الادب الجزائري الحديث
تعريف الادب الجزائري الحديث
كان الأدب الجزائري في القرن التاسع عشر مختزلا في الشعر العمودي المستمد مباشرة من التراث الأدبي العربي القديم. ولنا في ذلك شعر الأمير عبد القادر أفضل نموذج في مدح حياة الخيمة والبدو والفخر بالشجاعة والإقدام على الحرب. ومن شعره هذان البيتان:
ما في البداوة من عيب تذم به
إلا المروءة والإحسان بالبدر
أمير، إذا ما كان جيشي مُقبِلا
وموقد نار الحرب إذ لم يكن صالي
وإلى جانب الشعر الفصيح، انتشر الشعر الشعبي للتعبير عن مقاومة الجزائريين للاستعمار الفرنسي، فكانت قصائد محمد بلخير، الشاعر الذي ناضل إلى جانب المقاوم الشرس بوعمامة، تصدح بذلك الرفض القاطع لأي استعباد لهذا الشعب الأبي الذي قاوم جميع الغزاة الذين طمعوا في خيراته عبر التاريخ. وما أنْ انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تبلور وعي وطني عبر أولى مؤسّسات الحركة الوطنية مع الأمير خالد ونجم شمال إفريقيا، وارتفع الصوت الموحّد بضرورة التخلص من الاستعمار ونيل الاستقلال مهما كلّف من الثمن في الأرواح.
على المستوى الثقافي والفكري، بدأت أولى ملامح الإصلاح مع تأسيس جمعية العلماء المسلمين التي عملت على إعادة الاعتبار للغة العربية بفتح مدارس خاصة، وتنقية الإسلام من شوائب الشعوذة التي انتشرت عبر الزوايا من جراء الإفقار الفكري والجهل والظلم المنتشر في المجتمع نتيجة استبداد المعمرين واستيلائهم على ثروات الجزائريين. ولم يكن للنخب الصاعدة إلا أن تواكب هذه اليقظة الوطنية، وتعبّر عنها بالوسائل المتاحة. فكان الشعر أفضل السبل لتحقيق هذا المبتغى. فظهر الشعراء أمثال رمضان حمود وأبي اليقضان، وبالأخص مُفدي زكريا الذي جمع بين قرض الشعر والنضال الوطني، فكان حقا المعبّر الفاعل عن نمو الحركة الوطنية، ابتداءً من نشيده المدوي ”فدائيو الجزائر” في 1936، والذي اعتُمِد نشيدا رسميا لحزب الشعب، إلى غاية نشيد ”قسما” الذي أضحى النشيد الوطني الرسمي للجزائر.
وإلى جانبه، ارتفعت أصوات الشعراء تعيد الاعتبار لهذه الأمّة، على لسان الأمين العمودي، عبد الكريم العقون، الربيع بوشامة الذين اغتالتهم السلطة الاستعمارية، وكذا محمد العيد آل خليفة الذي سجن بدوره وخضع للإقامة الجبرية طوال فترة الثورة .
موازاة مع النخب المعرّبة، برزت نخب تعلمّت في المدارس الفرنسية، فأدركت مبكّرا أنها ليست فرنسية وأن فرنسا ما هي إلا استعمار ينبغي التخلص منه. فكانت الروايات الأولى في العشرينيات والثلاثينيات ”زهرة امرأة المنجمي” لعبد القادر حاج حمّو، ”مامون أو مشروع مثل أعلى” لشكري خوجة، ”بولنوار الفتى الجزائري” لرابح زناتي، ”مريم بين النخيل” لمحمد ولد الشيخ، ”ليلى فتاة جزائرية” لجميلة دباش، وهي نصوص أدبية تعلي من شأن الفرد الجزائري وتظهره في صورة إنسانية نبيلة برغم الفقر والاستعباد، بخلاف الرواية الاستعمارية التي لا تقرنه إلا بالبلادة والتوحش والتخلف.
فكان الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في فترة ما بين الحربين ردّا ذكيّا، ولكنه مسالم، للأدب الكولونيالي الذي انتشر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن هذا الأدب لم يتبلور في شكله الأدبي المكتمل إلا بعد الحرب الثانية وما جرى من أحداث دامية في مجازر ماي 1945.
أوّل هذه النصوص، ”ابن الفقير” لمولود فرعون، الرواية التي طبعها على حسابه في 1950، قبل أن تنال ”جائزة مدينة الجزائر” وتشتهَر ويُعاد طبعها في باريس في 1954، فكانت الرواية صرخة لفتى جزائري من منطقة القبائل يقول ”ها أنذا” أتعلم في المدارس الفرنسية وأنال أكبر الشهادات الممكنة برغم الفقر والتمييز العنصري والعوائق المتعدّدة التي تحول دون أن يتعلّم أطفال الجزائر، ولا ننسى أننا في العشرينيات من القرن العشرين، أي في أوج توهم ”ازدهار” الاستعمار الذي أقيمت له احتفالية ضخمة في 1930.
كتب مولود فرعون عن الطفل الجزائري الناجح في دروسه، بخلاف الصورة التي يحبذها المستعمر وهي صورة الطفل الحمّال في السوق أو الماسح لأحذية المعمرين. ومباشرة بعد مولود فرعون، ينشر محمد ديب رواية ”الدار الكبيرة” في 1952، مندّدا بواقع الجزائريين الذين يتخبطون في ثلاثي الذل والمهانة: الفقر والجهل والظلم. فينمو الوعي بحتمية التمرّد على الاستعمار. ثمّ نشر ”الحريق” الجزء الثاني من ثلاثيته، وقد تزامَن ظهور هذه الرواية مع انطلاق ثورة نوفمبر 54. كانت الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية في الخمسينيات معبّرة حقا عن الهم الوطني، فصوّرت واقع وأحلام الجزائريين وصفا مشحونا بالدلالات الموحية التي لا تقبل نقضا ولا تشكيكا. فمن خلال هذه النصوص الأدبية، عرف العالم معاناة الجزائريين تَحت نير الاستعمار.
ومِمّا زاد من إعجاب الأوساط الأدبية بها، أنها ليسَت شهادات فجّة عن واقع قاس وإنما هي أيضا تُحف أدبية لا تقل جمالا ولا ثراءً عن نصوص كبار الكتاب العالميين. فكانت نصوص محمد ديب ومولود معمري ومولود فرعون تُقارَن بالكلاسيكيات الواقعية الكبرى. أمّا كاتب ياسين، الحداثي بامتياز، فربطته الدوائر النقدية الباريسية مباشرة بوليام فولكنر الأمريكي الذي أحدث ثورة في استثمار السرد في تعقّده الأقصى. وكان مالك حدّاد شاعرا، فطعّم رواياته بجمال الصور الشعرية، إلى حدّ أربك النقاد في كيفية تصنيف نصوصه: أهي سرد بالمعنى المكرّس أم شعر في ثوب متجدّد؟ وإن دلّ هذا على شيء، إنما يدل على عبقرية الكاتب الجزائري الذي استطاع استثمار اللغة الفرنسية أحسن استثمار واعتبرها ”غنيمة حرب” يستخدمها ليقول للفرنسيين بأنه ليس فرنسيا، وإنما جزائري غيور على استقلال بلاده، واللغة الفرنسية عنده ما هي في نهاية المطاف إلا وسيلة يحقق بها غاية تتناقض مع غاية الاستعمار. وما أنْ نالت الجزائر استقلالها حتى وجد هؤلاء الكتاب أنفسَهم أمام واقع جديد واختيارات جديدة، فتعامل كل واحد منهم بطريقته الخاصة. اتّجه كاتب ياسين إلى المسرح والعربية الدارجة، ليعبّر عن هموم المجتمع الجديدة، فألّف مسرحية عن الهجرة في ”محمد خُذ حقيبتك”، والتاريخ في ”حرب الألفي سنة” والتراث الشعبي وعبقرية الفقراء في ”مسحوق الذكاء” (غبرة الفهامة)، والقضية الفلسطينية في ”فلسطين مخدوعة”، والمشاكل المغاربية في ”ملك الغرب”.
أما مالك حدّاد، فقرّر التوقف عن الإبداع بالفرنسية، والتحق بالمؤسسات الثقافية (الصحافة، وزارة الثقافة، اتحاد الكتاب) ليساهم في تنشيط الحياة الثقافية (المهرجان الإفريقي 1969) وإنشاء المجلات (آمال بالعربية والفرنسية).
فيما اختار مولود معمري الاهتمام بالتراث الشعبي الأمازيغي، فجمع الأشعار والأناشيد وترجمها إلى الفرنسية، ودوّن قواعد اللغة الأمازيغية ليسهل تدريسها وتعليمها، فطاف مناطق الجزائر وخاصة منطقة الهقار والطاسيلي، ليجمع تراثها الغنائي وتدوينه. فكان رائد جمع وتدوين التراث الشفهي الأمازيغي قبل أن يندثر، والذي مكّن الأجيال الجديدة من التعامل مع هذا التراث لإرساء اللغة الأمازيغية لغة وطنية. فأما عبقرية محمد ديب، فواصلت في نفس المضمار، أي الكتابة الأدبية، فكرّس جل حياته في إنتاج نصوص سردية وشعرية ومسرحية ليعبّر عن الإنسان المعاصر المنقسم بين حضارتين، الغربية الشمالية، والشرقية الجنوبية، في مسارات فردية عاطفية عميقة الدلالة، فكانت ثلاثية الشمال (سطوح أرسول، غفوة حواء، ثلوج من رخام) ليقول لنا الإنسان في بعده الثقافي والوجداني والروحي، سواء كان شرقيا أو غربيا. كما عبّر عن قساوة اغتراب المهاجرين في بلدان الشمال وصعوبة الاندماج وتوحش العزلة المدمّرة للروح والإنسان. فجاءت نصوصه في غاية الجمال الأدبي والشعري، مما جعل أكاديمية جائزة نوبل تدرج اسمه ضمن الفائزين المحتملين لسنوات عديدة.
أما الرواية المكتوبة بالعربية، فقد تأخّر ظهورها إلى ما بعد الاستقلال بسنوات لظروف موضوعية. فكانت القصة متربعة على عرش النثر الأدبي لسنوات عديدة. جمع رضا حوحو بين القصة والمسرحية، وقد اقتبس من موليير مسرحية ”البخيل” ومن مارسيل بانيول مسرحية ”توباز” تحت عنوان ”سي عاشور”، كما أخذ من توفيق الحكيم فكرة ”حمار الحكيم” وألّف حكايات طريفة على لسان حماره الحكيم، ولم تنجُ قصصه من ظاهرة السخرية التي منحتها نكهة خاصة، بل راح يؤلف المواقف المثيرة للضحك حول شخصه مثلما كان يفعل الجاحظ الذي يكون بلا شك مصدرا من مصادر إلهامه. ولكن الاستعمار الغاشم قام باغتياله في عمر لم يتجاوز السادسة والأربعين، ولم تكتمل تجربته الإبداعية بعد.
أما الرواية، فلم تظهر إلا في السبعينيات من القرن الماضي تحت قلم عبد الحميد بن هدّوقة أولا مع روايته ”ريح الجنوب )1971(”، وبعد ذلك تحت قلم الطاهر وطار مع ”اللاز” )1974( كانت الروايتان ثمرة تجربة في الكتابة القصصية، حيث بدأ كلاهما نشر القصة أثناء الثورة التحريرية خلال إقامتهما بتونس. لم تأتِ الرواية إلا بعد خوض غمار القصة القصيرة، حيث نشر كلاهما أكثر من مجموعة قصصية. فكان واقع المجتمع الجزائري الجديد موضوع روايات عبد الحميد بن هدوقة، الإصلاح الزراعي وترسبات الحرب في ”ريح الجنوب” والتجربة الاشتراكية في ”نهاية الأمس” و”بان الصبح”، عبر أسلوب الكتابة الواقعية الموغلة في وصف تفاصيل الحياة اليومية والشخصيات المستمدّة من الواقع المعاش بحيث تبدو عند القارئ كما لو أنها شخصيات حقيقية. أما الطاهر وطار، فولج عالم الرواية بالعودة، عن طريق الذاكرة، إلى سنوات الثورة، مركزا على الصراعات الداخلية وبالأخص ما كان معروفا بين التيار الوطني والشيوعي. ولكنه عاد مباشرة في الرواية الثانية ”الزلزال” إلى موضوع الثورة الزراعية. فجاءت رواية واقعية بفضائها الذي تماهى مع مدينة قسنطينة وجسورها المعلّقة، بهدف إيهام القارئ بأنها قصة وقعت فعلا. ولكن الطاهر وطار لم يلبث أن غادر الواقعية المباشرة إلى الواقعية المطعمة بالأسطورة والتاريخ والتجليات الوجودية الصوفية خاصة مع ”الحوات والقصر” و”عرس بغل” و”الشهداء يعودون هذا الأسبوع” و”الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي” ليجمع بين الحاضر والماضي، بين الحقيقة والخيال، بين السرد الروائي والخطاب الفكري. ويعتبر أبو العيد دودو منفردا بتجربة قصصية لم تنتقل إلى الرواية، برغم ترجمته لرائعة أبوليوس ”الحمار الذهبي” ورواية ”القط والفأر” لصاحب جائزة نوبل 1999 غونتر غراس. ألّف دودو القصة مثل وطار وبن هدوقة وأصدر مجموعة ”بحيرة الزيتون” في 1967، ومع ذلك بقي وفيا للنصوص القصيرة خاصة من ”صور سلوكية” في أجزائها العديدة، حيث عمد إلى تأمل سلوك مواطنيه وانتقاء ما يمكن أن يكون ”حدثا قصصيا”. فنتعرّف على نماذج إنسانية واجتماعية قد تصادفنا يوميا ولا نعير لها اهتماما كما فعل المبدع أبو العيد دودو الذي لا يخلو هو أيضا من البعد السخري الذي يكون قد استمده من الكوميديا الإغريقية، هو الباحث المولع بالعهد الذهبي للأدب اليوناني القديم.
يعتبر النقد الأدبي عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار المؤسسين الفعليين للرواية الجزائرية المكتوبة باللسان العربي، والملهمين الحقيقيين لجيل كامل أبدع في الرواية والقصة القصيرة، من أمثال بقطاش مرزاق وجيلالي خلاص وعمار بلحسن وواسيني الأعرج والحبيب السائح ومحمد ساري·· وغيرهم.
وأما المؤسّسون للرواية الجزائرية باللغة الفرنسية، فقد ألهموا جيلا كاملا أبدع على منوالهم، مستلهما منهم سبل الإبداع الأدبي وكيفية التعبير عن قضايا البلد المصيرية. فظهر رشيد بوجدرة الذي لم يخف تأثره بكاتب ياسين، والطاهر جاووت الذي كثيرا ما اقترن اسمه بمولود معمري، ورشيد ميموني التي كانت روايته ”النهر المحوَّل” متناصة مع قصة الطاهر وطار ”الشهداء يعودون هذا الأسبوع”، وإن كانت ثقافة ميموني الفرنسية قد فتحت له أكثر من مصدر من الأدب العالمي.
أردنا من هذه المقالة المختصرة أن نتحدّث عن المؤسّسين الأوائل للأدب الجزائري الحديث، سواء ذلك المكتوب بالعربية أو الفرنسية، وأن نبيّن مدى ارتباطه بالقضايا الكبرى للأمة الجزائرية، ما تعلّق منها بالفترة الاستعمارية أو بالمجتمع الجديد في عهد الاستقلال. ولنقول أيضا أنّ هؤلاء المؤسّسين قد تركوا بصمات أدبية وفكرية نهلت منها الأجيال اللاحقة ولا تزال.
ما في البداوة من عيب تذم به
إلا المروءة والإحسان بالبدر
أمير، إذا ما كان جيشي مُقبِلا
وموقد نار الحرب إذ لم يكن صالي
وإلى جانب الشعر الفصيح، انتشر الشعر الشعبي للتعبير عن مقاومة الجزائريين للاستعمار الفرنسي، فكانت قصائد محمد بلخير، الشاعر الذي ناضل إلى جانب المقاوم الشرس بوعمامة، تصدح بذلك الرفض القاطع لأي استعباد لهذا الشعب الأبي الذي قاوم جميع الغزاة الذين طمعوا في خيراته عبر التاريخ. وما أنْ انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تبلور وعي وطني عبر أولى مؤسّسات الحركة الوطنية مع الأمير خالد ونجم شمال إفريقيا، وارتفع الصوت الموحّد بضرورة التخلص من الاستعمار ونيل الاستقلال مهما كلّف من الثمن في الأرواح.
على المستوى الثقافي والفكري، بدأت أولى ملامح الإصلاح مع تأسيس جمعية العلماء المسلمين التي عملت على إعادة الاعتبار للغة العربية بفتح مدارس خاصة، وتنقية الإسلام من شوائب الشعوذة التي انتشرت عبر الزوايا من جراء الإفقار الفكري والجهل والظلم المنتشر في المجتمع نتيجة استبداد المعمرين واستيلائهم على ثروات الجزائريين. ولم يكن للنخب الصاعدة إلا أن تواكب هذه اليقظة الوطنية، وتعبّر عنها بالوسائل المتاحة. فكان الشعر أفضل السبل لتحقيق هذا المبتغى. فظهر الشعراء أمثال رمضان حمود وأبي اليقضان، وبالأخص مُفدي زكريا الذي جمع بين قرض الشعر والنضال الوطني، فكان حقا المعبّر الفاعل عن نمو الحركة الوطنية، ابتداءً من نشيده المدوي ”فدائيو الجزائر” في 1936، والذي اعتُمِد نشيدا رسميا لحزب الشعب، إلى غاية نشيد ”قسما” الذي أضحى النشيد الوطني الرسمي للجزائر.
وإلى جانبه، ارتفعت أصوات الشعراء تعيد الاعتبار لهذه الأمّة، على لسان الأمين العمودي، عبد الكريم العقون، الربيع بوشامة الذين اغتالتهم السلطة الاستعمارية، وكذا محمد العيد آل خليفة الذي سجن بدوره وخضع للإقامة الجبرية طوال فترة الثورة .
موازاة مع النخب المعرّبة، برزت نخب تعلمّت في المدارس الفرنسية، فأدركت مبكّرا أنها ليست فرنسية وأن فرنسا ما هي إلا استعمار ينبغي التخلص منه. فكانت الروايات الأولى في العشرينيات والثلاثينيات ”زهرة امرأة المنجمي” لعبد القادر حاج حمّو، ”مامون أو مشروع مثل أعلى” لشكري خوجة، ”بولنوار الفتى الجزائري” لرابح زناتي، ”مريم بين النخيل” لمحمد ولد الشيخ، ”ليلى فتاة جزائرية” لجميلة دباش، وهي نصوص أدبية تعلي من شأن الفرد الجزائري وتظهره في صورة إنسانية نبيلة برغم الفقر والاستعباد، بخلاف الرواية الاستعمارية التي لا تقرنه إلا بالبلادة والتوحش والتخلف.
فكان الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في فترة ما بين الحربين ردّا ذكيّا، ولكنه مسالم، للأدب الكولونيالي الذي انتشر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن هذا الأدب لم يتبلور في شكله الأدبي المكتمل إلا بعد الحرب الثانية وما جرى من أحداث دامية في مجازر ماي 1945.
أوّل هذه النصوص، ”ابن الفقير” لمولود فرعون، الرواية التي طبعها على حسابه في 1950، قبل أن تنال ”جائزة مدينة الجزائر” وتشتهَر ويُعاد طبعها في باريس في 1954، فكانت الرواية صرخة لفتى جزائري من منطقة القبائل يقول ”ها أنذا” أتعلم في المدارس الفرنسية وأنال أكبر الشهادات الممكنة برغم الفقر والتمييز العنصري والعوائق المتعدّدة التي تحول دون أن يتعلّم أطفال الجزائر، ولا ننسى أننا في العشرينيات من القرن العشرين، أي في أوج توهم ”ازدهار” الاستعمار الذي أقيمت له احتفالية ضخمة في 1930.
كتب مولود فرعون عن الطفل الجزائري الناجح في دروسه، بخلاف الصورة التي يحبذها المستعمر وهي صورة الطفل الحمّال في السوق أو الماسح لأحذية المعمرين. ومباشرة بعد مولود فرعون، ينشر محمد ديب رواية ”الدار الكبيرة” في 1952، مندّدا بواقع الجزائريين الذين يتخبطون في ثلاثي الذل والمهانة: الفقر والجهل والظلم. فينمو الوعي بحتمية التمرّد على الاستعمار. ثمّ نشر ”الحريق” الجزء الثاني من ثلاثيته، وقد تزامَن ظهور هذه الرواية مع انطلاق ثورة نوفمبر 54. كانت الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية في الخمسينيات معبّرة حقا عن الهم الوطني، فصوّرت واقع وأحلام الجزائريين وصفا مشحونا بالدلالات الموحية التي لا تقبل نقضا ولا تشكيكا. فمن خلال هذه النصوص الأدبية، عرف العالم معاناة الجزائريين تَحت نير الاستعمار.
ومِمّا زاد من إعجاب الأوساط الأدبية بها، أنها ليسَت شهادات فجّة عن واقع قاس وإنما هي أيضا تُحف أدبية لا تقل جمالا ولا ثراءً عن نصوص كبار الكتاب العالميين. فكانت نصوص محمد ديب ومولود معمري ومولود فرعون تُقارَن بالكلاسيكيات الواقعية الكبرى. أمّا كاتب ياسين، الحداثي بامتياز، فربطته الدوائر النقدية الباريسية مباشرة بوليام فولكنر الأمريكي الذي أحدث ثورة في استثمار السرد في تعقّده الأقصى. وكان مالك حدّاد شاعرا، فطعّم رواياته بجمال الصور الشعرية، إلى حدّ أربك النقاد في كيفية تصنيف نصوصه: أهي سرد بالمعنى المكرّس أم شعر في ثوب متجدّد؟ وإن دلّ هذا على شيء، إنما يدل على عبقرية الكاتب الجزائري الذي استطاع استثمار اللغة الفرنسية أحسن استثمار واعتبرها ”غنيمة حرب” يستخدمها ليقول للفرنسيين بأنه ليس فرنسيا، وإنما جزائري غيور على استقلال بلاده، واللغة الفرنسية عنده ما هي في نهاية المطاف إلا وسيلة يحقق بها غاية تتناقض مع غاية الاستعمار. وما أنْ نالت الجزائر استقلالها حتى وجد هؤلاء الكتاب أنفسَهم أمام واقع جديد واختيارات جديدة، فتعامل كل واحد منهم بطريقته الخاصة. اتّجه كاتب ياسين إلى المسرح والعربية الدارجة، ليعبّر عن هموم المجتمع الجديدة، فألّف مسرحية عن الهجرة في ”محمد خُذ حقيبتك”، والتاريخ في ”حرب الألفي سنة” والتراث الشعبي وعبقرية الفقراء في ”مسحوق الذكاء” (غبرة الفهامة)، والقضية الفلسطينية في ”فلسطين مخدوعة”، والمشاكل المغاربية في ”ملك الغرب”.
أما مالك حدّاد، فقرّر التوقف عن الإبداع بالفرنسية، والتحق بالمؤسسات الثقافية (الصحافة، وزارة الثقافة، اتحاد الكتاب) ليساهم في تنشيط الحياة الثقافية (المهرجان الإفريقي 1969) وإنشاء المجلات (آمال بالعربية والفرنسية).
فيما اختار مولود معمري الاهتمام بالتراث الشعبي الأمازيغي، فجمع الأشعار والأناشيد وترجمها إلى الفرنسية، ودوّن قواعد اللغة الأمازيغية ليسهل تدريسها وتعليمها، فطاف مناطق الجزائر وخاصة منطقة الهقار والطاسيلي، ليجمع تراثها الغنائي وتدوينه. فكان رائد جمع وتدوين التراث الشفهي الأمازيغي قبل أن يندثر، والذي مكّن الأجيال الجديدة من التعامل مع هذا التراث لإرساء اللغة الأمازيغية لغة وطنية. فأما عبقرية محمد ديب، فواصلت في نفس المضمار، أي الكتابة الأدبية، فكرّس جل حياته في إنتاج نصوص سردية وشعرية ومسرحية ليعبّر عن الإنسان المعاصر المنقسم بين حضارتين، الغربية الشمالية، والشرقية الجنوبية، في مسارات فردية عاطفية عميقة الدلالة، فكانت ثلاثية الشمال (سطوح أرسول، غفوة حواء، ثلوج من رخام) ليقول لنا الإنسان في بعده الثقافي والوجداني والروحي، سواء كان شرقيا أو غربيا. كما عبّر عن قساوة اغتراب المهاجرين في بلدان الشمال وصعوبة الاندماج وتوحش العزلة المدمّرة للروح والإنسان. فجاءت نصوصه في غاية الجمال الأدبي والشعري، مما جعل أكاديمية جائزة نوبل تدرج اسمه ضمن الفائزين المحتملين لسنوات عديدة.
أما الرواية المكتوبة بالعربية، فقد تأخّر ظهورها إلى ما بعد الاستقلال بسنوات لظروف موضوعية. فكانت القصة متربعة على عرش النثر الأدبي لسنوات عديدة. جمع رضا حوحو بين القصة والمسرحية، وقد اقتبس من موليير مسرحية ”البخيل” ومن مارسيل بانيول مسرحية ”توباز” تحت عنوان ”سي عاشور”، كما أخذ من توفيق الحكيم فكرة ”حمار الحكيم” وألّف حكايات طريفة على لسان حماره الحكيم، ولم تنجُ قصصه من ظاهرة السخرية التي منحتها نكهة خاصة، بل راح يؤلف المواقف المثيرة للضحك حول شخصه مثلما كان يفعل الجاحظ الذي يكون بلا شك مصدرا من مصادر إلهامه. ولكن الاستعمار الغاشم قام باغتياله في عمر لم يتجاوز السادسة والأربعين، ولم تكتمل تجربته الإبداعية بعد.
أما الرواية، فلم تظهر إلا في السبعينيات من القرن الماضي تحت قلم عبد الحميد بن هدّوقة أولا مع روايته ”ريح الجنوب )1971(”، وبعد ذلك تحت قلم الطاهر وطار مع ”اللاز” )1974( كانت الروايتان ثمرة تجربة في الكتابة القصصية، حيث بدأ كلاهما نشر القصة أثناء الثورة التحريرية خلال إقامتهما بتونس. لم تأتِ الرواية إلا بعد خوض غمار القصة القصيرة، حيث نشر كلاهما أكثر من مجموعة قصصية. فكان واقع المجتمع الجزائري الجديد موضوع روايات عبد الحميد بن هدوقة، الإصلاح الزراعي وترسبات الحرب في ”ريح الجنوب” والتجربة الاشتراكية في ”نهاية الأمس” و”بان الصبح”، عبر أسلوب الكتابة الواقعية الموغلة في وصف تفاصيل الحياة اليومية والشخصيات المستمدّة من الواقع المعاش بحيث تبدو عند القارئ كما لو أنها شخصيات حقيقية. أما الطاهر وطار، فولج عالم الرواية بالعودة، عن طريق الذاكرة، إلى سنوات الثورة، مركزا على الصراعات الداخلية وبالأخص ما كان معروفا بين التيار الوطني والشيوعي. ولكنه عاد مباشرة في الرواية الثانية ”الزلزال” إلى موضوع الثورة الزراعية. فجاءت رواية واقعية بفضائها الذي تماهى مع مدينة قسنطينة وجسورها المعلّقة، بهدف إيهام القارئ بأنها قصة وقعت فعلا. ولكن الطاهر وطار لم يلبث أن غادر الواقعية المباشرة إلى الواقعية المطعمة بالأسطورة والتاريخ والتجليات الوجودية الصوفية خاصة مع ”الحوات والقصر” و”عرس بغل” و”الشهداء يعودون هذا الأسبوع” و”الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي” ليجمع بين الحاضر والماضي، بين الحقيقة والخيال، بين السرد الروائي والخطاب الفكري. ويعتبر أبو العيد دودو منفردا بتجربة قصصية لم تنتقل إلى الرواية، برغم ترجمته لرائعة أبوليوس ”الحمار الذهبي” ورواية ”القط والفأر” لصاحب جائزة نوبل 1999 غونتر غراس. ألّف دودو القصة مثل وطار وبن هدوقة وأصدر مجموعة ”بحيرة الزيتون” في 1967، ومع ذلك بقي وفيا للنصوص القصيرة خاصة من ”صور سلوكية” في أجزائها العديدة، حيث عمد إلى تأمل سلوك مواطنيه وانتقاء ما يمكن أن يكون ”حدثا قصصيا”. فنتعرّف على نماذج إنسانية واجتماعية قد تصادفنا يوميا ولا نعير لها اهتماما كما فعل المبدع أبو العيد دودو الذي لا يخلو هو أيضا من البعد السخري الذي يكون قد استمده من الكوميديا الإغريقية، هو الباحث المولع بالعهد الذهبي للأدب اليوناني القديم.
يعتبر النقد الأدبي عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار المؤسسين الفعليين للرواية الجزائرية المكتوبة باللسان العربي، والملهمين الحقيقيين لجيل كامل أبدع في الرواية والقصة القصيرة، من أمثال بقطاش مرزاق وجيلالي خلاص وعمار بلحسن وواسيني الأعرج والحبيب السائح ومحمد ساري·· وغيرهم.
وأما المؤسّسون للرواية الجزائرية باللغة الفرنسية، فقد ألهموا جيلا كاملا أبدع على منوالهم، مستلهما منهم سبل الإبداع الأدبي وكيفية التعبير عن قضايا البلد المصيرية. فظهر رشيد بوجدرة الذي لم يخف تأثره بكاتب ياسين، والطاهر جاووت الذي كثيرا ما اقترن اسمه بمولود معمري، ورشيد ميموني التي كانت روايته ”النهر المحوَّل” متناصة مع قصة الطاهر وطار ”الشهداء يعودون هذا الأسبوع”، وإن كانت ثقافة ميموني الفرنسية قد فتحت له أكثر من مصدر من الأدب العالمي.
أردنا من هذه المقالة المختصرة أن نتحدّث عن المؤسّسين الأوائل للأدب الجزائري الحديث، سواء ذلك المكتوب بالعربية أو الفرنسية، وأن نبيّن مدى ارتباطه بالقضايا الكبرى للأمة الجزائرية، ما تعلّق منها بالفترة الاستعمارية أو بالمجتمع الجديد في عهد الاستقلال. ولنقول أيضا أنّ هؤلاء المؤسّسين قد تركوا بصمات أدبية وفكرية نهلت منها الأجيال اللاحقة ولا تزال.