يتجلى ذلك في معرفة وحدات الفكر المنطقي وقواعده، والحرص عمليا، على توافق النتائج مع المقدمات.
أولا: معرفة وحدات الفكر المنطقي وقواعده
وتتمثل هذه الوحدات في التصور وما يقتضيه من مفهوم وماصدق، والحد، والتعريف، والحكم والقضية، وبعض آليات الاستدلال.
1- التصور والحد
إن التصور فكرة مجردة كلية في مقابل الصور الحسية مثل "الإنسان" الذي ليس حكرا على زيد ولا على عمرو، وإنما هو مفهوم شامل يحتوي على جميع الناس. فهذا التصور لا تقابله صورة حسية بحيث يُختزل في هذا الشخص أو ذاك. فالتصور ذهني ليس له وجود في الخارج لأن العقل عندما يفكر يستغني عن المدركات الحسية وصورها الجزئية ليدرك رموزها التي هي معان كلية. فلا توجد صورة أو شيء بالذات يسمى إنسان، ولكن الموجود هو سقراط و واصل بن عطاء و أبو حنيفة وديكارت… فالتصور عام ويشمل سائر الأفراد من نوع واحد أو جنس واحد.
وينظر علماء المنطق إلى التصور من وجهتين: وجهة المفهوم (أي التضمن)، ووجهة الماصدق (أي الشمول). مفهوم "الإنسان" هو مجموع الصفات والخصائص التي تشترك فيها كائنات بشرية عديدة، من مثل كونه حيوانا عاقلا اجتماعيا فانيا الخ. وماصدقُه هو مجموع الأفراد الذين يؤلفون الجنس البشري والذين يصدق عليهم حد الإنسان. والملاحظ أن بين المفهوم والماصدق علاقةً عكسية. فكلما اتسع المفهوم ضاق الماصدق، وكلما ضاق المفهوم اتسع الماصدق.
والحقيقة أن مفهوم أي تصور هو تعريفه أي تحديد ماصدقه بتحليل مفهومه. ويكون هذا التعريف سليما إذا كان جامعا لأفراد النوع، مانعا لغيرهم من الدخول فيه. ولا يكون جامعا مانعا إلا عن طريق تحديده بالجنس القريب (أي الذي يأتي ماصدقه مباشرة فوق ماصدق الحد المعرَّف) وبالفصل النوعي (أي بالخاصية التي تميز النوع المعرَّف). فإذا عرفنا الإنسان بأنه حيوان مسؤول، كانت كلمة حيوان جنسا قريبا وكلمة مسؤولٌ فصلا نوعيا.
و"التصور ـ بهذا المعنى ـ هو إدراك الماهية من غير أن يُحكم عليها بنفي أو إثبات" مثل ماهية الإنسان والكتاب والخير. وهو يختلف عن الصورة الحسية التي تشير إلى هذا الإنسان (زيد) أو إلى هذا الكتاب (كتاب إشكاليات فلسفية) أو إلى هذا الفعل الخيِّر (صِدْقُ عمرو في معاملته للآخرين). وأما الحد فهو التصور عندما تخلع عليه اللغة كلمةً أو اسما أي الصيغة اللفظية التي تُعبِّر عن المعنى المتصوَّر. وهو يختلف عن الكلمة. فقد يكون الحد مؤلفا من أكثر من كلمة واحدة مثل الحيوان المسؤول ، وأهل السنة، والمصالحة الوطنية.
2- التعريف: مقولاته وقواعده
التعريف كما رأينا، هو القول الشارح لمفهوم الشيء؛ أو القول الدال على ماهية الشيء، وفيه تُستوفَى جميعُ ذاتياته؛ وهو لهذا، يتم بالجنس والفصل القريبين. والشرط الأساسي الذي يقوم عليه، هو أن يكون ماصدق القول المعرِّف والشيء المعرَّف واحدا، وأن يكون مميَّزا، بمعنى أنه يجب أن ينطبق على كل المعرَّف ولا شيء سوى المعرَّف. ولكي يؤدي التعريف وظيفته، حدَّد المناطقة مقولات وقواعد؛ أهم المقولات هي:
أ- الجنس: هو الجامع لحقائقَ مُشترَكةٍ لمختلفِين وهو نوعان: جنس قريب يُسحب على جميع الحقائق المشتركة فيه كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والحصان، وجنسٌ بعيد يُسحب على بعض الحقائق المشتركة فيه كالجسم بالنسبة إلى الإنسان والجبل.
ب- النوع: وهو الجامع لِمتَّفقِين في الحقيقة، ومختلفين في الأشخاص كالإنسان بالنسبة إلى هذا أو ذاك من الناس.
ج- الفصل النوعي: وهو ما يميز الشيء من بقية الأنواع الداخلة تحت جنسه؛ كالعاقل أو المسؤول بالنسبة إلى الإنسان. أما الحيوانية في الجنس القريب، فهي صفة مشتركة بين الإنسان وأيِّ حيوان.
د- الخاصة: وهي الدالة على ما يتميز به الشيء من خاصة عَرَضيةٍ كالابتسامة أو الطموح بالنسبة إلى الإنسان.
هـ العرض العام: وهو الدالُّ على ما يتميز به الشيء كخاصة عامة يشترك فيها مع شيء آخر خارج نوعه كالتناسل بالنسبة إلى الإنسان والحيوان.
وأهم قواعد التعريف قاعدتان:
أ- يجب أن يكون التعريف معبِّرا عن ماهية الشيء، وماهيةُ الشيء تتألف من الجنس القريب والفصل النوعي، بحيث يمكن استبدال التعريف بشرحه أو العكس.
ب- يجب أن يكون التعريف جامعا مانعا؛ نقول: جامعا، لأن كل صفة يتركب منها فيه، تنطبق على كل أفراد المعرف؛ ونقول: مانعا، لأن مجموع الصفات التي يتركب منها تمنع دخول سواها.
3- الحكم والقضية
إن العالِم المنطقي يُعنى بشروط الأحكام لتكون صحيحة، ويحاول أن تكون منطقية لا تناقض بين حدودها، فلا يبحث إلا عن الأحكام الكاملة المؤلفة من حدين ورابطة بينهما، والأحكام الظاهرة المعبَّر عنها بقضايا لفظية.
فالحكم هو التصديق العقلي بوجود نسبة ما بين المعاني، أو إيجاد علاقة بين شيئين والتصديقُ بها إثباتا كان أو نفيا؛ وإذا وقع التعبير عنه في اللغة، سمي قضية. وما خرج عن نطاق هذا الإقرار، لا يعتبر حكما مثل الأمر والنهي والاستفهام. والقضية تتألف من حدَّين: الموضوع والمحمول وبينهما رابطة تسمى الأداة وتتمثل في الضمير (هو أو هي…)؛ وسيان إن وُجدت أو حذفت كقولنا المعتزلة عقلانيون أو المعتزلة (هم) عقلانيون.
4- أنواع القضايا
والقضية نوعان: بسيطة، وتعرف بالقضية الحملية، لأن الموضوع فيها يُتبع بمحمول كما رأينا، وتفيد الاتحاد ومركبة من قضيتين، وتعرف بصفتها الشرطية، وهي على ضربين: شرطيةٌ متصلة، وتفيد الاستلزام كقولنا: إذا كانت المصالحة عروة المجتمع، فهي تسامح، وتسمى القضية الأولى في المركبة مقدما، والأخرى تاليا؛ وشرطيةٌ منفصلة وتفيد التنافر كقولنا: إما أن يكون القاضي عادلا أو ظالما. وتصنف القضايا الحملية عادة تبعا لمبدأي الكم والكيف، ولهذا فهناك أربعة أنواع من القضايا وهي:
الكليـة الموجبـة (ك): الإنسـان ذكي* الكليـة السالبة (ل) ليس الإنسان ذكـيا
الجزئية الموجبة (ب): بعض الناس أذكياء * الجزئية السالبة (س):ليس بعض الناس أذكياء
وتصنف القضايا الشرطية من حيث الكيف إلى:
الشرطية المتصلة الموجبة الشرطية المتصلة السالبة (وهي نفي للموجبة بليس)
الشرطية المنفصلة الموجبة الشرطية المنفصلة السالبة(وهي نفي للموجبة بليس).
5- آليات الاستدلال: المباشر والقياس
أ- الاستدلال المباشر:هو حركة الفكر من قضية إلى قضية أخرى لازمة عنها مباشرة ومن دون التوسط بقضية أخرى. و له صورتان: التقابل والعكس:
* التقابل هو ما ينتج عن القضية الواحدة بحكم تغير كيفها وكمها. فإذا وقع التغير في الكم والكيف ترتب عن ذلك، تناقض بين (ك) و(س) من جهة، وبين (ل) و(ب) من جهة أخرى؛ والمتناقضتان لا تصدقان معا، ولا تكذبان معا؛ وإذا صدقت الواحدة كانت الأخرى كاذبة بالضرورة. وإن هو مسَّ الكيف فقط، ترتب عنه أمران: الأول هو تضاد بين (ك) و(ل)، فلا تصدقان معا، وقد تكذبان معا؛ ولا يمكن تصديق الواحدة انطلاقا من كذب الأخرى؛ والثاني هو دخولٌ تحت التضاد بين (ب) و(س)، حيث تصدقان معا ولا تكذبان معا؛ ولا يمكن تكذيب الواحدة انطلاقا من صدق الأخرى. وإن مس التغير الكم ترتب عنه تداخل بين (ك) و(ب)، وكذا بين (ل) و(س)؛ حيث إذا صدقت الكلية صدقت الجزئية، وإذا كذبت الجزئية كذبت الكلية؛ ويتعذر استنتاج كذب الكلية من صدق الجزئية.
* والعكس هو استنتاج قضية من أخرى تخالفها في موقع كل من الموضوع والمحمول. فعكس قضية هو تحويلها إلى أخرى، موضوعُها محمول الأصل، ومحمولها موضوع الأصل مع الاحتفاظ بالصدق والكيف أي الإيجاب والسلب. مثلا: "لا إنسان خالد" (الأصل) معكوسته "لا خالد إنسان". وتُشترط في صحة عملية العكس، قاعدتان:
أن يتَّحدا في الكيف بأن يكون كيفُ المعكوسة هو كيف الأصل؛
وألا يُستغرق حد في المعكوسة لم يكن مستغرقا من قبلُ في الأصل.
وتطبيق هاتين القاعدتين تبيِّن إمكانية تحويل القضية الأصلية إلى معكوستها ما عدا الجزئية السالبة لاستغراق ما لم يكن مستغرقا في الأصل. وعلى هذا الأساس، تُعكس القضية من (ل) إلى (ل)، ومن (ب) إلى (ب)، ومن (ك) إلى (ب) فقط، مع تغيير الكم في موضوع المعكوسة.
ب- القياس (أو الاستدلال غير المباشر) وقواعده
* القياس هو على حد قول أرسطو "كلام متى وضعنا فيه شيئا لزم عنه شيء آخر بالضرورة". ويعني بالشيء الموضوع، المقدمتين (الكبرى والصغرى)، وبالشيء الآخر، النتيجة التي تلزم عنهما. فهو مؤلف من ثلاث قضايا. وهذه القضايا الثلاث يدعوها المناطقة على التوالي: المقدمة الكبرى، والمقدمة الصغرى، والنتيجة. ولو حللنا هذا القياس، لوجدنا أنه يحتوي على خصائص أساسية. إذا قلنا مثلا: (كل إنسان فان، أحمد إنسان، إذن، أحمد فان)، نكون قد استعملنا قياسا يتألف من مقدمتين ونتيجة. وكلٌّ من المقدمتين والنتيجة يتألف من حدين، أحدهما موضوع، والآخر محمول؛ وبين الحدين رباط مضمَر تقديره (هو). ثم لو نظرنا إلى القياس من زاوية أخرى، لوجدناه يتألف من ثلاثة حدود رئيسية: (إنسان) و(فان) و(أحمد)، وهي تختلف فيما بينها من حيث الشمولُ والتضمن، أي أن بعضها يشمل الآخر، والآخر متضمن فيه. فنحن ندعو (فان) حدا أكبر، لأنه يشمل كل إنسان، في حين ندعو (أحمد) حدا أصغر، لأنه متضمن في (إنسان) الذي ندعوه حدا أوسط. والمقدمة التي تحمل الحد الأكبر تُدعى كبرى؛ والمقدمة التي تحمل الحد الأصغر، تدعى صغرى. والحد الأوسط يختفي في النتيجة، لأن وظيفته تنحصر في الربط بين الحدين. ويُشترط فيه أن يكون مستغرَقا في إحدى المقدمتين. والقياس الذي نحمِّله أكثر من ثلاثة حدود، لا تترتب عنه نتيجة صحيحة، لأننا نقع فيما يدعوه المناطقة، بأغلوطة الحد الرابع. مثلا، إذا قلنا: (وردةُ ماءٌ مُنظِّفٌ، ووردةُ ابْنَتي)، فلا يجب أن نستنتج، ابنتي ماء منظِّف. فعلى الرغم من أن كلتا المقدمتين صحيحة، فإن النتيجة خاطئة، لأن الحدود الواردة فيهما، قد استُعملت لِمُغالطتنا: فكلمة (وردة) في الأول يختلف مدلولها عنه في الثانية. وشتان ما بين اسم السائل المنظف، واسم العَلَم الخاص بِالاِبنة. لدينا في هذا القياس أربعة حدود بدلا من ثلاثة، لأن الحد الأوسط يتضمن هويتين.[20] وينبه أرسطو إلى حقيقةٍ، وهي أن شكل القياس يتوقف على موقع الحد الأوسط من المقدمتين: فإذا كان الحد الأوسط موضوعا في الكبرى ومحمولا في الصغرى، كان الشكل الأول؛ وإذا كان محمولا في كلتا المقدمتين كان الشكل الثاني؛ وإذا كان موضوعا في كلتيهما، كان الشكل الثالث؛ ويذهب أرسطو إلى أن الأقيسة أنواع، وأنه ليس كل قياس برهانا. ولهذا اشترط في مقدمات القياس الصحيح: أن تكون حقيقيَّةً، وأن تكون أوليَّة وبديهيَّة، وإلا لاحْتاجت بدورها إلى برهان، وأخيرا، أن تكون أسبق من النتيجة وأبْيَنَ منها.
ولقد استبدل المدرسيون الحدود برموز تسهِّل عملية إدراك موقع الحد الأوسط. وتوضيحا لذلك، نرمز بـ(س) إلى الحد الأوسط، وبـ(م) إلى الحد الأكبر، وبـ(ض) إلى الحد الأصغر.
(س) هو (م ) (م ) هو (س) (س) هو (م ) هذا ما أشار إليه أرسطو، كما
(ض) هو (س) (ض) هو (س) (س) هو (ض) أسلفنا.
ولهم في ذلك شكل رابع، وإن اختلف فيه مناطقة القرون الوسطى، وهذا الشكل هو عكس الأول: (م ) هو (س)
(س) هو (ض)
* قواعد الأشكال الأربعة: للأول قاعدتان، الأولى أن تكون الصغرى موجبة، والثانية أن تكون الكبرى كلية؛ وللشكل الثاني، قاعدتان، الأولى أن تكون إحدى المقدمتين سالبة، والثانية أن تكون الكبرى كلية؛ وللشكل الثالث قاعدتان، الأولى أن تكون الصغرى موجبة، والثانية أن تكون النتيجة جزئية؛ وللشكل الرابع ثلاث قواعد، الأولى إذا كانت الكبرى موجبة، وجب أن تكون الصغرى كلية، والثانية إذا كانت الصغرى موجبة، وجب أن تكون النتيجة جزئية، والثالثة إذا كانت إحدى المقدمتين سالبة، وجب أن تكون الكبرى كلية.
ثانيا: توافق النتائج مع المقدمات
1- مبادئ العقل
إن الربط بين حدود الحكم والانتقال من قضية إلى أخرى، وحتى في فهم الموضوعات الخارجية وعلائقها، كل ذلك لا يكوناعتباطيا، وإنما يعتمد على مبادئ أولية تدعى بالمبادئ المديرة للمعرفة. ويسمى مجموعها "بالعقل". فإذا قلتَ "إن المعتزلة ليسوا بمفكرين" من قياس تتألف مقدمتاه من (كلُّ أهل العلم مفكرون)، و(المعتزلةُ من أهل العلم)، كان قولي هذا مخالفا للعقل ومبادئه أيضا. وإذا قلت "المثلث مربع" لم يَصِحَّ قولي هذا، لأن في ذلك تنافرا؛ وهذه المبادئ هي مبدأ الهوية (وما يتضمنه من مبدأي عدم التناقض والثالث المرفوع) ومبدأ السبب الكافي، التي تؤلف البنية المنطقية للعقل.[21] وهي مبادئ أولية لا تُستخلص من التجربة ولا من الاستنتاج انطلاقا من مبادئ أخرى، لأن كل تجربة تخضع لها؛ وهي مبادئ تشكل أساس كل المبادئ. إنها بديهية في حد ذاتها، ولا يمكن البرهنة عليها. وهي عالمية ومشتركة لكل العقول، وكل العقول محكومة بها. وهي أيضا، شرط للحوار، والضامن للتوافق الممكن بين كل العقول باختلاف أعمار أصحابها وأجناسهم وسلالاتهم وثقافاتهم. وإنها أخيرا، تحدد الممكن والمستحيل.
أ- مبدأ الهوية هو الشرط الجوهري للخطاب العقلي، لأنه إذا نحن لم نقبله، فإن مدلول المفاهيم يمكن أن يتغير في كل لحظة، وهذا معناه أنه لا يمكننا أن نقول كلاما متماسكا. وهو الأساس الذي يقوم عليه الاستنتاج الصوري والرياضي. فإذا قبلنا بصحة قانون كلي أو مبدأ عام، فلا بد لنا من أن نقبل بصحة الجزئيات المتضمَّنة في هذا القانون الكلي. ومفاده أن ما (هو) (هو) أو أن (أ) هو (أ) أو أن الشيء لا يمكن أن يكون هو وليس هو في آن واحد. ويحتوي ضمنيا، على مبدأين معروفين هما:
ب- مبدأ عدم التناقض: وبمقتضاه، لا يمكن أن يكون الشيء (هو) و (لاهو) في نفس الوقت أو أن يكون (أ) هو (لا أ). فمن قبيل المستحيل مثلا، القول بأن الأرض كروية ولاكروية.
ج- مبدأ الثالث المرفوع: وهو يقتضي الأخذ بأحد طرفي القضية: إما أن يكون الشيء (أ) أو (لا أ)، لأن المبدأ العقلي يفرض بالضرورة أن تكون الأرض مثلا، إما كروية أو لاكروية، ولا وسط بينهما.
د- مبدأ السبب الكافي يجسد اعتقاد أن لكل حادثة سببا يفسر حدوثها؛ وأن نفس الأسباب تُعطينا دائما نفس النتائج. إلا أن هذه العلاقة السببية لا تكفي لفهم الحادثة في المجال العلمي لأنه يتعين فيه، البحث عن العلاقات الثابتة بين الظواهر. وهو الأمر الذي يوضح إيمان العالم بمبدأين: الحتمية والاطراد.
2- انتقاء المقدمات واحترام الضرورة الملزمة
ويبدو أنه بقدر ما يأخذ الفكر بهذه المبادئ وقواعد الاستدلال مع الالتزام بها ميدانيا، وانتقاءِ أسلمِ المقدمات، يجد إمكانيات انطباقه مع نفسه. ولعل السبيل الذي يصل المقدمات بالنتائج المترتبة عنها بالضرورة، هو أكثر السبل استقامةً المؤدي إلى تمتين تماسك الفكر وتحصينه من التنازع مع نفسه. وبتعبير معكوس، فإن عدم وضوح المفاهيم والحدود وعدم ضبط العلاقات فيما بينها وبين القضايا، وعدم الاكتراث بدور مبدأ الهوية في تماسك الاستدلال، كل ذلك من شأنه أن يشوش العقل وبالتالي يترك خطابه فريسة للسفسطة والسذاجة. إلا أنه لا معنى لانطباق الفكر مع نفسه من الناحية الصورية، إذا لم تكن المقدمات سليمة وبديهية يأخذ بها كل واحد ولم يُحافظ على مبدأ الهوية ولم تضبط المفاهيم بدقة. فإذا لم نحدد مضمون الحدود وطبيعة علاقاتها فيما بينها، نقع في انزلاقات، وقد نُتَّهم بالسفسطة. فانطباق الفكر مع نفسه يتطلب حسن انتقاء المنطلقات، واحترام الضرورة المنطقية التي تستوجبها.
III- وهل حصول هذا الانطباق كاف لضمان وفاق جميع العقول
أولا: قد يحصل الانطباق ولا تتفق العقول
1- إن الفكر قد ينطبق مع نفسه من الناحية الصورية المجردة، ولكن دون أن يقتنع غيرُه بالمضمون الذي يحمله؛ فقد يعبر عن قضية دينية أو سياسية، وله كاملُ التصرف في إضفاء ما يريده من معنى على الحدود التي يستخدمها. إن استخدام اللغة الشائعة في المنطق الصوري أو التحليلي يؤدي إلى مغالطات والتباسات. يقول "بول فاليري": "ليس للمنطق إلا مزايا جدُّ متواضعة حينما يستخدم اللغة العادية، أي دون تعريفات مطلقة".[22] ويقول مويي: "إن اللغة غير دقيقة. فالكثير من أهم ألفاظها مبهم […] و العلم يتكلم لغة في غاية الدقة، لغة الرياضيات التي تمكَّن بناؤها منذ ألفيتين من التخلص من المبهمات".[23] ويقول ثابت الفندي: ما دام المنطق يتعامل بالألفاظ لا بالرموز، فإنه يبقى مثار جدالٍ حول معاني المفاهيم والتصورات المستعملة، فضلا عن عُقمه إذا تعلق الأمر بالقياس الأرسطي.
2- إن المنطق الصوري يصلح للمناقشة والجدل أكثر مما يصلح للبحث عن الحقيقة واكتشافها.[25] ولما كان الغرض منه هو إفحام الخصم لا اكتشاف الحقيقة الموضوعية، فإن المنطق يتحول إلى فلسفة للنحو من حيث إنه يُعنى بلغة البرهنة والمحاجة والتفنيد لكسب قضية.
3- هذا فضلا عن أنه ضيّق لا يعبّر عن كل العلاقات المنطقية، وأنه يكتفي فقط، بالتحليلات الفكرية. إن نتائج القياس لا تأتي بشيء جديد زائد على المقدمات، حتى مع افتراض مطابقة مقدماته للواقع. واستنتاجُ غير ما تتضمنه المقدمتان، يُفضي إلى الأخطاء؛ لأن القياس يكون صحيحا عندما يكون تحصيل حاصل (Tautologie)؛ فهو يبرز ما نعلمه ولا يكشف عما نجهله. و شرط الاستنتاج الصحيح أن ينتهي بنا إلى علم جديد، لا إلى إعادة ما تتضمنه المقدمتان. و لهذا يبدو المنطق الأرسطي "مغلقا ومُنقضيا".
ثانيا: من إمكان الإفحام إلى ضرورة الإقناع أو من الألفاظ إلى الإشارات ومن السكون إلى الحركة
وسدًّا للنقص الذي عرفه المنطق الصوري، وتماشيا مع البحث عن الجديد، وتكيُّفا مع متطلبات الواقع المتغير، اتجهت اهْتمامات المناطقة والرياضيين والعلماء إلى أساليب جديدة تسمح للفكر بالانتقال من اللفظ (أو التصور) إلى الرمز، ومن عالم المجردات إلى عالم المحسوسات، أي من المنطق الصوري إلى المنطق الرمزي، وكذا الموازاة إلى المنطق المادي.
1- المنطق الرمزي أو اللوجستيك
لم يعرف المنطق الصوري اتجاها مخالفا لاتجاه المنطق الأرسطي إلا في منتصف القرن التاسع عشر. والصفة المميِّزة لهذا الاتجاه هي التركيب أو الإنشاء، أي الاستدلال على قضايا جزئية بالاستناد إلى مبادئ أولية عامة كالبديهيات (مثل الكل أكبر من أحد أجزائه) والمصادرات (مثل أن المتساويين لثالث متساويان) والتعريفات. ونتائج هذا الاستدلال ليست متضمَّنة في المبادئ المسلم بصحتها سابقا. إنها "تـُبْنَى مع قضاياها". فلو كان علينا الرد على السؤال التالي: كم يساوي مجموع زوايا المثلث، لقلنا بأنه يساوي قائمتين لأننا نعتمد على مبدأ معلوم لدينا مسبقا، وهو أن زاوية الخط المستقيم لجهة واحدة تساوي قائمتين؛ ويبقى علينا انطلاقا من المعلوم، أن نبني استدلالنا غزوًا للمجهول، وذلك بأن نمدد أحد أضلاع المثلث. ومن المميزات الأساسية لهذا الاستنتاج، استعمال نظام ثابت من الرموز. وهنا وقع الانصراف من اللغة الشائعة إلى لغة الرموز الجبرية. وما أن أطل القرن العشرون حتى ازدهر المنطق. وهو لا يستخدم الرموز فقط، ولكنه يريد لنفسه أي يشير إشارة دقيقة إلى قواعد استعمال الرموز. وهذا ما يسمى باللوجستيك.
فلقد تواضع المناطقة المحدثون على بعض الرموز، ولم يتفقوا عليها اتفاقا كليا. وعندها، أصبح من الممكن مثلا، أن نشير إلى العطف أو الجمع بالرمز ( ) وإلى الأداة (أو) بالرمز ( ) وإلى التضمن بالرمز ( ). وعلى هذا الأساس يمكن أن نتصور العطف أو الجمع بين قضيتين بـ (أ ب). ولو تأملنا حالات صدق القضيتين، للاحظنا أن (أ ب) تكون صادقة عندما تكون (أ) صادقة و(ب) صادقة. أما إذا كانت (أ) صادقة و(ب) كاذبة أو كانت (أ) كاذبة و(ب) صادقة أو كاذبتين معا، فإن النتيجة تكون كاذبة. أما قضية (أ ب)، فهما يصدقان عندما تكون إحداهما على الأقل صادقة. أما إذا كانت (أ) كاذبة و(ب) كاذبة، فلا يمكن أن تكون (أ ب) صادقة.
هكذا إذن، لم تعد اللغة هنا، اللغة العادية كما في القياس أو الاستنتاج التحليلي. إنها مجموعة من الإشارات المؤلّفة على صورة الرياضيات (Algorithme). وعممها أصحابها على جميع أصحاب المقال من مادة و صورة أي على الحدود المفردة أو التصورية وعلى القضايا من حيث هي قضايا، وعلى العلاقات المنطقية ذاتها. وهذا ما يتلاءم مع روح العصر. ثم إن الارتباط بين المبادئ والنتائج ليس تحليليا كما في القياس، بل هو إنشائي أي يكسبنا معرفة جديدة زائدة على المقدمات، وينقل الفكر من المعلوم إلى المجهول.
ومن الخطأ أن يَظُنَّ ظان أن هذه المبادئ العقلية لا تتغير بتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال، فإن استقراء تاريخ العلم عامة يشهد بأن هذه المبادئ قد نشأت على صورة أخذت في التطور حتى بلغت صورتُها الراهنة في أذهاننا، وفي مختلف الدراسات، ما يؤيد هذه الحقائق.
2- المنطق الثابت والمنطق المتغير:
أ- يقسم المناطقة المنطق إلى صوري ومادي، الأول يهتم بالتصورات والمفاهيم والرموز أي بالفكر من حيث صورته، والثاني يتجه إلى الأشياء ويهتم بالفكر من حيث مادتُه. وعلى هذا الأساس، يذهب لالاند[27] إلى التمييز بين ما يسميه العقل المكوَّن والعقل المكوِّن؛ الأول عقل داخلي يفرض نفسه (وهو ساكن يمثل مجموعة المبادئ الثابتة المديرة للمعرفة)؛ والثاني عقل ديناميٌّ يتكوَّن في أثناء نشاطِه ليصبح قادرا على تشكيل أدواته (المبادئ) بنفسه أو تغييرها وتكييفها حسب ما يواجهه من معطيات حسية جديدة. فهو في نظر التجريبيين، دائما في تكوُّن مستمر، لأنه اللوحة التي تنطبع فيها معطيات التجربة. وما دامت المعرفة تأتي كلُّها من التجربة، فليس هناك إلا المبادئ البَعدية أي التي تأتي عن طريق الإحساس والعادة والاعتقاد وتداعي الأفكار.
لقد بين ليفي برول في عدد من كتبه، أن الذهنية البدائية تختلف عن الذهنية المتحضرة اختلافا جذريا. فهي متمردة عن مبدأ الهوية وعدم التناقض إذ أن الأشياء يمكن أن تكون نفسها وشيئا آخر غيرَها؛ فهي ذهنية لا تدرك الأشياء كما ندركها نحن.[29] كما أن بعض الأنثروبولوجيين وفلاسفة العلوم بينوا أن مبدأ السببية ـ باعتباره مبدأ عالميا للعقل ـ أخذ يطرح تساؤلات أمام قضايا التفكير السحري واكتشافات تثير الشك في مبدأ الحتمية. إن الإيمان بالقوى المفارقة، لا يؤخذ في الذهنيات السحرية بمثابة الإيمان العلمي بالسبب في مفهومه المادي. كما أن مبدأ اللاحتمية القائل بأن هناك ظواهر تنفلت من نظام الكون وخاصة في الفيزياء الكوانتية الاحتمالية مع هيزنبرغ أخذ يجدد النظر في قواعد العلم وأسسه.
ب- المنطق المتعدد القيم
إن تطور الرياضيات والفيزياء (التي تمثل حاليا العلوم التي يسعى المناطقة على أساسها إلى استنباط الأدوات الواقعية للفكر الموضوعي) بيَّن أن هناك حالات لا يكفي فيها المنطق الثنائي القيمة. لنأخذ مثالين: هناك نظرية في الرياضيات تتعلق بخصوصية الأعداد الأولى (نظرية فيرما) التي ما تزال إلى اليوم، مثبَتة ولكننا لم نستطع البرهنةَ عليها. فهي ليست مسلَّمة من حيث إننا لسنا أحرارا في قبولها أو رفضها؛ إنها قانون حسابي غير كاذب (لأنه مثبت)، ولكنه ليس صادقا (لأننا لا نستطيع البرهنة عليه). ومن جهة أخرى وفي الفيزياء، فإن النظريتين حول الإشعاع الجُسَيْمي أو التموُّجي اللتين كانتا سابقا متناقضتين، تظهران اليوم، لامتناقضتين. فكل واحدة منهما لا هي صادقة ولا هي كاذبة، ولكنها تُعتبر صادقة أو كاذبة حسب المجموعة التجريبية التي نعمل فيها.
وفيما يتعلق بتجديد الفكر المنطقي، يمكن القول بأن تطور المنطق التركيبي من هيجل إلى هاملين، يكفي لتوعيتنا بوجود مبدأ ثالث للعقل، وهو المبدأ الجدلي للوحدة والتركيب. إنه ـ بفعل ممارسته في عملية الفهم العقلية (حيث يبحث العقل فكرة الجمع في صيغة واحدة، وقانون واحد أو في بنية واحدة، المعطياتِ المتنوعة والمتناثرة للتجربة). إن هذا المبدأ فاعل في الجهد الاندماجي للمتنافرات في صعيد منطقي سام حيث تلتقي دون أن تمتزج. إنه هو نفسه مبدأ التقدم الجدلي الذي هو جهد لتجاوز (تذليل) التناقض. إن الرضا الذي يشعر به العقل في تخطي تعارض الأطروحة ونقيضها داخل وحدة ثرية وعالية للتركيب، يبرهن على أننا هنا، في أحد المحاور الأساسية للعقل الدينامي.
إذا كان المنطق القديم يعتمد كليا على مبدأ الهوية الثابت الذي لا يتغير والذي يقضي برفض التناقض، فإن المنطق الجدلي يرفض التعامل مع هذا المبدأ من حيث إنه يعكس فكرا ساكنا لا يصلح للعالم الطبيعي والواقعي الذي لا يتوقف عن الحركة والسير. إن الحركية التي تتسم بها الحياة الخارجية تقوم على مبدأ التناقض أو التغاير، يعني أن (أ) لا يبقى (أ) لأنه حتما ينتقل إلى (س) أو (لاأ) الذي بدوره يتحول إلى كائن مغاير له، وهكذا. فالانتقال من (أ) إلى (أ) هو الحلقة المفرغة التي يدور فيها الفكر القديم الذي يرى نفسه دون غيره؛ وهذا لا يُرتجى منه جديدٌ ولا تقدم. ولهذا، فإن التغاير أو التناقض في هذا النوع من المنطق (إلى جانب مبدأ الهوية في هذا السياق) ضروري لفهم سيرورة الأشياء والحياة البشرية. و"هذا التناقض في الفكر وفي الأشياء، إنما يزول بما يسميه (هيجل) بالجدل الذي يتألف من ثلاث مراحل هي الموضوع ونقيضه والمركب منهما وهذا المركب كمرحلة جديدة، يشكل بدوره وضعا (الأطروحة) يستوجب ظهور نقيضه (نقيض الأطروحة)، وهكذا دواليك.[31]
وإلى جانب المنطق الجدلي، يتحدث بعض المؤلفين اليوم، عن منطق الوحدة الذي هو الآخر يتصف بالحركية والتعامل مع المتغاير والمتناقض، ولكنه في المجال الفكري يستوعب كل المحاولات والتصورات الفلسفية مهما كانت متنافرة ومتباينة، ليصنع منها مبدأ واحدا يجد كل مذهب موقعه كنسق متميز داخل الوحدة.[32] ولعل العولمة في مفهومها التعايشي المعاصر، تشكل ـ أمام تشتيت المعارف وترامي أطرافها، وتفتيت التخصصات العلمية والفنية ـ فرصة سانحة لتوسيع الروح الفلسفية الشمولية ومنطقها السمح.
IV- وهل يكفي أن نعرف قواعد الفكر المنطقي حتى نكون في مأمن من الأخطاء؟
صحيح إننا نعرف هذه القواعد، ولكننا قد نخطئ. وفي هذا السياق، نتناول نقطتين: تأثُّر الحكم المنطقي بالحتمية النفسية والاجتماعية، وتأثره بحتمية الفكر الفلسفي.
أولا: تأثير الحتمية النفسية والاجتماعية على الحكم المنطقي
لا أحد يشك في أن الحكم، وهو الوحدة الأساسية في المنطق، وظيفتُه عقلية تخص الذات المفكرة. فهو عمل من أعمال الإنسان الإرادية وأثر من آثاره الذهنية. ولكن لما كان الإنسان عاجزا عن العيش لنفسه، فهو لا يستطيع أن يفكر حسب ميوله وأهوائه. إنه كائن يعيش في المجتمع. والتصرفات الصادرة منه، في جميع مظاهرها، تكون بموجب ذلك، جماعية.
1- فهو يخص الذات المفكرة، لأنه مصدرُه أو كما قال بروتاغوراس: "الإنسان مقياس كل شيء". فما يراه الشخص أنه الحقيقة، يكون هو الحقيقة، وليس في ذلك خطأ، ولا شيء في ذاته حقيقة، وإنما هو حقيقة في رأيي أو في رأي هذا أو ذاك.
وليس من المستبعد أن تكون القوانين المنطقية الأساسية التي تنظم أحكامنا، تجريداتٍ وتعميمات لتجارب ذاتية. فقانون عدم التناقض ناشئ من التجربة التي نشعر فيها، بأن "الحركة والسكون لا يجتمعان وأن أحدهما يرفع الآخر". وفي هذا السياق، يقول كوندياك "الحكم جمْعٌ بين إحساسين في الذهن". والمرء عند جيمس، لا يعتقد بصحة شيء إلا إذا رأى نفعه ونجاحه. ولذا، فإن الأفكار التي نصدقها هي الأفكار الناجحة، والأفكار التي نكذبها هي الأفكار الخاطئة التي لا نجني منها أي عمل نافع. وهنا، ينزل الحكم إلى الواقع المحسوس الذي لا ينفصل عن الزمن ولا عن الوقائع التي تخضع لقانون العلية أي تَتْبع ما قبلها وتؤثر فيما يلحقها.
هذا فضلا عن أن الإنسان أحيانا، يستعمل الاستدلال العاطفي حيث تسبق النتائج مقدماتها والاستدلال بالمماثلة حيث يقيس الغائب على الشاهد؛ فكم هي النظريات الفلسفية التي تفسر الوجود، وكم هي متضاربة فيما بينها. وفي مجال العلم، ألم يسبق غاليلي أن فسر سرعة سقوط الأجسام عن طريق إقامة علاقة تناسب طردي بينها وبين المسافة التي تقطعها؟ ثم ألم يكتشف هو ذاتُه، أن هذه الفرضية متناقضة، لا بد من الإعراض عنها؟
2- الحكم عملية يكتسبها الفرد داخل الوسط الاجتماعي وليس في جوهره مسألة فردية ولا نفسية. وتفكيره هو تفكير الحياة الاجتماعية، وضميره ضميرها واعتقاده اعتقادها حتى إذا خالفها الفرد لقي مقاومة يتحدد نوعُها وقوتها بمبلغ المخالفة وشدة ضررها.
والناس لكي يتناقشوا فيما بينهم ويحكموا على الصواب والخطأ، لا بد من أن يتفقوا على أوضاع خاصة ومبادئ معينة يأخذون بها وينظمون سلوكهم على أساسها كالإجماع عند المسلمين. يقول غوبلو: "إن فكرة الحقيقة لا يمكن أن تُفهَم ولا أن تفسر إلا بالحياة الاجتماعية، ومن دونها لا يتعدى الفكر حدود الفرد، وحينئذ تكون طيبة أو رديئة، ولكنها لن تكون صائبة أو خاطئة".[33] فمبادئ العقل يفرضها المجتمع من الخارج على الإنسان. ونظرا إلى أن المجتمع يتطور، فإن العقل لا يمكنه ألا يسايره. ولهذا، فقد تُجمِع الجماعات أحيانا، على المغالط والأوهام، وهي حقائق مشتركة يصعب الإعراض عنها.
ثانيا: تأثير حتمية الفكر الفلسفي على الحكم المنطقي
إن كانت الرياضيات بأساليبها الرمزية قد تخلصت من كل تفكير فلسفي، فإن للمنطق علاقة بالفلسفة، يؤثر الواحد في الآخر، وتختلف وظيفته باختلاف تصوراته الفلسفية، الإيديولوجية أو العقدية. لقد ظل المنطقُ التَّقليدِيُّ بحثا فلسفيا بالدرجة الأولى، يُثيرُ مسائلَه في ضَوْءِ التَّفكير الفَلْسفيِّ، كما تَتراءَى لكلِّ فيلسوفٍ ناظرٍ في المنطقِ"؛[34] ظل مرتبطا بآراء ميتافيزيقية، ولم يتميز إلا قليلا عن الأنطولوجيا.[35] أما المنطق الحديث فإنه وضعي يساير الروح العلمية. فلما كان أساس العلم في العصر الحديث مختلفا عنه في عصر اليونان، وجب أن يختلف منطق العلم اليوم، عن المنطق الأرسطي الذي كان انعكاسا لمعارف عصره التي كانت تهتم بالأشياء الأنطولوجية الفلسفية والكيفية. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الموضوع الذي يدرسه المنطقان واحد، هو شروط صحة الاستدلالات. ولكنهما يريدان ـ حول هذه الشروط ـ إعطاء معرفة يحكمها نظامٌ تبعا لتصورين مختلفين: تصور ميتافيزيقي، وتصور وضعي.[36] هذا، وتجدر الإشارة إلى أن النظرية المنطقية تختلف باختلاف الأساس الذي ينبني عليه التفكير العلمي أو الفلسفي لعصر ما.
»لا شَكَّ في أنَّ مَوْقِفَ الإنسانِ مِن فِكرةِ الحَقيقةِ، و مَدَى اليَقِينِ فيها، إنمَّا يَتأثَّرُ تمامًا بِاعْتِناقِه مَنطِقاً دَون آخَرَ مِن أنْواعِ المَنْطِقِ العَديدةِ المُمكِنةِ للإنسانِ.«[37] وهذا التأثير في صورته الجدلية، لا يوجه أحكامنا المنطقية فحسب، بل يجعلنا نفكر ضمنيا وبالضرورة، في إطار فلسفة ترتبط بالمنطق الذي يناسبها.
وأكثر من هذا، وفي نطاق انطباق الفكر مع نفسه وانطباقه مع الواقع، يجب التأكيد على أن ما يحمله الذهن من تصورات له علاقات ضمنية بظواهر العالم الخارجي. ولما كانت هذه الظواهر في تغير مستمر، فإنه ما كان لهذه التصورات أن تبقى متصلبة وأن تحجم عن التكيف. ومن هنا، يقرّب الفكر المنطقي مبادئه من الواقع والعكس بالعكس؛ وهذا أمر لا تخفى فائدته. يقول الفندي: "وهذه المسألةُ الجديدةُ هي مسألةُ التَّحقُّقِ و التأكُّد من أنَّ الاتِّفاقَ الذي حَصَل عليه الفِكرُ مع ذاته عند تألِيفِ التصوُّرات في قضايا واسْتِنباطاتٍ، هو في الوقْت عينِه، اتفاقٌ له مع الواقِعِ، ومطابَقةٌ له مع العالمَِ ِالخارِجِيِّ
خاتمة: حل المشكلة
إن معرفة النظام الذي يحكم الفكر المنطقي، تؤثر في توجيه العقل في اختيار آلياته الفكرية وفي تحديد الغاية التي ينشدها ويسعى إلى تحقيقها. والخطر الذي يحدق بتحقيق هذه الغاية، لا يجيء من آليات المنطق بقدر ما يجيء من طريقة توظيف هذه الآليات نصرةً لمذهب ضد مذهب. وفي هذه الحالة، يصبح المنطق عبدا مسخرا لخوض قضايا فكرية بحثا عن كسبها ودفاعا عن انشغالاتها. ومع ذلك، فإن المنطق الصوري ـ الممثَّل في القياس ـ ومهما كانت فلسفته، وعلى الرغم من كثرة المؤاخذات الموجهة إليه، فإنه على جانب كبير من الفائدة العملية، وأننا نستخدمه غالبا وبدون شعور، في تفكيرنا العلمي والعامي والعاطفي. وبدونه يفقد الخطاب الحقيقي تماسكه ويؤول إلى سفسطة.
***
وكمخرج من الإشكالية الثانية، يمكننا القول، إن المشكلة الفلسفية التي يعرفها منطق انطباق الفكر مع نفسه ليست في الحدة التي يطرحها منطق انطباق الفكر مع الواقع من حيث إن الأول يتعامل مع مفاهيم وتصورات وافتراضات كمنطلقات مسلم بها، تَلزم عنها بالضرورة نتائجُ صحيحة، وأنه في شكله القياسي مرتبط بفلسفة أنطولوجية تحدد مصير الفكر واتجاهه الفلسفي ؛ وأن الثاني، لا يعتمد مباشرة على الملاحظة كخطوة أولى كما يقتضيها مبدئيا المنهج العلمي التجريبي، وإنما يدخل في حسابه قبل الانطلاق، افتراضين عقليين وغير تجريبيين هما "مبدأ الحتمية، و"مبدأ الاطراد"، وهذا مخالف للقاعدة. وأغرب ما في أمر هذا المنطق الثاني، أن المنطلقات على الرغم من أنها من قبيل الافتراضات الميتافيزيقية، إلا أنها تعطي نتائج يؤكدها ازدهار العلم يوما بعد يوم. وكأن القضية ليست فقط، انطباق الفكر مع الواقع، بل هي أيضا، وفي نفس المجال انطباق الواقع مع الفكر. وفي سياق هذا الوجه الأخير من منطق الواقع، فإن المشكلة تكمن في صعوبة التساوق بين الوقائع المتغيرة والمبادئ العقلية الثابتة عكسا وطردا. وما ظهور مبدأ الوحدة والتركيب إلا دليل على حاجة العقل إلى التكيف مع المتغير الجديد وحاجة المتغير إلى السير في نظام العقل في علاقة جدلية.
لقد حاول أهل الاستقراء تجاوز المنطق الأرسطي لكونه لا يصلح للعلم ولكونه أيضا، مرتبط بالفلسفة. ولكنهم وقعوا هم أنفسهم، تحت رحمة الفلسفة والتناقض من حيث إنهم خاطروا بفروض غير مؤكدة علميا وخالفوا من ثمة، تعاليم المنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة لا على الافتراض والخيال. ولهذا، فإن الجدال بين العقلانيين والتجريبيين في هذا النطاق، يبقى عقيما طالما استمر الإصرار الدغماتي على تعزيز أطروحة على حساب أخرى.