إن التخلية لابد أن تكون قبل التحليَّة، فمن كان بينه وبين محبوبه نقص، ينقبض حين رؤيته ولن يستطيع أن يقابله إلا عند ذهاب هذا النقص.
وأنت لابد لك من لقاء الله تعالى، ولكن كم عليك من حقوق ما أديتها؟! وكم عليك من ذنوب ما كفرَّتها؟!
لهذا جعل الله تعالى لك في أول الصلاة ما يُذهب عنك ذلك الحرج، وهو أن تقول بين يديه دعاء الاستفتاح التالي: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد» [متفق عليه].
فتسأل الله عز وجلَّ أن يُباعد بينك وبين الخطايـا التي لم تقع فيها بعد، وأن يُنقيك من الخطايا التي قد وقعت فيها بالفعل، وإنما ذكر النبي الثوب الأبيض لأن أي دنس يصيبه يظهر عليه سريعًا بخلاف غيره من الألوان.
أما العبارة الثالثة: فهي زيادة على التنقية أكثر وهي التطهير، فالماء مُنظف، والثلج والبَرَد للتبريد، فجمع بين التنظيف والبرودة كما يقول أهل العلم: لأن الخطيئة تُسبب للمؤمن الندم، والندم يصيب المرء بحرارة في صدره، فالماء يُذهب أثر المعصية، ثمَّ تُغسل الحرارة التي في الصدر بالثلج، ثمَّ يأتي البَرَد زيادة على ذلك، ليُطفئ حرارة الأسى من الخطيئة فتُمحى كليًا ولا يبقى لها أثرًا.
ومن فوائد هذا الاستفتاح: أنه يعطيك معدل ثابت للتوبة وغسل الذنوب لا تهبط عنه يوميًا، فهو يُذكِّرك بتجديد التوبة كل يوم خمس مرات، ولا مكان أنسب لك لتجديد التوبة من المحــراب، ولا مقام أرجى لك للعفو من الصلاة إلى الله.
وهناك دعاء آخر للاستفتاح، وهو: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» [رواه الترمذي وأبو داوود وصححه الألباني].
وهذا الدعــاء عظيم جدًا، لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» [السلسلة الصحيحة (2598)]. وهو يُقال في صلاة النفل، بعكس الدعاء الأول الذي يُقال في صلاة الفرض.
والتسبيـح هو تنزيه الله عز وجلَّ عما لا يليق، والتحميد إثبات كمال الأوصاف والأفعال لله الكبير المتعال.
يقول ابن القيم: "وإذا قال: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، شاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كل عيب سالمًا من كل نقص محمودًا بكل حمد، فحمده يتضمن وصفه بكل كمال وذلك يستلزم براءته من كل نقص، تبارك اسمه، فلا يُذكَّر على قليل إلا كثرة ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه ولا على آفة إلا أذهبها ولا على شيطان إلا رده خاسئًا داحرًا".
وجَدُك أي عظمتُك، ولا إله غيرك فإن وحدانية الربوبية تقتضي وحدانية الألوهية، ولا إله إلا الله تعني لا معبود حقٌ إلا الله.
ومن فوائد استفتاح العظمة أنه يجمع لك قلبك ويفتح لك أبواب التفكُّر بالآيات؛ لأن الاستفتاح به إثبات العظمة والكبرياء لله وحده مما ينزع الكبر من العبد فإذا نُزِع الكِبر، ذهبت الغشاوة التي كانت تمنع من فهم الآيات وتدبُرها.
يقول تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ …} [الأعراف: 146]، يقول ابن كثير فى تفسير الآية: "أي كما استكبروا بغير الحق أذلَّهم الله بالجهل".
وهذا الاستفتاح هو تمجيد من العبد لله تعالى، أما الأول فكان مغفرة للعبد من الله سبحانه وتعالى، وهكذا جعل الشارع الحكيم للعبد في صلاته تنويعًا شيء من العبد لله وشيء من الله للعبد، فهو يُنوع بينهما.
موقع منهج
جزاك الله الف خير