تمهيد : لقد جاءت العلوم الإنسانية متأخرة النشأة قياسا بالعلوم الدقيقة، كما جاءت تلك النشأة، كنتيجة لما بدأت المجتمعات الحديثة تعرفه من قضايا نفسية واجتماعية جديدة ارتبطت بتطورها السريع.. هكذا أصبحت هذه العلوم تسعى إلى تحويل الإنسان إلى ظاهرة قابلة للدراسة العلمية الموضوعية. إلا أن تميز الإنسان واختلافه عن الظواهر الطبيعة جعل العلوم الإنسانية تعرف مشاكل إبيستيمولوجية من نوع خاص، ومن ثم بدأ العلماء يتساءلون حول مدى قدرة هذه العلوم على بلوغ دقة العلوم الطبيعية.
ب- ماالفرق بينها وبين العلوم المعيارية ؟
أنالعلوم الإنسانية S.Humaines تدرس الحالة الراهنة للسلوك أي ما هو كائن أما العلوم المعياريةAxiologie فهي تهتمبما يجب أن يكون أي بما تحمله الأماني كعلم االمنطق Logique الذي يبحث في قوانين التفكير الصحيح .وعلم الجمال Esthétique الذي يدرس الفرق بين القبيح و الجميل و أسس التعبير الجمالي وعلم الأخـــــــــلاق . Ethique التي تبحث في القواعد و القيم التي ينشأ عليها السلوك الفاضل و على أساسها يتم التمييز بين الخير و الشر
ج– صياغة المشكلة : لقد حققت العلوم الطبيعية نجاحا كبيرا بفضل استخدامها المنهج التجريبي و قوانين الحتمية ، فهل يمكن أن يتحقق ذلك مع العلوم الإنسانيـــة؟ بمعنى هل يمكن دراسة الظواهر الإنسانية بطريقة تجريبية تماما كما يحدث في العلوم الفيزيائة و الكيميائية.. ؟
الموقف المعارض/ لا يمكن إخضاع الظواهر الإنسانية للتجريب ، وبالتالي لا يمكن أن تكون موضوعا لمعرفة علمية نظرا للعوائق الابستيمولوجية التالية( الحجج)
1 – الحادثة التاريخية فريدة من نوعها لا تتكرر /، لأن الزمن الذي حدثت فيه لا يعود من جديد ، و الاطار الاجتماعي الذي اكتنفها يكون قد تغير و لذلك لا يمكن للمؤرخ إخضاعها للتجريب عن طريق اصطناع حربا تجريبية حتى يتحقق من صحة فرضياته ، ثم انها ظواهر لا تمتثل لقوانين الحتمية ، إن أسباب وقوع حرب ماضية قد تجتمع حاليا ولا تقع الحرب قد تلجأ الأطراف المتنازعة الى السلم بدل الحرب ، وما دام الإنسان يتصرف عادة بحرية فان التنبؤ بأحواله يكون شبه مستحيل
2- الحادثة التاريخية لها طبيعة معنوية / كالحروب الصليبية أو الحرب الباردة ، لا تلاحظ بالعين المجردة أو بالأجهزة كما نلاحظ الظواهر الطبيعية ، و ما يمكن ملاحظته فقط آثارها غير المباشرة و هذا يعني أن الخطوة الأولى في المنهج التجريبي منعدمة
3- انها حادثة من انتاج الإنسان و تخطيطه /، لذلك يصعب تحديد أسبابها بدقة ، و نتائجها و أبعادها وقت حدوثها ، فالكثير من الحروب تقع بطريقة غير مفهومة ، يخفي مقرروها أسبابها الحقيقية و يصر
4– عائق الذاتيــــــــــة / و هو من أكبر العوائق الابستيمولوجية في العلوم الإنسانية ، لأن المؤرخ لا يواجه في هذه الحالة ظواهر طبيعية مستقلة ، بل سيواجه حقائق تتعلق بكيانه الشخصي و الوطني و الاديولوجي ، فيكون هو الدارس و المدروس في نفس الوقت ، يتأثر حتما بانتمائه السياسي و الديني ، ان المؤرخ الجزائري على سبيل المثال لا يكتب تاريخ الثورة التحريرية وما جرى فيها من مجازر كما يكتبها المؤرخ الفرنسي ، إن المؤرخ بصفة عامة بدل أن يلتزم الحياد و الموضوعية و يفسر الحادثة كما وقعت يقوم بتأويلها و يصدر بشأنها أحكام تقييمية ، فتراه يضخم الوقائع التي تخدم قضيته ، و يتغاضى عن الوقائع التي تسيئ اليها . و في جميع الحالات تزييف للحقيقة
1- انها ظاهرة بشرية ، من صنع الإنسان و ترتبط بحياته الخاصة و العامة ، و الإنسان كما نعلم يتصرف بحرية له القدرة على إبداع مظاهر سلوكية غير معهودة و غير متوقعة ، كما أنه لا يستقر على حالة واحدة و عليه لا يمكن اخضاعها لقوانين الحتمية ، مثلا اذا وقع الطلاق بين زوجين لأسباب معينة ، فان نفس الأسباب قد نجدها في عائلة أخرى دون ان يحدث الطلاق ، نفس الشيئ بالنسبة لظاهرة الانتحار و العنف و غيرها ، و هذا ما يضيق دائرة التنبؤ بشكل كبير
2- انها ظواهر متشعبة / تتدخل فيها عوامل كثيرة ، اقتصادية و اجتماعية و سياسية و عقائدية و تاريخية ، فقد يقول البعض أن سبب الهجرة الى الخارج اقتصادي محض ، لكن يمكن أن يكون سياسي أو اديولوجي
3- انها ظواهر خاصة /تنطوي على عوامل و محركات ذاتية ، كعوامل الطلاق و الانتحار و الهجرة ،و ما هو ذاتي لا يكون قابلا للدراسات التجريبية لانعدام الملاحظة الخارجية ، و لايكون قابلا أيضا للتحليل الرياضي الدقيق .
1– انها ظواهر داخلية يدركها صاحبها ، ولا تدرك من الخارج ، فنحن لا نرى الشعور و اللاشعور ، أو الحب و الكراهية و الانانية و غيرها ، لا مكان لها ، و لا حجم . فعندما يتحول الحزن الى فرح لا ندري المكان الذي اختفى فيه الحزن ، و لا المصدر الذي جاء منه الفرح
2– انها ظواهر كيفية ، تقبل الوصف لا تقبل التقدير الكمي ، فاذا كان العلم قادر على قياس درجة حرارة الجسم أو ارتفاع ضغط الدم بالوسائل التقنية ،فان هذه الوسائل غير قادرة على قياس درجة القلق أو الحب الإيمان و غيرها..، يقول الكسيس كاريل ( ان تقنياتنا عاجزة عن تناول ما لا بعد له و لا وزن و عن قياس درجة الغرور و الأنانية ، و الحب و الكراهية و سمو الروح نحو الله)
3- إنها ظواهر خاصة / تتعلق بمقومات الشخصية ، وما دامت هذه المقومات مختلفة من شخص لآخر يتعذرفيها التعميم ، كل واحد و انفعالاته ، و اهتماماته ، و قناعته ، و لذلك يستحيل تعميم النتائج ، و هذا يعني أن مبدأ الاستقراء المعروف في العلوم التجريبية غير قابل للتطبيق في الدراسات النفسية
4 إنها ظواهر شديدة التداخل و الاختلاط ،يشتبك فيها الإحساس و الإدراك ، و الذكاء مع الإرادة و الانتباه مع الإرادة ، و اللاشعور بما تحت الشعور ، فتنعدم الدقة النتائج المتوصل إليها
5– إنها ظواهر لا تتكرر بنفس الطريقة و نفس الشعور و نفس الأثر ، فلا يمكن للباحث أن يصطنع الحب و الكره أو التفاؤل و التشاؤم حتى يتحقق من صحة فرضياته ، فهي ظواهر تفلت من قبضة الإرادة و المنطق .
الموقف المؤيد/ يمكن إخضاع الظواهر الإنسانية لدراسة علمية ، وتجريب خاص ، كما يمكن تجاوز تلك العوائق بفضل المناهج التي كيفت حسب طبيعة الموضوع
*تجاوز العوائق في التاريخ
لقد استطاع ‘عبد الرحمان ابن خلدون’ أن يجعل من التاريخ علما له منهجه و قوانينه ، فالتاريخ في نظره ليس مجرد سرد للأخبار بل تحليل و تعليل لها يقول (وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها و صحتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه ، و صار فيها أهم من التعديل و مقدما عليه)
علمية التاريخ تستوجب العمل بالقوانين التالية :
1– قانون السببية: ما من حادثة تقع الا و لها أسباب طبيعية أدت الى وقوعها ، و المقصود بالأسباب الطبيعية ما تعلق بحالة المجتمع السياسية و الاقتصادية و الثقافية ، و هنا يربط ابن خلدون بين حركة التاريخ و يفرزه العمران البشري من أحوال يقول( التاريخ خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو العمران وما يعرض لطبيعته من الأحوال مثل التوحش و التأنس و العصبيات …)
2– قانون الإمكان و الاستحالة : ما كان من الأخبار معقول أدخلناه دائرة الإمكان و ما كان غير معقول أدخلناه دائرة الاستحالة ، وبهذا المبدأ يمكن لنا التمييز بين الأخبار الصحيحة و الأخبار الخاطئة بشكل برهاني
3– قانون التشابه : ان الأحداث التاريخية تتشابه في عللها و نتائجها ، فالحضارات تنمو على عصبية معينة و لما تصل الى قمة الهرم يلجأ أفرادها الى الترف فيبدأ التقهقر و الانحطاط لتبدأ حضارة أخرى في النمو بنفس العملية ، فالتاريخ يخضع لمبدأ الحتمية
4– قانون التطور: ان العمران البشري في تطور مستمر ، و أحوال الناس في تغير و تنوع ، وأن قانون التشابه ليس مطلقا و أن تغير الاعراض و المظاهر كتغير الشخصيات والوسائل لا يغير العلل و قوانينها ، فالوقائع لا تتكرر بذاتها بل بكيفيات مختلفة .
كما أن الدراسة العلمية للتاريخ تمر بالمراحل التالية
–المصادر غير الإرادية التي بقيت من غير قصد مثل الأبنية،النقود الأسلحة والأوسمة والتراث الفكري والأدبي
المصادر الإرادية وهي التيبقيت قصدًا لتكون شاهدة عليهم كالرواية وكتب التاريخ .
ب- مرحلة النقد و التحقق : و يتم بمستويين
*النقد الخارجي : وهو الفحص الخارجي للمصدر من أجل معرفة هل هذهالوثيقة تعود إلى ذلك الزمن أم لا ؟ وهل وصلت لنا دون تشويه أو تزوير ؟ وإذا كانتوثيقة يتفحص نوع الورق أو الحبر أو شكل الخط, وإذا كان سلاح أو نقود أو أوسمة يتفحصنوع المعدن طبيعة المواد الكيمائية من أجل التأكد من الآثار .
* النقد الباطني :وهو فحص الداخلي للمصدر ،من أجل معرفة هل ما ورد في هذه الوثيقة يتماشى مع عقليةالذي تنسب إليه ، وهل هو متفق مع ما روي في مراجع أخرى وكذلك معرفة نفسية الكاتبوموفقه اتجاه هذه الحادثة مما دفعه إلى التمحيص و المبالغة أو إلى التشويه فيالأحداث والقراءة الدقيقة حتى يتمكن من الوقوف على أخطاء الغير المقصودة والعفوية
خ- إعادة بناء الحادثة : و ذلك بالتأليف بين أجزائها و ترتيبها وفق تسلسلها الزمني و السببي ، فتكون كل مرحلة مقدمة لما بعدها و نتيجة لما قبلها من مراحل بهذه الطريقة يتم دراسة التاريخ بعيدا عن الأحكام الذاتية
* تجاوز العوائق في علم النفس Psychologie: من أهم المناهج العلمية التي أدخلت في دراسة الظواهر النفسية المنهج السلوكي الذي تجاوز منهج الاستبطان L Introspection (الملاحظة الذاتية الأحوال النفسية)
لقد رفضت المدرسة السلوكية مع واطسن Watson ( 1878-1958) منهج الاستبطان ، لأن الشعور في نظره فكرة فلسفية ميتافيزيقية ، و عوضه بمصطلح السلوك الذي يقبل الملاحظة الخارجية و تجسيد حي لما يقوم به الكائن من ردود أفعال منظمة ، فكل فعل هو في الحقيقة استجابة لمنبهات خارجية ، فالظواهر النفسية لها بعد خارجي و بالتالي فهي قابلة للدراسة التجريبية و و التحليل الموضوعي ، و أحسن مثال على ذلك قانون المنعكس الشرطي الذي استنتجه العالم الروسي بافلوف Pavlov بعد التجارب التي أجراها على الكلب ، حيث تحولت الاستجابة الطبيعية و هي سيلان اللعاب عند رؤية الطعام أو شم رائحته الى استجابة شرطية و هي سيلان العاب عند سماع الجرس . و نفس المنبهات تعطي نفس الاستجابات ، وهذا يعني أن التنبؤ ممكن ، وأن البيئة الخارجية التي يعيش فيها الفرد هي التي تحدد طبيعة السلوك المكتسب
المنهج التحليلي أو التحليل النفسي Psychanalyse طريقة علمية في تحليل الظواهر النفسية و الاضطرابات العقلية أبدعها العالم النمساوي سيجموند فرويد S.Freud كبديل للتنويم النغناطيسي L Hypnose . و يقوم التحليل النفسي على الحوار و التداعي الحر للأفكار من خلال الأسئلة التي يلقيها الطبيب على المريض أو السوي و تتعلق أساسا بماضيه و أحلامه و رغباته و ميوله ، الغرض من ذلك هو اخراج الرغبات المكبوتة في اللاشعور الى ساحة الشعور ، حتى تزول العقد و تختفي الأعراض المرضية يقول فرويد ( إن اللاشعور فرضية لازمة و مشروعة لتفسير الكثير من الأفعال الي لا تتمتع بشهادة الشعور ، سواء عند الأسوياء أو المرضى على حد سواء)
* تجاوز العوائق في علم الاجتماع Sociologie يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوع بحث مثل ظاهرة البطالة و العنف و الانتحار …الخ و لقد حدد "إيميل دوركايم "خمسة خصائص للظاهرة الاجتماعية ،نأخذها كمسلمات من أجل تفسير الظاهرة الاجتماعية تفسيرا موضوعيا و علميا و هي
أ- أنها توجد خارج شعور الأفراد أي خاضعة للعاداتوالتقاليد والمعتقدات التي هي موجودة قبل أن يولد الإنسان وتوجه سلوكاتهب– كما تعتبر قوانين المجتمع القوة الآمرة القاهرة ما يجعل الظاهرة الاجتماعية تمتازبالإلزام والإكراه لذلك تصبح تفرض نفسها على الفردج- كما أنها صفة جماعيةتتمثل في ما يسميه "دوركايم" الضمير الجمعي ،أي أنها لا تنسب إلى فرد ولا إلى بضعةأفراد أنما هي من صنع المجتمع وهي عامة يشترك فيها جميع أفراد المجتمع وتظهر في شكلواحد وتتكرر إلى قترة طويلة من الزمن رغم أن الفضل في نشوئها يعود على الأفراد
د- كما أنها في ترابط يؤثر بعضها في بعض ويفسر بعضها البعض الآخر مثل الآسرة هيمرآة المجتمع و بينهما تأثير متبادله- كما تمتاز بأنها حادثة تاريخية أي أنهاتعبر عن لحظة من لحظات تاريخ الاجتماع البشرى . أن هذا التحديد للظاهرة الاجتماعيةصحح بعض التعارف الفاسدة مما أدى للدراسات الاجتماعية بالتقدم إلى مجال العلموالموضوعية بعدما كانت عبارة عن تصورات ،وهذا ما أوصل "وركايم" إلى اعتبار نطاقالظواهر الاجتماعية أوسع مما يعتقد حيث يقول مامن حادثة إنسانية إلا ويمكن أننطلق عليها اسم ظاهرة اجتماعية )كما أعتبر "دوركايم" أن الظاهرة الاجتماعية مثلهامثل بقية الظواهر القابلة للدراسة وفق النهج التجريبي من أجل صياغة القانون وفي هذاقال(يجب أن نعالجالظواهر على أنها أشياء ) أي بنفس المنهج الذي يدرس به عالم الفيزياء الحادثةالطبيعية . خاصة قواعد الاستقراء التي مكنت علماء الاجتماع من اعتماد المقارنة بين الحالات و استنتاج القوانين
و من جملة القوانين التي توصل اليها الاجتماعيون قانون وارد Ward الذي يقول ( إن الافراد يبحثون عن أكبر كسب بأقل مجهود) و قانون دوركايم حول الانتحار ( الميل الشخصي الى الانتحار يزداد مع قلة الروابط التي تربط الفرد بالمجتمع )
تقييم / رغم التطور الكبير الذي عرفته العلوم الانسانية بفضل هذه المناهج لا يمكن الجزم بأنها وصلت الى الدقة و التحليل الموضوعي المعروف في العلوم الطبيعية ، فلا تزال مشكلة الموضوعية مطروحة في التاريخ ، كما أن المنهج السلوكي في علم النفس غير كاف لأن المظاهر الخارجية لا تعكس حقيقة الأحوال النفسية الداخلية ، كذلك مبدأ التعميم لا يصدق كثيرا في علم الاجتماع فإذا كان سبب الطلاق عند الزوجين هو عدم الإنجاب مثلا ، فان نفس السبب قد يتواجد عند زوجين دون أن يتم الطلاق
هل يمكن معالجة هذه المقالة نفسها بالنسبة لهذا السؤال
هل يمكن دراسة الظواهر الطبيعية كما تدرس الظواهر الطبيعية؟
بارك الله فيكم
معذرة لقد أخطأت في طرح السؤال
هل يمكن دراسة الظواهر الإنسانية كما تدرس الظواهر الطبيعية؟
هل من مساعدة في حل هذه المقالة؟
أين الإجابة اخواني؟!
بارك الله فيك
نعم يمكن معالجة السؤال بنفس الطريقة الجدلية
1- يمكن دراسة الظواهر الانسانية كما ندرس الظواهر الطبيعية ( مناهج العلوم الانسانية )
2- لا يمكن دراسة الظواهر الانسانية كما ندرس الظواهر الطبيعية ( تحليل العائق)
3- التركيب و الخروج بالحل