الحمد لله وحده ، وصلاةً وسلاماً على من لا نبي بعده ،
فلمّا كان الأدبُ كنزُ العلوم، ومجمعُ الآداب، فقد اهتمّ به المتقدمون وتبعهم على ذلك المتأخرون، ولعل من أوائل أولئك الذين اهتموا بجمع كلامِ الناسِ المحفوظ؛ الذي فيه عونٌ على عمارة القلوبِ ودليلٌ على محامدِ الأمور ومكارمِ الأخلاق "عبد الله بن المقفع" الذي قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله "أحد البلغاء والفصحاء ورأس الكتّاب وأولي الإنشاء" ،
وكتابه الموسوم بـ "الأدب الصغير والأدب الكبير" قد حوى قدراً كبيراً من تلك الدررِ والفوائدِ من كلامِ الفضلاء ، بسبكٍ راقيٍ واسلوبٍ أدبي رفيع .
ومشاركةً في الفائدة ونشراً للخير فهذه ورقاتٌ حوت مختاراتٍ من هذا الكتاب ، لنا فيها إشاراتٌ نطبقها على واقعنا الدعوي المعاش وعلى حياتنا اليومية ، ليس لي فيها سوى الاصطفاء والانتقاء ثم العنونة لكل مقطعٍ بما يسنحُ في الذهنِ من فهم، .
قال ابن المقفع: أما بعد، فإن لكل مخلوقٍ حاجةً، ولكل حاجةٍ غايةً، ولكل غاية سبيلاً.
والله وقّت للأمُور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبّبَ الحاجات ببلاغها.
فغايةُ الناسِ وحاجاتهم صلاحُ المعاشِ والمعاد، والسبيل إلى دَرْكها العقل الصحيح. وأمارةُ صحةِ العقلِ اختيارُ الأمورِ بالبصرِ، وتنفيذُ البصرِ بالعزمِ .
الأدب ينمي العقول
وللعقولِ سجياتٌ وغرائزُ بها تَقبَلُ الأدب، وبالأدبِ تنمى العقولُ وتزكو.
فليعلمِ الكُتّاب
فليعلمِ [الكتّاب والأدباء] والواصفونَ أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً …
فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسنهُ أو يُستحسنُ منهُ، فلا يُعجبنّ إعجاب المخترع المبتدعِ، فإنه إنما اجتناهُ كما وصفنا .
أين أنت ؟
الواصفون أكثرُ من العارفين، والعارفون أكثرُ من الفاعلينَ ، فلينظرُ امرؤ أين يضعُ نفسه .
تعلّم الاقتداء !
إن من أُعين على حفظِ كلامِ المصيبين، وهدي للإقتداء بالصالحين، ووفّق للأخذِ عنِ الحكماء، ولا عليهِ أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية .
اشدد على نفسك !
وعلى العاقل مخاصمةُ نفسه ومحاسبتُها والقضاءُ عليها والإثابةُ والتنكيلُ بها .
اختر بيئتك !
زعم بعضُ الأولينَ أن صُحبةَ بليدٍ نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبةِ لبيبٍ نشأ مع الجهال .
ساعةٌ وساعة !
إنّ استجمامَ القلوبِ وتوديعها زيادةُ قوةٍ لها وفضل بُلغةٍ .
علّم نفسك قبل تعليم غيرك !
من نصّبَ نفسهُ للناسِ إماماً في الدينِ، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمةِ والرأي واللفظ والأخدانِ، فيكن تعليمهُ بسيرته أبلغَ من تعليمه بلسانهِ .
لذوي الأفهام !
فأما التخيّرُ للعمالِ [والقادة] فإنهُ نظامُ الأمرِ ووضعُ المؤونةِ .
فإنهُ عسى أن يكونَ بتخيرهِ رجلاً واحداً قدٍ اختار ألفاً. لأنهُ من كان من العُمالِ خياراً فسيختارُ كما اختيرَ. ولعل عُمالَ العاملِ وعمالَ عُمالهِ يبلغونَ عدداً كثيراً، فمن تبين التخيرَ فقد أخذ بسببٍ وثيقٍ، ومن أسس أمرهُ على غيرِ ذلك لم يجدِ لبنائه قواماً .
همتك !
وفي بُعدِ الهمةِ يكونُ النصب .
قَدَرُ الله آت !
الدنيا دولٌ، فما كان لك منها أتاكَ على ضعفكَ، وما كان عليك لم تدفعهُ بقُوتكَ .
كلامُ اللبيبِ ولقاءُ الإخوان
كلامُ اللبيبِ، وإن كان نزراً، أدبٌ عظيمٌ … ولقاءُ الإخوانِ، وإن كان يسيراً، غُنم حسنٌ .
فقه الواقع !
يدلُ على علمِ العالمِ معرفتهُ ما يدركُ من الأمورِ وإمساكه عما لا يدركُ … ومعرفتهُ زمانهُ الذي هو فيه، وبصرهُ بالناسِ .
كمال العلم
ومن العلمِ أن تعلمَ أنك لا تعلمُ بما لا تعلمُ .
اتبعَ الهوى ثم جحدَ ثم احتجَّ له !!؟
رأسُ الذنوبِ الكذبُ: هو يؤسسُها وهو يتفقدها ويثبتها.
ويتلونُ ثلاثة ألوانٍ: بالأمنيةِ، والجحودِ، والجدلِ، يبدو لصاحبهِ بالأمنية الكاذبة فيما يزينُ لهُ من الشهواتِ فيشجعهُ عليها بأن ذلك سيخفى. فإذا ظهر عليه قابلهُ بالجحودِ والمكابرةِ، فإن أعياهُ ذلك ختم بالجدلِ، فخاصم عن الباطل ووضع لهُ الحجج، والتمس به التثبت وكابر بهِ الحق حتى يكون مسارعاً [للترخص ثم المعصية] .
محكُّ الرجال
كان يقالُ: الرجالُ أربعةٌ: اثنان تختبرُ ما عندهما بالتجربةِ، واثنان قد كُفيت تجربتهما.
فأما اللذانِ تحتاجُ إلى تجربتهما، فإن أحدهما برٌّ كان مع أبرارٍ، والآخر فاجرٌ كان مع فُجّارٍ، فإنك لا تدري لعل البر منهما إذا خالط الفُجّارَ أن يتبدل فيصير فاجراً، ولعل الفاجر منهما إذا خالط الأبرار أن يتبدل براً، فيتبدلُ البر فاجراً، والفاجر براً.
وأما اللذان قد كفيتَ تجربتهما وتبين لك ضوءُ أمرهما، فإن أحدهما فاجرٌ كان في أبرارٍ، والآخر بر كان في فُجّارٍ .
عقلان
لا عقل لمن أغفلهُ عن آخرتهِ ما يجدُ من لذةِ دنياهُ، وليس من العقلِ أن يحرمهُ حظهُ من الدنيا بصرهُ بزوالها .
سخافةُ المتكلم
من الدليلِ على سخافةِ المتكلمِ أن يكون ما يُرى من ضحكه ليس على حسبِ ما عندهُ من القولِ، أو الرجلُ يكلّمُ صاحبهُ فيُجاذبهُ الكلام ليكونَ هو المتكلم، أو يتمنى أن يكون صاحبهُ قد فرغَ وأنصت لهُ فإذا نصتَ لهُ لم يحسنِ الكلامَ .
لا تحرص
لا يطمعنَ الخِبُّ في كثرة الصديق … ولا الحريصُ في الإخوانِ .
بين العاجزِ والحازم
السببُ الذي يُدركُ به العاجزُ حاجتهُ هو الذي يحولُ بين الحازمِ وبين طَلِبتهِ .
الفقرُ بليّة
الفقرُ داعيةٌ إلى صاحبهِ مقتَ الناسِ … وليس من خلةٍ هي للغني مدحٌ إلا هي للفقيرِ عيبٌ، فإن كانَ شجاعاً سمي أهوج، وإن كانَ جواداً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً، وإن كان لسناً سمي مهذاراً، وإن كان صموتاً سمي عيياً .
فقدُ الإخوان غمّ
وليس من الدنيا سرورٌ يعدلُ صحبةَ الإخوانِ، ولا فيها غمٌّ يعدلُ غمَّ فقدهم .
أخوّة أصيلة
ومن المعونة على تسليةِ الهمومِ وسكونِ النفسِ لقاءُ الأخِ أخاهُ، وإفضاءُ كل واحدٍ منهما إلى صاحبهِ ببثهِ.
وإذا فُرّق بين الأليفِ وأليفهِ فقد سُلبَ قرارهُ وحُرمَ سرورهُ .
لا تخذّل .. إذا انطلقت الفكرة !
وأصلُ الأمر في البأسِ والشجاعةِ ألا تُحدّثَ نفسك بالإدبارِ، وأصحابكَ مقبلونَ على عدوهم.
ثم إن قدرت على أن تكونَ أولَ حاملٍ وآخرَ منصرفٍ، من غير تضييعٍ للحذرِ فهو أفضلُ .
للقادة .!
ليعرفِ الناسُ، في ما يعرفونَ من أخلاقك، أنك لا تُعاجلُ بالثوابِ ولا بالعقابِ، فإن ذلك أدومُ لخوفِ الخائفِ ورجاء الراجي.
طوّر من تحت يدك .!
إذا كنت إنما تضبطُ أمورك وتصولُ على عدوكَ بقومٍ لست منهم على ثقةٍ من دينٍ ولا رأي ولا حفاظٍ من نيةٍ فلا تنفعنّكَ نافعةٌ حتى تحوّلهم إن استطعتَ إلى الرأي والأدبِ الذي بمثلهِ تكون الثقة.
لا تحلف .!
إنما يحملُ الرجلَ على كثر الحلفِ إحدى هذه الخصال :
إما مهانةٌ يجدها في نفسه، وضرعٌ وحاجةٌ إلى تصديقِ الناسِ إياهُ.
وإما عيٌّ بالكلامِ، فيجعل الأيمان لهُ حشواً ووصلاً .
وإما عبثٌ بالقولِ وإرسالٌ للسانِ على غيرِ رويةٍ ولا حسنِ تقديرٍ .
درسٌ في الإدارة .!
لا عيبَ على [القائد] ، إذا تعهّد الجسيمَ من أمرهِ بنفسهِ، وأحكمَ المهم، وفوّض ما دون ذلك إلى الكُفاةِ .
عند طرح الآراء .!
إذا أردت أن يُقبلَ قولكَ فصحّح رأيكَ ولا تشوبنّهُ بشيءٍ من الهوى، فإن الرأي الصحيحَ يقبلهُ منكّ العدو، والهوى يردهُ عليكَ الولدُ والصديقُ .
أخوّة الروح
ابذل لصديقكَ دمكَ ومالك، ولعدوك عدلكَ وإنصافكَ، واضنن بدينكَ وعرضكَ على كل أحدٍ.
لا تنتحل رأي غيرك
إن سمعت من صاحبكَ كلاماً أو رأيتَ منهُ رأياً يعجبُكَ فلا تنتحلهُ تزيناً به عند الناسِ، [ولكن انسبه إلى صاحبه] .
فإن بلغَ بك ذلكَ أن تشيرَ برأي الرجلِ وتتكلمَ بكلامهِ وهو يسمعُ جمعتَ مع الظلمِ قلةَ الحياء .
تمامُ الأخوة
ومن تمام حسنِ الخلقِ والأدبِ أن تجودَ نفسكَ لأخيكَ بما انتحل من كلامك ورأيكَ، وتنسبَ إليه رأيهُ وكلامهُ، وتُزيّنهُ مع ذلك ما استطعتَ .
لا تأتي بالعيد .!
واستحي الحياءَ كلهُ من أن تخبرَ صاحبكَ أنكَ عالمٌ وأنهُ جاهلٌ: مصرحاً أو معرضاً .
أخوّتك الخاصة لا تنقطع أبداً !
اجعل غاية تشبّثكَ في مؤاخاةِ من تؤاخي ومواصلةِ من تواصلُ توطينَ نفسكَ على أنه لا سبيل لكَ إلى قطيعةِ أخيكَ، وإن ظهرَ لكَ منهُ ما تكرهُ، فإنهُ ليس كالمملوكِ تعتقهُ متى شئتَ ! أو كالمرأة التي تُطلقها إذا شئتَ ! ولكنهُ عرضكَ ومروءتكَ ، فإنما مروءةُ الرجلِ إخوانهُ وأخدانهُ .
لا تفلّها مع الناس .. !
البس للناسِ لباسينِ ليس للعاقلِ بدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءةَ إلا بهما :
لباسَ انقباضٍ واحتجازٍ من الناسِ، تلبسهُ للعامةِ فلا يلقونكَ إلا متحفظاً متشدداً متحرزاً مستعداً.
ولباسَ انبساطٍ واستئناسٍ، تلبسهُ للخاصةِ الثقاتِ من أصدقائك فتلقاهمُ بذاتِ صدركَ وتفضي إليهم بمصونِ حديثكَ وتضعُ عنكَ مؤونةَ الحذرِ والتحفظِ في ما بينكَ وبينهم.
ليس الصبرُ صبرَ الحمير !
ليس الصبرُ الممدوحُ بأن يكون جِلدُ الرجلِ وقَاحاً على الضربِ، أو رجلهُ قويةً على المشي، أو يدهُ قويةً على العملِ. فإنما هذا من صفاتِ الحميرِ.
ولكن الصبرَ الممدوحَ أن يكونَ للنفسِ غلوباً، وللأمورِ محتملاً، وفي الضراء متجمّلاً، و لنفسهِ عند الرأي والحفاظِ مرتبطاً وللحزمِ مؤثِراً، وللهوى تاركاً، وللمشقةِ التي يرجو حسن عاقبتها مستخفّاً، وعلى مجاهدةِ الأهواء والشهواتِ مواظباً، ولبصيرتهِ بعزمهِ منفّذاً.
لا تُشهر العداوة !
يكن مما تنظرُ فيه من أمرِ عدوكَ وحاسدكَ أن تعلمَ أنهُ لا ينفعكَ أن تخبر عدوكَ وحاسدكَ أنكَ لهُ عدو، فتنذرهُ بنفسك وتؤذنهُ بحربكَ قبل الإعداد والفرصةِ، فتحملهُ على التسلحِ لكَ، وتوقدَ نارهُ عليكَ.
اعدل في عداوتك !
إن كنتَ مكافئاً بالعداوةِ والضررِ فإياكَ أن تكافئ عداوةَ السرِ بعداوةِ العلانية، وعداوةَ الخاصةِ بعداوةِ العامةِ، فإن ذلك هو الظلمُ.
[وأعظمَ من ذلك قوله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه وليّ حميم)]
احذر فضولَ النظر !
اعلم أن من أوقعِ الأمورِ في الدينِ وأنهكها للجسدِ وأتلفها للمالِ وأقتلها للعقلِ وأزراها للمروءةِ وأسرعها في ذهابِ الجلالةِ والوقارِ الغرامِ بالنساء.
حُمقٌ وشقاءٌ وسَفَه . !
ومن العجبِ أن الرجلُ الذي لا بأس بلبهِ ورأيهِ يرى المرأةَ من بعيدٍ متلفقةً في ثيابها، فيصوّر [الشيطان] لها في قلبهِ الحسن والجمالَ حتى تعلقَ بها نفسهُ من غير رؤيةٍ ولا خبرِ مخبر ! ثم لعلهُ يهجمُ منها على أقبحِ القبحِ وأدمّ الدمامةِ، فلا يعظهُ ذلكَ ولا يقطعهُ عن أمثالها. ولا يزالُ مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبقَ في الأرضِ غيرُ امرأةٍ واحدةٍ، لظن أن لها شأناً غير شأنِ ما ذاقَ، وهذا هو الحمقُ والشقاء والسفهُ.
إذا ازدادت التكاليف !
إذا تراكمت عليكَ الأعمالُ فلا تلتمسِ الروحَ [الاستراحة] في مدافعتها بالروغانِ منها. فإنهُ لا راحة لكَ إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنكَ، والضجر هو الذي يُراكمُها عليكَ.
الدنيا متقلّبةٌ فلا تضْمن !
واعلم أن المستشار ليس بكفيلٍ، وأن الرأي ليس بمضمونٍ. بل الرأيُ كلهُ غررٌ، لأن أمورَ الدنيا ليس شيءٌ منها بثقةٍ، ولأنه ليس من أمرها شيءٌ يدركهُ الحازمُ إلا وقد يدركهُ العاجزُ. بل ربما أعيا الحَزَمَةَ ما أمكنَ العَجَزَةَ. فإذا أشارَ عليكَ صاحبكَ برأي، ثم لم تجد عاقبتهُ على ما كنتَ تأملُ فلا تجعل ذلك عليهِ ذنباً، ولا تلزمهُ لوماً وعذلا .
تم ولله الحمد( منقول)