إن القارئ لكتاب الله يرى بوضوح أنه قد سجل على بني إسرائيل كثيرا من الأخلاق السيئة والطباع القبيحة والمسالك الخبيثة فقد وصفهم بالكفر والجحود والأنانية والغرور والجبن والكذب واللجاج والمخادعة والعصيان والتعدي وقسوة القلب وانحراف الطبع والمسارعة في الإثم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل إلى غير ذلك من الرذائل التي سجلها القرآن عليهم واستحقوا بسببها الطرد من رحمة الله وضرب الذلة والمسكنة عليهم وإن هذه القبائح التي سجلها القرآن عليهم يراها الإنسان واضحة جلية فيهم على مر العصور واختلاف الأمكنة ولم تزدهم الأيام إلا رسوخا فيها وتمكنا منها وتعلقا بها وأبرز هذه الأخلاق السيئة نقضهم للعهود والمواثيق والمتتبع لتاريخهم قديما وحديثا يرى هذه الرذيلة تكاد تكون طبيعة فيهم فقد أخذ الله عليهم كثيرا من المواثيق على لسان أنبيائه ورسله ولكنهم نقضوها وعاهدهم النبي غير مرة فكانوا ينقضون عهدهم في كل مرة وقد قال تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}
وهذا الخلق طبيعة اليهود في كل زمان ومكان فهم قبل الإسلام نقضوا عهودهم مع الله تعالى وآذوا أنبيائه ورسله فلما بعث النبي صلي الله عليه وسلم الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كفروا به ونقضوا عهودهم معه في كل مرة وحاربوه بكل وسيلة واستمر حال اليهود مع المسلمين على ذلك منذ البعثة النبوية إلى اليوم ما عرف عنهم وفاء ولا إيمان وإنما ديدنهم مع المسلمين الخيانة والغدر ونقض العهود وإن أعوزتهم القدرة الظاهرة على الأذى استعملوا الوسائل الخفية وتآمروا مع كل عدو للدعوة الإسلامية وإذا ما حانت لهم الفرصة انقضوا على أتباعها بقسوة وغلظة دون أن يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة ومع ذلك فإن الإسلام أمر بحسن معاملتهم ومن مظاهر ذلك مسالمتهم ومساكنتهم وقبول الجزية منهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن ومعاملتهم بمبدأ (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) مع العفو والصفح عن زلاتهم التي لا تؤثر على كيان الدعوة الإسلامية فإذا ما نقضوا عهودهم وخانوا الله ورسوله والمؤمنين وأصبح العفو عنهم فيه مضرة بالمسلمين ففي هذه الحالة يجب معاملتهم بالطريقة التي تقي المسلمين شرورهم لأن العفو عنهم عند استلزام قتالهم للدفاع عن النفس والعقيدة فيه إلقاء بالنفس إلى التهلكة
والمتتبع لتاريخ الدولة الإسلامية يرى أن الرسول صلي الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة عامل اليهود القاطنين بها معاملة طيبة فعقد معهم معاهدة عدم اعتداء وصابرهم رغم أذاهم وعفا وصفح عن إساءتهم أملاً في هدايتهم فلما نقضوا عهودهم ولجوا في طغيانهم عاقب كل طائفة بالعقوبة التي تناسب ذنبها فأجلى بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وصالح أهل خيبر على جزء من ثمارهم على أن يجليهم متى شاء ثم أمر في أواخر حياته بإجلاء اليهود عن جزيرة العرب كلها حتى لا يبقى بها دينان وعلى المسلمين أن يطبقوا هذه المعاملة على اليهود اليوم فاليهود الذين اعتدوا على ديارنا يجب أن يقاتلوا ويطردوا منها وغيرهم نعاملهم بالحسنى إلا أن يعاونوا ويظاهروا شرارهم وقليل منهم من لم يفعل ذلك بعد أن هاجر النبي إلى المدينة عقد مع اليهود الذين كانوا يسكنونها معاهدة ضمن لهم فيها الحرية والاستقرار وكان من أهم نصوص هذه المعاهدة (أنه إذا حصل اعتداء على المدينة فعلى اليهود أن يدافعوا مع المسلمين عنها وأن على اليهود أن يتفقوا مع المسلمين ما داموا محاربين) لكن اليهود بطوائفهم المختلفة قد نقضوا عهودهم بالنسبة لهذا النص الذي يحتم عليهم الدفاع عن المدينة مع المسلمين
فبنو قينقاع الذين كانوا يقيمون داخل المدينة وبيوتهم تلاصق بيوت المسلمين لم يكتفوا بالامتناع عن مد يد العون والمساعدة للمسلمين في غزوة بدر بل ساءهم أن ينتصروا على قريش وصرحوا بحزنهم لهزيمة أهل مكة وأخذوا يتحرشون بالمسلمين وفى خلال ذلك نزل جبريل على النبي بقوله تعالى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} فلما فرغ جبريل من قراءتها قال النبي صلي الله عليه وسلم {إني أخاف من بني قينقاع ثم سار إليهم في سوقهم وقال لهم: يا مَعْشَرَ الـيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النّقْمَةِ وَأَسْلِـمُوا فَـإِنّكُمْ قَدْ عَرَفْتُـمْ أنّـي نَبِـيٌّ مُرْسَلٌ تَـجِدُونَ ذلك فـي كِتابِكُمْ وعَهْدِ الله إِلَـيْكُمْ فقالوا: يا مـحمد إنك ترى أنا كقومك لا يغرنَّك أنك لقـيت قوما لا علـم لهم بـالـحرب فأصبت فـيهم فرصة إنا والله لئن حاربناك لتعلـمنّ أنا نـحن الناسي}[1] ولما وجد الرسول منهم استعراضاً لقوتهم وتصميما على نقضهم لعهودهم ومحاربة مستمرة للدعوة الإسلامية ومآزره لكل معارض لها طردهم من المدينة إلى أذرعات جزاء غدرهم وخيانتهم وأما بنو النضير فكانوا في نقضهم لعهودهم مع المسلمين أفحش من سابقيهم فإنهم لم يكتفوا بمنع يد المعونة عن المسلمين في بدر بل آووا الأعداء الذين جاءوا للإفساد في المدينة بعد ذلك
وبنو النضير أيضا هم الذين حاولوا اغتيال الرسول صلي الله عليه وسلم حين جاءهم إلى بيوتهم ليطلب منهم المعونة في دفع دية قتيل قتل خطأ وكانت عقوبتهم جزاء خياناتهم ونقضهم لعهودهم أن طردهم المسلمون من المدينة كسابقيهم وأما بنو قريظة فقد كانوا في نقضهم لعهودهم مع المسلمين ونكثهم مواثيقهم أشد من كافة طوائف اليهود لأنهم لم ينقضوا عهودهم في وقت السلم بل تحللوا منها في وقت الشدة والعسر وإحاطة أحزاب الكفر بالمدينة وذلك أن المشركين بعد أن جمعوا جموعهم في غزوة الأحزاب بقيادة أبى سفيان وبتحريض من حيى بن أخطب اليهودي بلغ المسلمين في ذلك الوقت أن يهود بني قريظة قد نقضوا عهودهم وانضموا إلى جيش الكفر وأرسل الرسول إليهم من يحذرهم من مغبة خياناتهم ولكنهم أصروا عليها وكذبوا الرسول وذكروه بسوء وبعد أن رد الله الذين كفروا عن المدينة دون أن ينالوا منها تفرغ الرسول والمسلمون لتأديب بني قريظة الذين نقضوا عهودهم في ساعة العسرة وكان حكم الله فيهم القتل جزاء غدرهم وخياناتهم وهكذا نجد القرآن الكريم وصف اليهود بنقضهم لعهودهم التي أخذها الله تعالى عليهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا ويحافظوا على أداء العمل الصالح ونقضوا عهودهم التي أمرتهم بها كتبهم حيث سفك بعضهم دم بعض ونقضوا عهودهم مع أنبيائهم إذ آذوهم وعصوهم ونقضوا عهودهم التي أخذت عليهم بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره ونقضوا عهودهم في كل موطن يرون النقض فيه يوافق أهواءهم ويساير شهواتهم ولهذا طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا إلا قليلا .
[1] عن ابن إسحاق تفسير الطبري وسيرة ابن هشام وغيرها
منقول من كتاب [بنو إسرائيل ووعد الآخرة]