سعيد بن مسفر أحمد الزهراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بلغنا رمضان ، الذي أنزل فيه القرآن ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين .
أما بعــــــــــــــد
اعلموا رحمكم الله أن شهر رمضان مضمار السابقين ، وغنيمةُ الصادقين ، فيه تُضاعفُ الأعمالُ وتحطُ الأوزارُ الثقال ، وفيه يُجابُ السؤال ، ويُغفَرُ للمستغفرِ ويُقالُ ، فهو غُرَّةُ الدُهُور ، ومصباح الشهور ، وربيعٌ للمؤمنِ يقتطفُ فيه الأُجُور ، وتُزينُ فيه الجنانُ والقصورُ ، فَجُدْ فيه بالطاعاتُ واهجُرِ الفتور .
شهرٌ اشتهرت بفضله الأخبار ، وتواترت فيه الآثار ، ففي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا جاءَ رمضانُ فُتِّحَت أبواب الجنةِ وغُلِّقَت أبوابُ النار وصُفِّدت الشياطين ))
وإنما تُفَتَّحُ أبواب الجنة في هذا الشهرِ لكثرة الأعمال الصالحة وترغيباً للعاملين ، وتُغلَّقُ أبواب النار لقلة المعاصي من أهل الإيمان ، وتُصفدُ الشياطين فَتُغَلُّ فلا يَخلُصونُ إلى ما يَخلُصون إليه في غيره .
رَوَى الإمامُ أحمد : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أُعطيت أُمتي خمسَ خِصال في رمضانَ لم تُعطهُنَّ أمةٌ من قبلها : خُلُوف فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وتستغفرُ لهم الملائكة حتى يُفطروا ، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جنته ويقول : يُوشِك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصروا إليك ، وتُصفد الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيرهِ ، ويغفرُ لهم في آخر ليلة )) قيل يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القدر قال : لاَ ولكنَّ العاملَ إنما يُوفى أجره ، إذا قضى عَمَلَه ))
أيها الصائمون ..
اعلموا أن لشهر رمضان فضائل لا تحصى ، وكرامات لا تُستقصى ويكفي فيه شرفاً وفضلاً آياتٌ في محكم التنزيل ، تُقرَأُ وتتلى ، وأحاديث تروى .
فيا مُضيعَ الزمانِ فيما ينقص الإيَمانَ ما أراك في رمضان إلا كما في غيره من الزمان !
أما يسوقك إلى الخير ما يسوق ؟
أما يعُوقك عن الشرِّ ما يعوق ؟
متى تصيرُ سابقاً يا مسبوق ؟
إلى متى تُبادرُ سُوق الفسوق ؟
أولُ الهوى سهلٌ ثمَّ تنخرقُ الخروقُ فبادر ثم بادر ، فإن لذاتِ الدنيا كخطفِ البُرُوق .
وبلوغ رمضان نعمةٌ كبيرةٌ على من بَلَغْهُ وقام بحقه بالرجوع إلى ربه ، من معصيته إلى طاعته ، ومن الغفلةِ عنه إلى ذكره ، ومن البُعدِ عنهُ إلى الإنابة إليه .
يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رَجبٍ … حتى عَصَى ربَّهُ في شـهر شعبانِ
لقـد أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَـا … فلا تُصَيَّرْهُ أيْضـاً شَهْرَ عِصْيانِ
وَاتْلُ الْقُرآنَ وَسَبِّـحْ فيه مجتَهِـداً … فَـإنه شِـهرُ تسبيـحٍ وقُـرْآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ … مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْـوَانِ
أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتَبْقَاكَ بَعْدهمـو … حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
* كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبشرُ أصحابه بقُدومِ رمضان ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبشرُ أصحابه يقُولُ : (( قَدْ جَاءكم شهرُ رمضانَ ، شهرٌ مبارك ، كَتَبَ الله عليكم صِيَامَهُ ، فيه تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجِنَانِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الجحيم ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهِا فَقَدْ حُرِمَ )) . رَوَاهُ الإمامُ أحمد وَالنَّسَائىُّ .
قالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا الحدِيثُ أصْلٌ في تَهْنِئَةِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِشَهْرِ رَمَضَانَ ، كَيْفَ لاَ يُبَشَّرُ المؤْمِنُ بِفَتْحِ أَبْوَابِ الجِنَانِ ؟ كَيْفَ لاَ يُبَشَّرُ المُذْنِبُ بِغَلْقِ أَبْوَابِ النِّيرَانِ ؟ كَيْفَ لاَ يُبَشَّرُ العَاقِلُ بِوَقْتٍ يُغَلُّ فِيهِ الشَّيْطَانُ ؟ مِنْ أَيْنَ يُشبِهُ هَذَا الزَّمَانَ زَمَانٌ ؟ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : ( أَتاكُمْ رَمَضَانُ سَيِّدُ الشُّهُورِ فَمَرْحَباً بِهِ وَأَهْلاً . جَاءَ شَهْرُ الصِّيَامِ بِالبَرَكَاتِ ، فَأَكْرِمْ بِهِ مِنْ زَائِرٍ هُوَ آتٍ ) .
أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبَادِ … لِتَطْهِيرِ القُلُوبِ مِنْ الفَسَادِ
فَأَدِّ حُقُوقَهُ قـَوْلاً وفـِعْلاً … وَزَادَكَ فاتَّخِذْهُ لِلمَعادِ
فَمَنْ زَرَعَ الحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا … تَأَوَّهَ نادِماً يَوْمَ الحَصَادِ
يا مَنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنَّا قَدْ قَرُبَتْ أَيَّامُ المُصَالَحَةِ ، يا مَنْ دَامَتْ خَسَارَتُهُ قَدْ أَقْبَلَتْ أَيامُ التِّجَارَةِ الرَّابِحةِ ، مَنْ لَمْ يَرْبَحْ في هَذَا الشَّهْرِ ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَرْبَحُ ، مَنْ لَمْ يَقْرُبْ فيهِ مِنْ مَولاَهُ ، فَهُوَ عَلَى بُعْدِهِ لاَ يَبْرَحُ ، مَنْ رُحِمَ في رَمَضَانَ فَهُوَ المَرْحُومُ ، وَمَنْ حُرِمَ خَيْرَهُ فَهُوَ المَحْرُومُ .
إِذَا رَمَضَانُ أَتَى مُقْبِلاً … فَأَقْبِلْ فَبِالْخَيْرِ يُسْتَقْبَلُ
لَعَلَّكَ تُخْطِئُهُ قابِلاً … وَتَأْتِي بِعُذْرٍ فَلاَ يُقْبَلُ
كَمْ يُنادى: حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ وَأَنْتَ خَاسِرٌ ؟ كَمْ تُدْعَى إِلَى الصَّلاحِ وَأَنْتَ عَلَى الفسادِ مُثَابِرٌ ؟ كَمْ يُدْعَى أَهْلُ الاْجْتِهَادِ فَيُجِيبُونَ وَأَنْتَ عَنِ الإِجَابَةِ نافِرٌ ؟ كَمْ وَصَلَ الأَحْبَابُ إِلَى مَوْلاَهُمْ وَأَنْتَ بِقَدَمِ البِطَالَةِ عَاثِرٌ ؟ فَجِدَّ أَخِي ، هَذِهِ مَوَاسِمُ الخَيْرَاتِ فاغْتَنِمْهَا وَبَادِرْ ، وَهَذَا إِبَّانُ الزَّرْعِ فَهَلْ لِلخَيْرِ باذِرْ ؟
إِخْوَانِي:
أَيْنَ مَنْ كَانَ مَعَكُمْ العَامَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِ ، مِنَ النِّسَاءِ والرِّجَالِ ، يُنافِسُونَكُمْ فِي صَالِحِ الأَعمَالِ ، وَيُخَالِطُونَكُمْ في سَائِرِ الأَحْوَالِ ؟ أَمَا طَحَنَتْهُمْ رَحَى المَنُونِ وَلَمْ تَنْفَعِ الآمَالُ ، وَقُطِعَتْ مِنْهُمُ الأَعْمَارُ وَالآجَالُ ، وَخَلُّوا في ضَرَائِحِهِمْ بِمَا قَدَّمُوا مِنَ الأَعْمَالِ ، وَأَخَذَهُمُ المَوتُ وَمَا دَفَعَ عَنْهُمُ المَالُ وَالعِيالُ ، وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ جَمِيعِ الأَفْعالِ ؟ وَها أَنْتُمْ لِطَرِيقِهِمْ سَالِكُونَ ، وَلِمَدَاخِلِهمْ دَاخِلُونَ ، وَعَلَى سَبِيِلِهِمْ مُتَّبِعُونَ ، فَبادِرُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَوْقاتَكُمْ قَبْلَ الاْرْتِحَالِ ، فَيَا سَعَادَةَ مَنْ قُبِلَتْ مِنْهُ فِي شَهْرِهِ الأَعْمَالُ ، وَيَا شَقَاوَةَ مَنْ فَرَّطَ في صِيَامِهِ بِالإِهْمَالِ .
أخي الصائم :
هَاهِيَ مَوَاسمُ الخيرِ قَدْ دنَتْ ، وهَا أنْتَ مِنَ الذنوبِ اقترفتْ ، وَمِنَ المعاصي ارتكبتْ ، فَسَارعْ في فكاكِ نَفْسِكَ بالنَّدَم ، وَعُدْ إلى ربِكَ بالتَّوْبَةِ وَالحُزْنِ ، مُدَّ إِلَيْهِ يَدَ الاْعْتِذَارِ وَقُمْ عَلَى بابِهِ بِالذُّلِّ وَالاْنْكِسَارِ . وَارْفَعْ قِصَّةَ نَدَمِكَ مَرْمُوقَةً عَلَى صَحِيفَةِ خَدِّكَ بِمِدَادِ الدُّمُوعِ الغِزَارِ ، وَقُلْ : (( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ )) .
قِفْ عَلَى البَابِ بَاكِياً ، وَنَكِّسِ الرَّأْسَ بِالنَّدَمِ شَاكِياً ، وَأَلِحَّ عَلَى الْمَوْلَى العَظِيمِ دَاعِياً ، وَقُلْ بِلِسَانِ الاْعْتِذَارِ ، بِالنَّدَمِ عَلَى الذَُنُوبِ وَالأَوْزَارِ :
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً … فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
إنْ كانَ لاَ يَرْجُوكَ إِلاَ مُحْسِنٌ … فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو المُجْرِمُ
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعاً… فَـإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ ؟
ما لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الدُّعَاء … وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ، ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لاَ تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ ، وَلاَ يَضُرُّهُ العِصيَانُ . يَا مَنْ غَمَرَ البَرِيَّةَ بِالْجُودِ وَالإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ وَالاْْمْتِنَانِ . نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنَا مِنْ عَبِيدِكَ المُفْلِحِينَ ، وَأَوْلِيائِكَ المُتَّقِينَ ، الَّذِينَ أَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ ، وَنَعَّمْتَهُمْ بِأُنْسِكَ وَحَضْرَتِكَ . وَسَقَيْتَهُمْ لَذِيذَ شَرَابِكَ ، وَخَلَعْتَ عَلَيْهِمْ خِلَعَ أَحْبَابِكَ .
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ المَقْبُولِينَ في هَذَا الشَّهْرِ الفَضِيلِ . وَخُصَّنَا فِيهِ بِالأَجْرِ الوَافِرِ وَالعَطَاءِ الجَزِيلِ . واغْفِرْ لَنَا فِيهِ كُلَّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ . وَخَفِّفْ ظُهُورَنَا مِنْ كُلِّ وِزْرٍ ثَقِيلٍ ، وَتَقَبَّلْ فِيهِ يَسِيرَ أَعْمَالِنَا فَإِنَّكَ تَقْبَلُ العَمَلَ القَلِيلَ .
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا يَسِيرَ الأَعْمَالِ ، وَهَبْ لَنَا إِسَاءَتَنَا في الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ . وَسَمِحْنَا عَنِ الغَفْلَةِ وَالإِهْمَالِ ، وَاغْفِرْ اللَّهُمَّ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ ، الأَحْيَاءِ وَالمَيِّتِينَ ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة ، ووفقنا للتزودِ من التقوى قبل النُقلة ، وارزقنا اغتنام الأوقات في ذي المهلة ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين . وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .
ولا تنسوا أخوكم من دعوة صادقة .
أبو ماجــــد
الأربعاء / 3. رمضان . 1443هـ
شكرا اخي بارك الله فيك