد
فيما يلي سوف نستعرض جملة من الإسهامات العلمية في هذا المجال التي تميزت بتركيزها على بعد الشخصية :
أولا: نظرية ليرنر:
تعد نظرية" ليرنر" من أكثر نظريات التحديث الاجتماعي شيوعا حيث اهتم في كتابه (( تحول المجتمع التقليدي )) بالطبيعة الأساسية التي انبثق منها التحديث في مجتمعات الشرق الأوسط ،وتوصل إلي أن هذه الطبيعة تتمثل في التغير الاجتماعي الذي طرا على القيم والتفضيلات نحو أنماط أخرى من الحياة تختلف عن الحياة التقليدية التي كانت سأئده في تلك المجتمعات ،وتتميز هذه القيم والاتجاهات بأنها تنطبق على جميع المجتمعات بغض النظر عن خلفيتها العرقية والدينية (7 ).
ويرى" ليرنر" إن التحول الذي حدث في مجتمعات الشرق الأوسط يتجسد في التحول من القيم والاتجاهات التي تؤكد القبول السلبي لمكانة الفرد في المجتمع ،إلي قيم واتجاهات أخرى تهدف إلي الطموح وتسعى إلي المشاركة الايجابية في العملية الاجتماعية وهذه العملية من التحول تتطلب تغير في السمات الشخصية للإفراد الذين
يتعرضون لهذا التحول.
واستعان "ليرنر"هنا بتاريخ المجتمعات الصناعية في تفسير هذا التحول وخاصة ميزة الحراك المكاني في المجتمع الصناعي ،ولكن حدوث مثل هذا
الحراك لا يكفي لتفسير التحول الذي يجري في المجتمعات النامية ،ولهذا يقرر "ليرنر" أن هناك نوع خاص من الحراك يحدث أثناء التحول من القيم التقليدية إلي القيم الحديثة ،وهذا الحراك يسميه الحراك النفسي أو السيكولوجي ،ويرى انه السمة الأساسية للتحديث في الشرق الأوسط.( 8 ) فالمجتمع الانتقالي عنده هو المجتمع الذي بدا عند أفراده الحراك النفسي ،مما ينعكس على تقديرهم لذ واتهم وللآخرين ، وهذا بدوره ينعكس ايجابيا على مقدار مشاركتهم في نشاطات الحياة العامة بالمجتمع وبذلك تزداد درجة مشاركتهم في استحداث المجتمع (9) فالحراك النفسي لدى "ليرنر"هو سرعة التوحد العاطفي مع المظاهر الجديدة في البيئة التي يعيش فيها الإنسان(10 ).
ويؤكد "ليرنر" إن هناك تكاملا بين التحديث والتحضر ،فالمدن هي التي توفر لنا مقومات التحديث مثل المهارات الفنية والموارد والتعليم (11 )
وكذلك يؤكد على آن انتشار التحضر يصحبه زيادة في نسبة التعليم ،وزيادة نسبة التعليم تؤدي ألي زيادة التعرض لوسائل الأعلام (12 )
فهو يرى أن السبب الرئيسي الذي عجل عملية التغير هو انتشار وسائل الاتصال الجماهيري التي غيرت من طموح كثير من أفراد المجتمعات التقليدية (13) وأدت إلي زيادة في النشاط الاقتصادي والنشاط السياسي(14 ) أن نموذج "ليرنر"في شكله
المبسط يرى بان القراءة والكتابة والتعرض لوسائل الأعلام والثقافة من شانه آن يحفز خيال التقمص العاطفي وبالتالي يحفز الحركة العقلية والقابلية للتغير وان الحركة السيكولوجية تمثل صفة اورمز التغيرالاساسي الذي يصاحب التعصر أو التجديد ،وان التقمص العاطفي ( أي القدرة على أن يرى المرء نفسه في وضع إنسان أخرى ) هو الوسيلة التي يحدث عن طريقها التغير(15 ) .
وقد توصل "ليرنر " ألي أن الحضريين والمتعلمين والمشاركين بفعالية في العملية الاجتماعية والذين لديهم شعور بالتعاطف مع الآخرين ،يختلفون تماما عن أولئك الذين لا تتوفر لديهم السمات الشخصية اللازمة لما يسمى بالأسلوب العصري (16) كذلك توصل ألي أن هناك ثلاث أنماط للشخصية وفق منظور التحديث الاجتماعي :
أولا : الشخصية العصرية (الحديثة ) :هي الشخصية الأكثر حركية وفعالية وانفتاحية اواقتدائية تجاه الآخرين وتعرف هذه الخاصية بأنها (( قابلية الإنسان لان يرى نفسه في وضع الآخرين ،فهذه القابلية ضرورية لجميع الذين يريدون أن يتحرروا من أحوالهم التقليدية )) (17) وتمتز أيضا باكتسابها خصائص معينة مثل التعليم ، والتفكير المتحرر ، وارتفاع المستوى الاقتصادي ،والتعامل مع وسائل الاتصال الجماهيري .
ثانيا : الشخصية الانتقالية :وهي تتميز باكتسابها شخصية حرا كية وهذه الشخصية طموحة وتسعى إلي تحسين وضعها ،ولكنها لا تمتلك الامكانات الكافية لتحقيق طموحاتها فهذه الجماعات تفقد احد مقومات التحديث مثل التعليم ،ولكنها تكون على دراية تامة بأسباب وعوامل التحديث عن طريق تعاملها مع وسائل الاتصال الجمعي المختلفة الداخلية ،وكذلك الاستماع إلي الإذاعات الخارجية (18) .
ثالثا : الشخصية التقليدية :وتضم في صفوفها أشخاص أميون يفكرون بأسلوب تقليدي وغير عابئون بالأمور الغير شخصية (19) .
فقد توصل "ليرنر " على هناك علاقة ارتباط عالية جدا بين عدة أبعاد ترتبط بشكل مباشر بالموقف ألتحديثي وهي البيئة الحضرية ،التعليم ،المشاركة في وسائل الاتصال ،المشاركة السياسية (20) .
إن هذه النظرية كانت القاعدة والركيزة التي انطلقت منها الكثير من الدراسات وخاصتا تلك التي أقيمت في الدول النامية ولعل دراسته"عبداللة الهمالي " تحت عنوان التحديث الاجتماعي معالمه ونماذج من تطبيقاته التي أجريت على المجتمع الليبي من بين الدراسات التي اعتمدت على هذه النظرية والمنطلقات الأساسية لها.
ثانيا: نظرية ماكليلاند:
يوضح" ماكليلاند" في دراسة له عن المجتمع المنجز إن الحاجة أو الدوافع للإنجاز تعد الأساس الأول للتنمية الاقتصادية فقد حاول في هذه الدراسة إثبات فرض محدد وهو أن الدافع إلى الإنجاز يعد جزئيا مسئولا عن النمو الاقتصادي داخل اى مجتمع ويوضح العمليات الدينامية الداخلية التي صاحبت النمو الاقتصادي في الغرب فقد حاول أن يفسر الارتباط بين حركة البروتستانت وبين ظهور الرأسمالية في ضوء الثورة التي حدثت في المجال الأسرى حيث صارت الأسر تنشئي الأبناء على أساس التمثيل الداخلي القوى لقيم الإنجاز والعمل والجهد الشخصي من اجل الإنتاج (21) كما واضح كيفية انتقال عدوة الحاجة إلى الإنجاز من خلال القصص الخيالية التي تستخدمها الدول في تعليم جيلها الثالث والرابع من الأطفال كيفية القراءة ومن هنا يبرز لنا" ماكيلاند" ارتباط الحاجة لأيتم الأبناء على أساليب تربوية محددة(22) وكما يؤكد على أن هناك ارتباط بين خصائص الوالدين وبين أسلوب التربية الذي يمكن أن يفسر ارتفاع درجة الحاجة إلى الإنجاز بطابع الحياة داخل الأسرة التي تقوم على أساس الدفء الأسرى وارتفاع مستويات تطلع الإباء بالنسبة للأبناء واختفاء طابع القسوة والتسلط في معاملة الأبناء(23) .
أن ما يميز هذه النظرية هو كونه تولى اهتمام كبير للأسرة والدور الرئيسي الذي تلعبة في تطور المجتمعات عن طريق تحديث أفرادها بالاظافة إلى المؤسسات التربوية داخل الدولة .
ثالثا: نظرية هاجن
تنطلق هذه النظرية من فكرة رئيسية يرى من خلالها" هاجن" بأنها السبب الرئيسي في إحداث التحديث وهي (سحب احترام الوضع اوالمركز )واحترام المركز يعني شعور الفرد بأنه في مكانه الملائم والمقبول في نظام اجتماعي مستقر ،ولا يتوقف هذا على المركز على الوضع الاقتصادي فقط بل يشمل كلما يفعل أو يعتقد من العلاقات بالا فرد الآخرين وبالقوى غير المنظورة التي يؤمن بوجودها وعلى ذلك فان مركز الفرد هو طابعه المميز ،وهو يتضمن أهدافه وقيمه في الحياة ،ففي المجتمعات التقليدية لكي يحقق الفرد مركز الإشباع والرضى لا يشترط أن يكون المركز رفيعا ،بل ملائم للفرد الذي يشغله ومجلبا احترام الآخرين وعلى ذلك فان عملية (سحب وضع الاحترام ) عند هاجن تعني :سحب الاحترام من فرد أو مجموعة أفراد كانوا يحتلون من قبل مراكز اجتماعية محترمه في المجتمع فهاجن يقرر منذ البداية أن ظهور عملية سحب الاحترام أو الاهتزاز في المنزلة الاجتماعية متى ظهرت في مجتمع تقليدي تراخت فيه عرى الروابط بين الافرد أو الجماعات التي تشكل البناء الاجتماعي للمجتمع وهذه الروابط هي التي كانت تشد المجتمع بعضه ببعض ،ويظهر ذلك في أن كثير من الأفراد أو الجماعات تشعر بان الطبقات الأعلى منها لم تعد تنظر نظرة الاحترام ألي أهدافها في الحياة ،وبالتالي فان هولا الافرد أو الجماعات لأتلبث أن تفقد رضاها عن المجتمع التقليدي فتزرع في نفوس أبنائها وأحفادها بذور التغيير وهي بذور يمكن أن تشق طريقها من خلال أقوى اغلقة الضوابط الاجتماعية وتدفع المجتمع إلي اتجاهات حديثة (24 ).
وهذا التأثير على الروابط الاجتماعية في ضوء العلاقات الاجتماعية الجديدة بعد حدوث عملية سحب الاحترام، ينعكس أثره داخليا في بيئة البيت أي في الأطفال الذين تعرض آباؤهم لهذه العملية ، ففي الجيل الأول لعملية الاهتزاز في المكانة يلمس الابن من أبيه اعتقادا واضحا في عدم جودة المركز الاجتماعي التقليدي ،ويدرك الم أبيه وتوتره، أما ابن الابن (الجيل الثاني )فيرى في شخصية أبيه جنبا لجنب مع توقعه الم أبيه شيئا مالم يكن موجودا في شخصية جده ،وذلك بان يصور له أبوه أن طريق السلامة هو كبت قيمه ،ويبدو هذا مقنعا له في النمط الذي يراه في أبيه ،وتدفعه رغبته في تجنب الألم ألي السير في هذه الطريق ابعد مما سار عليه أبوه ،ثم يأتي ابنه (الجيل الثالث ) فيسير ابعد من فقدان الأمل وفي هذا الجيل تظهر الشخصية الانهزامية الذي يشتد عندها صراع القيم والغضب والتوتر الشديد ويتجسد ذلك في شخصية الناسك التي ربما تؤدي إلي ظهور الشخصيات المبتكرة والإصلاحية التي تلعب الدور الفعال في إحداث التغيير الجذري في المجتمعات التقليدية فظهور الشخصيات الانهزامية بعد عملية اهتزاز المكانة الاجتماعية ليس بنهاية الطريق فهي بتغلغلها في الأجيال المتعاقبة ،فأنها تخلق من ظروف حياة البيت وبيئة الجماعة ما يشجع تنمية الشخصيات الابتكارية ،وذلك بظهور جماعات تدخل أفكار جديدة في بنائها الاجتماعي ، ويحد التحول من الانهزامية المتزايدة إلي الابتكارية الخلاقة نتيجة تغيرت تقدمية في شخصيات الآباء والأمهات في الأجيال التالية ، ويرى هاجن انه إذا كان من شان التغيير الاجتماعي الذي حدث أن يكون جسر انتقال إلي التقدم الاقتصادي ، فانه من الضروري أن تظهر في شخصيات الناس القيم التي تدفع بهم لان يدركوا الابتكار الاقتصادي والتكنولوجي .
هذه هي القوة الخفية التي انتهى "هاجن "لتأكيد مسؤوليتها عن نقل المجتمع من تقليدي ذا طابع محافظ ،يجابه التغير ويحذر البدعة ،ألي مجتمع حديث متطور اقتصاديا ،ونتاج هذه العملية التربوية الاجتماعية ،والنفسية الاجتماعية من جهة ثانية ،هو تبلور شخصية مبدعة تتسم بكونها غير راضية أو مقتنعة بالأنشطة التقليدية في تحقيق غايتها ومطامحها وبخاصة المادية ،أي أنها ثائرة بمعنى الكلمة.